الرمز عند الصوفي تفعيل و ممارسة ـ د. محمد غاني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

7138282 sophisme01ارتبطت قراءة الرموز الكونية بالدين الحنيف ([1]) حتى قبل ظهور قراءة رمزية  الكتابة و الحروف حيث ان في قصة تقبل الله تعالى لقربان هابيل بأن نزلت نار من السماء فأحرقته دلالة على القبول جاء في تفسير سورة المائدة  : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا } أي: أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله، { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ } بأن علم ذلك بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل الله لقربان، أن تنزل نار من السماء فتحرقه ([2])
كما طولب سيدنا زكريا بأن يقرأ في عقل لسانه عن الكلام بغير ذكر الله تعالى  وذلك في قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ،  آية و علامة على استجابة الله دعاءه بأن يهب له من لدنه ذرية طيبة فسأل ربه وناداه نداء خفيا ، وقال : ( رب هب لي من لدنك ) أي : من عندك ( ذرية طيبة ) أي : ولدا صالحا ( إنك سميع الدعاء ) ([3])


 
لا يخفى على أحد أن الصوفية يجمعون على غاية واحدة يتكبدون في سبيلها كل مشاق الطريق و إنما افترقت تعاريفهم للتصوف افتراقهم في المقام الذي من خلاله حاولوا تعريفه، يذكر الدكتور علي جمعة في هذا الصدد أنه لا تعدد في وجوه التصوف، إنما التعدد في أحواله ومقاماته التي ينبني عليها الوجه الأوحد للتصوف وهو التوجه لفاطر السموات والأرض في كل حال، ويظهر هذا الوجه في قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ([4]) (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ([5]).
و إذا كانت غاية الصوفي من تجربته هي البحث عن المقدس، وإذا كان الصوفية على اختلافهم يتصورون طريقا واحدا يسلكونه من أجل معرفة الله سبحانه و تعالى يبتدأ بمجاهدة النفس و يتدرجون فيه شيئا فشيئا من خلال مراحل متعددة تسمى عندهم بالأحوال و المقامات.
و إذا كان الصوفية عاشوا من خلال تجربتهم مجموعة من الأحوال و المقامات الذوقية التي تعجز اللغة في غالب الأحيان عن احتوائها فلا يجدون ملجأ غير التعبير عن ذلك بوسائل أخرى شعرا و نثرا أمثال صوفية كبار كابن سبعين([6]) و فريد الدين العطار([7]) و ابن الفارض([8]) و غيرهم.
فما هي إذن العلاقة التي تربط الصوفي بالرمز؟ و ما هي مستويات هذه العلاقة خلال رحلة استكشافه للمقدس.
إن العلاقة بين الصوفي والرمز علاقة حميمية لا يستعيض عنها بغيرها حيث يمكن أن نلحظ هذه العلاقة من خلال مستويين اثنين:
*مستوى محاولة الصوفي تفكيك رموز كتاب الوحي و كتاب الكون من خلال بحثه و استكشافه للمقدس .
*مستوى ثان ، و هو محاولته التعبير عن تجربته الصوفية من خلال الرمز و للجوء الصوفية الى الرمز للتعبير عن أذواقهم اسباب سنفصلها.
ان علاقة الصوفي بالرمز على المستوى الاول علاقة وشيجة حيث ان الصوفي في هذا المستوى يشبه الفيلسوف ([9]) بطريقة ما فهو يستولد المجهول باحثاً عن ماهيات الاشياء في بواطن الاشياء , يبحث عن الماهية والكينونة التي يصعب الوصول اليها من خلال الشروط السفلى التي لا تحترم سمو الاهداف وعلوّها ([10])
يحاول الصوفي على هذا المستوى قراءة رموز الكتابين كتاب الوحي و كتاب الكون للتفكر في آلاء الله من أجل معرفته فهو يلجا في تجربته هاته  الى التعبير عن طريق الرمز لأنه يرى أن اللغة عاجزة عن التعبير عن ما يخالج قلبه من ذوق و علوم لدنية ([11]) .
و في قصة حارثة  و حديثه عن انه أدرك تمام الايمان دلالة كبرى على قدرة كبيرة للنبي صلى الله عليه و سلم على قراءة علامات ايمان حارثة حيث روي عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : " كيف أصبحت يا حارثة ؟ " قال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : " انظر ما تقول ; فإن لكل قول حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ " قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . قال : " يا حارثة ، عرفت فالزم " ([12])
و قراءة الرسول صلوات الله و سلامه عليه لعلامات إيمان حارثة في هذا الحديث و تأكيده في موطن آخر عن علامات ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان ، حيث أورد الإمام البخاري –رحمه الله تعالى- في كتاب: الإيمان: باب: حلاوة الإيمان.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ".  فيه قوة بالغة في الدلالة على فكره المتقد و ذكائه الفائق و فراسته الموجهة بنور الوحي كما فيه دلالة ايضا على تنزيله على أرض الواقع و تفعيله للأمر الالهي" اقرأ " فالكون مليء بالآيات التي ينبغي للمسلم أن يفعل ([13]) قلبه بذكر الله عز وجل ليستطيع قراءة الكون القراءة المطلوبة .
 
الصوفي و تفكيك الرموز أثناء قراءة الوحي و قراءة الكون.
في خضم التجربة الصوفية يزاوج الصوفي بين قراءة الوحي و قراءة الكون من أجل الظفر بالمطلوب و هو الوصول الى لا منتهى و لا وصول، يقول تعالى "و أن الى ربك المنتهى" ([14]) . و هذا لا ينقص من التجربة الصوفية بل يعلي من قيمتها لان الصوفي مهما عرف فإنه لا يزداد الا معرفة بحقيقة كونه جهولا فوصول الصوفي الى المعرفة هو وصول تيه وحيرة  ولقد أشار بن عربي إلى هذا المعنى في كتاب ” الإسفار عن نتائج الأسفار ” ضمن ” رسائل ابن عربي ” حيث يقول : ” الأسفار ثلاثة لا رابع له أثبتها الحق عز وجل، وهي سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه، وهذا السفر فيه هو سفر التيه والحيرة “
إن أول امر الهي يستحضره الصوفي أثناء سيره الروحي من أجل الوصول الى المطلوب هو الامر الالهي اقرأ و المقصود بالقراءة هنا كما يرى الدكتور طه جابر العلواني قراءتان قراءة الوحي و كذا قراءة الكون([15]).
قراءة الوحي أي الكتاب المبين الذي نزل عليك يا محمد خاصة و يا أيها الانسان بصفة عامة فإن كان المخاطب المباشر في الآية هو الرسول صلوات الله و سلامه عليه فان المقصود بالقراءة في هذا الامر الالهي هو الانسان بصفة عامة حتى تستطيع أيها الانسان حسن خلافة الله في هذه الأرض و تبليغ الامانة لمن يرثك من أجيال لاحقة فتعلمهم الكتاب و الحكمة فيتزكون بذلك و يحملون المشعل من بعدك.
أما قراءة الكون هي كما سماها طه جابر العلواني قراءة الكون و النظر في الخلق، و معرفة ما دونته الانسانية من تجارب فيه ومن فهم له لذلك فالقرآن نفسه ينبه الى هاتين القراءتين فيحث على تدبر الكتاب كما يحث على التفكر في آيات الله و الاعتبار بالأمم السالفة لذلك فلا غنى لطالب معرفة الحق من القراءتين قراءة كتاب الوحي و قراءة كتاب الكون.
تفكيك الرموز أثناء قراءة كتاب الوحي.
يغوص الصوفي في إدراك المعنى للمصطلح القرآني انطلاقا من منهجه المعتمد على المحاولة الدائمة لأدراك كنه الاشياء و انطلاقا أيضا من قناعته بأن الفهم درجات ففهم المبتدئ ليس هو فهم المتقدم و ليس هو فهم الراسخ في العلم و هذه الحقيقة تؤكدها السنة النبوية ، جاء في المستدرك على الصحيحين كتاب الأدب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن عيسى ابن مريم - صلوات الله عليه وسلامه - قام في بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجاهل فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.([16]) ,يرى الدكتور عبد الحليم محمود في هذا السياق في كتابه عن المدرسة الشاذلية أن الإنسان لا يصير بمجرد قراءته، متصوفًا، على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلاً([17]). و في نفس المضمار قد يسمع الصوفي الخطاب مختلفا عما سمعه الآخر و يؤول ذلك بأن كلا يسمع الخطاب حسب الموقع الذي يتواجد فيه في الطريق فمن طريف ما يحكى عن هذه القضية، ما جاء في المقدمة الثانية من كتاب المنح القدسية في بيان فهم القوم من اللفظ الواحد معان مختلفة للشيخ أحمد العلاوي:
وقد سمعنا مِنْ أهلِ الطريقة أنَّ ثلاثةً سمعوا مناديًا عشَّابًا يبيع السعتر البرِّي فيقول: "يا سَعْتر بَرِّي"، ففهم كل واحد منهم مخاطبةً عن الله مختلفةً عن الآخر. فسمع أحدهم: "اسعَ ترى بِرِّي"، وسمع الآخر: "الساعةَ ترى بِرِّي"، وسمع الثالثُ: "ما أوسع بِرِّي". فالمسموع واحد واختلفَت الأسماع. قال تعالى: "قَدْ عَلِمَ كُلُّ أنَاسٍ مَشْرَبَهُم". وفي مثل هذا المعنى قال الإمام الجيلي في عينيته المشهورة:
إذا غرَّدَت ورقاْ[ء] على غصنِ بانةٍ                وجاوبَ قُمْريٌّ على الأيكِ ساجعُ
فأُذْنيَ لم تسمعْ سوى نغمـةِ الهوى               ومنكمْ فإنِّي لا مِنَ الطيرِ سامـعُ
فربَّما تكون الكلمةُ ظاهرُها قبيحٌ فيستفيد منها العارف أمرًا مليحًا. إنَّ القوم وإنِ اشتركوا مع غيرهم في ظاهر اللفظ فإنهم مختلفون في القصد. فكما أنهم اشتركوا في المشهود واختلفوا في الشهود فكذلك اشتركوا في المسموع واختلفوا في الأسماع. قال تعالى: "وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ منْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِماء واحِدٍ ونُفَضِّـلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون" ([18]). فمع أنَّ النباتاتِ تشربُ من ماء واحد فهي مختلفة. قد يسمع الصوفي ما لا يسمع غيرُه فلا يأخذُ من القول إلاَّ أحسنَه. وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: "الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه. أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب" ([19]).
و في هذا القصة التي يرويها الصوفية كثيرا دلالة عميقة تنبه لها علماء الدلالة المحدثين أمثال تشومسكي فيما يسمى  النحو التوليدي والتحويلي و  grammaire générative et transformationnelle و لشرح هذه النظرية نورد قصة مفادها أن الغورو وتلامذتُه كانوا كلما قاموا للصلاة في المساء تأتي قطةٌ وسط المصلِّين وتلهيهم عن صلاتهم. لذلك أمرَ الغورو بربط القطة خلال صلاة العِشاء. وبعد وفاة الغورو ظلَّ القومُ على ربط القطة خلال صلاة العِشاء. وعندما ماتت القطةُ جيءَ بقطة أخرى وربطوها طوال صلاة العشاء. وبعد ذلك بقرون، كتَبَ الفقهاءُ من تلاميذ الغورو رسائلَ فقهية في المغزى الشعائري لربط قطة أثناء إقامة الصلاة.([20])
توضحُ لنا هذه القصةُ كيف تتلقَّى الجماعةُ الرسالةَ اللغوية. إذْ إنها تتعلَّق بحرفية الرسالة تعلُّقًا يُنسيها السياقَ الذي قيلَت فيه هذه الرسالةُ والمغزى الكامنَ وراءها. كانت رسالةُ الغورو الموجَّهةُ إلى تلاميذه هي: "اربطوا القطةَ". هذه الجملة بصيغة الأمر هي البنية السطحية structure de surface للرسالة (بحسب النحو التوليدي والتحويلي grammaire générative et transformationnelle عند تشومسكي). أمَّا البنيةُ العميقةُ structure profonde (deep structure) لتلك الرسالة فهي: "عندما يكونُ هناك قطةٌ تُزعِجُكم أثناءَ إقامتِكم الصلاةَ فاربطوا هذه القطةَ حتى تنتهوا من الصلاة". أيْ أنَّ مُرادَ القول vouloir dire أو المقصودَ منه هو: الانتباهُ والحضورُ وعدمُ تشتيت الفكر في أثناءِ الصلاة. وليسَ المقصودُ فِعْلَ ربط القطة في حد ذاته ولا القطةَ أيضًا. لكنَّ المجموعةَ التقفَت أو تلقَّتِ الأمرَ بحرفيته ناسيةً عن جهلٍ منها أو كسلٍ عقلي سياقَ الأمر والمغزى منه. لم يكنْ مؤدَّى أمرِ الغورو إحضارَ القطة وربطَها، أيْ ليس جلبَ المشكلة، بل إبعادها إذا كانت موجودة. ولكنَّ الذهن البشري مبرمَجٌ على إشغال نفسِه بخلق مشكلة وبالبحث عن حل لها.
 
وهكذا فالصوفي يفهم مصطلحات الخطاب القرآني حسب السياق الذي قيل فيه كما يفهمه أيضا حسب المقام و الحال الذي هو فيه .
يغوص الصوفي بالفهم في الخطاب القرآني فيخرج بفهم أعمق في كل مرة يرتقي فيها و خير مثال نورده في هذا المقام الفرق بين تفسير أهل الظاهر و أهل الباطن و يقصد بهم الصوفية لقوله تعالى في سورة الكهف في آيات قرآنية ثلاث يقص فيها الحق سبحانه مرافقة سيدنا موسى عليه السلام لسيدنا الخضر ذلك العبد الصالح فيقول تعالى في الآية الاولى على لسان الخضر "فأردت أن أعيبها" و في الثانية " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما " و في الثالثة " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك".
يرى الصوفي أن هذا الاختلاف في التعبير عن ارادة الفعل له حكمته و لم يأت عبثا و هكذا فكل تعبير من هذه التعابير له علومه وخصوصياته، فهذه الكلمات الثلاث هي حقيقة السير والسلوك إلى الله تعالى، وهي التي تصاحب العبد من أول الأمر في حياته إلى نهايتها، يبين الصوفي المصري أبو العزايم أنه : ([21]) في المرحلة الأولى أثبت الخضر لنفسه وجودا عبر عنه بقوله { فأردت} أي أن الخضر هو الذي أراد، مثل ما يقول الإنسان في بداية سيره وسلوكه لقد صليت وصمت وزكيت وحججت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وإثبات الوجود صدود وإن كان لا غنى عنه في البداية لأنني لم أترقى ولذلك أنسب العمل لنفسي في كل شئ، ففيها بيان مراد العبد، وفيها رؤية المريد لعمله { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ([22]) {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } ([23]). وبيان رمز {أردت } في قوله تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } ([24]) ففيها إثبات كينونة وإثبات وجود وله عمل وهو القتل. ولقول الخضر { فأردت } مذاق آخر، ولأنها إرادة لفعل ظاهره عيب أمام الجميع .. فقد نسب العيب لنفسه وقال { فأردت }.  إذا ارتقى الإنسان في سيره وسلوكه إلى حضرة ربه فلا يكون له مراد ولكن يتحد مراده بمراد ربه وفى هذا رفعة مقام عبر الخضر عنها بـ { أردنا}. وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبر أصحابه في البداية أن من يصلى ركعتين في جوف الليل له أجر كذا، وأشياء أخرى من هذا القبيل، وجزاء ذلك دخول الجنة، ورسول الله هو الصادق الأمين، ولكن بعد أن حببهم في الإسلام وارتقوا في أعمالهم من الحسن إلى الأحسن وارتفع شأنهم الروحي قال لهم [ ما منكم من أحد يُدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار إلا برحمة من الله وفضل ] قالوا : يا رسول الله ولا أنت ؟ قال [ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة ] (أخرجه أحمد). ورمز { أردنا } وهو اتحاد مراد العبد بمراد الرب في قوله تعالى { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } ([25]) فالذي عذب هو الله ولكن بالأيدي التي ستستعمل لنوال الأجر العظيم .يعبر الإمام أبو العزائم عن ذلك وموجها قوله لربه مبينا مراد العبد ومراد الرب بقوله :
لا وحقك لا أحب         <<*>>     أن أكون كما أريد
بل مرادي منك أني       <<*>>     عن مرادك لا أحيد
يا مرادي بل وعوني   <<*>>     أنت لي ركن شديد ([26])
وبالترقي في مسيرة السلوك إلى ملك الملوك وبعد اتحاد مراد العبد بمراد ربه يخفى مراد العبد لينفرد مراد الرب، وهذه المكانة هي المعبر عنها بقوله سبحانه { فأراد ربك }، ورمزها قوله سبحانه للمؤمنين {..فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم..} وقوله لرسول الله صلى الله عليه و سلم {..وما رميت إذ رميتَ ولكن الله رمى } ([27])، فنفى القتل بعد أن أثبته لهم لينسبه لذاته جل وعلا، ونفى الرمي بعد أن أثبته له صلى الله عليه و سلم ليثبته لذاته عز وجل. وبسمو هذا المقام تختفي أنت ببشريتك الحاجبة ليظهر هو سبحانه بأنوار تجلياته وأسراره ورسول الله صلى الله عليه و سلم يجيب على سؤال جبريل عن الإحسان فيقول [ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] (رواه البخاري ومسلم في الإيمان)، فإن لم تكن وانتفت كينونتك الحاجبة فإنك تراه، ولكن كيف تراه ؟ والجواب : فإنه يراك، أي تراه به لا بك، فكان سبحانه سمع العبد وبصر العبد ويد العبد مع نزاهته سبحانه وتعالى.
 
لقد نقل الصوفي دلالة بعض المصطلحات القرآنية من وجود منطقي الى وجود واقعي فهذا الامام الشاطبي الذي لا يخفي سلوكه طريق التصوف و ان كان معروفا عند الفقهاء بضلوعه في الفكر المقاصدي ، بل و يذهب الى أن الصوفية هم صفوة الخلق ([28]) ينقل مصطلح العبدانية ([29]) من المفهوم الخاص الى المفهوم العام بمعنى أن الناس كلهم عباد لله بالاضطرار فما عليهم الا الدخول في سلك المسلمين حتى يسموا عبادا لله بالاختيار.
بنفس منهج الشاطبي يتعامل ابن عربي الحاتمي مع مصطلح قرآني آخر هو مصطلح التوكل فلا يميز ابن عربي المتوكل عن غيره كما فعل سابقوه حيث يرى أن كل انسان متوكل بالاضطرار بمعنى شاء أم أبى لأن الفاعل الحقيقي لكل شيء و في كل شيء هو الله تعالى. و ترى الدكتورة سعاد الحكيم في معجمها الصوفي أن جدلية ابن عربي هاته مع مصطلح التوكل لا تنتهي عند هذا الحد بل تعطي اثباتا بديلا يتميز المتوكل به عن المسمى في العادة غير المتوكل، بالوعي (PRISE DE CONSCIENCE) فالمتوكل هو من وعى هذا الواقع التوكلي الحادث.([30])
نفس المنهج نجده مع الصوفي الشهير عبد القادر الجيلاني في مفهوم السجود فسجود المسلم انما هو السجود الاختياري في حين أن الكون كله ساجد لله تعالى بالاضطرار يقول الحق سبحانه " ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال). ( الرعد/15)  " يقول الجيلي
أصلي إذا صلى الأنام وإنما     صلاتي بأني لاعتزازك خاضع ([31])
الى أن يقول :
فأسجد كي أفنى و أفنى عن الفنا       و أسجد أخرى و المتيم والع.
هكذا يتجاوز الجيلي ظاهر الشعائر الدينية الى باطنها و جوهرها فيقول في الحج مثلا
و إعفاء حلق الرأس ترك رئاستي     و شرط الهى أن المتيم خاضع
و إذا ترك الحجاج تقليم ظفرهم     تركت من الأفعال ما أنا صانع
 
فرأس البلية عند الصوفي هو حب الرئاسة و الزعامة و رأس الفضيلة التواضع و الخضوع أمام هيبة المتجلي الذي هو الحق سبحانه و عندما يتحلى الصوفي بهذه الخصال يسهل عليه التخلي عن الرذائل من الأفعال([32]).
اسماء الانبياء الواردة في القرآن الكريم اقترنت بصفات معينة قرأ الصوفي اشاراتها وعلم أن محبة الله لأصفيائه لا تمنع من اختلافهم في المقامات فكذلك مقامات أوليائه و مقامات الراسخين في العلم "علماء أمتي أنبياء بني اسرائيل" فهذا سيدنا موسى عليه السلام كليم الله و محط تجلياته اتخذه الصوفية رمزا لطالبيي الحق سبحانه و اتخذوا من جبل الطور رمزا لتعلم أن يجعلوا من القلب جبلا كجبل الطور قابلا لاستقبال التنزلات الرحمانية.
فيقول احد الصوفية وهو ابن الفارض:
آنسْتُ في الحَيّ ناراً
                   لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي
قُلْتُ امْكُثُوا فَلَعَلّي
                   أجِدْ هُدايَ لَعَلّي
دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ
                   نار المُكَلَّمِ قَبلي
نودِيتُ مِنها جِهاراً
                   رُدّوا لَياليَ وَصلي
حتى إذا ما تَدَانَى ال
                   ميقَاتُ في جَمْعِ شملي
صارَتْ جِباليَ دكاً
                   منْ هَيْبَةِ المُتَجَلّي
ولاحَ سرٌ خَفيٌ
                   يَدْريهِ مَنْ كَانَ مِثْلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني
                   مذ صارَ بَعْضِيَ كلّي
و هذا سيدنا ابراهيم أبو الانبياء الذي قال فيه الحق سبحانه "اتخذ الله ابراهيم خليلا لذلك يرى فيه الصوفية رمزا للكمال الانساني بمعنى أن الله يتخلل ابراهيم و ابراهيم يتخلل جميع ما اتصفت به الذات الالهية و لكن بطبيعة الحال حسب الطاقة البشرية و هذا لا يعتي تفرد ابراهيم بالخلة فالله سبحانه و تعالى يتخلل سائر الكائنات شعروا أو لم يشعروا يقول تعالى "وهو اقرب اليكم من حبل الوريد " ([33]) و إنما فاز سيدنا ابراهيم بهذا الوصف القرآني لارتقائه الشعوري الوعي بمراقبة الحق في كل لحظة و حين فإنما يختلف المسلمون في قربهم من الله عز و جل بمقدار شعورهم ووعيهم بعبادتهم لله عز و جل و هذا بالضبط ما يحاول الصوفي ترقيته في شعوره ووعيه و لذلك أثنى الله سبحانه على المومنين الذين فعلوا هذا المعنى في قلوبهم بقوله "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون"([34]) و يرث الصالحون من هذه الأمة من هذه الخلة حسب طاقاتهم و تظهر هذه الخلة حسب ابن عربي في مقام قرب الفرائض و هو يشير في ذلك الى حديث الولي المعروف الذي رواه الامام البخاري الذي يقول فيه الرسول صلوات الله و سلامه عليه فيما يرويه عن ربه عز و جل" مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ".
 
                            
تعبير الصوفي عن تجربته الصوفية يكون عن طرق الرمز و الاشارة .
الاشارة في المعجم تدل على الحركة الحسية التي يقوم بها الانسان بكفه أو رأسه أو حاجبه أو عينه، يقال أشار يشير إذا أومأ بيديه أو لوح بهما و يقال للسبابتين المشيرتان. و قد أشارت ([35])أمنا مريم الى ابنها سيدنا عيسى عليه السلام لما استفسرها قومها عن مصدره الابوي خصوصا أنها معروفة بالعفاف و كذا أهلها و إشارتها إليه قد تكون إما باليد أو الكف أو الرأس أو غير ذلك مما لم يفصل فيه القرآن و السؤال المتبادر للذهن هو لماذا لم تصرح بالتعبير اللغوي و لجأت الى الاشارة و المرجح في نظرنا أن لسانها كان مشغولا بذكر الله عز و جل حتى يخرجها الله من هذا المأزق خصوصا أنها نذرت للرحمان صوما عن الكلام  الا عن ذكر الله ([36]) عز و جل مقتبسة ذلك من أن الله سبحانه و تعالى أمر سيدنا زكرياء و هو من آل بيتها أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا كآية و علامة على استجابة الدعاء الذي كان قد توجه به سيدنا زكرياء الى ربه بنداء خفي فبشره بالذرية الطيبة ([37])، فيلتقط الصوفي مثل هذه الاشارات القرآنية بقلبه المتشوق لمثل هاته الاسرار القرآنية فيفهم بأن ذكر الله تعالى هو الملجأ في الرخاء و هو الملاذ في الشدة ففي حالتي الجمال أو الجلال لا ملجأ من الله الا اليه.
تضيق اللغة الحسية بالصوفي و فيلجأ الى الترميز فلا تفتأ اللغة الرمزية اذاك تنداح في دوائر الأنا المحس، والأين المحيّـز، والكيف على وفق هيئة متعينة، و (المتى ) وقيود الزمن الاعتباري، وإن كان الصوفي يوهم الوقوف عند المحسوسات ، فلستر محبته، وسدل الأستار على مكاشفاته ، يمكن القول إننا بصدد حالة من ستر الأسرار عمن قبع في المحسوسات من الأغيار، ولعلك تلحظ هذا في ردة فعل ابن عربي الذي ثار عندما حمل بعض الناس تغزله في نظام ، ابنة شيخه، على ظاهره؛ فبادر إلى شرح ديوانه شرحا ذوقيا مؤسسا على التلويح وهتك حجب المحسوسات.
يلجأ الصوفي في التعبير عن تجربته الى الاشارة و الرمز لأن العبارة تكون صادمة في بعض الاحيان خصوصا لمن لم يدرك كنه المقصود، إما لدنو مرتبته عن مرتبة المتكلم  _ يقول الكلاباذي "ومشاهدات القلوب و مكاشفات الأسرار لا يمكن التعبير عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات و المواجيد و لا يعرفها الا من نازل تلك الاحوال و حل تلك المقامات " ([38]) أو لكون المصغي منكرا لحال القوم فيلجأ الصوفي لترميز أقواله حتى لا يفهمها الا من يسلم له أحواله حتى يتم له صون أسراره عن أفهام المنكرين فتبقى عصية عن المنال و الادراك إلا لمن أدرك منازلهم في طريق القوم _ يقول الامام القشيري ([39]) " إن كل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها فيما بينهم  انفردوا بها عمن سواهم ، تواطؤوا عليها لأغراض لهم فيها من تقريب الفهم على المخاطبين أو تسهيل تلك الصيغة في الوقوف على معانيها بإطلاقها، و هذه الطائفة يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم و الإجمال و الستر على من باينهم في طريقتهم  لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف بل هي معان أودعها الله قلوب قوم استخلص لحقائقها أسرار قوم" ([40])
هكذا و بعد التمعن في قول القشيري يمكن القول بأن الصوفي يلجأ الى الترميز عن طريق الايماء و الاشارة إما لغرض تقريب الفهم للأدنى مقاما من الصوفية أنفسهم أو المتعاطف معهم المسلم لعلومهم أو بهدف صون الاسرار و الحفاظ عليها حتى لا يتخذها العذول المنكر لاحوالهم سلاحا للهجوم عليهم بالابتداع لمجرد عدم ادراكه لمقاصدهم.
يلجأ الصوفي الى الترميز أيضا لان اللغة في نظره تبقى عاجزة عن احتواء كل ما يقذفه الذوق في قلبه من معان و أسرار و دلالات، يقول الامام أبو العزايم " إن العبارة لا تفي ببيان المضنون من كلام العارفين ، إنما هي أنوار و إشارات تذوق النفس منها على قدر ما وهبها الله ، إذ العبارة لا تكشف الحقيقة"([41])
وبين لنا الطوسي في (اللمع) –أيضًا- معنى الرمز عند صوفية القرنين الثالث والرابع، قائلًا: «الرمز معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر، لا يظفر به إلا أهله" ([42]).
وهذا يعني أن عبارات الصوفية لهذا العهد لها في الغالب معنيان، أحدهما: يستفاد من ظاهر الألفاظ. والآخر: يستفاد بالتحليل والتعمق. وهو المعنى الخفي، ولذلك قال القناد ([43]): "إذا نطقوا، أعجزك مرمى رموزهم. وإن سكنوا، هيهات منك اتصاله"([44]).
ان الرمز عند الصوفية معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به الا أهله , فعلمهم اشارة فإذا صار عبارة خفي .‏
إذا كان الصوفي يلجأ الى الترميز من أجل صون أسراره عن العذول فههنا ينجم التساؤل التالي : هل كان الصوفية يكتبون لأنفسهم، ولم يكن من إرادة الصوفي المجذوب بالحال أن تستعلن تجربته الروحية بخصائصها الذوقية؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لم تظل هذه التجارب الروحية مدفونة في الصدور؛ فمن أخص قواعد الصوفي أن صدور الأحرار قبور الأسرار، والذي يبدو لي، أن القوم اعتمدوا الاستقطاب النخبوي في خطابهم؛ وكانت كتاباتهم فيضا عاطفيا تعالى على سدود الأسرار، فراحوا ينأون بخطابهم عن المتبادر إلى أذهان من هم خارج التجربة الروحية، وأحوجهم الاستقطاب النخبوي إلى الانزياح الدلالي ، من الاستعارات والكنايات وأنواع المجاز، بل أحوجهم إلى اعتماد التواضع الذاتي بل ما يشبه الاصطلاح مع النفس ، لذلك وقع هؤلاء المجاذيب بما يشبه الدائرة المغلقة مع أهل الظاهر المحكومين بالمحسوسات اللغوية الظاهرة، فأنكر هؤلاء أشد الإنكار على المتصوفة ما يجدونه في كتبهم من تلويحات خارج فضاء المحسوسات؛ لأن هؤلاء المنكرين لم يشعروا أن القوم يسوحون في فضاء آخر، تندلث فيه الكلمات عارية عن أسمال الدلالة المتواضعة.
ان الصوفي يحمل اللغة اكثر من طاقتها , واذا كان يعتمد الصور الحسية والتمثيل الحسي المستمد من العالم الخارجي , فإنه يريد من ذلك التماس معاني جديدة علوية .‏
فالغائب المخبوء عند الصوفي هو الحقيقي والممكن , انه التلاشي في حضرة الفقد والمحو, انه التحرر من الحضور من اجل تحقيق الوجود , فهو محو الانا من اجل اثبات الاخر فالتصوف الاسلامي يرفض الثنائيات , ويدعو للوحدة، وحدة بين الذات والاخر , وبين الذات والموضوع , بين الطبيعة والثقافة , بين الروح والجسد , وبين الانسان والله , ان الصوفي لا يعتمد على نظام العقل والتفكير المنطقي ( انا افكر اذن انا موجود ) .‏
ويقول » انا أفكر إذن انا ربما موجود « فهو يريد الوصول الى المجهول , هكذا فعل الحلاج وابن الفارض وابن عربي , انها رغبة الصوفي بالتوحد مع العالم , بين الذات والموضوع , وبين الناسوت واللاهوت , ففي حالة الوجد الصوفي يمحي الوجود , ويتحول الصوفي الى حالة من السكون والهدوء والركون حيث يبلغ حالة خروج الانسان من ذاته واتحاده بالجمال عند افلاطون , والاله عند المتصوفة حيث يغيب في سنا جمال الخالق المعشوق , حيث تنتهي الثنائية ويعود العدم الى العدم ولا يبقى الا الله ان الرمز لا يمكن القطع في معناه بالضبط على وجه اليقين لذلك جاءت لغة الصوفيين مستغلقة على الفهم .‏
من خلال ما سبق يتضح:
- أن علاقة الصوفي بالرمز علاقة لا غنى عنها سواء على مستوى علاقته بالمقدس عندما يحاول تفكيك الخطاب الالهي عبر آياته القرآنية او الكونية (كتاب الله و كتاب الكون) أو على مستوى التعبير عن تجربته الذوقية التي يجد اللغة عاجزة عن مقاربتها مقاربة كاملة تحتوي جميع الدلالات الذوقية التي تخالج قلبه و فكره.
-أن الصوفي يجد شواهد من القرآن و السنة يؤصل بها لهذه العلاقة الحميمية بالرمز على المستويين.
-أن رحلة الصوفي هي رحلة دائمة و مستمرة في البحث عن المقدس ووصله في النهايات هو وصول نسبي مادام وصوله وصول تيه وحية في جمالية المقدس.
-أن الصوفي يغوص في عمق المصطلحات الى معانيها الخفية (التوكل، الاضطرار، العبادة ....الخ) و لا يقتصر على المعاني الظاهرة مما يبين رفعة مستواه الادراكي بفضل جمعه بين مستويي الذكر و الفكر المأمور بهما شرعا كل مسلم.
-أن الصوفي يستنبط من القصص القرآني العلوم التربوية التي تفيده في ترقية سلوكه التربوي الإيماني كما رأينا في فهمه لمستويات الإرادة (أردت، أردنا، أراد ربك).
-أن الصوفي يلجأ لذكر الله عز وجل في كل أحواله سواء في السراء أو في الضراء إيمانا منه بأن ذكر الله عز و جل جالب لكل خير و دافع لكل ضر.
-أن الصوفي يلجأ للرمز إما لستر محبته الفياضة للخالق أو لستر علومه عن من لا يفهمها حتى لا تظلم الحكمة و يظلم الصوفي معها.
-أن الصوفي يفهم مصطلحات الخطاب القرآني حسب السياق الذي قيل فيه كما يفهمه أيضا حسب المقام و الحال الذي هو فيه.
 
 
د. محمد غاني


 
[1] - المقصود من الدين في هذا السياق دين التوحيد أو دين الإسلام بالمعنى العام حتى قبل ظهور النبي سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم.
[2] - عبدالرحمن بن ناصر السعدي  تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، ص.229. مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى (طبعة جديدة محققة عن نسخ خطية مع زيادات تطبع لأول مرة 1423 (هـ - 2002م ، تحقيق عبد الرحمن بن معلا اللوحيق المطيري.
[3] - اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي تفسير سورة آل عمران
[4] - الانعام.79.
[5] - الانعام.17.
[6] - عبد الحق بن سبعين (614 هـ - 9 شوال 669 هـ / 1217 - 1269) فيلسوف متصوف أندلسي. اشتهر برسالته المسائل الصقلية، والتي كانت عبارة عن اجوبة لأسئلة ارسلها الإمبراطور فريدريك الثاني إلى الدولة الموحدية. انتشر صيته في أوروبا في عصره، فذكره البابا وتحدث عنه حيث قال: "إنه ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه. تعتبر فلسفته أحد المنعطفات الفكرية والإضافات التي عمَّقت طريق البحث الفلسفي ضمن إطارالدين لابن سبعين طريقة غريبة في الكتابة، فكلامه مفكك، قليل الاتصال، حتى قال قاضي القضاة ابن دقيق العيد: "جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاماً تعفل مفرداته، ولا تعقل مركباته".
وكذلك يتسم كلامه بكثرة ما يرد فيه من ألغاز وإشارات بحروف أبجد، وله تسميات مخصوصة في كتبه هي نوع من الرموز كما قال أبو العباس الغبريني صاحب كتاب عنوان الدراية.
فمن كلامه الغريب مثلاً ما يكرره في كتاب الإحاطة من عبارة: "إيه! أو قوله: "الله فقط" وتكرار لكلمة "إيه" اثنتي عشرة مرة في سطر واحد، واستعماله حروف أبجد بطريقة من الصعب استخراجها، كقوله في رسالة "الألواح": "علمه في الإنسانية إنسان، وفي ح ح، وفي ن ن، وفي ج ج، وفي علالمية علم، وفي العاقلية عقل". ومن أغرب كلامه الشاطح قوله في ختام "الرسالة الفقيرية": "السلام على المنكر والمسلم، والعالم والمتعالم، والغالط والمتغالط". انظر للتفصيل في ترجمته  نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت 1995، 2/411.
[7] - فريد الدين عطار شاعر فارسي متصوف مميز عاش في القرن الثاني عشر الميلادي. من أشهر أعماله منطق الطير. و قد لخص الدكتور عبد الوهاب عزام في كتابه التصوف و فريد الدين العطار قصيدة هذا الأخير "منطق الطير" ، وفيها وصف الأودية السبعة التي قطعتها — وهي رمز لمقامات السالكين — وهي أودية الطلب والعشق والمعرفة، والاستغناء والتوحيد، والحيرة والفقر والغناء، وقد جعل الشاعر الوصف على لسان الهدهد قائد الطير في هذه الرحلة، ومن الطير من أَحْجَم عن السفر خوفًا مما سمع من الأهوال، والطير التي سافرت رجع بعضها، وهلك بعضها ولم يبلغ الغاية إلا قليل منها، وهذا أطول فصل في الكتاب وآخر فصل عن تصوف العطار والإسلام، وقد بيَّن فيه أن العطار يعد صوفيًّا سُنيًّا متشددًا يلح في تبيين الاتفاق بين الشريعة والحقيقة، ويوصي باتباع الشرع في كل شيء.
[8] - ابن الفارض، هو أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، وكانت أشعاره غالبها في العشق الإلهي حتى أنه لقب بـ "سلطان العاشقين". والده من حماة في سوريا، وهاجر لاحقاً إلى مصر.
[9] - يفرق الدكتور د.أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني أستاذ الفلسفة الإسلامية بين التصوف الفلسفي و التصوف السني حيث يرى أن التصوف الأول في الإسلام تصوف آخر يختلف في الطابع عن التصوف السني، والمقصود بالتصوف الفلسفي، التصوف الذي يعمد أصحابه إلى مزج أذواقهم الصوفية بأنظارهم العقلية، مستخدمين في التعبير عنها مصطلحًا فلسفيًّا استمدوه من مصادر متعددة، وقد امتزج بالفلسفات الأجنبية مثل اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية، وهو تصوف غامض ذو لغة اصطلاحية خاصة، وقد زاد أولئك المتفلسفة على المتصوفة السنيين بأمور:
أولها: أنهم أصحاب نظريات أو مواقف من الوجود بسطوها في كتبهم وأشعارهم.
وثانيها: أنهم أسرفوا في الرمزية إسرافًا إلى حد بدأ معه كلامهم غير مفهوم للغير.
 
[10] - الرمز في لغة الصوفية ، صالح سميا ، يومية الوحدة، ثقافة ، الثلاثاء13/4/2010                                                              
 
[11] -العلم اللدّني هو العلم الذي يأتي من لدّن الله عز وجل يهبه لمن يشاء من عباده; قد يستخدمه المتلقي في فهم موقف من المواقف أو تفسير اية من ءايات الله بفهم ينبئ عن عمق كبير يتحصل من هداية الله.
[12] -  رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في الكبير ( 33367 )
[13] - المصطلح الأكثر دلالة يستعمل بالفرنسية و هو activer  يترجم بالعربية ب فعل تفعيلا .
[14] - النجم.42
[15] - الدكتور طه جابر العلواني له كتاب فيم في هذا السياق عنوانه ، الجمع بين قراءة الوحي و قراءة الكون.
[16] - المستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري طبعة دار المعرفة 1998.
[17] -  د. عبد الحليم محمود: «المدرسة الشاذلية» ص 359-360 (طبعة دار المعارف)
[18] - سورة الرعد.4.
[19] - سورة الزمر.18.
[20] -  أغنية الطائر The Song of the Bird (Comme un chant d'oiseau)، أنتوني دو مِلُّو Anthony De Mello، ترجمة أديب خوري، دار مكتبة إيزيس، عام 2000.
[21] - ابو العزايم شيخ طريقة مصري ولد يوم الاثنين 27 رجب سنة 1286 هـ الموافق 2/11/1869 م بمسجد سيدى زغلول برشيد. وظائفه: عمل بالتدريس، ثم تدرج في سلك الوظائف حتى صار أستاذاً للشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم. أسس جماعة آل العزائم سنة 1311 هـ الموافق 1839 م ،والطريقة العزمية سنة 1353هـ الموافق 1934 م، ومقرهما 114 ش مجلس الشعب بالقاهرة. له مؤلفات عديدة في التفسير، والفقه وعلم الكلام، والتصوف والفتاوى والسيرة والمواجيد انتقل إلى الرفيق الأعلى ليلة الاثنين 27 رجب سنة 1356 هـ الموافق3/10/1937 م، ودفن بمسجده بشارع مجلس الشعب بالقاهرة.
[22] - سورة التوبة.105.
[23] - فاطر.10.
[24] - التوبة.36.
[25] - التوبة.14
[26] - الشيخ محمد ماضي أبو العزايم، كتاب التقوى ، فصل موسى و العبد الصالح موقع أهل الصفا على شبكة الأنترنت.
[27] - الأنفال.17
[28] - قال الامام الشاطبي رحمه الله في الموافقات : (فصل كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم وإحتياطهم فسبقوا غاية السبق حتى سموا السابقين بإطلاق ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله من أقدارهم وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة والله يختص برحمته من يشاء فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت وعلى الأول جرى الصوفية الأول وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة فإن الذى يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة
[29] - يفضل الدكتور طه عبد الرحمن استعمال مصطلح العبدية و العبدانية لله تعالى بدل العبودية لله تعالى وذلك في نظره لأن مصطلح العبودية له حمولة قدحية من استعباد و إذلال كما فعل المستعمر بالأفارقة في حين أن العبدانية لله هي عين التحرر منطلقا من مفهمه الخاص للحرية مفاده أن الحرية هي " أن يتعبدك الحق باختيارك و أن لا يتعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك" انظر محاضرة طه عبد الرحمن ، العمل الصوفي و أخلاق الحرية ، شبكة ماكس الترفيهية .
[30] - انظر الدكتورة سعاد الحكيم، المعجم الصوفي ص 17 و 18
[31] - الجيلي، النادرات العينية، نقلاً عن كتاب فتوح الغيب للجلاني، شركة الحلبي، القاهرة، ط 3، 1392 هـ - 1973 م، ص 198
[32] - يختلف الصوفية في مناهج التربية فهناك من يذهب الى أن التخلي يسبق التحلي معتمدين في رأيهم هذا على قاعدة فلسفية مشهورة (( التخلى قبل التحلى )) أى إذا أردت أن تتحلى بصفات جديدة يجب أن تتخلى عن الصفات القديمة حيث لا تستطيع أن تملأ الكوب إذا كان ملآنا فيجب أن تفرغه أولا ثم تملأ الكوب بما تريد يقول الشاعر يزيد بن الطثرية:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى                               فصادف قلبا خاويا فتمكنا
و هناك من يرى العكس هو الصحيح كالدكتور عمر عبد الكافي الذي له خطبة في الموضوع . و المراد بالتخلي عندهم التخلي عن الصفات الرذيلة و المقصود بالتحلي التحلي بالصفات الحميدة.
 
[33] -سورة ق.16.
[34] - سورة المؤمنون.1.
[35] - يقول تعالى عن سيدتنا مريم في سورة مريم " فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً  "
[36] - يقول تعالى على لسان سيدتنا مريم في سورة مريم.26. " اني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا".
[37] - اشارة الى قوله تعالى في حق سيدنا زكريا " وناداه نداءً خفياً، قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} سورة مريم.4.5.6.
[38] - الكلاباذي، التصرف على مذهب أهل التصوف، ص.87. وهو الإمام الصوفي أبو بكر محمد بن إسحاق البخاري الكلاباذي، صاحب كتاب التعرف على مذهب أهل التصوف. توفي سنة 380 هـ
[39] - هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة أبو القاسم القشيري إمام الصوفية، وصاحب الرسالة القشيرية في علم التصوف، ومن كبار العلماء في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر، (376 هـ - 465 هـ)، الملقب بـ "زين الإسلام".
[40] - القشيري ، الرسالة ص.31.
[41] - أورد هذه القولة لأبي العزايم الدكتور مصطفى محمود ، السر الأعظم ص 12 دار المعارف دون تاريخ.
[42] - نصر الدين الطوسي، اللمع، 414. و هو أبو نصر عبد الله السراج الطوسي (توفي 378 هـ / 988 م) هو زاهد.[1] كان شيخ الصوفية، على طريقة السنة. ملقب بطاووس الفقراء وتنقل بين بلاد كثيرة، منها: القاهرة، وبغداد، ودمشق، والرملة،ودمياط، والبصرة، وتبريز، ونيسابور. له كتاب: « اللمع في التصوف »، وهو بمثابة موسوعة في تاريخ التصوف الإسلامي وطبقات الصوفية وعلومهم ومصطلحاتهم وأقوالهم وأحوالهم. ويعد أستاذاً للهجويري مؤلف « كشف المحجوب »، ولأبي عبد الرحمن السلمي مؤلف « طبقات الصوفية » الذي تتلمذ عليه القشيري صاحب « الرسالة القشيرية »
[43] - القناد، ابو الحسن و هو من صوفية القرن  القرنين الثالث والرابع، توفى سنة 224هـ  
[44] - ناجي حسين جودت: المعرفة الصوفية دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة، دار الجيل، بيروت، ط 1982 ،1 ، ص 129