ملخص حول أطروحة دكتوراه " جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة "ماء الموائد" لأبي سالم العياشي (ت1090هـ) نموذجا" ـ خالد التوزاني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

TOUZANIيهدف موضوع هذا البحث إلى رصد جماليات العجيب في الكتابات الصوفية عامة، من خلال تتبع ما حفل به التراث العربي عموما وكتب القوم خصوصا من رصيد ضخم من العجائب، ومركزا – بشكل خاص - على جماليات العجيب في نموذج رحلة "ماء الموائد" لأبي سالم العياشي (ت1090هـ)، وبيان أثره على المتلقي ودوره في خدمة السلوك الصوفي وتعزيز التجربة الروحية العجيبة، حيث يمكن النظر إلى العجيب في الكتابات الصوفية باعتباره ذلك الفسيفساء الذي لا يندرج في سياق التشكيل الجمالي لتلك الكتابات فحسب، وإنما يدخل في مواد بنائها، وعناصر تشكلها، ومن ثم، تعددت تجليات الجمال والجلال في عجيب هذه الكتابات.
   إذا كان "العجيب" مصطلحا نقديا تبنته بعض الدراسات الغربية والتي تأثر بها النقد العربي المعاصر، فإن التساؤلات التي فرضت نفسها في هذا السياق، هي: لماذا لم يحظ العجيب باهتمام الباحثين والنقاد العرب؟ وما سر تأخر دراسته؟ ما تحولات العجيب وتجلياته في السياقين العربي والغربي؟ ثم ما صلة العجيب بالتصوف؟ وماهي جمالياته في الكتابات الصوفية؟ وهل يخدم نمط التلقي جماليات العجيب الصوفي؟ ثم أخيرا ما جماليات العجيب في رحلة "ماء الموائد"؟ ما مصادره وتجلياته؟ وكيف أسس عجيب هذه الرحلة هويته وخصوصياته؟


    لم تكن الإجابة عن هذه التساؤلات يسيرةً حيث اعترضتِ الباحثَ بعضُ الصعوبات: منها ما يتَّصِلُ بطبيعة الموضوع وخصوصيته من جهة، ومنها ما يتعلقُ باختيار المنهج واللغة الواصفة والموصوفة معا والتصورات التي تتخللهما من جهة أخرى. لكن أهم صعوبة واجهت الباحث هي: وسمُ بعض النصوص الصوفية بـ"العجيب"، لأن الأمر لم يكن يخلو من مجازفة، وقد يحمل في طياته رؤية مسبقة، أو أحكاما قبلية، تعكس نظرة نوع معين من التلقي؛ الذي لم يستطع إخفاء تعجبه من هذه النصوص، فالقارئُ، أيُّ قارئٍ، يقف من النص موقفا خاصا، تُحدد خصوصيته نوعُ ثقافته، فيصدق عجائب النص ويسلم بها، أو يلجأ إلى تأويلها تأويلاتٍ شتى، ومن هنا تختلف زوايا القراءة، مع أن النص قد يسهم في منح هذه الإمكانيةِ أو تلكَ في القراءة بما يُوفِّرُهُ من قدرة على التأثير والإقناع. ولتجاوُزِ مَأْزِقِ القراءة التصنيفية، عَمَدَ الباحث إلى محاولة ضبط مفهوم العجيب، وتتبع دلالاته وامتداداته، بُغية التوصل لتحديد معايير في تصنيف النصوص أو انتقائها، تكون أقرب للموضوعية، وتنسجم مع قواعد البحث العلمي المتعارف عليها، وتحافظ في الآن ذاته على خصوصية الكتابة الصوفية ونسقها الإبداعي والعرفاني. وهكذا، حُدد مفهوم العجيب في: كل أمر مخالف للمألوف، باعث للحيرة والاستفهام. لكن هل يتعلق الأمر بمخالفة مألوف المتلقي/الباحث، أو مألوف المتصوف/ مبدع النص؟ لتجاوز هذا الإشكال كان التركيز في انتقاء النصوص، على ما أثار تعجب المتصوف المبدع، مع عدم إغفال دهشة الباحث أمام بعض المتون، باعتباره متلقيا للنص "العجيب" متذوقا لجمالياته.
  هكذا، يفضي الحديث عن صعوبات البحث، إلى حديث عن المنهج المعتمد في إنجاز الدراسة، والذي فرضته طبيعة الموضوع، ونوع الصعوبات التي رافقت الإنجاز، فكان لابد من الحديث بلسان النص "العجيب"، لنقل رسالته كما أرادها، وبتعبير آخر: أن نمنح للنص إمكانية الكلام بصوت مرتفع، فكان التركيز على صنف من "العجيب" الذي أثار تعجب المتصوف الرحالة العياشي، علما أن ذلك لا يمنع من وجود عجيب آخر غير مصرح به، بل لا يعده أبو سالم العياشي أصلا من باب العجيب، فنقله للقارئ على أنه من الأمور العادية المسلم بها والمتفق عليها زَمَنَهُ الذي هو زمن الكتابة، وبالطبع يختلف عن أزمنة القراءة. وبذلك، يمكن القول بأن العجيب في رحلة "ماء الموائد" عجيبان: عجيب العياشي وعجيب القارئ. ولأن هذا الأخير، أحيانا يكون مطالبا بتحقيق نوع من الحياد والموضوعية في قراءة النص، يصبح العجيب الأول، أي عجيب المؤلف هو المستهدف من الدراسة.
     هكذا، يؤسس منهج البحث معالمه، انطلاقا من خصوصيات الكتابة الصوفية؛ باعتبارها– حسب القوم- كتابة صادرة من فوق، مصدرها الإلهام والكشف، ومن ثم، فهي بمثابة أمانة يبلغها الصوفي للآخر، ولكنه في العادة لا يبثها إلا لمن يحسن صونها، فالمعنى فيها مقدس لا يُعرف بعبارة، وإن كان شكله شكل عبارة، فعبره يعبر المتلقي إلى الإشارة، ومنها إلى الرؤيا بغير واسطة ولا عبارة، فتصبح الكتابةُ الصوفيةُ ذاتها تجربةً صوفيةً، وتكون كتابةُ هذه التجربة كتابةً من نوع خاص له جماليات خاصة. وهكذا، يمكن النظر إلى النص الصوفي العجيب، باعتباره كائنا حيا، يتكلم ويصمت، فنصغي إليه ونتحاور معه، لا أن نسكته وننطق نحن، فكثيرا ما نسيء فهم الآخرين إذا لم نحسن الإنصات إليهم. ومن ثم، عوّلتُ في التحليل على أن يتكلم "العجيب" عن نفسه، فينطق بما فيه، دون أن أفرض عليه مراقبة "صارمة" أو مقاطعة "مقيدة"، لأن الغاية من هذا المنهج هي تذوق جماليات العجيب في الكتابات الصوفية.
  إن ما يهمني أكثر في الكتابات الصوفية، ليس هو العجيب بمعنى الحيرة التي يخلقها خرق المألوف في العقل أو العادة، ولكن المهم هو الأثر الذي يحدثه في الوجدان؛ لأن الحيرةَ، سرعان ما قد تتلاشى تحت إغراء جماليات الكتابة العجيبة والتي تستحوذ على نفسية المتلقي وتَأْسِرُ كِيَانَهُ، لتُمَرِّرَ الخِطابَ وتُحْدِثَ التغيير المنشود.
     هكذا، حاول البحث الانتقال الممكن من العام إلى الخاص، أي من العجيب في العام إلى العجيب في الكتابة الصوفية إلى العجيب في رحلة "ماء الموائد". وتبعا لذلك، أسفر تصور الموضوع وتمثل منهجه، إلى إنجاز البحث وفق تصميم حاول الاقتراب الممكن من إشكالات البحث وأهدافه، حيثُ قام على مقدمة وثلاثة أبواب، وخلاصة واستنتاجات، ثم فهارس البحث.
  عرضت في المقدمة علاقتي بالموضوع اختيارا وتعريفا وتحديدا لإشكالاته ومعيقاته ومنهجه. وخصصت الباب الأول لبحث "أدب العجيب وسياق التداول"، وفيه فصلان:
الفصل الأول: "العجيب: السياق العربي وتأصيل المفهوم"، عرضت فيه الدراسات السابقة في موضوع "العجيب"، لبيان بعض ما توصلت إليه تلك الدراسات، وما لم تنتبه إليه أو تركته مفتوحا لتعميق النقاش فيه لاحقا، وذلك لتأسيس مشروعية البحث الحالي.  ثم تتبعت مفهوم العجيب في اللغة والقرآن الكريم، مبرزا أصالة المفهوم وخصوصياته في السياق القرآني، حيث لا يكتفي الذكر الحكيم ببيان حقيقةِ الشيءِ المتعجَّبِ منهُ، وإنما يقدم منهجا في الحكم على الأشياء، يقوم على عدم الاغترار بالجميل المُعجب وتجاوزه إلى جوهر الظاهرة وهي تحقيق الإيمان بالله.
   أما الفصل الثاني: والموسوم بـِ "العجيب: السياق الغربي وتفاوت التلقي"، فقد استقريتُ فيه سفر العجيب من المقدسِ إلى المرعبِ؛ تناولت فيه أسبابَ ظهورِ "أدب الفانتاستيك" في الغرب، وكيف انتقل من حقل التداول الديني المسيحي إلى فضاء الإبداع الأدبي، مستفيدا في تجديد وسائله ودعم رؤيته الإبداعية، من الإمكانات الهائلة التي وفرتها العلوم الحديثة، حيث أصبح الالتذاذ بالمرعب نوعا من جماليات هذا الأدب، الذي تجاوز النص المقروءَ إلى المعروضِ إلى فنونٍ أخرى، أصبح معها الفانتاستيك بالنسبة للإنسان الغربي نوعا من الخروج من "ضيق الأشياء" إلى فضاءِ المستحيل والممتنع والبعيد عن الإدراك، عبر إبداع ما هو غير موجود، ليعوض به عن الذي لم يستطع الحصول عليه مما هو موجود.
  ثم عرضت بعضَ مقاربات العجيب وما أثاره هذا المفهوم من نقاش بين الباحثين.
   أما الباب الثاني، فخصصته لدراسة "جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: التحولات والتجليات"، وفي فصلان:
   الفصل الأول: "جمالياتُ تحولاتِ العجيب"، تتبعت فيه كتب العجائب والغرائب، حيث شكَّلتِ الكتبُ العجيبةُ ظاهرةً تستحقُ الدراسة، ولذلك عرضت بعض النماذجِ من الكتبِ العجيبةِ وبيان ما الذي يجعلها عجيبة. كما تتبعتُ "تحول العجيب المرعب إلى جميل معجب"، تناولت فيه بعض خصوصيات العجيب عموما وكيف أسهم في صناعة الخوف، حيث أدت أُلفةُ العجيب إلى جماليات الرعب والالتذاذ بالمخيف، إضافة إلى انتعاش أدب العجيب بفضل استفادته من العجيب الديني الذي تضمنته معجزات الرسل والأنبياء والصالحين، كما استفاد أيضا مما يحفل به التراث العربي من حكايات الكائنات الخارقة، وفَعَّل طاقة الخيال الخلاق في "ابتكار" نصوص عجيبة فائقة الجمال. وبذلك استدعى البحث دراسة "العجيب الإسلامي وجماليات المنهج"، نظرا لكون الدين الإسلامي قد شَكَّل أحد الروافد التي أسهمت في إغناء مكونات العجيب في الأدب، وحوّلت مساره نحو مزيد من الجماليات، لكن الخروج عن المألوف لم يكن دائما مرحبا به، وبذلك اتخذَ العجيبُ مساراً في الحكي نهل من الرمز والإشارة والغموض ما أسَّسَ به جمالياته، وقد تناول البحثُ هذا الإشكال من خلال عرض "نكبة العجيب وجماليات الستر"، حيث لم تفلحْ كُلُّ محاولات الكَبْتِ التي مورست على العجيب، في فترات مختلفة من التاريخ، في إنهاء حياته، أو الحد من نموه وتأثيره.
  أما الفصل الثاني: "جماليات تجليات العجيب في الكتابات الصوفية"، فقد درست فيه صلة الكتابات الصوفية بالعجيب، ولماذا يلجأ المتصوف إلى تعجيب الخطاب، كما ناقشت مشروعية الحديث عن الكتابات الصوفية بالجمع وليس المفرد، حيث أنتج ذلك الجمع بعض الجماليات، عززت تميز الكتابة الصوفية وتفردها، باعتبارها انعكاسا للتجربة الصوفية، التي تعتبر تجربة عجيبة في حد ذاتها، لأنها محاولةٌ لبلوغ الكمال في مختلف أبعاده وتجلياته، وأثناء هذه المحاولة يقع التداخل والتجانس، بين المتباعدات والأضداد، إلى حد التكامل ثم التماهي، فلا تكادُ في النهايةِ تُفرِّقُ بين التجربةِ والكتابةِ والصوفيِّ، ويصبح الكلُّ مُعبّرا عن الكلِّ، مما استدعى دراسة "مصدر العجيب في الكتابات الصوفية"، وكيف أسهمت "خوارق العادة في ترسيخ العجيب".
   درست في هذا الفصل أيضا "عجيبُ التفاعلِ المبدعِ مع الآخر"، حيث تناولت فيه كيفَ خرق الصوفية المألوف في وسائل الدعوة إلى الله، وكيف تفرز جدلية الكتم والبوح جماليةَ انتقاء المريد؛ حيث بدل أن ينصب اهتمام الكتابة الصوفية على الجميع، نجدها تنتقي متلقيها فتختار من يستحق الاطلاع على أسرارها، وذلك بتشويق المتلقي وإثارة انتباهه واهتمامه، عن طريق تعجيب اللغة، أو "الشطح اللغوي وجمالية البوح"، إضافة إلى "لذة الغموض" في هذه الكتابة.
   أما الباب الثالث: فخصصته لدراسة "جماليات العجيب في رحلة "ماء الموائد": المصادر والتجليات"، وفيه فصلان:
   الفصل الأول: "جماليات مصادر العجيب"، درست فيه "أدب الرحلة وموائد العجيب"، من خلال تعرف مفهوم أدب الرحلة وعجيب الجغرافيا، وكيف شكّل العجيب ركنا أساسا في الرحلة يصعب الانفلات من فتنته سواء من قبل الرحالة أو المتلقي الدارس، وتناولت "العجيب في رحلات المتصوفة"، من خلال تعرف الرحلة كما فهمها القوم، أي باعتبارها نوعا من الانتقال عن المقامات، والإنزال في أخرى، فالرحلة وإن كانت سفرا محسوسا، إلا أن الصوفي يجعل منها رحلة في منازل العبادة والتمكين، فيرتقي مع تقدمه في السير إلى الله، وخاصة في الرحلات الحجازية، ومنها رحلة "ماء الموائد" باعتبارها متنا للدراسة والتحليل، فقاربت قيمتها وجماليات عتبتها وأحداث العصر الذي أُلِّفت فيه، وجوانب من شخصية المؤلف العياشي، وذلك بالحديث عن عجيبي العصر والإنسان.
 بعد ذلك، تم الانتقال لبحث "مكونات العجيب في رحلة "ماء الموائد"، من خلال دراسة الحيرة، وخرق العادة وعجيب الكرامات، ومبدأ التسليم وعجيب التبرك، ثم استراتيجية الكتابة العجيبة كما اعتمدها الرحالة المتصوف أبو سالم العياشي.
   أما الفصل الثاني: فقد خصصته لدراسة "جماليات تجليات العجيب" في رحلة "ماء الموائد"، من خلال الاقتراب من بناء العجيب وأنماطه وموضوعاته وبعض خصوصياته؛ أما أنماط العجيب فتمثلت في عجيبي الهدم والبناء، بحيث مثّل الأول خرقا للمألوف في اتجاه سلبي، ومثل الثاني خرقا مرغوبا فيه ومطلوبا من أجل بناء الإنسان الكامل. أما موضوعاته فقد تنوعت بين الأمكنة والسلوك، والمخلوقات والآلات، ومن ثم فإن عجيب هذه الرحلة لا يتضمن ما هو صوفي فحسب، وإنما يشتمل كذلك على عجيب آخر له علاقة بموضوعات أخرى بعيدة عن التصوف.
    ختمت هذا العمل المتواضع بخلاصة واستنتاجات وذيلت الأطروحة ببعض الفهارس التي تيسر الاستفادة من العمل.
أما أهم النتائج التي انتهى إليها هذا البحث فيصعب تعميمها على كل النصوص الصوفية "العجيبة"، حيث تبقى نتائج البحث رهينة بالمتن المدروس، وربما بنوع من التلقي؛ فتذوق جماليات العجيب في الكتابات الصوفية يرتبط بطبيعة التفاعل مع النص، ومدى الانصات له، ولذلك لا حدود لجماليات العجيب في هذه الكتابات؛ لأنه كلما تذوق المتلقي النص، كلما زادت قدرته على اكتشاف جماليات جديدة، ولعل هذه الخاصية في حد ذاتها، يمكن عدها سمة جمالية لعجيب الكتابات الصوفية، تجعل النص "العجيب" قابلا للانتقال – بفعل محاولات القراءة- من مألوف الأثر الذي هو الحيرة، إلى الشعور بالهيبة أمام قدرة هذا النص على التلون والتشكل بفسيفساء من الجمال لا تنقضي عجائبه. وبهذا المعنى، يمكن عد النتائج المتوصل إليها في هذا البحث المتواضع، بمثابة حصيلة مؤقتة، تعبر عن مرحلة معينة من القراءة، قابلة لاحتواء الجديد عند كل إعادة للقراءة.
   هكذا، أسفر البحث عن إمكانية النظر إلى العجيب في رحلة "ماء الموائد" باعتباره مُعبِّرا عن السلوك الصوفي، وناقلا لمعارف القوم وعوارفهم، وكذلك انشغالاتهم الراهنة وتطلعاتهم المستقبلية، فهو طريقة لفهم العالَم وإدراك آليات اشتغاله، وهو – تبعا لكل ذلك- مفتاح لفهم شخصية المتصوف، كما أنه رؤية وشهادة؛ رؤية على واقع حقيقي يحفل بالمتناقضات، وشهادة باعتباره محاولة للإجابة عن أسئلة ذلك الواقع.
أما باقي الاستنتاجات الأخرى المتوصل إليها بعد خوض هذه الرحلة، فيمكن إجمالها في الآتي:
-    للعجيب صلة وثيقة بالمتلقي، فهذا الأخير هو الذي يحكم على الشيء بالعجيب أو المألوف العادي. ومن ثم نسبية هذا العجيب؛ فما هو عجيب عند قوم، ليس بالضرورة كذلك عند آخرين. وهكذا، فإن بعض العجائب قد سقط موضع التعجب منها في نظر المتلقي المعاصر، بفعل ظهور ما هو أعجب منها، أو بفعل التقدم العلمي والتقني الذي قدّم تفسيرات جديدة لبعض ظواهر الكون. وتبعا لذلك، فإن موضوعات العجيب أي الظواهر والأشياء التي أثارت تعجب الرحالة المتصوف العياشي، إنما تعكس بنية تفكير إنسان القرن الحادي عشر الهجري، ولا يمكن قراءتها جماليا وفكريا إلا على ضوء معارف ذلك العصر وما شهده من أحداث وتطورات، أثَّرَت في نظرة الإنسان للوجود والكون. وهكذا، اهتم العياشي ببناء العجيب في رحلته وفق تصور خاص به عكس ثقافته ونمط تفكيره، ونقل أجواء الحياة في العالم الإسلامي خلال القرن الحادي عشر الهجري، كما أدَّت النزعة الصوفية لهذا الرحالة دورا فعالا في بناء الأحداث والوقائع، وفي بناء الشخصيات، بناء متزنا واعيا بجماليات العجيب وأثره في تغيير السلوك. وهكذا، لم تكن الرحلة سردا مألوفا لعجائب السفر وإنما كانت أيضا ممارسة للتجربة الصوفية.  
-    وعلى الرغم مما قد يظهر في رحلة العياشي من عجيب مبالغ فيه، إلا أن كتب القوم تحفل بما هو أعجب مما ورد في هذه الرحلة، حيث إن الاطلاع على بعض كرامات الصوفية، يُبيِّن تميز عجيب العياشي بانتقائية وسطية، تؤطرها رؤية صوفية معتدلة، وعين راعية للشريعة مدركة لخطر الفتنة، واعية بما وراء الكرامة من أثر، حيث سعى الرحالة إلى خلق توازن محمود بين "العلم" و"السمر"، مما أسهم في بناء نص عجيب وجميل. وهكذا، يمكن القول إن أبا سالم قد حَوَّل وظيفة العجيب من الإمتاع الحسي والمعنوي، إلى نوع من التلذذ الروحي والإيماني، يمتلك القدرة على تقديم النموذج الصوفي وفق رؤية معتدلة.
     تلكم إذن هي أهم الأفكار والخلاصات التي توصل إليها هذا البحث المتواضع، والتي يُشكل كلٌّ منها مجالا من مجالات البحث الممكن طرقها في مجموعة من الأعمال العلمية التي يمكن أن تكشف عن جماليات أخرى للعجيب في الكتابات الصوفية إن على مستوى اللغة، أو الفكر، أو السلوك أو غير ذلك من مجالات الإبداع والتجديد.
     ختاما، أقف عبر هذا العمل المتواضع لأجدد امتناني لكل من ساعدني على إنجاز البحث وخاصة عائلتي وأساتذتي في كلية الآداب ظهر المهراز بفاس، وأسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم جميعا يوم القيامة.


للتواصل مع الباحث الدكتور خالد التوزاني: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عن الأطروحة :

نوقشت يوم الجمعة 5 يوليوز 2013 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، أطروحة دكتوراه في موضوع: "جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة "ماء الموائد" لأبي سالم العياشي (ت1090هـ) نموذجا"، والتي أعدها الأستاذ خالد التوزاني تحت إشراف مزدوج للأستاذين: الدكتور عبد الوهاب الفيلالي، والدكتور خالد سقاط، وقد تشكلت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة الأجلاء:
-    الأستاذة الدكتورة سعيدة العلمي      رئيسة (كلية الآداب ظهر المهراز)
-    الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الفيلالي   مقررا (كلية الآداب ظهر المهراز)
-    الأستاذ الدكتور خالد سقاط           مقررا (كلية الآداب ظهر المهراز)
-    الأستاذ الدكتور المفضل الكنوني   عضوا  (كلية الآداب ظهر المهراز)
-    الأستاذ الدكتور عبد الحي العباس  عضوا (كلية اللغة العربية، مراكش)