التراثُ العلمي العربيُّ المحروق ـ د. أشرف صالح محمد سيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstr90x90أقام المسلمون نهضة علمية وثقافية كبرى كان من أهم نتائجها ذلك التراث الثقافي والفكري الضخم الذي عكف على إنتاجه تأليفًا وترجمةً العلماء العرب والمسلمون على مر التاريخ والذي كانت تزخر به خزائن الكتب العربية في العصور الوسطى. فلقد كان للكتاب أهمية ومكانة كبيرة في نفوس المسلمين، مما كان له أكبر الأثر في انتشار المكتبات في طول البلاد وعرضها، حيث حرص الحكام والخلفاء المسلمون على تزويد تلك المكتبات بالكتب والمخطوطات القيمة، وتوفير المخصصات المالية لهذا الغرض.
في الحقيقة؛ إن تاريخ الكتاب الإسلامي والمكتبة الإسلامية هو في الواقع شيء واحد يعبر عن تاريخ الفكر الإسلامي في مختلف عصوره، فقد لعب الكتاب والمكتبة الإسلامية دور هام في نشر الثقافة بين المسلمين مما ساهم في تقدم وازدهار الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى. إلا أنه هناك عدد من العوامل التي أثرت على مصير ذلك التراث كان من أهمها الحروب والغزوات الداخلية والخارجية التي تعرض لها العالم الإسلامي، حيث دُمرت الكثير من المكتبات، كما كان للمحن والبلايا مثل المجاعات وحالات الغلاء والفقر والتي كانت كثيرًا ما تعصف بالبلاد الإسلامية، أثر كبير على مصير الكتاب الإسلامي الذي تعرض للسلب والنهب والتدمير. أضف إلى ذلك السرقة، والجهل، والتعصب، والفتن، والإهمال، وعدم أمانة المشرفين على المكتبات.


لكن المصادر التاريخية وكتب التراجم ذكرت لنا أخبار بعض العلماء والمؤلفين وجامعي الكتب الذين أقدموا على إتلاف كتبهم الخاصة، وذلك ندمًا عن الانشغال بها عن عبادة الله، أو خوفًا من أن تضل تلك الكتب غيرهم، أو خوفًا من أن توضع الكتب في غير موضعها بعد وفاتهم، أو ضنًا بها على مَنْ لا يعرف جدواها، أو مَنْ لا يستحقها، أو لنقصٍ بدا فيها، أو لأي عارض آخر بدا له. وأيًا كانت المسوَّغات، فمما لا شك فيه؛ أن مثل هذا الصنيع ومثل هذه العادات أضاعت علينا ثروة كثيرة من التراث الفكري المخطوط في مختلف مجالات المعرفة.

لقد تخلص العلماء من كتبهم وأتلفوها بوسائل عدة، كحرقها عمدًا مع سبق الإصرار، أو غسلها بالماء، أو دفنها في باطن الأرض، أو تطييرها في الهواء، أو تمزيقها ورميها في الهواء، أو تركها في الصحراء، أو إلقائها في الأنهار والآبار أو البحار، أو إعدامها والتخلص منها بطريقة أو بأخرى. 
حرق الكتب هي أشهر طرق إتلاف الكتب، حيث استعملت في الساحات العامة، وغالبًا هي طريقة السلطة في التعبير عن رفضها العلني لكتب وأفكار معينة. وقد بدأت ظاهرة حرق الكتب بصفة متعمدة في العالم العربي والإسلامي منذ أواخر القرن الهجري الأول، ومن الأمثلة على ذلك:
عروة بن الزبير (ت.93هـ) الذي حرق كتبًا له فيها فقه سنة 63هـ، ثم ندم على ذلك فقال: "لأن تكون تلك الكتب عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي". والحسن البصري (21- 110هـ) إمام التابعين في زمانه، روى ابن سعد في طبقاته عن موسى بن اسماعيل قال: حدثنا سهل بن الحصين الباهلي قال: بعثت إلى عبدالله بن الحسن البصري: ابعث إلي بكتب أبيك، فبعث إلي أنه لما ثقل قال لي: اجمعها لي، فجمعتها له، وما أدري ما يصنع بها، فأتيت بها فقال للخادمة: "اسجري التنور، ثم أمر فأحرقت".

أما أبو عمر بن العلاء بن عمار المازني (ت.154هـ) أحد القراء السبعة المشهورين، وإمام أهل البصرة في القراءات والنحو واللغة، فقد قام بإحراق دفاتره التي ملأت بيته إلى السقف بسبب تنسكه. وذكر ياقوت الرومي (ت.626هـ) قول أبي سليمان الدرني (ت.215هـ)، أنه "جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك".
وأوصى محمد بن عمر، أبو بكر الجعابي الحافظ (ت.355هـ)، بأن تحرق كتبه بعد موته، فأحرقت. قال الأزهري إن ابن الجعابي لما مات أوصى أن تحرق كتبه فأحرقت وكان فيها كتب للناس. فقال: حدثني أبو الحسين ابن البواب أنه كان له عنده مائة وخمسون جزءًا فذهبت في جملة ما أحرق. وروى عن الدارقطني قوله: "أخبرت بعلة الجعابي فقمت إليه فرأيته يحرق كتبه فأقمت عنده حتى ما بقى منه شيء".

أما أبو سعيد السيرافي (ت.385هـ) الذي يُعدّ من كبار العلماء فقد أوصى ولده محمد بقوله "قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل فإذا رأيتها تخونك، فاجعلها طعمه للنار". لقد ذكر ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" أن اسماعيل بن حماد الجوهري (ت.398هـ) أحد علماء اللغة وصاحب كتاب اللغة وصحاح العربية، عرضت له في آخر حياته وسوسة قهرية فحرق كتبه كلها، ثم صعد على سطح الجامع في نيسابور فقال: أيها الناس إني قد عملت في الدنيا شيئًا لم اسبق إليه (يقصد مجمعه الصحاح) وزعم أنه يطير، ثم قفز من أعلى الجامع فمات.

وقد أحرق أبو حيان (ت.400 هـ) كتبه النفيسة، وكتب لصديق له مفسرًا ذلك بقوله: "إن العلم حاطك الله يرد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصرًا عن العلم، كان العمل كلا على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلا وأورث ذلا –علمك الله الخير- أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سرًا فلم أجد له مَنْ يتحلى بحقيقته راغبًا، وأما ما كان علانية فلم أصب مَنْ يحرص عليه طالبًا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المنالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدة الجاه عندهم، فحُمرت ذلك كله، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علىَّ لا لي".
ومن ذلك أيضًا ما فعله الشاعر أبو سعيد بن أبي الخيرات (ت.467هـ) وكان يحفظ عن ظهر قلب ثلاثين ألف بيت لشعراء الجاهلية، وعندما بلغ السادسة والعشرين سمع درسًا لأحد المشايخ يدور حول قوله تعالى: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ" (سورة الأنعام: الآية 91)، فما كاد يسمع هذه الآية حتى جمع كتبه كلها وأحرقها، ثم آوى إلى ركن في بيته وجلس فيه سبع سنين يذكر فيها اسم الله. 

ومن العلماء المشهورين الذين أحرقوا كتبهم أبو الفرج بن الجوزي (ت.510هـ) فقد كان يملك كتبًا كثيرة أُحرقت بإشارة منه. والبعض أحرق كتبه خوفًا من الاستيلاء عليها، فقد ذُكر أن الحسين بن الحسين بن عبد الله، أب الحكم الكلبي، ابن حسون (ت. 547 هـ) وهو قاض في الأندلس أيام ملوك الطوائف، وكان في جواره بعض المرابطين فواصلوا الغارات عليه، كما اتفق عليه أهل البلد فثاروا عليه وقتلوا أخًا له كان قائد جيشه، فضاع رشده، وقتل بعض بناته غيرة عليهن من السبي، وأطلق النار في كتبه فأحرقها.
وممَنْ أحرق كتبه تغري برمش بن يوسف (ت.820هـ). وكذلك أوصى جعفر البرساوي (ت.950هـ) بإحراق كتاب له ألفه في الهزل سماه "دافع الغموم" حيث ندم على تأليفه، ولزم أن يشتريه ممَنْ لقيه عنده ويحرقه بالنار.  
ويبقى لنا أن نوضح أن تلك الظاهرة الغريبة لم تكن قاصرة على العلماء المسلمين فقط، وإنما كانت تحدث عند الغربيين في القرن الثاني عشر الميلادي/ السادس الهجري، وذلك عندما كان الرهبان في الأديرة يحرقون كتبهم ربما لنفس الأسباب التي كان المسلمون يحرقون كتبهم من أجلها. كذلك ينبغي لنا أن نؤكد أنه لم يكن هذا هو حال العلماء المسلمين بصفة عامة، فكم منهم مَنْ كان كانت كتبه أعز شيء لديه، وخير دليل على ذلك قول الجاحظ (150 – 255هـ): "[الكتاب] نعم الذّخرُ والعُقدة هو، ونعم الجليس والعُدَّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونِعْمَ الأَنِيسُ لِسَاعةِ الوَحْدَة، ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخِيل، ونعم الوزير والنزيل".

د. أشرف صالح محمد سيد عضو هيئة التدريس - كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة ابن رشد - هولندا