قضية حرية المعتقد في الإسلام ـ مراد لمخنتر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

حرية المعتقدتمهيد:
أسالت قضية حرية المعتقد مدادا كثيرا وكذلك دماء غزيرة، ومع ذلك ما زالت قضية راهنة تستحق أن تكون أولى الأولويات، لذلك يجب تحيين النقاش والكتابة حولها مادامت لم توضع ضمن الحقوق في جل البلاد الإسلامية.
إن الحق في حرية الفكر والمعتقد يعتبر من أكثر الحقوق الإنسانية بديهية، بفضلها يصبح الإنسان إنسانا عن حق، فلا يمكن أن نُكره شخصا على اعتناق دين أو فكر يرفضه عقله ووجدانه.
ليس الإرهاب فقط أن تفجر مجموعة من الغلاة العبوات الناسفة والسيارات المفخخة، لتغتال من تعتبرهم كفارا، بل الإرهاب أيضا، أن تمنع الإنسان البالغ الحر من اختياراته الفكرية والعقدية وتحجر عليه. الإرهاب الأول جسدي مادي والثاني نفسي رمزي. فرغم تبجح البعض بالاعتدال والتسامح وشجبهم للتكفيريين والإرهابيين، إلا أنه في حقيقة الأمر لا فرق بينهم  وبين الإرهابيين من حيث الفكر، فكلاهما يؤمن بحديث "من بدل دينه فاقتلوه". الفرق طفيف يكمن في قول الفئة الأولى "سأقتلك بنفسي"، في حين توكل الفئة الثانية مهمة القتل للإمام .

سنحاول في هذا المقال أن نتناول هذه القضية من وجهة نظر إسلامية نستند فيها على نصوص القرآن القاطعة في مسألة حرية المعتقد. ولن نأتي هنا بجديد فقد استنفد القول في هذا الموضوع، وفندت قطعا جل الدعوات التي تتبنى قتل المرتد والحجر على الفكر. فلا يمكن للإسلام وللنبي أن يكره أحدا على الدين بعد أن أكره هو والمؤمنون على ترك دينهم من طرف كفار قريش !.

ولا نحتاج هنا لتعريف حرية العقيدة فهي أبده من أن تعرف، ومع ذلك نقول أننا نعني بحرية العقيدة،  أن الإنسان حر في اختياراته الفكرية والدينية وله أن يعتنق أي فكر أو مذهب أو دين، وله الحق في أن يغير اعتقاده ويعتنق دينا أو فكرا آخر أو لا يعتقد في شيء. وفي الإسلام له أن يسلم أو يكفر أو يدخل في الإسلام ويرتد عنه، شرط أن لا يكون هذا الاعتقاد يحرض أو يدعو إلى العنف أو الإكراه...

1- حرية العقيدة في القرآن:

يستند المدافعون عن أطروحة تقييد حرية المعتقد وتطبيق الحد على المرتد، على أن الاسلام و نصوصه يحثان على ذلك، وأنهم يدعون إلى ما أمر الله به، ويدعون إلى تطبيق حدوده. فالإسلام في نظرهم يمنع حرية العقيدة، ويدعو إلى قتل كل من خرج عن الدين. وبالطبع فان التيارات الدينية تختلف فيما بينها حول هذه المسألة، فمنهم من يرى أنه لا يحق الإكراه على الدخول في الدين، لكنه يرى أن الخارج من الدين يعاقب بالقتل، وهناك من يرى أن الإكراه يجب أن يكون على جميع الأوجه، قبل أو بعد الدخول في الدين، وهو رأي الغلاة.

ومرجع دعاة تطبيق حد الردة هو حديث ينسبونه إلى النبي يقول فيه:" من بدل دينه فاقتلوه" - وسنأتي فيما بعد لمناقشة حيثيات هذا الحديث- لكنهم لا يستندون في هذه المسألة على أي نص من القرآن لسبب بسيط هو أنه لا يسعفهم في مذهبهم هذا، بل إنه يخالفهم مخالفة تامة.

لقد كان القرآن واضحا في مسألة حرية المعتقد، وذلك بمنعه لأي نوع من أنواع الإكراه في الدين، وهناك مجموعة من الآيات تحث النبي على عدم إكراه الناس على الإيمان، من بين هذه الآيات الآية (99 من سورة يونس): ﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾. هذه الآية واضحة في رسالتها، فالله يأمر نبيه بعدم إكراه الناس على الإيمان، ومع ذلك فلنرى ماذا قال فيها المفسرون، يقول الطبري: " يقول تعالى لنبيه: "ولو شاء" يا محمد" ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا" بك، فصدقوك أنك لي رسول، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودية له، حق، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا، أنه لا يؤمن بك ولا يتبعك فيصدقك بما بعث الله به من الهدى والنور، إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الأول، قبل أن يخلق السماوات والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صدق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره، ممن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.

...وقول " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد، ولن يتبعك ويقر بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك، لا بإكراهك إياه ولا بحرصك على ذلك، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "لك، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون"[1].

من الواضح أن نص الآية صريح بذاته وبفهم الطبري الذي نقلنا هنا تفسيره، أي أن الله يأمر نبيه بأن لا يكره أحدا على الإيمان، وبأنه حتى ولو أراد ذلك فلن يستطيع لأن مسألة الإيمان موكولة إلى الله " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله"، ولو أراد هو لآمن من في الأرض كلهم جميعا" وليس للنبي إلا " فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون".

ورغم اتفاقنا على أن "شرح الواضحات من المفضحات" كما يقول المأثور، إلا أننا سنضيف تفسيرا ثانيا لنفس الآية: يقول الزمخشري: " ولو شاء ربك " مشيئة القسر والإلجاء " لآمن من في الأرض كلهم": على وجه الإحاطة والشمول، "جميعا" مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه؛ ألا ترى إلى  قوله : "أفأنت تكره الناس" يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم  إلى الإيمان هو لا أنت؛ وإيلاء الإسم حرف الاستفهام؛ للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه؛ وإنما الشأن في المكره من هو ؟ وما هو إلا وحده لا شريك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان؛ وذلك غير مستطاع للبشر"[2].

وبالفعل فإنه لا أحد من البشر يستطيع أن يزرع الإيمان في شخص ما بالإكراه مهما فعل، فحتى لو طاوعه على الإيمان بلسانه، فمن المستحيل أن يطاوعه بقلبه. وإذا كان الله قد نهى نبيه الذي كلفه بتبليغ رسالته على عدم إكراه أحد على الإيمان برسالته، فما بالك ببقية الناس الآخرين الغير مكلفين بتبليغ الرسالة !.

قد يأتي موارب ويقول أن الآية السابقة منسوخة بآيات أخرى تحث على القتال والإكراه، فنجيبهم بقول سلفهم في ذلك، يقول إبن الجوزي في رده على نسخ هذه الآية :" قوله تعالى : "أفأنت تكره الناس" قال المفسرون، منهم مقاتل: هذا منسوخ بآية السيف، والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ، لأن الإكراه على الإيمان لا يصح، لأنه عمل القلب"[3]. فهيهات أن يفهم المعاصرون ما فهمه سلفهم من أن الإيمان عمل عقل !.

ورغم كل الأدلة والقرائن على حرية المعتقد وعدم الإكراه في الإسلام، إلا أنه لحد الساعة لم يأت على تقنين هذا الحق في أي دولة من الدول الإسلامية، وحتى إن تنازل المشرع فإنه يعطي الحق لغير المسلم أن يمارس شعائره، ويقتصر على المسيحي واليهودي، ولا يقر لغيرهم بذلك ولا يقر للمسلم أن يغير دينه. وقد أثيرت هذه القضية في المغرب أثناء التعديل الدستوري لسنة 2011،  وصور الأمر على أنه صراع بين أعداء الدين ومناصريه، حيث برز الفقيه "أحمد الريسوني" وخاض رفقة حزب العدالة والتنمية حملة ضد هذا الحق، رغم أنه بذلك يناقض ما سبق له أن أكد عليه في كتبه، وهذا أمر مثير للاستغراب. وسننقل هنا ما قاله في كتابه "الكليات الأساسية في الشريعة الإسلامية":

"من الآيات التي ذهب المفسرون إلى القول بنسخها، الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين" "البقرة؛ 256، مع أن هذه الآية تقرر قضية كلية قاطعة، وحقيقة جلية ساطعة، وهي أن الدين لا يكون- ولا يمكن أن يكون- بالإكراه، فالدين إيمان واعتقاد يتقبله عقل الإنسان وينشرح له قلبه، وهو إلتزام وعمل إرادي، والإكراه ينقض كل هذا أو يناقضه.

فالدين والإكراه لا يمكن إجتماعهما، فمتى تبت الإكراه بطل الدين. فالإكراه لا ينتج دينا، وإن كان قد ينتج نفاقا وكذبا وخداعا، وهي كلها صفات باطلة وممقوتة في الشرع، ولا يترتب عليها إلا الخزي في الدين والآخرة.

وكما أن الإكراه لا ينشئ دينا ولا إيمانا، فإنه كذلك لا ينشئ كفرا ولا ردة، فالمكره على الكفر ليس بكافر، والمكره على الردة ليس بمرتد. وهكذا أيضا فالمكره على الإيمان ليس بمؤمن، والمكره على الإسلام ليس بمسلم. ولن يكون أحد مؤمنا مسلما إلا بالرضا الحقيقي، كما في الحديث الشريف:" رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا".

وإذا كان الإكراه باطلا حتى في التصرفات والمعاملات والحقوق المادية والدنيوية، حيث إنه لا يصح معه زواج ولا طلاق، ولا بيع، ولا بيعة، فكيف يمكنه أن ينشئ دينا وعقيدة وإيمانا وإسلاما؟ ! فقضية " لا إكراه في الدين" هي قضية كلية محكمة، عامة تامة سارية قبل دخول الاسلام، وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداءً، كما لا يكون بالإكراه إبقاءً"[4].

رغم هذا الاقتباس الواضح الذي لا لبس فيه، إلا أن أول من أقام الدنيا وأقعدها حول حرية المعتقد هو صاحب هذا النص نفسه، وقد صور حزب العدالة والتنمية هذه المعركة بأنها صراع لنصرة الدين في المغرب  ضد المتربصين به.

لم يأت القرآن على ذكر أي عقاب دنيوي للمرتد، ولم يأمر الله نبيه بأن يعاقب المرتدين أو الكفار، إلا إذا كانوا معتدين. وعكس ذلك فقد تحدث القرآن عن حرية المعتقد دون أن يأمر بالإكراه، تقول الآية 29 من سورة الكهف ﴿ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرداقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساء مرتفقا﴾ فالآية تأمر النبي بقول الحق، ويترك للناس  حق اختيار الإيمان أو الكفر وتتوعد الكافرين بالعذاب في الآخرة وليس في الدنيا.

إن كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الردة لا تأتي على ذكر أي حد أو استتابة، بل كلها تشير إلى عقاب أُخروي، موكول إلى الله وليس للنبي إلى أن يذكر: ﴿ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم﴾ الغاشية (29:26)، وفي الآية( 128-129) من سورة آل عمران: ﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون والله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم﴾.

إذن فالله يأمر نبيه بأن يذكر ولا يسيطر، وأنه ليس له من الأمر شيء، بل لله هو الذي يحدد لهم عقابهم. وأنه ليس للنبي حق استتابتهم أو التوبة عليهم. ونقول مرة أخرى: إذا كان الأمر هكذا مع "النبي" فماذا نقول عن غيره من الناس .!

وسنجمل هنا جل الآيات التي تتحدث عن الردة[5]:

-   " أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" البقرة 108

-   "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" البقرة 217

-   "إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون" آل عمران 90

-   "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا" النساء 137

-   " يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم" المائدة54.

-   "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن اغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير" التوبة 74

-   "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم" النحل 106

-   " إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول له وأملى لهم" محمد 25.

إن عدم تحديد القرآن لأي عقاب دنيوي أو حد للردة، هو ما دفع الفقهاء إلى "الحديث" للدفاع عن رأيهم، رغم أن خطورة مسألة الردة لا تنسجم مع الأحاديث التي يستندون إليها، فمسألة بهذه الأهمية- أي حرية العقيدة- كان حريا أن توضع في القرآن، وقد تحدث القرآن كما أوضحنا في مواضيع كثيرة عن الردة والمرتدين وعن الكفار والمنافقين، دون أن يأمر نبيه أو المسلمين أن يقتلوهم، وما كان الله أن يغفل هذا الأمر "وما كان ربك نسيا" المائدة 64. وعكس ذلك نهى عن أي إكراه على الدخول أو البقاء في الإسلام.

 

2-  الردة في الحديث:

إن أمتن دليل لدى المدافعين عن حد الردة هو مجموعة من الأحاديث رويت بطرق متعددة، لعل أشهرها حديث "من بدل دينه فاقتلوه" وهو الذي سنركز عليه هنا، يقول الحديث :

-   حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة قال : أتى علي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله (ص) : "لا تعذبوا بعذاب الله". ولقتلتهم، لقول رسول الله (ص) : "من بدل دينه فاقتلوه"[6].

إن هذا الحديث مثير للاستغراب، وفي متنه أمور تدعو للشك، فهو يقول أن علي بن أبي طالب لا يعلم أمرين، رغم أنه عاصر النبي ورافقه مدة طويلة، وعاصر حكم ثلاثة خلفاء، فهو بحسب الحديث لا يعلم أن الرسول ينهى عن التعذيب بعذاب الله، و لا يعلم قول النبي في قتل المرتدين، وكذلك فإن مصطلح" زنادقة"حسب جمال البنا لم يشتهر في أيام الخلافة الراشدة وإنما في العصر العباسي، وأيضا فصيغة الحديث جاءت بالإطلاق "من بدل دينه فاقتلوه"  وليس الإسلام فقط، فهل نفهم أن اليهودي إذا بدل دينه يقتل ؟ !.

ولنأتي الآن للبحث في سند هذا الحديث، وسنلخص هنا ما قاله المعاصرون حول سنده.

ينتهي سند حديث الردة إلى عكرمة مولى ابن عباس، وهو شخصية يطعن فيها مجموعة من رواة الحديث ويقولون إنه ليس بثقة، وأنه كان يرى رأي الخوارج، وهذا يكفي لإرجاع أي حديث مروي عنه، وسنقتبس هنا ما جمعه "أحمد صبحي منصور" حول هذه الشخصية يقول :

"يقول ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث:" احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن العباس، وكإسماعيل ابن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم، واحتج مسلم بسويد وجماعة، واشتهر الطعن فيهم.[7]

روى ابن المدني أن عكرمة كان أباضيا، ولكن ابن المديني يضيف فيقول أن عكرمة أيضا كان يرى رأي ندة الحروري.. ويقول أحمد بن حنبل أن عكرمة كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وأنه لم يدع موضعا إلا خرج إليه، في خرسان والشام واليمن ومصر وأفريقيا، أي شمال إفريقيا، أي ذهب يدعو إلى مذهب الخوارج دون تعيين لفرقة خارجية معينة[8].

ويقول يحيى بن بكير" إن عكرمة قدم مصر متجها إلى المغرب، فأخذ عنه خوارج المغرب..أي كان داعية وأستاذا وإماما للخوارج في المغرب..وكان عكرمة في تجواله في الأقاليم يخدع الولاة، ويدعي أنه يأتي لأخذ العطايا منهم. يقول ابن يسار "رأيت عكرمة جائيا من سمرقند وهو على حمار، تحته خرجان فيهما حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام له، فقيل له ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقال الحاجة.."[9].

وقال عنه ابن سرين " إنه كذاب" وقال عنه ابن أبي ذئيب " رأيت عكرمة وكان غير ثقة". وقال عنه محمد بن سعد في الطبقات الكبرى" ليس يحتج بحديثه، ويتكلم فيه الناس". وقال عنه سعيد بن جبير" إنكم لتحدثون عن عكرمة بأحاديث لو كنت عنده ما حدث بها"[10].(انتهى الاقتباس).

وبقية الأحاديث التي يستنتج منها حد الردة ينطبق عليها نفس ما قيل في هذا الحديث[11].

هكذا نخلص إلى أن أحاديث الردة تتناقض فيما بينها، ولا يوجد حديث واحد غير مطعون فيه، ونعيد القول: إن مسألة بهذه الخطورة تخص حرية المعتقد، لا يمكن أن تترك لهذا التخبط وعدم اليقين، مع وضوح مخالفتها لروح الإسلام و نص القرآن.


3-  قضية حروب الردة:

يقدم لنا دعاة تطبيق حد الردة وقتال المرتدين، ما يسمونه "حروب الردة" كدليل على صحة مذهبهم، ويقولون أن الحروب التي خاضها أبو بكر في صدر خلافته كانت تطبيقاً لحد الردة، حيث أنه بعد وفاة النبي ارتدت مجموعة من القبائل فحاربهم أبو بكر على ذلك.

والواقع أنه لم تكن تلك الحروب حروب ردة بالمعنى المراد من الردة، أي الخروج من الدين، بل إن ما يستشف من جل المصادر التي أرخت لتلك الحروب، أن الناس لم يخرجوا من الدين بل ظلوا على إسلامهم موحدين، إلا أنهم رفضوا دفع الزكاة للحاكم الجديد، وهو تمرد على الحاكم وليس على الدين. و لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نجعل من اجتهادات أبي بكر السياسية مصدرا للتشريع.

وسننقل هنا فقرة من كتاب تاريخ الخلفاء توضح جزءا مما حصل في حروب الردة :" لما قبض رسول الله (ص) ارتد من ارتد من العرب، وقالوا: نصلي ولا نزكي ..." فاستعد أبو بكر لقتالهم، وقد خالفه في ذلك مجموعة من الصحابة لكنه رد عليهم " والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله (ص) لقاتلتهم على منعها...."[12] وفي الأخير أقنع الصحابة بضرورة تلك الحرب. وبدون الدخول في تفاصيل حروب الردة، نقدم كدليل على أن تلك الحروب لم تكن حروب ردة ولا تطبيق حدود، أن أبا بكر لما اعترض الصحابة على قراره لم يستشهد بحديث الردة، فلو كان الحديث صحيحا لكان هو أول من استشهد به، وألزم الكل بإتباع قراره. وهذا دليل آخر على أن حديث الردة اخترع فيما بعد[13]. إضافة أن جزءا كبيرا من القبائل المرتدة قد ارتد فعلا وحارب المسلمين، وهنا أيضا ليست قضية حد بل هي قضية صراع سياسي مسلح.

 
ورغم المسوغ الذي أعطاه أبو بكر لتلك الحرب بأنه لا يجب التفرقة بين الصلاة والزكاة، إلا أن السبب الحقيقي لتلك الحروب هو سبب سياسي، مرتبط بوحدة الدولة وتماسك كيانها الذي كان في بدايته، "إن حرب الردة هي حركة مسلحة استهدفت القضاء السياسي على الدولة الإسلامية، وقد واجهها أبو بكر بنفس السلاح ليدافع عن الدولة الناشئة، وبعد إخمادها دخل أبو بكر بالعرب إلى عصر جديد بالفتوحات في العراق والشام"[14].
 

4- أدلة منطقية:

معلوم أن هناك الكثير من الناس يخرجون من الإسلام ليلتحقوا بدين آخر أو لا يعتقدون في أي دين، وفي كثير من الحالات يقع أن يعود ذلك (المرتد) إلى الإسلام بعد مدة قد تطول أو تقصر، هناك من يعود بعد شهور وهناك من يعود بعد سنين طويلة. ولنأتي الآن ونضع سناريوهين لهذه الردة:

الأول : أنه بعد خروجه بأيام وإعلانه لردته، اعتقل وطلب منه أن يتوب عن ردته، فأبى ذلك فقمنا بتطبيق الحد عليه.

الثاني : أنه ارتد ولم نطبق الحد عليه، وبعد مرور سنين طويلة تبين له أنه أخطأ، وتاب وعاد إلى الدين. فيكون تطبيق الحد عليه –السيناريو1- حرمانا له من فرصة العودة، و يكون قد مات على ردته .

السيناريوهان ليسا من صنع الخيال، بل كثيرا ما نجد أن بعض الناس خرجوا من الإسلام ورجعوا إليه بعد أن تبين لهم أنه الحق، وفي غالب الأحيان نجدهم أمتن حجة في الدفاع عن الدين، لأنهم خبروا قيمته وصحته أكثر ممن ظل على دينه.

 ليست الردة من أكبر الكبائر في الإسلام، ومع ذلك نجد الفقهاء يشددون على وجود عقوبة دنيوية لها، في حين نجد أن الشرك الذي هو أكبر الكبائر ليست له عقوبة دنيوية، ولنستمع إلى قول الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما" النساء 48. وفي الحديث" قال النبي : "أكبر الكبائر: الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وشهادة الزور-ثلاثا- أو قول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت."[15]

فإذا كان الشرك بشهادة الآية وتعزيز الحديث من أكبر الكبائر التي لا تغفر ولا توجد له عقوبة دنيوية، فكيف يكون للمرتد عقوبة دنيوية؟!

 

المراجع:

1.    أبي جعفر محمد بن جرير،تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمود شاكر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة ج 15.

2.    أبي الفرج جمال الدين بن عبد الرحمان بن علي بن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، المكتب الاسلامي ط3، 1984، ج4.

3.    ابي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد معوض، مكتبة العبيكان،ط1، 1998، الرياض. ج

4.    أحمد الريسوني، الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، منشورات حركة التوحيد والإصلاح، دار اللجنة العلمية.

5.    أحمد صبحي منصور، حد الردة، نسخة إلكترونية بمواقفة المؤلف حيث كتب مقدمة للنسخة الالكترونية، دون دار نشر. متوفر على الرابط التالي :    http://www.4shared.com/office/x7agB7EZ/___.htm

6.    البخاري محمد بن اسماعيل ، صحيح البخاري، اعتنى به أبو صهيب الكربي، بيت الأفكار الدولية للنشر، الرياض،1998.

7.    جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلافاء، راجعه جمال محمود مصطفى، دار الفجر للتراث، القاهرة، 2004.

8.    جمال البنا، حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام، دار الفكر الإسلامي، القاهرة.

[1]   أبي جعفر محمد بن جرير،تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمود شاكر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة ج 15، ص 211.

[2]  ابي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد معوض، مكتبة العبيكان،ط1، 1998، الرياض. ج 3، ص 176.

[3] أبي الفرج جمال الدين بن عبد الرحمان بن علي بن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، المكتب الاسلامي ط3، 1984، ج 4، ص67.

[4]  أحمد الريسوني، الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، منشورات حركة التوحيد والإصلاح، دار اللجنة العلمية،ص 108.

[5]   سبق لجمال البنا أن أحصى جل الآيات التي تتحدث عن حرية الفكر والاعتقاد، أنظر : جمال البنا، حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، ص 19.

[6]   البخاري محمد بن اسماعيل ، صحيح البخاري، اعتنى به أبو صهيب الكربي، بيت الأفكار الدولية للنشر،1998 الرياض، ص 1322.

[7]   صبحي منصور، حد الردة، نسخة إلكترونية بمواقفة المؤلف حيث كتب مقدمة للنسخة الالكترونية، دون دار نشر، ص 54.

[8]  نفسه، ص 55.

[9]  نفسه، ص55.

[10]  نفسه، ص 57.

[11]  للمزيد من التفصيل أنظر : حرية الفكر والمعتقد في الإسلام، من ص 20 إلى 34.

[12]  جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلافاء، راجعه جمال محمود مصطفى، دار الفجر للتراث، القاهرة، 2004. ص 60.

[13]  صبحي منصور، ص 42.

[14]  صبحي منصور، ص 42.

[15]  البخاري ، ص1320.