قراءة تركيبية في أطروحة الدكتور مصطفى حسني إدريسي: "التفكير التاريخي وتعلم التاريخ" ـ توفيق أكياس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

8019-11-art-abstrait-naturelصدر كتاب "التفكير التاريخي وتعلم التاريخ"Pensée historienne et apprentissage de l’histoire سنة 2005 عن منشورات هارماتان بباريز. وهو في الأصل أطروحة نال بها الأستاذ مصطفى حسني إدريسي دكتوراه دولة في ديداكتيك التاريخ. حاول فيها "تقديم طريقة جديدة في تعليم التاريخ كمادة للتفكير من خلال تقديم تصورات نظرية لتوضيح بناء المعرفة التاريخية(التفكير التاريخي) وكذلك اقتراح طريقة جديدة لدرس التاريخ ترتكز حول التفكير التاريخي (المفهوم المفتاح للكتاب) وتجعل من الضروري التفكير في الممارسات التربوية الحالية من أجل علاج الوضعية الراهنة.
 لذلك لم يكتف  الاستاذ مصطفى حسني الادريسي بتوضيح مفهوم التفكير التاريخي ووصف مكوناته بل أتبعه بمجزوءة تجريبية ممأسسة على محاولة نمذجة التفكير التاريخي تسمح بتقويم أثره بمساعدة بروتوكول تجريبي. وقد جاء الكتاب في إطار الانشغالات الديداكتيكية للأستاذ من خلال عمله كأستاذ بكلية علوم التربية بالرباط والتي دفعته إلى الدعوة من خلال المنابر الصحفية قبل القنوات العلمية المعتادة إلى تجديد ممارسات تدريس التاريخ من خلال إدماج التفكير التاريخي.  
لقد عمل الأستاذ في دراسته على التحقيق في ممارسات  تدريس التاريخ بالمغرب ورصد ضعف اسسها العقلانية وبالتالي الحاجة الملحة إلى جعل التفكير التاريخي نقطة ارتكاز لتعلم التاريخ بالمغرب. ومن أجل تحقيق اهدافه حاول الاجابة عن الأسئلة التالية؟

-    ما هي المفاهيم المهيكلة للخطاب التاريخي ؟
-    ما هي  الخطوات المنهجية التي يمر منها هذا التفكير ؟
-    كيف يمكن للمفاهيم أن تزود ديداكتيك التفكير التاريخي بأسسه الابستيمولوجية  من أجل الإحاطة بمفهوم التفكير التاريخي  ؟
-    كيف يمكن إدماج التفكير التاريخي بشموليته وتعقيداته حتى يصبح في متناول المتعلمين؟
-    ما مدى مساهمة التفكير التاريخي في إبراز جدوى الدرس التاريخي على الصعيد الاجتماعي و المعرفي ؟   وما مدى مساهمته في جعل المتعلم قادرا على بناء مواقفه بشكل مستقل وإيجابي؟

من أجل الإجابة عن تساؤلاته والتحقق من فرضياته اعتمد الاستاذ مصطفى حسني الادريسي ثلاث مقاربات:
مقاربة نظرية تضمنها الجزء الأول من الكتاب(الجزء النظري) في ثلاث محاور تناول  في الأول موضوع التاريخ عبر أبعاده الثلاثة (الزمن-المجال-المجتمع) ،وحدد في المحور الثاني الخطوات المنهجية للتفكير التاريخي، بينما تطرق في المحور الثالث للمفاهيم، أنواعها، وطرق التأكد  من المفاهيم والأدوات.
أما في الجزء الثاني من الكتاب (الجزء التطبيقي) فقد استعمل الأستاذ المقاربة التشخيصية في محوره الأول الذي رصد خلاله واقع ديداكتيك التفكير التاريخي في اقسام التاريخ بالتعليم الثانوي المغربي، من خلال التعليمات الرسمية والكتب المدرسية والممارسات الميدانية بأقسام التاريخ.
بينما استعمل الأستاذ المقاربة التجريبية في المحور الثاني الذي قدم فيه مجزوءة نموذجية لتعلم الفكر التاريخي وعرض ظروف واختيارات ومراحل تجريب هذه المجزوءة، ثم  تحليلا وتأويلا لنتائج هذا التجريب. ليختم الأستاذ البحث باستنتاجات عامة كانت بمثابة تقرير عن المراحل التي قطعها البحث بشقيه النظري والتطبيقي,
مدخل
وضع الأستاذ  مصطفى الحسني الإدريسي إشكاليته في سياقها الاجتماعي كمدخل للبحث حيث أبرز الحاجة الملحة لدرس التاريخ بالمدرسة المغربية، نظرا لدوره الكبير في التكوين الفكري والمعرفي للمتعلم(ة) وذلك بتنمية ذكائه الاجتماعي وحسه النقدي ، وتزويده بالأدوات المعرفية و المنهجية لإدراك أهمية الماضي في الحاضر والتطلع إلى المستقبل ،و تأهيله لحل المشاكل التي تواجهه. هذه الحاجة دفعت الأستاذ للتنبيه غير ما مرة عبر منابر متعددة منذ 1993 أن الأهداف التربوية لدرس التاريخ لا يمكن تحقيقها إلا بالتركيز على التفكير التاريخي كمادة للتدريس، وهو الأمر الغائب تماما عن أقسام التاريخ بالمغرب. وعلى ضوء المشكل الذي طرحه عرض الأستاذ حالة السؤال  حيث قدم أهم الدراسات التي تناولت موضوع ديداكتيك التفكير التاريخي مقتصرا على ثلاث دراسات كانت من وجهة نظره اهم ما كتب في الموضوع:
-    دراسة Henri Moniot 1994   التي صنف فيها أنواع البحث في ديداكتيك التاريخ حسب خمسة انواع:
1.    البحث في الكتب والمناهج المدرسية
2.    البحث في الممارسات والأفكار.
3.    تحليل الممارسات والعمليات(عمل تجريبي)
4.    البحث حول الديداكتيك (المصداقية والتفسير)
5.    الدراسات حول المفاهيم (التحليل- التحقيق- التجريب- الفرضيات- التبرير- التقويم)
تندرج دراسة الاستاذ مصطفى حسني الادريسي ذ ضمن هذا النوع الخامس لكونها تتضمن جزءا نظريا يقدم الإطار المفاهيمي  و جزءا تجريبيا يجعل من التجربة وسيلة لتقوية النظرية
-    دراسة  Christian Laville1999  ارتكزت حول نوعين من الأبحاث:
1.    الأبحاث التي اهتمت بتعلم التاريخ سواء من حيث مسارات التعلم (نظرية بياجي  كنموذج للمسار التاريخي -النقد الذي وجه لها-), أو من حيث المنتوج الذي يقدمه درس التاريخ (السياق- الربط السببي- الوصف- النقد) وأخيرا من حيث طرق تقديم درس التاريخ.
2.    الأبحاث حول الدور الاجتماعي للتاريخ.

-    دراسة Robert Martineau et Chantal Déry  2002 ارتكزت حول المستويات الثلاثة لحضور التفكير التاريخي قي درس التاريخ (الأنشطة التمهيدية-تمارين الاستثمار-التبرير التاريخي من خلال حل المشاكل)وقد اعتمد الباحثان المنطق التاريخي المبني على حل المشاكل لكونه المستوى الأعلى وحدداه في أربع مقاربات:
1.    المقاربة الفرضية الاستنتاجيةL’approche hypothético-déductive
2.    المقاربة الحجاجية L’approche argumentative
3.    المقاربة الوصفية L’ approche narrative
4.    المقاربة العاطفيةL’approche empathique
استنتج الأستاذ انطلاقا من هذه الدراسات أن هناك قناعة لدى الباحثين بكون ما توصلت إليه الأبحاث مازال غير كاف، حيث يرى   Christian Laville أن هناك تشابه بين الأبحاث وأنها لا تأتي بجديد.
أما Robert Martineau et Chantal Déry  فقد لاحظا أن الدراسات الميدانية التي تعمل على تحويل ما هو نظري إلى ما هو تطبيقي ليست في المستوى المطلوب لتأسيس ديداكتيك تاريخ يرتكز على المنطق التاريخي.
بعد هذه الجدولة لحالة السؤال حدد الأستاذ هدف دراسته في الانطلاق من وضعية راهنة تعرف اختلالات ،نظرا لعدم الانسجام بين غايات المنهاج الدراسي والممارسات الصفية لدرس التاريخ بالمغرب ،وبين الأسس الابستيمولوجية للتفكير التاريخي والوضعيات الديداكتيكية . وكذلك الأثر السلبي لتقاليد تدريس التاريخ (بيداغوجيا التلقين وبيداغوجيا الأهداف). من أجل الوصول إلى وضعية مستقبلية تتوافق فيها الممارسات داخل القسم مع المناهج الدراسية المرتكزة على التفكير التاريخي، من خلال التحويل الديداكتيكي لهذا التفكير على أساس إبيستمولوجي واضح، من أجل تحفيز المتعلم(ة)على أخذ موقف إيجابي من التاريخي وإدراك أهميته على الصعيد المعرفي والاجتماعي.
لقد جاءت دراسة الأستاذ مصطفى  حسني إدريسي لملأ الفراغ بين الوضعيتين وتحقيق الانتقال من تكوين تلقيني إلى تكوين بنائي، يجعل من التفكير التاريخي "مادة" تعليمية بالمغرب من خلال جمع الجانبين النظري و   التطبيقي.
الجزء الأول:توضيح تفاعلي، منهجي، إبستيمولوجي للتفكير التاريخي
سبقت الإشارة في التقديم أن الأستاذ  مصطفى الحسني الإدريسي خصص الجزء الأول من البحث للإطار النظري. وقد تناول في المحور الأول موضوع التاريخ عبر أبعاده الثلاثة (الزمن-المجال المجتمع)، حيث تحدث في الفصل الأول عن الزمن  باعتباره قاعدة العملية التاريخية التي تمنح للحادثة التاريخية صفتها، فالمؤرخ يلجا إلى الزمن من أجل تأريخ، قياس ،تحقيب ، بناء، وترتيب الأحداث. وقد حدد الأستاذ أربع أزمنة :
-    زمن فيزيائي (موضوعconçu) يسمح بقياس الوقت.
-    زمن نفسي(معيش vécu) مرتبط بالتجارب الشخصية.
-    زمن اجتماعي يرتبط بظواهر اجتماعية(طقوس دينية، احتفالات، مواسم...)
-    زمن تاريخي يعبر عن الانتقال من الزمن المعيش إلى الزمن الموضوع من خلال إعادة بناء أحداث الماضي في الحاضر. وهو الذي ركز عليه الاستاذ في دراسته. 
ومن أجل إعطاء معنى للزمن التاريخي لابد من تحديد وحدات لقياسه وتأريخه، فالكرونولوجيا وسيلة لإعطاء موقع للمصادر والأحداث في سلم الزمن. وتنقسم وحدات قياس الزمن إلى وحدات أساسية (السنة، العقد، القرن، الشهر...) و وحدات تكميلية (الجيل، الحقبة، المرحلة، العهد...) . هذه الوحدات لابد لها من نقطة ارتكاز تمكن الأحداث "من اكتساب وضعية في الزمن تحدد ببعدها عن الفترة المحورية). وتتجلى أهمية الكرونولوجيا في إجابتها عن إشكالية التأريخ حيث تسمح بترتيب الوقائع حسب الزمن، وبالتالي  تساعد على إعداد منطقي للزمن التاريخي من خلال تسلسل الأحداث. و كذلك على الربط بينها.
إضافة إلى التسلسل الكرنولوجي يلجا المؤرخ إلى تقطيع المادة التاريخية حسب حقب معينة من أجل مقاربة أفضل للإشكالية المطروحة. و التحقيب عملية لها جذور عميقة في الممارسة الإستغرافية كمسار فكري على المستويات الاجتماعي، المنهجي، و الإبستمولوجي. لقد بين الأستاذ أن للتحقيب صورة رمزية، حيث يجب التفريق من وجهة نظر ديداكتيكية "بين التحقيب كفعل للإنتاج والحقبة كمنتوج لهذا الفعل.  بين الحقب المبنية بشكل قبلي والتي تعتبر عائقا أمام تطور الذكاء التاريخي ، وبين بناء الحقب  الذي يعتبر طريقة لتعلم التحكم في الزمن الاجتماعي"Ségal1991 .إن ما يعاب على الحقب المبنية قبليا أنها تخلق وحدة وهمية من عناصر مختلفة. ولكن التحقيب كفعل إنتاجي هو تمرين تاريخي أساسي يسمح من جهة بترتيب الأحداث ومن جهة أخرى بتأويلها واستخراج حقائق علمية لا يمكن إنكارها، لأنه يسمح  بالربط بين العوامل والمفاهيم لتوضيح ظروف تشكل أو تطور تنظيم معين. وبذلك يمكننا من التفكير في الاستمرارية والقطيعة في آن واحد. استمرارية داخلة المراحل وقطيعة بينها.
أصبح للزمن نظام آخر في الكتابة التاريخية مع الانتقال من التاريخ التقليدي إلى التاريخ الجديد، حيث تم إغناؤه بالتصور الجديد للزمن التاريخي الذي قسمه بردويل إلى ثلاث أزمنة:
-    زمن فردي(على المدى القصير) يخص التاريخ التقليدي الحدثي المتحرك على السطح أي الذي يعرف أحداثا منعطفات في تاريخ المجتمعات.
-    زمن اجتماعي(على المدى المتوسط) الذي يخص فعل المجموعات الانسانية الضمني ويحدث في عمق المجتمعات بحيث لا يبدو منه الكثير على السطح.
-    زمن جغرافي(على المدى الطويل) أي التاريخ الشبه الثابت الذي لا يكاد يكون الاحساس بتقلصاته ممكنا ، وهذا الزمن يخص بالتحديد العلاقة بين البشر والمحيط.
لقد كانت فكرة بروديل حول الزمن الثابت انقلابا في الرؤية والأسلوب بتحويله الاهتمام من الأحداث إلى البنيات، الأمر الذي فتح المجال امام التاريخ الجديد لتحطيم فكرة الزمن، وأمام ديداكتيك التاريخ للبحث عن تصور ديداكتيكي جديد للزمن التاريخي.
 انتقل الأستاذ  مصطفى حسني إدريسي في الفصل الثاني للحديث عن المجال، حيث اعتبره تعبيرا عن دينامية المجموعات البشرية وخصوصيتها ومميزاتها الحضارية (مجال إسلامي ،مجال أوروبي...) والمجال التاريخي حسب Rosenberger Bernard " موضوع صراع بين الجماعات البشرية والتشكيلات القبلية". وقد صنف الأستاذ  المجال حسب ثلاثة سلالم:
-    سلم الملاحظة وهو إما محلي يضم مجالا جغرافيا ضيقا نسبيا، أو وطني يهتم بمجال يعبر عن انتماء جماعي خاضع لسلطة معينة، أو سلم حضاري ذو مجال أوسع يتجاوز التنظيمات الجماعية الضيقة، وأخيرا سلم عالمي ذو بعد كوني تجاوز الحدود الثقافية والسياسية-هذا البعد أصبح ضرورة ديداكتيكية- .
-    سلم التوطين يرتبط بتموقع الأحداث التاريخية في المكان. لأن المكان والزمن يمثلان بالنسبة لها إحداثيات مشابهة لخطوط الطول والعرض بالنسبة للجغرافيا، الأمر الذي يضع المؤرخ أمام إشكالية تحديد الواقعة التاريخية عندما تغيب الإشارات الجغرافية. وعلى المؤرخ أن يتعامل مع المجال كمفهوم تاريخي بتوظيفه في إطاره الزمني عبر خرائط الفترة المدروسة.
-    سلم التأويل يعبر  فيه عن العلاقة المعقدة بين التاريخ و المجال.  و يرى الأستاذ مصطفى حسني إدريسي أن عامل التأويل  يجب تناوله بحذر نظرا لاختلاف وجهات النظر حول أثر المجال في التطور التاريخي(الامكانية، الحتمية، الوظيفية) .وكذلك  حتى لا يركز على أحدهما على حساب الآخر.
دأب التاريخ الجديد في إطار عملية التأويل على استعمال الطريقة الكرتوغرافية  للجواب عن الأسئلة "كيف؟" و"لماذا؟". هذه الطريقة التي تأكد على البحث في العلاقات بين الأحداث التاريخية الممثلة بيانيا ومجموعة الأحداث التي تصرح بها أو تقترحها الخريطة.
بناء على ما سبق دعا الأستاذ  الديداكتيكيين إلى الاهتمام أكثر بالمجال كما هو الحال بالنسبة للزمن، كما أكد على الخريطة كدعامة أساسية للعمل الديداكتيكي.
تناول الفصل الثالث المجتمع وهو البعد الثالث من الأبعاد المهيكلة للتفكير التاريخي. وتتجلى أهميته في كونه من المفاهيم الجامعة، حيث ترتبط به عدة مفاهيم فرعية منها الفئة، الطبقة، والمؤسسات الاجتماعية ... وبالتالي فإن التعامل مع المجتمع يستدعي فهم الأفراد والجماعات المكونة للمجتمعات في إطار زمني ومكاني محدد، من أجل المعرفة الإجمالية للأحداث وكذلك شرح التغيرات الاجتماعية التي تتمركز في قلب الاهتمامات التاريخية،  لكونها "تعبر عن التحولات الملاحظة عبر الزمن والتي تؤثر بشكل بنيوي في عمل التنظيمات الاجتماعية" Rocher1972 لذلك فالمؤرخ يرى فيها "صيرورة معقدة من التناقضات داخل المجتمع يتواجه فيها التجديد مع الممانعة" ويرى Paul Ricœur  أن اهتمام التاريخ بما هو جماعي يرجع لكونه من العلوم الانسانية أي أن موضوعه ليس الفرد ولكن الإنسان في المجتمع. ومن هنا يأتي نزوع المؤرخ إلى الارتباط بكيانات جماعية دون اختزالها إلى أفراد. وفي خضم محاولة التاريخ تفسير التغيرات الاجتماعية يوسع المؤرخ مجال دراسته كي تشمل كل الأحداث الاجتماعية. الامر الذي يولد لديه طموحا في الكونية، فيصبح مجال عمله شاسعا وتتضاعف حقول الدراسات التاريخية في الزمن والمكان، مما يفرض تقطيع  المجال التاريخي حسب الحقب و حسب الجهات، لتحديد المجتمع المدروس و تقسيمه إلى قطاعات مختلفة. وقد تبنى الأستاذ مصطفى حسني إدريسي في أطروحته تقسيم André Ségal الذي خططه على شكل دائرة يوجد المجتمع في مركزها وتوجد في المحيط ثلاثة قطاعات تحدد عمل المؤرخ هي:
-    التاريخ التقليدي الذي يهتم بالمؤسسات السياسية و الحضارات والثقافات العالمية.
-    الجيو-تاريخ  الذي يهتم بالاقتصاد والديموغرافيا.
-    التاريخ الإثنولوجي أو الأنثروبولوجيا الذي يهتم بالدهنيات والعقليات والثقافة المادية.
كخلاصة لما سبق نبَه أستاذنا أنه إذا كان على المؤرخ تجاوز فكرة التاريخ الواحد بالنسبة للزمن وتحويل الاهتمام نحو الفترات الزمنية. فالأمر ليس كذلك بالنسبة للمجتمع او التغيرات الاجتماعية بشكل أدق. حيث أن على المؤرخ تجنب التجزيء ومحاولة فهم التغيرات كونيا. لأنه إن كان التجزيء مطلبا علمي فإن الكونية مطلب ديداكتيكي. فالاشتغال على الجهات والحقب والقطاعات يجعل الفوضى التي يقدم فيها التاريخ عبر آثاره قابلة للتفكير.  إن هذه العمليات الثلاث أمر ضروري للإحاطة بالتغيرات الاجتماعية، وكذلك بالنسبة لتعلم التفكير التاريخي. الأمر الذي لا يمكن تطبيقه من طرف المتعلم (ة)إن كانت المعرفة المدرسية قد وضعت مسبقا الجهات والحقب والقطاعات في قوالب جاهزة. إن تدريب المتعلم(ة) على التقسيم الجهوي و التحقيب  والتقطيع بطريقة مناسبة للمشكل  التاريخي المطروح،  يمكنه من الانفتاح على أنشطة فكرية أخرى (انتقاء،  المعلومات، التوطين، التنظيم، ترتيب وتراتبية الاحداث التاريخية).
بعد توضيح الرؤية حول الأبعاد المهيكلة للفكر التاريخي انتقل بنا الأستاذ مصطفى حسني إدريسي إلى المحور الثاني من الجزء النظري للحديث عن خطوات التفكير التاريخي وقد استهل المحور بالتأكيد أن المعرفة التاريخية هي نتيجة لعمل منهجي رغم النقاش الدائر حول علمية التاريخ. مشيرا ان المقصود بالمنهج هو طريقة التفكير وليس التقنيات التي تتحكم في ردود الأفعال. لهذا اعتمد الأستاذ  على النهج التاريخي لHenri Irène Marrou  والذي عبر عنه بخطاطة توضيحية على شكل منحنى حدوي يمتد بين مستويين ،مستوى شخصية المؤرخ الذي يطرح مشكل ويضع له فرضيات ويبنى تركيبات. و مستوى الواقع الموضوعي الذي يرتبط بموضوع من الماضي ترك أثرا في الحاضر. هذان المستويين يعتبران محور المنهج التاريخي الذي يمر عبر الخطوات التالية:
1.    الإشكالية: تعتبر أول مرحلة من مراحل التفكير التاريخي، حيث تتطلب تحويل موضوع للدراسة إلى مشكل تاريخي يستلزم التفسير. وهي بالتالي نقطة انطلاق لتساؤلات حول أحداث مجهولة انطلاقا من أحداث معروفة. يتم إنجازها من خلال العمليات التالية:
-    موضوع البحث أو السؤال المركزي: يتم استقاؤه من الحاضر الذي يعرفه المجتمع وانطلاقا من الوثائق المتوفرة والتي يجب أن تراعي الأبعاد الثلاثة المهيكلة للفكر التاريخي.
-    الأسئلة الفرعية: تتفرع عن السؤال المركزي من أجل تسهيل تحليله ومن الضروري أن تتوفر فيها شروط الملاءمة العلمية والاجتماعية.
-    الفرضيات: هي أجوبة مؤقتة عن الأسئلة انطلاقا من تحليل الوثائق يمكن تأكيدها
2.    الاستكشاف الوثائقي: الوثيقة هي كل أثر مادي منقول أو غير منقول. و ليس هناك أدنى شك في كون الوثيقة هي المادة الأولية لبناء الوقائع التاريخية، فهي تأخذ أهميتها في كتابة التاريخ لكونها مصدرا للمعلومة وكذلك برهانا لقبول أو نفي وجهة نظر معينة.
ويمكن تحديد ثلاثة أصناف من المصادر التاريخية :
-     المصادر الشفهية
-     المصادر المادية المجسمة ،المكتوبة ،السمعية البصرية...
-    _المصادر المهيأة أو المنجزة
 و لا يمكن  استغلال الوثائق بشكل جيد إلا إذا تمت دراستها على ضوء إشكالية ،و قد اقترح الاستاذ اتباع الخطوات المنهجية التالية خلال هذه المرحلة :   
-    قراءة الوثيقة وتحديد المفاهيم والمصطلحات ذات المدلول التاريخي.
-    تحديد نوعية الوثيقة وإطارها الزمني والمكاني مع التعريف بمصدرها.
-    استخراج المعلومات وتجميعها وتصنيفها .
-    ربط الخلاصات والترابطات و التفسيرات التي تم التوصل إليها بعناصر الدرس
-    تقييم و نقد مضمون الوثيقة من خلال تحديد نقط ضعفه أو قوته، مع تعيين الحجج والدلائل على ذلك.
3.    التحديد:  خلال هذه العملية ننطلق من الوثائق لنصل إلى الفرضية وتتطلب هذه المرحلة تحديد الاحداث حسب ثلاثة معايير:
-    المفهومية: تبدأ فهم الوثائق من حيث لغتها وأسلوبها ثم فهم الأحداث المثارة انطلاقا من الوثائق.
-    الملاءمة: ملاءمة الأحداث مع المشكل المطروح والفرضيات المقترحة والتي تتوقع انتقاء وتقييم أهمية هذه الأحداث.
-    التاكد من صحة الأحداث: يتم في هذه المرحلة التأكد من صحة الأحداث على ضوء الحجج الوثائقية وكذلك الحجج التبريرية عن طريق نقد مصادر المعلومة، من أجل رفض او قبول الفرضيات.
4.    التفسير: هو عملية إيجاد العلاقات الرابطة بين الأحداث من أجل الجواب على السؤال المطروح. وقد نتج عن اختلاف وجهات حول مفهوم التفسير ظهور عدة نماذج في التفسير التاريخي ( النموذج الوضعاني - النموذج العقلاني - النموذج الحبكي - النموذج السردي). كما ان التفسير يتأثر بثلاث مرجعيات أساسية (التفسير التاريخي والوثيقة التاريخية - التفسير والزمن التاريخي- التفسير وثقافة المؤرخ). وياخذ التفسير التاريخي شكلين أساسيين:
-    التفسير العاملي: ننطلق من الحدث/ المشكل  المطلوب تفسيره لنعود بذلك في الزمن من أجل اختيار وتصنيف العوامل حسب طبيعتها ومدتها و نجاعتها، من أجل تحليل الاحتمالات المختلفة.
-    التفسير التحفيزي: نتموضع في هذه الحالة قبل وقوع الحدث/ المشكل  من أجل تحليل للاحتمالات المختلفة المرتبطة باختيارات وسلوكيات الفاعلين في هذه الحالة، فالحدث /الواقعة هو واحد من الاحداث الوقائع الممكنة فرضيا ولكنها لم تحدث على أرض الواقع، والمطلوب هنا هو تفسير لماذا لم تحدث؟
يتم التفسير عموما عن طريق التركيب بين جواب جامع ومشكل مطروح، هذا الجواب يعرض لنا الحدث/المشكل في سياقه التعاقبي أو التزامني من  أجل الوصول إلى معنى.
5.    التركيب: هو الانتقال من العرض العشوائي لأحداث الماضي إلى صياغة مجموعة مرتبة ومنظمة البنية. يتخلل التركيب مختلف مراحل التفكير التاريخي فهو لا يعني فقط الربط بين بعض العناصر ،بل أيضا إدماج هذه العناصر حسب معنى محدد. يتعلق الأمر إذن بمسار من الروابط و منتوج نهائي لهذا المسار مبني حول الجواب التفسيري المرجو إعطاؤه للمشكل التاريخي المطروح، وتمر عملية التركيب في مسارها الاستدلالي من ثلاث مراحل أساسية:
مرحلة التقديم: يقدم المؤرخ إشكاليته كنتيجة بقدر ما يقدمها كنقطة بداية.
مرحلة العرض: يختلف التاريخ الجديد عن التاريخ التقليدي، إذ أنه لا يكتفي بتفسير الاحداث عند سردها ولكن يسعى إلى البرهنة والاستدلال على صحتها إما استدلالا قياسيا (عن  طريق المقارنة) والاستدلال بالصمت (عدم ذكر الوثائق للحدث يعني أنه لم يحدث). والاستدلال التخميني (العلاقة السببية بين حدثين)، وأخيرا الاستدلال السببي (الحدث العام يتفرع بالضرورة إلى أحداث خاصة)
مرحلة الخاتمة: يغلق فيها المؤرخ روايته بأحكام تقويمية كما يقترح مناهج أخرى للبحث ويطرح تساؤلات جديدة.
بعد تقديمه الخطوات الرئيسية للتفكير التاريخ انتقل الأستاذ مصطفى حسني إدريسي  إلى المحور الثالث والأخير من الجزء النظري لتوضيح إشكالية  ووظائف المفهمة في التفكير التاريخي والحديث عن المفهمة  يتعلق بمسار من بناء المفاهيم من أجل تسمية الأشياء والأحداث وترتيبها في إطار مفاهيمي محدد إذ ان المفهوم هو تصور ذهني  للأشياء والوقائع التي تجمعها خصائص مشتركة. لا يمكن اختصار المفهمة في مرحلة من مراحل التفكير التاريخي لأنها حاضرة على طول مراحل التحليل والتركيب ،توجه البحث لخدمة الإشكاليات المدروسة. و تمكن من تحويل العشوائي من المصادر إلى مجموعة منظمة ومبنية بدقة. وهناك نوعان من المفاهيم :
1.    مفاهيم مستعارة : إما خاصة بعصرها نستعملها للتعبير عن احداث لم يعبر عنها في المصدر المستعمل. أو مفاهيم ذات معنى عام  يستعيرها المؤرخ من قاعدة المفاهيم ذات المعنى العام التي يمكن تطبيقها على الانسان في كل زمن ومكان (الموت، الحياة، الرجال، النساء، المدن، القرى...). وهناك مفاهيم مستعارة من علوم مجاورة.
2.    المفاهيم المنتجة من طرف المؤرخ:  ينتجها المؤرخ انطلاقا من العناصر الملاحظة في حلات خاصة من أجل اثبات اصالة حالات أخرى(الحقب و الفترات).
 وكذلك من عبارات منفردة مكتسبة من قراءة الماضي توجه لاستعمال تناظري او مقارناتي وتسمى المفاهيم المثالية.
و حتى يكون المفهوم صالحا للاستعمال لابد من إخضاعه لمنهجية التأكد من الأدوات المفاهيمية. عبر التأكد من مدى تاريخيته؟ و عزله عن النموذج الأصلي  من خلال اعتباره أداة تفكير قابلة للتغيير وليس نموذجا نهائيا، و أخيرا التحفظ في  الاستدلال التناظري المبني على المقارنة وذلك باعتماد استعارة خاصة مبنية على المنهج المقارن .
وكخلاصة لهذا المحور يرى الأستاذ  مصطفى الحسني الإدريسي ان الحضور القوي للمفهمة في الفكر التاريخي  بدأ يشغل بشكل كبير ديداكتيكيي التاريخ .حيث أن دعوة كريستيان لافيل و أندري سيغال منذ 1979 إلى الاهتمام بمعرفة المفاهيم  تطورت اليوم بشكل كبير بفضل مقالات وأبحاث و أطروحات اهتمت بالموضوع.
لقد استطاع الأستاذ في الجزء الأول من  كتاب "التفكير التاريخي وتعلم التاريخ" من بناء إطار نظري عرض من خلاله توضيحا وتأسيسا منهجيا و أبستمولوجيا لطريقة تدريس التاريخ كمادة للتفكير. حيث أحاط بموضوع التاريخ عبر أبعاده الثلاثة: الزمن ،المجال، المجتمع. بينما شخص في المحور الثاني خمس وضعيات لمسار التفكير التاريخي: الإشكالية، الاستكشاف ،التعريف ،التفسير و التركيب. و أخيرا في المحور الثالث قدم دراسة حول موقع المفهمة في التفكير التاريخي.
قاد هذا التركيب الأستاذ  مصطفى الحسني الإدريسي إلى إنجاز خطاطة بيانية قسمها إلى ست مراحل ل اتخضع بالضرورة للترتيب الزمني هي:
1_الإشكالية 2_الاستكشاف 3_التعريف 4_التفسير 5_التركيب 6_ المفهمة.
على أساس هذا الإطار المنهجي سينخرط الأستاذ في الجزء الثاني من أطروحته لتشخيص واقع ديداكتيك التفكير التاريخي بالتعليم الثانوي بالمغرب وبناء مجزوءة تعلمية لهذا التفكير خاضعة للتجريب.
الجزء الثاني: التفكير التاريخي في أقسام التاريخ   
اعتمد  الأستاذ مصطفى حسني إدريسي في الجزء الثاني من كتابه على منهجيتين للتحقق من الإطار النظري الذي بناه في الجزء الأول من الأطروحة.  فقد اعتمد المنهج التشخيصي في  المحور الأول الذي قدم فيه استكشافا لواقع تعليم التاريخي بالتعليم الثانوي بالمغرب  يهدف إلى تقويم أهمية التفكير التاريخي في الأقسام والكتب المدرسية والنصوص الرسمية الموجهة لتدريس التاريخ بالمغرب في المستوى الثانوي. وقد وجه الأستاذ قراءته لهذا الواقع بتمييز المستويات الثلاث لتجلي التفكير التاريخي  المنجزة من طرف مارتينو و شانتال.
من جهة اخرى حاول الأستاذ في ختام هذا التحقيق توضيح هذه القراءة بالتطور الاجتماعي والسياسي بالمغرب. حيث تشاطر الرأي مع بيير فيليب برنار ان هناك ترابطا بين درجة ترسيخ التفكير التاريخي  و دمقرطة المجتمع  المُساءل.
وتساءل عن ما إذا كان واقع التفكير التاريخي بالمغرب طريقة للتساؤل عن مرجعية المجتمع المغربي المنقسم بين التقليد والحداثة بين الحكم السلطوي و الديموقراطي.
ومن أجل إظهار الملاءمة الاجتماعية لأطروحته اتبع الأستاذ الخطوات التشخيصية التالية:
تشخيص حول التعليمات الرسمية: تمكن الأستاذ من خلاله إدراك تطور واضح مابين1973 و 2002 فيما يخص الاشارة إلى التفكير التاريخي حيث لاحظ أن العمليات الذهنية حاضرة في برنامج 2002 دون وجود ترابطات فيما بينها، وقد فسر الأستاذ انعدام الترابطات بغياب أي إشارة إلى الإشكالية ضمن مكونات التفكير التاريخي. حيث أنه رغم اعتماد  التعليمات الرسمية لمرجعية ديداكتيكية تأخذ بالتجديد الإبستمولوجي الذي يعرفه التاريخ كمادة عالمة من خلال مدخل الكفايات إلا أن ذلك لم ينعكس على مستوى الأنشطة الفصلية .
تشخيص الكتاب المدرسي للتاريخ: أعطى الأستاذ لمحة تاريخية عن الكتب المدرسية الخاصة ببرامج المدرسة العمومية  والتي عرفت أول إصلاح حقيقي لها سنة 1970-1971 في سياق النهوض بالمدرسة الوطنية المغربية من خلال مبادئ التعميم والتوحيد والتعريب والمغربة. 
انتقل الأستاذ بعد ذلك إلى تحليل الكتب والمناهج الدراسية من خلال إخضاعها للملاحظة العلمية والملاحظة الديداكتيكية مركزا على معيارين أساسيين:
1_ المصداقية العلمية للمعارف المنقولة في الكتب المدرسية:  لاحظ الأستاذ أن التقليد الديداكتيكي لا يأخذ من التاريخ العالم إلا ما يمكن تكييفه  مع متطلبات التربية المواطنة التي تخضع للإيديولوجيا والخيال. مما يؤدي إلى إغفال مواضيع وتغليب أخرى، وكذلك اعتماد الخطاب الوصفي أكثر من اعتماد الخطاب التفسيري.
2_ ملاءمة المفاهيم الديداكتيكية: لاحظ الأستاذ في هذا الموضوع أن هناك عدم فاعلية فيما يخص التكوين الثقافي وإعداد المتعلم للتفكير باستقلالية . كما أن ملاحظة الأقسام عن طريق تقارير التفتيش مكنت الأستاذ من استنتاج مايلي:
-    الغياب التام للإشكالية
-     الاستعمال الكبير للوثائق
-     هيمنة الأسئلة السردية الوصفية على الأسئلة التقويمية
-    إعطاء الأولوية للمعارف المنقولة على المعارف المبنية.
 من خلال هذه الملاحظات تبين لأستاذنا أن كلا من واضعي المناهج و مؤلفي الكتب المدرسية و الأساتذة  ليس لهم فكرة واضحة عن التفكير التاريخي.
انتقل الأستاذ بعد هذا التشخيص إلى الشق التجريبي من بحثه حيث عمد في المحور الثاني من الجزء التطبيقي إلى  تقديم مجزوءة تدريس التفكير التاريخي مطبقة على نموذج مأخوذ من تاريخ المغرب. حيث أعتبر أن من أساسيات بحثه تصور هذه المجزوءة التي تدمج التفكير التاريخي بشموليته وتعقيداته وتسهله ما أمكن ليصبح في متناول المتعلمين.
صمم الأستاذ المجزوءة لتحقق الهدف العام التالي" أن يصبح المتعلم(ة) قادرا في نهاية المجزوءة على بناء المعرفة التاريخية باتباع طرق التفكير التاريخي" من خلال التمكن من ثلاث كفايات هي:
ـ التمكن تدريجيا من تقديم إشكالية تاريخية.
ـ التمكن من تحقيق الفرضيات انطلاقا من الوثائق المختارة.
ـ  التمكن من شرح وتفسير المشكل المطروح.
خصص الاستاذ الفصل الأول من هذا المحور لتقديم المصوغة وأنشطتها ،وقد استهله  بإعطاء  تعريف للتفكير التاريخي على أنه " تفكير مجزء حسب مراحل وعمليات متكاملة تسعى إلى تسهيل اكتساب المعارف التاريخية انطلاقا من مجهود شخصي وعلى ضوء توجيهات عملية تقدم في أوقات مناسبة تساعد على الانخراط تجربة علمية جديدة حول نمودج ملموس" و اختار نموذجا من تاريخ المغرب يرتبط بالمرحلة الانتقالية بين عهد الوطاسيين والسعديين في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر. مؤكدا أن الهدف المنتظر ليس معرفة أكبر عدد من المعلومات حول موضوع معين وإنما التمهيد للتفكير التاريخي والتمرن عليه. تم عرض الاستاذ خطاطة تقديمية للتفكير التاريخي تتكون من مجموع التمفصلات التي تتخذها الاشكالية (الاشكالية- الاستكشاف- التعريف- التفسير- التركيب- المفهمة) من اجل تحقيق هدفه، مؤكدا ان المؤرخ لا يتبعها بشكل خطي ولكن بشكل لولبي ،ثم قسم الأستاذ المجزوءة إلى ثلاث جذاذات تعليمية تتلاءم كل واحدة منها مع كفاية من كفايات التفكير التاريخي.
استهدفت الجذاذة الأولى كفاية طرح الاشكالية من خلال تقديم مفهوم الاشكالية و التوجيهات  والقدرات المرتبطة بها(طرح المشكل/السؤال المركزي _ صياغة الاسئلة الفرعية_ وضع فرضية لكل سؤال) تم الاعتماد على وثائق وأنشطة مرتبطة بالمرحلة التاريخية الانتقالية ما بين عهد الدولة الوطاسية والسعدية.
أما الجذاذة الثانية فقد استهدفت كفاية التعريف اي تحديد الوقائع التي تضمنتها الفرضيات انطلاقا من الوثائق المختارة. عبر التمكن من القدرات المرتبطة الفهم والانتقاء و النقد.
و استهدفت الجذاذة الثالثة كفاية تفسير مشكل الدراسة عبر تحقيق قدرات (انتقاء العوامل المفسرة- تفسير أسباب عدم وقوع بعض الاحتمالات المفترضة- ترتيب العوامل من أجل تحديد النجاعة- صياغة جواب تركيبي للمشكل التاريخي المطروح) .
ثم قدم الأستاذ مصطفى حسني إدريسي في الفصل الثاني من الجزء التطبيقي  اقتراحات أجوبة لأسئلة الأنشطة التي تضمنتها المجزوءة من أجل تسهيل استغلالها.
 اما المحور الثالث فقد تناول مرحلة التجريب حيث تطرق في الفصل الأول إلى طرق تجريب المجزوءة منطلقا من التذكير بالفرضية العامة للبحث التي فصلها في خمس فرضيات. وتحدث بعد ذلك عن أداة التقويم حيث حدد هدفها في اتباع الأثر الناتج عن المجزوءة وأشار إلى الإكراه الزمني الذي ساهم في اختيار عناصر التقييم من بين بعض عناصر الكفايات  الثلاث لاستحالة تقييم كل القدرات. كما شرح التقنية المعتمدة في وضع شبكة التقويم  حيث بين انها قسمت إلى سبع أجزاء خصصت ستة منها لتقييم المعارف من خلال 26 تيمة أما الجزء السابع فقد خصص لتقييم معارف-الفعل من خلال 14 تيمة. وأكد الأستاذ أن هذا التركيز في الشبكة على المعارف لا يتناقض مع التفكير التاريخي، لأن المنهج التاريخي البنائي يعتبر المعارف نتيجة لبناء أي لمعرفة-فعل. وبعد التذكير بالفرضيات وأدوات التقييم  برر الأستاذ أسباب اختيار العينة التجريبية من تلاميذ السنة الاولى ثانوي بكون مقرر هذا المستوى يغطي مرحلة الانتقال بين الوطاسيين والسعديين ، وكذلك لتوافقه مع مستوى صعوبات المجزوءة. اما عن أسباب اختيار نيابات الخميسات ،آسفي ،و السطات للتجريب ،وكذلك اختيار الأقسام التجريبية و الاختبارية فقد ربطها الأستاذ بالظروف المادية او العملية فحسب. وأخيرا وصل البحث إلى مرحلة إنجاز التجربة التي تمت عبر عدة مراحل: إ
-    إعداد الوثائق
-    اجتماعات مع الشركاء (مفتشين وأساتذة) وتحديد الأدوار المنوطة بهم 
-     تقليص دور الأستاذ في التوجيه والارشاد
-    عدم إخبار المتعلمين بأن هناك اختبار بعدي
-    عدم إخبار الأساتذة بأن الاختبار البعدي متطابق مع القبلي
-    اختيار مجموعتي التجربة والاختبار من اقسام لم تدرس بعد الفصل الخاص بتوحيد المغرب ومحاولات التحديث في عهد السعديين
-    عدم اعتبار متغيرات النوع أو الشعبة ،و لا متغير مستوى التلاميذ
-    أن  يتم الانجاز في ست حصص من ساعتين.
خلال الجزء الثاني من الأطروحة اعتمد الأستاذ على منهجيتين للتحقق من الإطار النظري الذي بناه في الجزء الأول :
 منهج تشخيصي قاده من خلال تقديم توضيحات سوسيو-سياسية وإبستيمولوجية إلى الإحاطة عن قرب بواقع تدريس التفكير التاريخي بالمغرب.
منهج تجريبي مكنه انجاز المجزوءة تعليمية من اختبار وتقويم مدى تحقق الفرضية العامة للبحث والفرضيات المتفرعة عنها.
أما الفصل الثاني من المحور الخاص بالتجريب فقد خصصه أستاذنا لتحليل وتأويل نتائج التجربة. وأكد من خلاله الخصائص العلمية في المجال الديداكتيكي للإطار النظري الذي قدمه في الجزء الأول من الدراسة . حيث أن ملاحظة مجموعتين تجريبيتين - مجموعة البحث ومجموعة الاختبار أثبتت أنه كلما كان التعليم مرتكزا على تعلم المادة التاريخية، أي على الأسس الابستيمولوجية والمنهجية، كلما كان التعلم مرتكزا على التفكير التاريخي. و من ناحية أخرى أثبتت أن التحكم في كفاية التفكير تاريخيا يتطلب ممارسة شاملة وليس أنشطة فكرية مجزأة وخارج السياق. كما أثبتت التجربة أنه كلما كان درس التاريخ متمركزا على تعلم التفكير التاريخي كلما طور المتعلمون موقفا إيجابيا تجاه التاريخ. وفيما يخص تصور التلاميذ نحو طبيعة وطريقة وأهمية التاريخ تبين للأستاذ ان التجربة لم تستطع تأكيدها أو نفيها لهذا يرى الأستاذ أنه لابد من إعادتها وربطها مباشرة بالنتائج  على مستوى المعرفة ومعرفة-الفعل.   
في ختام بحثه قدم الأستاذ  مصطفى الحسني الإدريسي استنتاجات عن نتائج البحث وحدود إضافاته. كانت بمثابة تقرير عن الأطروحة عرض فيه المنهجية التي سلكها (تشخيصية-مفاهيمية- تجريبية) وأكد فيه مرة أخرى أن فرضياته تحققت بشكل واسع. ولكن الأمانة العلمية  دفعته لتقديم نقد ذاتي رسم فيه حدود منهجية ونتائج البحث  رغم ما توصل إليه من نتائج جد إيجابية. حيث ذكر الأستاذ ما يلي:
  الخطوات التشخيصية: للبحث ركزت على التعليمات الرسمية في البرنامج الدراسي وأهملت المكونات الأخرى للعملية الديداكتيكية، كما أن الملاحظات التي توصل إليها بخصوص أقسام التاريخ ليست ثمرة ملاحظات مباشرة وإنما اعتمد فيها على تقارير المفتشين. إضافة إلى عدم تمكنه من إنجاز بحث لمعرفة وجهة نظر المدرسين وتصوراتهم المرتبطة بالتاريخ، ولم يتمكن كذلك من معرفة رأي المتعلمين في أنشطة تدريس التاريخ.
الخطوات المفاهيمية: تحدث الأستاذ عن التساؤلات الصحيحة التي يمكن أن تثار حول غياب نظرية التعلم لفيكوتسكي ،ونظرية التقدم الاجتماعي لسيرج موسكوفيا. وأكد أن اختياره التركيز على موضوع التفكير التاريخي كان اختيارا منهجيا.
الخطوات التجريبية: صرح الاستاذ في هذا الجانب أن المدرسين المطبقين لم يستطيعوا الاستعداد بشكل جيد للتجريب على المستوى النظري، كما أن الوقت المحدد لكل وحدة من وحدات المجزوءة لم يكن كافيا، إضافة إلى عدم تكرار التجربة قبل التقويم. وبالنسبة للنتائج فرغم التطور المهم لنتائج المجموعة التجريبية إلا انها كانت محدودة في عدة تيمات.  وأخيرا اقر الأستاذ بأهمية تحليل أجوبة التلاميذ رغم عدم إنجازه لهذا التحليل.  
أما عن الإضافات الديداكتيكية فقد أشار الأستاذ ان الإضافة الديداكتيكية الأساسية هي:
-     عدم اكتفائه بتوضيح مفهوم التفكير التاريخي نظريا ووصف مكوناته الأساسية وإتباعه بجانب تجريبي من خلال تجريبه مجزوءة  تقدم نموذجا عمليا لتعلم التفكير التاريخي بالمغرب.
-    إنجازه لبروتوكول تجريبي مكنه من تقويم أثر المجزوءة و التعرف على حاجيات توضيح مفهوم التفكير التاريخي في المغرب والتي قد تستفيد منها عملية وضع برامج تاريخ جديدة.
-    تزويد تدريس التاريخ بإطار نظري يستطيع المساهمة في جعل الدور الانعكاسي للتاريخ حاضرا إلى جانب الدور الهوياتي في البرامج الدراسية.
خاتمة
في ختام  هذه القراءة  المتواضعة في أطروحة  الأستاذ مصطفى حسني إدريسي  "التفكير التاريخي وتعلم التاريخ"  لا يسعني إلا أن أدعو كل المهتمين بالفكر التاريخي من مؤرخين و باحثين وطلبة ومدرسين ومفتشين وواضعي المناهج بالقراءة  المتأنية لهذا البحث الأول من نوعه في مجال التاريخ بالمغرب، والذي يقدم بالإضافة إلى غرضه البحثي الذي أسس عليه فرضيته وهو توضيح مفهوم التفكير التاريخي وتحويله ديداكتيكيا لتسهيل تعلمه من طرف المتعلمين .درسا عمليا في منهجية بناء المعرفة التاريخية، وكذلك درسا عمليا في منهجية بناء المعرفة  في العلوم الإنسانية.
ويكفي أن نقرأ شهادات أشهر مؤرخي هذا العصر و ديداكتيكي التاريخ من طينة نيكول لوتيي و كريستيان لافيل ،وهنري منيو الذي كتب مقدمة للدراسة، لندرك قيمتها العلمية.و لن أجد أفضل من شهادة هنري مونيو لأختم هذه القراءة ،حيث قال عن الأطروحة " هذا العمل يبدو لي جد مهم بالنسبة للتلميذ و المدرس ،من أجل تكوينهم. فيما يخص انعكاسات تدريس التاريخ  ومهامه. ولكونه يعتبر مساهمة جد قوية في السؤال الذي يشغل ديداكتيك التاريخ"