جوانب من المعاملات المائية بمنطقة تلوات قراءة تقنية في وثائق محلية ـ حمزة أيت الحسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

37284107تمهيد
يتلخص الهدف من وراء هذا المقال ــ المختصر ــ في محاولة استقراء مجموعة من الوثائق ذات الطابع التعاقدي بين ساكنة منطقة تلوات؛ وذات العلاقة المباشرة، أيضا، مع موضوع الماء في تاريخ المغرب؛ مركزين في ذلك على ثلاثة جوانب أساسية؛ غالبا ما يتم التركيز عليها في مثل هذه البحوث؛ وهي: الجانب الشكلي والمضمون ثم المفردات والمفاهيم المستعملة؛ أي محاولة تقديم قراءة تقنية ومنهجية لمادتنا المصدرية المعتمدة، من جهة، والعمل على طرح إشكالية جوهرية؛ تتمثل في مدى إمكانية الإنطلاق من هذه المصادر لكتابة التاريخ الإجتماعي لمجال بحثنا، من جهة ثانية؛ متخذين دائما من تيمة "المعاملات المائية" نقطة الانطلاق.
إشارة لابد منها
نشير، منذ البداية، إلى أن موضوع "قضايا الماء بمنطقة تلوات" يسترعى اهتمامنا بشكل كبير؛ وما المساهمة ــ المختصرة ــ التي نشارك بها، سوى جزء بسيط من هذا الموضوع العام، الذي ننوي المضي قدما بالحث فيه؛ لذلك نشير إلى أننا لن نتوقف عند الخصائص الطبيعية والتاريخية للمجال المعني بالبحث؛ علما أنها خطوة منهجية ضرورية؛ بل سنكتفي بالإشارة فقط إلى طبيعة المصادر المعتمدة، ثم محاولة التأصيل لاسم "تلوات"، لنتطرق مباشرة لقراءة مضمون هذه الوثائق من النواحي الثلاث السالفة الذكر؛ نظرا لإكراهات عِدة تفرضها سعة البحث.

أولا_ طبيعة المصادر المعتمدة في البحث
نعتمد، في هذا المقال، على مجموعة من الوثائق (عددها أربعة وثائق)؛ تمتد من الناحية الزمنية ما بين أواخر القرن الثالث عشر الهجري (1295هـ)/ أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر (1878م)، وخمسينيات القرن الرابع عشر الهجري (1351هـ)/ ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي (1932م)؛ وهي متباينة من حيث حجمها، نوعية الخط، طبيعة الورق الذي كتبت عليه، المواضيع التي تعالجها والفترة الزمنية التي كتبت فيها، كما تختلف أيضا حسب الأشخاص المعنيين بها؛ إلا أنها تتشابه في عدة جوانب؛ خاصة من حيث عبارتي الابتداء/الحمدلة (الحمد لله وحده) والانتهاء (اسم الشاهد على موضوع الوثيقة وتوقيعه، بعد تاريخ كتابتها) وبعض العبارات المرتبطة بإثبات صحة موضوع الوثيقة.
أما من ناحية المضمون؛ فتهم هذه الوثائق مجتمعة مواضيع: التنازل عن الحق من الماء على سبيل الخير والإحسان (الوثيقة رقم 1)، النزاع (الوثيقة 2)، بيع الماء (الوثيقة 3)، ورهنه (الوثيقة 4)؛ وهذا ما سنعرض له بنوع من التفصيل في الآتي من هذا المقال.
إلا أن ما تجدر الإشارة إليه؛ في هذا الصدد؛ أن الوثائق التي اعتمدناها لا تغطي سوى حيزا بسيطا من المجال العام الذي أثبتناه في العنوان الرئيسي؛ وبالتالي نسبية ما قد نتوصل إليه من استنتاجات وخلاصات في الأخير.
ثانيا_ "تلوات": الاسم ومحاولة التأصيل
أولى الروايات التي تصادفنا في هذا الجانب؛ تلك القائلة بأن مجال قبيلة جلاوة كان عبارة عن "بْحيرة" محاطة بغابة كثيفة من أشجار مختلفة من البلوط والصنوبر واللوز، وكان يطلق على منخفض تلوات ــ حسب نفس الرواية ــ اسم "تَبْحُورْتْ"؛ والتي كانت عبارة عن مرعى لقبيلة أيت واوزكَيت والقبائل المصمودية الأمازيغية؛ والتي اشتراها فيما بعد "سيدي وَارْغَالْ" وقدم ثمنها للواوْزْكَيتيِّين، بعدما تحدثت الرواية عن إحدى كرامات هذا السيد، المتمثلة في إحضار ميزان إلى هضبة أطلق عليها اسم "تَوْرِيرْتْ ــ نْ ــ المِيزَانْ"( )، وتحوُّل بعض الحصى التي كان قد أخفاها تحت سترته إلى قطع ذهبية بمجرد وضعها في الميزان؛ أدى بها ما رأوه مناسبا كثمن لتلوات؛ دون أدنى إشارة إلى ما يتعلق بأصل التسمية؛ علما أنها الرواية الأكثر ترديدا من قبل كبار السن من ساكنة المنطقة( ).
أما الرواية الثانية؛ فتربط الاسم بسقوط الممالك الإسلامية بالأندلس وتوافد بعض علمائها على المنطقة واستقرارهم بها؛ وهم من سماها بـ "تْلْوَاتْ"؛ التي استقوها من عبارة "أُتْلُوا القرآن" بالأمازيغية: "تْلْوَاتْ لْقْرَانْ"( )؛ وعدد هؤلاء خمسة علماء متفقهين في الدين، رغبوا في الخلوة وتفسير الدين الإسلامي( )؛ وهم: سيدي وَرْغَالْ، سيدي حْكِيمْ، سيدي مْنْصُورْ ـ أ ـ حْمْدْ، سيدي غِيثْ، وسيدي بُولْفُولْفُولْ؛ ولا يزال جزء كبير من طبونيمية هذا المجال يحمل أسماء هذه الأعلام.
أما الرواية القائلة بأن الكلمة ترتبط بالطبيعة التضاريسية للمنطقة؛ وأنها تعني الحوض المنخفض( )، فهي مستبعدة إلى حد بعيد؛ نظرا لكونها تخلط بين اسم "تلوات" واسم "جْلاَوَة"؛ المشتقة من اسم "أَكَلُو" وجمعه "إكَلْوَانْ"؛ الذي أصبح اسم مكان (جْلاَوَة) بالأطلس الكبير الأوسط؛ ويعني الفج العميق، وهو وصف دقيق لطبوغرافية أعالي أودية الأطلس الكبير( )؛ مما يجعل الاسمين متباينين إلى حد كبير.
والراجح عندنا؛ الرواية القائلة بتسمية المنطقة من قبل بعض الفقهاء الذين وفدوا عليها؛ فعلى الرغم من عدم حصولنا على مصدر مباشر ودقيق يرفع اللبس؛ يُمْكننا ــ من خلال الملاحظة الدقيقة للتوزيع المجالي لأماكن استقرار الفقهاء المذكورين، والعلاقة الروحية للسكان بهم، ومن خلال استقراء المدلولات الطبونيمية لأسماء هذه الأماكن ــ أن نرجح الأتي:
1_ ما دام أن إحدى الهضاب بالمنطقة لا زالت تحمل اسم "تَوْرِيرْتْ ــ نْ ــ المِيزَانْ" بالقرب من مكان استقرار "سيدي وارغال" المذكور؛ الذي اشتُقَّ اسمه من أُورْغْ (أي الذهب)( )؛ كدلالة على أن فعل الوزن والبيع قد تم ــ دون إيلاء كبير اهتمام بالكيفية التي تم بها تسديد الثمن، وبالجانب المتعلق بكرامة هذا الولي ــ فالدلالة الطبونيمية للاسم تدعم إلى حد كبير الرواية التي رجحناها.
2_ استقرار هؤلاء الفقهاء بأماكن متباعدة لكنها تشكل مراكز لتجمعات سكنية كبرى (إمَوْنِينْ، إِحِنْدَاكْنْ، إَغِيلْ نُبْيَانْ، تَاسْكَة، وإِغْرِيِّيسْ هُونِيلَة)؛ إضافة لكونها تعتبر الأماكن الوحيدة التي كانت بها تجمعات يهودية كبرى (ملاحات) ضمن مجموع المجال التلواتي؛ فقد يفيد ذلك، إلى حد كبير، في القول بأن مبدأ تعليم القرآن وتفسيره للساكنة كان العامل الأساس وراء هذا الاستقرار؛ خصوصا مع حضور العنصر اليهودي بالمنطقة، ليس كأفراد وإنما كتجمعات بشرية مهمة. مما يدعم القول بتحول كلمة "أتلو" من سياقها الأول لتصبح اسما أطلق على المجال.
من هذا وذاك؛ رجح عندنا ــ إلى جانب ما سلف ذكره ــ أن هذا المجال كان له، أيضا، اسم آخر كان يعرف به قبل مجيء الفقهاء المذكورين، واندثر بعد هذا المجيء بفترة قد تطول أو تقصر؛ كما قد يكون للجانب التعبدي، وتلاوة القرآن التي كانت سائدة بعد استقرار هؤلاء، وشروعهم في تعليم القرآن، دور كبير في العمل على طمس الاسم الأول واندثاره، أمام سيادة وانتشار عبارة "أتلوا"؛ إذ من غير المنطقي أن تكون التجمعات التي سبقت مجيء هؤلاء الفقهاء ظلت تعيش دون تسمية مجالها؛ وظلت في انتظار من يأتي ليسميه عوضا عنها؛ خاصة وأن أولى الخطوات في اتجاه السيطرة على المجال تتمثل في تسميته وتخزين معالمه في الذاكرة ثم رسم حدوده؛ وتمييزه عن غيره من المجالات اعتمادا على شكله، تضاريسه، لونه وغطائه النباتي إلخ...( ).
ثالثا_ الجانب الشكلي
نظرا للتشابه الكبير الحاصل بين هذه الوثائق من الناحية الشكلية؛ سوف لن نعرض لكل واحدة منها على حدة؛ إنما ننحوا في ذلك منحا عاما جامعا؛ نلخص من خلاله كل ما هو متعلق بالجانب الشكلي؛ من خط، حجم، عدد الأسطر والتواقيع.
ففيما يتعلق بالأول (الخط)؛ فهذه الوثائق كتبت بخط مغربي، من حبر أسود، ولم يستعمل فيها أي لون آخر؛ ويختلف هذا الخط، بعض الشيء، من وثيقة لأخرى؛ تبعا لاختلاف طرق رسم الحروف من عدل لآخر؛ كما نسجل، أيضا، اختلافا من حيث كتابة بعض الأسماء؛ حيث نجد مثلا في الوثيقة رقم(2) اسم "إبراهيم" كتب هكذا(ابرييم) في حين ورد في الوثيقة رقم(4) هكذا (أبرهيم)؛ ولم يرد بشكله الصحيح إلا في الوثيقة رقم(3)( )؛ مما يدفع إلى التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء هذا الاختلاف في الرسم؛ ومدى ارتباط ذلك بالمستوى العلمي لكتّاب هذه الوثائق؛ خصوصا إذا ما أضفنا إلى ذلك بعض الكلمات التي تبتدئ في سطر وتنتهي في السطر الموالي.
أما من حيث الحجم؛ فهي ذات حجم متوسط (حوالي عشرة سنتمترات عرضا وخمسة عشرة أخرى طولا)؛ باستثناء الوثيقة المتعلقة بالذمي الحزن إسحاق بن يامين؛ والتي تبلغ حوالي خمسة سنتمترات عرضا وضعف ذلك طولا؛ مما ينعكس على عدد الأسطر بكل وثيقة؛ حيث يبلغ بالوثائق الأولى حوالي سبعة عشر (17) سطرا، وثلاثة عشرة (13) سطرا بالوثيقة المتعلقة بالذمي.
أما التواقيع؛ فصعوبة قراءتها وفك رموزها تشكل القاسم المشترك بين جميع الوثائق؛ فباستثناء الملاحظة الدالة على تطابق توقيعين؛ أحدهما على الوثيقة رقم(5) والآخر على الوثيقة رقم(6) المتعلقتين بالرهن؛ لم نستطع قراءة هذه التواقيع نظرا للطريقة التي وضعت بها، إلى جانب تآكل جزء من بعضها، وهو ما يرجع في الغالب إلى رغبة من كتبوها في الحيلولة دون تزويرها، والتلاعب بمحتواها؛ خصوصا وأننا وقفنا على ما يدعم ذلك (تلغيز بعض الأسماء عبر تعريبها).
رابعا_ المضمون
نعالج في هذه النقطة أربعة نماذج من المعاملات المائية؛ شكلت مجتمعة مضمون هذه الوثائق؛ تتعلق أولاها بالتنازل عن الحق من الماء من باب الخير والإحسان، والثانية بالنزاع، والثالثة بالبيع، في حين تهم الرابعة موضوع الرهن، مُستقين معلوماتنا حول ذلك من المصادر السالفة الذكر.
1_ التنازل عن الحق من الماء للآخر من باب الخير والإحسان
نعتمد في هذه النقطة على الوثيقة رقم(1) المؤرخة بسنتي (1295هـ/1878م) (1309هـ/1891م)؛ حيث تعتبر السنة الأولى سنة كتابة العقد من طرف السيد احمد بن محمد نَيْتْ بن دْرِسْ( ) بذراع نبيان( ) كما هو مثبت في نص الوثيقة( )؛ وتشكل الثانية سنة إعادة التأكيد على مصداقية وصحة مضمون الوثيقة من طرف عدل آخر شهد بعدالة الأول واستقامته؛ والفارق الزمني بينهما حوالي ثلاثة عشرة (13) سنة، مما يدفعنا ــ قبل المضي في تحليل المضمون ــ إلى التساؤل حول الدافع الكامن وراء هذا التأكيد؛ خصوصا في ظل الحيز الزمني الفاصل بين السنتين؛ فهل ذلك راجع إلى تردد النزاعات بشكل دوري حول مواضيع هذه العقود؟ أم أن لذلك علاقة بالرغبة في رفع أي تشكيك محتمل في محتواها؟ أم بدافع الرغبة في تحقيق وتجديد استمرارية مفعول العقد؛ خصوصا بعد وفاة كاتبه الأول، أو رحيله عن المنطقة، والالتجاء لمن ينوب عنه أو يخلفه في هذا المجال؟
بموجب هذه الوثيقة تنازل أولاد محمد بن كْرُّوم لعبد الرحمان من أيت علا أُيُوسف عن جزء من حصتهم من الماء؛ دون مقابل؛ ماديا كان أم عينيا؛ شريطة التزام المستفيد، كِتابةً، بترك الماء وقت ما طلِب منه ذلك؛ "بغير دعوة ولا خصومة"( ) إنما من باب الخير والإحسان؛ ومضمون هذه الوثيقة يمكن قراءته على مستويين اثنين: إيجابي يدل على إمكانية سيادة هذا النوع من المعاملات الاجتماعية في جزء كبير من المجتمع التلواتي، وآخر سلبي يوحي بضرورة تدوين هذا التنازل؛ إما مخافة تحول الماء المتنازل عنه إلى ملكية يستبد بها المستفيد مع مرور الزمن؛ أو أن هاجس استعادة الماء الممنوح يعتبر خاصية تلازم مثل هذه المعاملات؛ مما قد يدل على أن هذا التنازل كان يشمل فقط الفترات التي تكون فيها المياه متوفرة؛ خصوصا في مجتمع هو في أمس الحاجة إلى الموارد المائية.
2_ النزاع
نحدد مضمون هذه الوثيقة( ) من خلال العناصر الآتية:
أ_ طرفا النزاع: المزوار السيد محمد بن كروم والطالب السيد على بن احمد أيت علي بن إبراهيم.
ب_ سبب النزاع: ادعاء الأول أن الثاني يتصرف في ماء عين أيت حم بن الحسن على وجه الخير والإحسان؛ في حين رفض الثاني ذلك وقال بملكيته للماء المذكور؛ وقدم كل واحد منهما رسما يثبت ما يقول.
ج_ المتحاكَم لديه: هو العدل كاتب الوثيقة؛ وتدل عليه عبارة "تحاكم عندي{...}فحكمت للأول" إلا أننا نجهل من يكون؛ لتعذر قراءة اسمه في التوقيع.
د_ الحكم والنتيجة: حكم العدل المذكور للطالب السيد على بن احمد أيت علي بن إبراهيم (الثاني) على المزوار السيد محمد بن كروم (الأول) بالماء المتنازع عليه، وبطلان شهادة ورسم هذا الأخير؛ حكما لازما موجبا العمل بمقتضاه.
العناصر السالفة الذكر؛ تتجاوز مجرد التأريخ لمعاملة مائية؛ تجلت في ظاهرة التنازع حول الماء، والتحاكم عند شخص معروف بالنزاهة للفصل بين أطراف النزاع؛ إذ تمكننا أيضا من فتح الباب أمام قراءة من نوع آخر؛ قل ما نجد لها صدى في الدراسات التاريخية؛ وهي القراءة القانونية للمضمون؛ والتي من خلالها ندرس جانبا مهما من تاريخ القانون بالمجتمع التلواتي؛ ومعرفة فترات التقدم والتراجع التي عرفها هذا الأخير؛ من خلال رصد تطور أنظمته القانونية التقليدية؛ والعمل على إبراز دور العوامل التاريخية والسيكولوجية والثقافية والسياسية في ذلك؛ بل قد تتجاوز ذلك؛ وتمكننا من الوقوف على جزء من ذهنية الإنسان التلواتي وتصوراته النظرية إزاء جهازه القانوني؛ وهنا تتجلى أهمية هذا النوع من الوثائق بالنسبة للمؤرخ؛ فهي توقفه على جانب مغيب من التاريخ؛ طالما نشده المؤرخون المحدثون؛ وهو ما نسميه تاريخ عمق المجتمع؛ تاريخ المعاملات اليومية للإنسان البسيط.
ومن جانب آخر؛ فمضمون هذه الوثيقة يعتبر من بين الأسباب التي كانت تدفع بكتابة النوع السابق من الوثائق (وثائق التنازل).
3_ بيع الماء
قبل تحديد مضمون هذه الوثيقة، لابد من الإشارة إلى الطريقة القانونية السليمة التي كتبت بها؛ وهو ما يتضح من خلال الآتي:
البائعة: المرأة الحرة الرشيدة عائشة بنت علي نيت بعنت
المشتري: الطالب السيد أحمد بن عبد الله من أيت ابراهيم
موضوع البيع: جميع الحظ والنصيب (الثمن) من مياه المنكَرْ (وهي ساقية بالمنطقة)؛ بجميع منافع ذلك ومرافقه وحرومه وطرقه.
الثمن: خمسين أوقية دراهم فضة سكة تاريخه.
الشروط الواردة في العقد: الحوز التام بعد المعاينة والتقليب والنظر والرضى والحوز كما يجب، والمعرفة الكافية وعدم الجهل بشيء من المبيع، وعلى السنة في ذلك والمرجع بالدرك والاستحقاق.
تاريخ العقد: منتصف ذي القعدة عام عشرة وثلاثمائة وألف (1892م).
الشاهد: تدل عليه في الوثيقة عبارة "عبد ربه سبحانه"؛ لكن تعذر علينا قراءة اسمه في التوقيع.
ننطلق من هذه الوثيقة، مطمئنين، للقول بأن معاملة بيع الماء كانت ظاهرة عرفها الإنسان التلواتي في تعاملاته الاجتماعية؛ بوتيرة قد تزداد أو تنقص حسب الفترات والأحداث التاريخية؛ أسوة بما عُرف عن كثير من المناطق الأخرى؛ والتي تتشابه مع هذا المجال في كثير من الخصائص؛ غير أن ما يلفت الانتباه في مضمون هذه الوثيقة؛ كونها توحي ــ مما بدا لنا ــ بإمكانيتين اثنتين: أولاها إما أن المرأة البائعة لم تكن لها أرض تستغل عبرها حصتها من الماء؛ أو لم تكن لها القدرة على استغلال ملكيتها من الماء والأرض. كما تثير الوثيقة أيضا موضوع توريث المرأة في هذا المجتمع التقليدي؛ مع حق التصرف في ملكيتها بمختلف أنواع التصرف بيعا ورهنا وصدقة ..إلخ؛ وهو موضوع لا يخلوا من كثير من الأهمية والفائدة.
إلى جانب كل ما سبق؛ يفيد هذا النوع من الوثائق في تتبع حركة الاقتصاد بالمجتمع التلواتي؛ من خلال رصد تغايرية أثمنة التعامل حسب المكان والزمن؛ وبالتالي إمكانية وضع لبنة أولى في كتابة التاريخ الاقتصادي لهذا المجتمع؛ وهو ما سنحاول الاشتغال عليه في الآتي من أبحاثنا بحول الله.
4_ الرهن
نعتمد في هذه النقطة على معاملة رهن تمت بين برحم بن الفقير اعلي نيت لعسر والذمي الحزان اسحاق بن يمين؛ وهما من دوار إغل نبيان ــ مع ترجيح أن يكون الثاني من ساكنة الملاح المتواجد هناك ــ بموجبها ارتهن الثاني من الأول فدانا مع ما يسقيه من الماء في نوبة الراهن.
يدل هذا النوع من المعاملات، بين ساكنة تلوات من المسلمين واليهود، إلى حد بعيد، على حالة الاندماج الثقافي، الحضاري، الاقتصادي والاجتماعي، الذي كانت تعرفه المجموعات اليهودية التي سكنت المجال التلواتي؛ فبيع الماء ــ ذلك العنصر الاستراتيجي والأساسي في مجتمع يعتمد في أساس عيشه على الاقتصاد المعاشي وتدبير الندرة ــ لم يكن ليتأتى لولا اطمئنان الانسان التلواتي، في مختلف تعاملاته، للعنصر اليهودي الذي أصبح يتقاسم معه المجال؛ من خلال شراء الأراضي وارتهانها؛ علاوة على الدور المعروف لليهود تاريخيا كتجار وحرفيين... إلخ.
من هنا نتساءل عن الدافع الأساس وراء التعامل مع هذه الفئة: هل يرجع ذالك بالفعل إلى حالة اندماج هذه الأخيرة في نسيج المجتمع التلواتي، بشكل أصبحت معه عنصرا فاعلا فيه؟ وهو ما يدفع لتساؤل آخر: أين يمكن موقعة هذه الفئة داخل المجتمع التلواتي؟ أم يعود ذلك إلى مزاولة اليهود لأنشطة اقتصادية (صناعة الحلي، صناعة الأدوات الفلاحية، الحدادة...) وفرت لهم رؤوس أموال لم يكن يتوفر عليها جيرانهم المسلمين؛ وبالتالي عامل ضغط لم يكن ليترك للطرف الآخر من العقد أدنى خيار؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تستدعي، بالدرجة الأولى، القيام بعملية جمع أكبر قدر ممكن من هذه الوثائق في جميع المجال التلواتي، والتسلح بالعدة المنهجية الضرورية؛ حتى تتضح الحدود التي يمكن أن نعمم ضمنها الاستنتاجات التي قد نخلص إليها.
خامسا_  المفاهيم والمصطلحات
لن نتوقف في هذه النقطة عند كل المصطلحات والمفاهيم الواردة في هذه الوثائق؛ فمنها ما هو مرتبط بالسكة (أوقية، دراهم، الفضة، المثقال، الريال ..) وما يهم شروط صحة العقد (المعاينة، الرضى، التقليب، النظر، الاستحقاق..)؛ إلى جانب الأعلام الجغرافية؛ بل سنكتفي بطرح ملاحظتين، استرعتا اهتمامنا ونحن نقرأ مضمون هذه الوثائق:
تتمثل الملاحظة الأولى في نوع من السياسة الممنهجة التي كان يسير عليها كتَّاب هذه الوثائق (الفقهاء والعدول) في تلغيز محتوى هذه العقود؛ ويتضح ذلك في تعريب بعض الأسماء؛ وهو ما أرجعه أحد الباحثين إلى الرغبة في احتكار معرفتها، وإرغام أطرافها على الرجوع إليهم لشرحها وتفسيرها( ).
ويوضح الجدول الآتي الصيغة الأصلية لبعض الأسماء مقابل الصيغة التي وردت بها في الوثيقة:

جدول: الصيغ الأصلية لبعض الأسماء مع ما يقابلها في الوثيقة

الأصل في الاسم

تعريبه في الوثيقة

دلالته

إغِلْ ـ نُ ـ بْيانْ

ذِراع بيان

اسم أحد الدواوير التي يتكون منها المجال التلواتي

إُخْفْ ـ نْ ـ إِغِلْ

رأْس الذراع

اسم دوار بالمنطقة

دَّاوْ تُورِيرْتْ

تحت الكْدْيَة

إسم تجمع بشري متوسط الحجم؛ اشتق اسمه من موقعه المتواجد في قدم هضبة متوسطة الارتفاع

تَالاَتْ ـ نْ ـ أُمْزِلْ[i]

شِعبة الحدَّاد

اسم دوار بالمنطقة؛ اشتق اسمه من الحرفة التي تمارس فيه (الحدادة)

تَاغَانْتْ ـ مْ ـ أُغُوليدْ

فدّان أم الحَجَر

بقعة أرضية بها حجر كبير الحجم تُميَّز به عن غيرها

أَغَانْ

الفدَّانْ

بقعة أرضية تستغل في الغالب في زراعة القمح أو الشعير

يتضح من خلال الجدول أعلاه؛ أن هذه النماذج من الأسماء انتقلت من مدلولاتها وصيغها الأصلية المتعارف عليها لدى الساكنة، إلى صيغ أخرى مجهولة لديهم نهائيا؛ بل أحدث هذا الانتقال في الأسماء قطيعة تامة بين المدلولات التي أصبحت تحملها الوثيقة/العَقد وبين مدلولاتها الواقعية.
وبالنسبة للباحث في الدراسات التاريخية فهذا أمر إيجابي وسلبي في نفس الآن: إيجابي لكون الوثيقة تبقى محافظة على الطريقة التي كتبت بها أول مرة، وبالمضمون الذي حمله إياها كاتبها الأول؛ إذ يستحيل، مع هذه الطريقة، تزويرها والتلاعب بمحتواها؛ وسلبي إذ يفرض على الباحث، المتعامل مع هذا النوع من الوثائق، أن يكون على دراية تامة باللغة الأمازيغية؛ لغة المجال ولغة المعاملات اليومية للساكنة؛ وبالخلفيات الذهنية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية.. التي فرضت اعتماد هذا النوع من التعتيم في الكتابة؛ وإلا فلن يكون تحليله واستنتاجاته التي يخلص إليها سوى تجسيدا لعملية تزوير؛ تُفقد النص معناه الحقيقي وتخرجه من سياقه الواقعي الذي أنتج فيه.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالوثيقة الخاصة بمعاملة الرهن، السالفة الذكر، إذ ورد فيها لقبا "الذمي" و"الحزان"؛ حيث يعني الأول منظور المسلم لأهل الكتاب؛ أي قابلية التعامل مع هذه الفئة؛ في كافة الأنشطة وفق الضوابط الشرعية المنظمة لها. والثاني يرتبط بالعقيدة الدينية اليهودية نفسها؛ فالحزّان هو القائد الديني للجماعة اليهودية، ومهمته الإشراف على الصلوات في المعبد اليهودي؛ فكان يلعب دور المرتل (حزّان)، وإصدار الفتاوى، والإشراف على التعليم الديني، ومراقبة تنفيذ الأوامر والنواهي (قوانين الطعام وإقامة شعائر السبت وغير ذلك)؛ كما كان يحضر حفلات الختان، إلى جانب قيامه بكتابة عقود الزواج ودفن الموتى؛ وهو ما يحيل على نوع من التسامح في ممارسة الشعائر الدينية اليهودية داخل المجتمع التلواتي الإسلامي؛ خصوصا مع توفر المنطقة على ثلاثة ملاحات كبرى، لكل واحد منها مقبرته الخاصة به.

سادسا_ استنتاجات
من خلال القراءة المتواضعة لمضمون هذه الوثائق؛ أمكننا الخلوص إلى الاستنتاجات الآتية:
_ هذه الوثائق، إلى جانب المعلومات والقضايا التي تعالجها، تمكن أيضا من القيام بقراءة قانونية؛ انطلاقا من شروط إبرام العقود الواردة فيها، وأسباب انعقادها، وما ترتب عنها من نتائج؛ بل قد تمكن ــ حسب قدرة مُسَائلها وطبيعة الأسئلة التي يطرحها عليها ــ من كتابة جانب من تاريخ القانون بالمجال التلواتي خصوصا، ومجموع المجال المغربي عامة.
_ كثرة وتعدد أصناف التعاقد بالمجال التلواتي ــ والتي اخترنا منها أربعة نماذج ــ تدل على الرغبة الملحة لساكنة هذا المجال في إضفاء الصيغة القانونية على معاملاتهم اليومية؛ وحاجتهم إلى الوفاء بعهودهم؛ تحقيقا لاستقرار مجتمعهم واستمراريته؛ كما أنها تدل أيضا على وعي عميق ونضج حضاري متقدم.
_ تبايُن العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالمعاملات المائية؛ من تضامن، نزاع، بيع ورهن ..إلخ؛ يعكس جانبا مهما من حالات الأزمة أو الرخاء التي كان يعرفها المجتمع، ودرجات التفاوت بين مكوناته خاصة بين المسلمين واليهود.
_ إن هذه العقود شكلت أدوات فعالة لفض كثير من النزاعات؛ خصوصا وأنها وضعت بطريقة قانونية سليمة، وإن كانت تقليدية، توفرت فيها كل شروط التعاقد؛ وبالتالي إمكانية اكتشاف عمق تدبير الإنسان التلواتي لصراعاته ومعاملاته؛ سواء على مستويات دنيا (بين أفراد الدوار الواحد) أو على مستويات عليا (بين الدواوير).
_ طبيعة المادة التي توفرها مثل هذه الوثائق تقدم للباحث، في مجال الدراسات التاريخية، معلومات مرجعية قيمة؛ تهم مواضيع ذات علاقة مباشرة بالإنسان والمجتمع؛ يمكن من خلالها ــ وهو أمر ليس بالسهل ــ تتبع المسيرة التي مر منها المجتمع التلواتي عبر الفترات التاريخية المختلفة، والوقوف على مكامن الضعف والقوة في هذه المسيرة؛ وهو أمر يرتبط أشد الإرتباط بقدرة الباحث الدارس لهذه الوثائق على استنطاقها.
خاتمة
لم نصب، من خلال هذه القراءة المختصرة، إلى تقديم تحليل دقيق لموضوع المعاملات المائية بمنطقة تلوات، والإحاطة بكل حيثياته ــ فهذا ما لم تسمح به سعة البحث ــ بقدر ما نحونا منحى طرح مجموعة من الإشكالات؛ التي رأيناها هامة، تستدعي البحث والدراسة؛ بما قد يفيد في تشكيل نواة لإحدى الدراسات الجادة حول التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ القانون بالمنطقة...
إذ بقدر ما ساهم الماء في خلق الحدث التاريخي، من خلال مختلف المعاملات السالفة الذكر (البيع والصدقة والرهن والنزاع ...)، بقدر ما انعكس ذلك على الإنتاج الوثائقي، وساهم في تنويعه، بما يشكل، للباحث المتخصص في ميدان التاريخ، مادة وثائقية تكتسي من الأهمية الشيء الكثير، فكان مبتغانا – تبعا لذلك – التعريف بمادتنا المصدرية، وتقديم رأيٍ متواضعٍ، حول كيفية التعامل معها، من خلال تقديم قراءة تقنية فيها.

الملحق:  نموذجان من الوثائق المعتمدة
نص الوثيقة رقم 1: الالتزام
الحمد لله وحده
شهد عبد الرحمان في أيت علا ايوسف اغل نبيان بتلوات أن الماء الذي يسقيه في موضع تنززمن فانه يسقيه على وجه الخير والاحسان ويسقيه (بالعارية) وطلبه بالخير لاولاد محمد بن كروم ويسقيه الى ان يريدوا متاعهم ويخرج ... بغير دعوة ولا خصومة سوى (ما) طلبوهم الا بالخير والاحسان وهذا ما شهد به المذكور اعلاه وفي تاريخ ربيع الثاني تقدم {..} واخر الرسم عام خمسة وتسعين ومايتين والف عبد ربه سبحانه
{التوقيع}
عارفا بخط المرحوم و{...}
سيد احمد بن محمد نيت بن درس بدراع نبيان
حال كونه {...} في العدالة الى ان مات رحمه الله
{التوقيع} وفي تاريخ شهر الله ذو قعدة
          عام 1309
{...} ناصر بدراع بيال
 الله لطيف به ءامين

نص الوثيقة رقم 2: النزاع
الحمد لله وحده       صلى الله على نبيه محمد وءاله وصحبه وسلم تحاكم عندي المزوار السيد محمد بن كروم مع الطالب السيد على بن احمد ايت على بن ابرييم ادّعى الاول ان الثاني يتصرف في مآء (عين) ايت حم بن الحسن بتنززمن على وجه الخير (فقطع) والماء كله لنا واخرج رسم الخير اشهد ب عبد الرحمان بن علي وادعى الثاني ان الظفيرة من الماء المذكور ملك لنا والذي اشهد الخير انما شهد على نفسه (فقطع) واخرج رسما (تضم) ان جده على بن ابرييم اشترى فدانا هناك بمآيه المذكور وصار الجد المذكور يتصرف فيه الى ان مات وتركه لولده يتصرف فيه ايضا الى ان مات وتركه لولده يتصرف فيه للان على (عين) جد المزوار المذكور وعلى (عين) {...} فحكمت للثاني على الاول بالماء المتنازع عليه وبطلان {...} الاول حكما لازما {.....} واوجبنا العمل بمقتضاه وفي سا{..} (وعشر) ذي قعدة الحرام عام سبعة وثلاثماية والف عبيد ربه {التوقـيـع}

قائمة المصادر والمراجع
1 _ المصادر
أربع وثائق تهم مواضيع: التنازل عن الحق من الماء على سبيل الخير والإحسان، النزاع، بيع الماء ورهنه، تمتد من الناحية الزمنية ما بين أواخر القرن الثالث عشر الهجري (1295هـ)/ أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر (1878م)، وخمسينيات القرن الرابع عشر الهجري (1351هـ)/ ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي (1932م).
2 _ الرواية الشفوية
_ حدثني عن موضوع هذا المقال كل من:
_ السيد محمد بن محمد (بالفتح) بن المدني نيت الحسين تغمده الله بواسع رحمته، من ساكنة دوار إعرابن تلوات إقليم ورزازات؛ كان عمره حوالي اثنين وثمانين (82) عاما بتاريخ 01 يناير 2014.
_ والسيد الحاج عبد الله بليوط، من ساكنة دوار إعرابن تلوات إقليم ورزازات، كان عمره حوالي تسعة وسبعين (79) عاما بتاريخ 29 دجنبر 2014.
3 _ المراجع
_ الصافي مومن علي؛ أصل مصطلح "اللوح" الذي يطلق على القانون الأمازيغي المدون، ضمن ندوة "القانون والمجتمع بالمغرب"، سلسلة الندوات والمناظرات رقم 7، تنسيق الحسين وعزي والحسين أيت باحسين، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2005.
_ أوجامع محمد؛ مادة "جلاوة"، معلمة المغرب، إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر مطابع سلا، سلا 1410هـ / 1989م، المجلد الثاني.
_ رشيد الحسين؛ الأعلام الجغرافية والهوية، الأعلام الأمازيغية بالصحراء وموريطانيا، منشورات جمعية أوس للتنمية والعمل الثقافي والاجتماعي، د.ت.
_ هوزالي أنظر أحمد؛ معلمة المغرب، مادة "تلوات"، إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر مطابع سلا، سلا 1415هـ / 1995م، المجلد الثامن.


[i]_ أَمْزِلْ: اسم أمازيغي يعني الشخص الذي يزاول حرفة الحدادة؛ وتتلخص مهمته في صنع وإصلاح الأدوات التي تستعمل في ميدان الفلاحة على الخصوص.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟