علي الوردي : (11) من هو "ابن سبأ" ؟ ـ د.حسين سرمك حسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse333في الفصل الخامس : (عبد الله بن سبأ ) ينتقل الوردي إلى معالجة موضوعة خطيرة تتعلق بشخصية ابن سبأ الخلافية والإشكالية . فبعض المؤرخين يرون أن ابن سبأ هو السبب وراء كل الشقاق والتمزق الذي حصل في الإسلام .. فهو الذي حرك أبا ذر للدعوة الاشتراكية .. وهو من ألّب الأمصار على عثمان .. وألّه عليا .. ووضع تعاليم لتهديم الإسلام .. وألّف جمعية سرية لبث تعاليمه الهدامة .. واخترع فكرة الوصية ( أي لكل نبي وصي وأن وصي النبي محمد هو ابن عمه علي بن أبي طالب). وهو الذي منع وقوع الصلح بين علي وعائشة في معركة الجمل.. وهو أول من بث فكرة الرجعة والمهدية في الإسلام.. وغيرها الكثير بحيث أصبح ابن سبأ السبب وراء كل خراب حصل في الإسلام .
 والغريب أن كل الفرق الإسلامية تتفق على وجوده وتبني على حكايته الكثير من أفكارها. والأغرب أننا لا نجد له ذكرى لدى المؤرخين سوى في رواية واحدة للطبري، كما أننا لا نعلم عنه شيئا سوى أنه يهودي من أهل اليمن أمه حبشية سوداء جاء في أيام عثمان وأعلن إسلامه ثم ذهب يبث دعوته في الأمصار ويدعو إلى الثورة على عثمان وتأليه علي. ويرى بعض الكتّاب وفي مقدمتهم طه حسين أن شخصية ابن سبأ شخصية وهمية اخترعها المخترعون لحاجة في أنفسهم ، ولو كان موجودا لسهل على ولاة عثمان مطاردته أو يكتبوا إلى عثمان عنه على الأقل . كما أن المسلمين ومنهم أبا ذر لم يكونوا بحاجة لتحريض فالوضع الاجتماعي كان محتقنا وينذر بالثورة .


لكن الوردي يتقرب من هذه الإشكالية من مقترب اجتماعي ونفسي مهم يستعين فيه بنظرية البروفسور ( سمل ) الباحث الاجتماعي المعروف في بحثه عن موضوع ( الغريب – stranger ) الذي يرى أن كل مبدأ جديد يعزوه المترفون إلى تأثير نزعة أجنبية . وقد حدث هذا في مختلف مراحل التاريخ . فالمترفون يودون من صميم قلوبهم أن يكون الناس محافظين لا يعرفون من الآراء إلا ما ورثوه عن الآباء والأجداد . فإذا نهض من بينهم ناهض ينحو منحى جديدا في آرائه ، قالوا عنه أنه عميل للأجانب . وهذه التهمة يصدّقها البلهاء بسرعة ، وتُلصق التهمة بالمجددين ، فإذا نجحوا أو استولوا على الحكم زالت التهمة عنهم . أما إذا فشلوا ظلوا متّهمين بها جيلا بعد جيل . ويوسع الوردي النظرة والتحليل فيقول :
(أن من الأحاديث المأثورة عن النبي أنه قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء من أمة محمد ) . وتذكّرني عبارة الغريب هذه ببحث البروفسور سمل عن ( الغريب ) ، فالإسلام بدأ أول الأمر وهو مُتهم بأنه دعوة أجنبية غريبة ( حتى الرسول اتُهم بأنه كان يتسلم تعاليمه من "بحيرا" الراهب أو سلمان الفارسي أو جبر النصراني ) ، ثم بدأ أبو ذر بدعوته الاشتراكية بعد ذلك فاتهموه بأنه يدعو لمبدأ لقّنه له شخص  غريب . وأبو ذر نفسه شخصية غريبة فهو البدوي الوحيد الذي دخل الإسلام قبل الهجرة وقال عنه النبي : ( رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده ) .
ويحاول الوردي تطبيق فرضية الغريب ( والتي يمكن أن توسّع بشكل مؤثر من خلال أطروحة فرويد في الرواية العائلية التي ليس هنا مجال شرحها ) على الحركات التي شهدها التاريخ الإسلامي مثل حركة أبي ذر والحركة العباسية والحركات الفارسية ضد العباسيين وحتى حركة المؤتمر العربي ضد العثمانيين ، ويستنتج من ذلك حقيقة اجتماعية واسعة يقول فيها :
( إن عبد الله بن سبأ موجود في كل زمان ومكان . فكل حركة جديدة يكمن وراءها ابن سبأ . فإن هي نجحت اختفى اسم ابن سبأ من تاريخها وأصبحت حركة فضلى . أما إذا فشلت فالبلاء نازل على رأس ابن سبأ، وانهالت عليه الصفعات من كل جانب . إن ابن سبأ لا يهدأ على كل حال . فهو دائب الحركة ينتهز الفرص في كل سبيل . ومادام الظلم موجودا فإن كل إنسان يحتمل أن يكون سبأيا.. والعياذ بالله ) .                      
لكن من الضروري الآن أن ننتقل إلى الفصل الثامن : ( عمار بن ياسر ) ، وفيه سنستكمل أطروحة الوردي الفريدة والفذة حول حقيقة ابن سبأ . فهنا يعود الوردي من الفرض النظري الذي طرحه في الفصل الخامس مستندا إلى أطروحة الباحث سمل حول دور (الغريب – stranger ) في التوترات الاجتماعية ، وهو في حقيقته فرض عملي يضع الحل لمشكلة فعلية شائكة . فما يفاجئنا به الوردي من استنتاج هو أن ابن سبأ ما هو إلا عمار بن ياسر:
 (فقد كان عمار سبأيّا من الطراز الأول ، والمؤرخون اعترفوا بأن السبأيين اتصلوا به والتقوا به ليستميلوه ، ولكن هؤلاء المؤرخين لم يقولوا عن عمار أنه كان سبأيّا ، كأنهم لم يجرؤا أن يطلقوا عليه هذا النعت الذميم وهو ذلك الصحابي الجليل الذي عُذّب في سبيل الله كثيرا وتحدث النبي بفضله مرارا . الواقع أنه [= عمار ] كان سبأيّا بكل ما في الكلمة من معنى . وقد ظل سبأيّا حتى مات . وأتصور أنه كان زعيم السبأيين الأكبر ، أي أنه كان ابن سبأ بالذات .
ويرد الوردي على تساؤل لطه حسين الذي يعتقد أن شخصية ابن سبأ شخصية خيالية يقول فيه :
( وهنا قد يعترض سائل فيقول : أين ذهب ابن سبأ في هذه المعمعة الكبرى [= معركة صفين ] ؟ إن من أغرب الأمور أن نجد ابن سبأ حاضرا في كل حادثة من حوادث الثورة على عثمان والحوادث التي جرت بعدها ، ثم نراه غائبا في معركة صفين يوم قُتل عمار بن ياسر . فلماذا اختفى هذا الداهية الدهماء في تلك المعركة الطاحنة وأين اختفى ؟ ) .
فيجيب الوردي بالقول :
( لا ريب أنه كان حيّا أثناء معركة صفين . ذلك لأن المؤرخين يرجعون إلى ذكره بعد تلك المعركة وينسبون إليه أعمالا أخرى غير التي قام بها في أيام عثمان وفي واقعة البصرة . فلماذا لم يظهر له أثر في صفين ؟ أكان مريضا ؟ أم كان على سفر ضروري ؟ أم ذهبت به الجن إلى جزر الآق واق ؟ . إن المؤرخين لم يجيبوا عن هذا السؤال المُحيّر قليلا أو كثيرا . والواقع أن ابن سبأ لم يختف أثناء معركة صفين . فهو بالأحرى لم يجد له وجود حقيقي حتى يختفي ... إن قريشا تقصد بابن سبأ ، حين اخترعته ، أن ترمز به إلى عمار بن ياسر ، فلما قُتل عمار في صفين وذهب مقتله هدرا لم تر قريش فائدة من تكرار قصة ابن سبأ في هذا الموقف فأهملتها . وصار المؤرخون بعدئذ يهملونها تبعا لذلك ) .
ثم يعرض الوردي سبعة عوامل من عوامل التشابه بين ابن سبأ وعمار بن ياسر ، ويمكننا القول أنها العوامل الواقعية الفعلية في شخصية عمار التي نسجت منها قريش شخصية (الغريب) الخيالية ممثلة بابن سبأ : 


1-كان ابن سبأ يُعرف بابن السوداء ، وكان عمار يُكنى بابن السوداء أيضا .
2-كان عمار من أب يماني ، ومعنى هذا أنه من أبناء سبأ .
3-وعمار شديد الحب لعلي بن أبي طالب يدعو له ويحرّض الناس على بيعته . يقول الآلوسي : إن رجلا جاء إلى عمار يسأله تفسير الآية القرآنية : ( وإذا وقع القول أخرجنا لهم دابة تكلمهم ) فقال له عمار أن هذه الآية الدابة المتكلمة هي علي بن أبي طالب . وهذا القول الذي يُنسب إلى عمار نجد له مثيلا ينسب إلى ابن سبأ حيث كان فيما يقولون يؤمن برجعة علي إلى الحياة بعد موته .
4-وقد ذهب عمار في أيام عثمان إلى مصر وأخذ يحرّض على عثمان فضج الوالي منه وهمّ بالبطش به . وابن سبأ استقر في مصر واتخذ الفسطاط مركزا لدعوته ضد عثمان .
5-ويُنسب إلى ابن سبأ قوله أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق وأن صاحبها الشرعي هو علي .. وهذا هو كلام عمار بالذات صاح به في المسجد إثر بيعة عثمان ..
6-ويُعزى إلى ابن سبأ أنه هو الذي عرقل مساعي الصلح بين علي وعائشة في معركة الجمل .. ومن يدرس معركة البصرة يجد عمارا هو الذي ذهب مع الحسن ومالك الأشتر إلى الكوفة يحرض الناس إلى الإنتماء إلى جيش علي وكان وقوفه بجانب علي في المعركة سببا من أسباب ندم الزبير وخروجه منها .
7-وقالوا إن ابن سبأ هو الذي حرّض أبا ذر في دعوته الاشتراكية ولو درسنا صلة عمار بأبي ذر لوجدناها وثيقة جدا وكلاهما من مدرسة اشتراكية واحدة هي مدرسة علي بن أبي طالب .
ومن المهم الإشارة إلى أن الوردي يقدم في هذا الفصل تحليلا مسهبا لشخصية عمار بن ياسر و" عقده النفسية " التي اختزنها لاشعوره ضد طغاة قريش الذين قتلوا أمّه وأباه وأخاه بسبب إيمانه بالإسلام .


# التصويت الديمقراطي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر :
-------------------------------------------------------------
وفي فصل عبد الله بن سبأ [= الفصل الخامس] يستثمر الوردي طبيعة الموضوع ليواصل طرح آرائه الثورية الجذرية . ودائما ينطلق من ذريعة تراثية ( آية قرآنية أو حديث نبوي أو حادثة تاريخية ) ليؤسّس عليها دعوته التحديثية . فهو ينطلق من واقع أن النبي قد قال : ( اختلاف أمتي رحمة ) ليهاجم وعاظ السلاطين الذين يعتبرون جماعة المسلمين مقدسة لا يجوز الخروج عليها ، ويؤسسون للجمود الفكري ويجعلون الجمود الفكري والخضوع للسلطان أمرين مترادفين فهم يقولون : ( من تمنطق فقد تزندق ) ، وليبيّن أن الدافع الأساس لتطور المجتمعات هو التنازع والاختلاف رغم الخسائر التي تترتب عليه. ثم ينتقل من العصر القديم إلى وقتنا الحاضر فيرى أن السبيل الناجع للأخذ على أيدي الطغاة وتحويل الاختلاف المسلح المدمر للمجتمع إلى شكل آخر لا يقل عنه فعلا في تطوير المجتمع لكنه أكثر سلمية هو طريقة التصويت والانتخاب المباشر . وهو يعتبر التصويت الديمقراطي هو التعبير العصري عن مبدأ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الإسلامي المعروف والقديم . وهو يعتبره الواجب الفرض على كل مسلم ومسلمة :
( ولو كنت من أرباب العمائم لأفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لا يُغتفر . إن المسلم قد اعتاد أن ينظر إلى الانتخاب نظرة السخرية واللامبالاة ... ونسي المسلم أن الواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . ولست أرى طريقا لتحقيق هذا الواجب إلا بالمساهمة بالإنتخاب على صورة من الصور ... إن اللامبالاة التي يواجه المسلم بها الانتخابات جعلت الانتخاب ألعوبة بيد الطغاة والمترفين والظلمة . ولو اشترك جميع الناس في الانتخاب بدافع من ضميرهم الديني لرأينا الظالمين يحرقون الأرم من جراء ما يشاهدون من قوة واعية في الجماهير ) .
إن كل همّ الوردي يكمن في الكيفية التي يُؤخذ فيها على أيدي الطغاة وتُنتزع فيها حرية الجماهير وتُكسر قيودها لكي تمتلك مقدراتها وتتخلص من المهانة والإنسحاق . وهو يشخص المعضلة الكبرى التي تقف في وجه تحقيق هذا الهدف ، ويراها متمثلة برجال الدين / وعاظ السلاطين ، ولهذا نجده يتحداهم ويجزم بأنهم سيسيرون على الطريقة القديمة التي اختطوها فشوّهت الدين والدنيا في مقاومة كل طريق جديد للخلاص :
( إني أعرض هذا الرأي على رجال الدين ،وأتحداهم أن يقبلوه أو يحققوه ، وأحسب أنهم لا يفهمونه ولا يستسيغونه لأن عقولهم طبعت بمطابع الوعظ السلطاني فهم لا يريدون أن يحركوا الوعي الاجتماعي أو يشجعوه ضد أولياء أمرهم من السلاطين) .
# عاش الوردي (غريباً) فطوبى للغرباء :
------------

وفي إشارة ذكية جدا وماكرة يكمل دعوته المتحدية بالقول :
( إني أخشى أن يتهمني وعاظ السلاطين مرة أخرى في أني استلهمت هذا الرأي من مصدر أجنبي ، وفي أني من أولي الآراء الغربية أو الأفكار الهدامة . فكل رأي جديد هو في نظر المترفين رأي هدام ، هو مخالف لتراث الآباء والأجداد . إنهم يعتبرونه رأيا قد جاء به الغرباء حيث أرادوا به هدم دين الإسلام ) .
فيعيدنا بذلك إلى فرضية الباحث سمل في ( الغريب ) ، ولكن مع تغيير المواقع الآن حيث يصبح هو – أي الوردي – بمثابة (الغريب) ، الذي تُلصق به تهم المروق وتخريب الأصول وتمزيق القيم والمقدسات ، وهو ما حصل فعلا من خلال التهم التي وجهت للوردي والتي سنعالجها في القسم الخاص بها ، ولكنه يضع في أسفل هذه الصفحة هامشا معبرا يذكر فيه التهم التي وجهها إليه أحد وعاظ السلاطين يوم نشر الوردي رأيا في مجلة ( البيان الجديد - 1954) قال فيه إن النبي كان ثائرا ومجددا ووعاظ السلاطين جامدين ومحاربين لكل جديد :
( ومما تجدر الإشارة إليه أن صاحب هذا القول اتهم كاتب هذه السطور بأنه متأثر بأفكار المبشرين المسيحيين ، ومتآمر معهم . والغريب أنه اتهمه من قبل بتهمة معاكسة هي : تهمة الشيوعية وحمل الآراء الهدامة . فهو قد جمع الصيف والشتاء في سطح واحد كما يقولون ، وليس هذا بمستغرب ، فكلا التهمتين تعزو إلى كاتب هذه السطور حمل أفكار أجنبية غربية ) .
إن الوردي هنا يماهي ذاته – وهو أمر واقع فعليا – مع ( الغريب ) الذي تُسند إليه ، حتى لو كان ذلك من باب اللعب النفسي الدفاعي – خلخلة روابط المجتمع القائمة وتمزيق نسيجه ، فتحلّ عليه لعنات المترفين والطغاة ، ويُؤول دوره حتى في وجدان المسحوقين الذين يدافع عنهم إلى دور ( شيطاني ) مدمّر ، وهو الأمر الذي أقول عنه – من جديد – أنه سيأخذ مداه التحليلي الكامل من خلال توظيف الأطروحة الفرويدية الفذة في ( الرواية العائلية ) ودور ( الأخ الدخيل ) أو ( الأخ القاتل – القابيلي ) في تدميرها ؛ تحطيم صلة الإبن بالأم – موضوع الحب الأثير ، والتي يتحقق فيها الدور التمزيقي لجسد الأم الذي قام به الإله الإبن مردوخ مترافقا مع عزل السلطة الأبوية وتجريدها من كل امتيازاتها السلطوية .


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟