نظرية النظم عند القاضي عبد الجبارـ حكيم بوحرمة وعمر اكداش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

65799671.   إعجاز القرآن عند القاضي عبد الجبار:

أفرد القاضي عبد الجبار من كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" الجزءَ السادس عشر لإعجاز القرآن. وهو في هذا الكتاب لا يتعرض للإعجاز مباشرة، بل يقدم له بمباحث كثيرةٍ نالت الحظ الأوفر من هذا الكتاب. وذلك لأن الطابع الكلامي كان هو المهيمنَ على منهجه في معالجته لقضية الإعجاز. أما الجانب البلاغي، فلم يحظ منه إلا بفصلين قصيرين، أورد في أولهما رأي أستاذه أبي هاشم الجبائي، وذكر في الفصل الذي يليه رأيه الخاص، موضحا رأي أستاذه ومستدركا عليه. وقبل أن نعرض لهذين الفصلين، لا بد أن نوجز القول في رأيه في إعجاز القرآن بصفة عامة.

بعد أن تم التشكيك في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى القاضي عبد الجبار –شأنه شأن سائر شيوخ المعتزلة- ضرورة الوقوف على صحة النبوة أولا، والنظر في أدلتها ومعجزاتها، وتحقيق ما فيها من البرهان على صدق الرسول في دعواه. ولذلك فصل بين المعجزات التي ترتبط بالمشاهدة والمعاينة والحضور، وبين القرآن الكريم. فجعل القرآن وحده دليلا أصليا على صدق النبوة، وما عداه من المعجزات المادية والحسية فرعا على ثبوتها ومؤكدة لها. فالمعجزات المادية والحسية لا تعتمد في إثبات النبوة إلا لمن شاهدها[1]، وهم الذين عاصروا التنزيل. فهي وإن ثبتت بطريق اليقين، فلا يصح الاعتماد عليها لمناظرة المخالفين. لذلك اعتمد المعتزلة في إثبات النبوة على القرآن الكريم، وهو المعجزةُ الباقيةُ، باعتبارهم لم يشاهدوا باقي المعجزات[2].

كما ينفي القاضي عبد الجبار أن يكون الإخبار بالغيوب وجها من وجوه الإعجاز[3]، ولا يعتد به، يقول: «..فأما من قال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما تحدى بالقرآن، من حيث تضمن الإخبار بالغيوب، فبعيد، لأنه تحدى بمثل كل سورة من غير تخصيص، ولا يتضمن كل ذلك الإخبار عن الغيوب..»[4].

أما الصَّرفة؛ فلا يرى فيها وجها من وجوه الإعجاز[5]، ويرفض الرأي القائل إن معارضة العرب للقرآن لم تكن لأن الله تعالى صرف إياهم عنه، ويقول «إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم بأنها غير ممكنة.. ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة..»[6].

ويرد على من قالوا بالمباينة والمفارقة في القرآن الكريم، أي أن الخطاب القرآني جاء على موازين تخالف منظوم ومنثور كلام العرب، بأن الإعجاز ليس في الشكل، وإنما في النظم والفصاحة.. وحتى إذا ثبت أن القرآن اختص بنظم لم تجر العادة بمثله، فإن ذلك يؤكد تحدي القرآن. لكنه نفى ذلك، لأن السبق إلى نظم جديد لا اعتبار له دون تعذر مثله على غيره وخروجه عن المعتاد. فالسبق إلى الشيء والمجيء به على غير مثال يعرفه الناس لا يعد معجزة ولا يدخل في باب الإعجاز، لأنه لو كان جديدا على الناس، خارجا عن مألوفهم، إلا أنه واقع تحت قدرتهم، وأنه لا يلبث طويلا حتى يكون للناس مشاركة فيه، بل في إكمال ما فيه من نقص وإقامة ما فيه من اعوجاج[7]. لذلك يقرر القاضي أن خروج القرآن على قدر الفصاحة المألوفة عند العرب يوجب كونه معجزا بانفراده، واختصاصه بنظم من دون هذا الوجه لا يوجب كونه معجزا، وإنما يقوي كونه معجزا[8].

رأينا أن المعجزات الماديةَ والحسيةَ حسب القاضي عبد الجبار لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات صحة النبوة ومناظرة المخالفين لها، بل لا بد من اعتماد المعجزة الباقية، وهي القرآن الكريم. ولكي يكون القرآن الكريم دليلا على صحة النبوة، لا بد من الكشف عن مزية إعجازه، وقد رأينا القاضي عبد الجبار ينفي أن تكون هذه المزية في إخباره بالغيب، كما ينفي أن يكون امتناع العرب عن معارضته والإتيان بمثله لأن الله صرف نظرهم عنه، وأن امتناعهم عن ذلك لأن القرآن نزل على شكل يخالف ما ألفوه من شعر ونثر... فما موطن إعجاز القرآن إذن؟

يعتقد القاضي عبد الجبار اعتقادا جازما أن العرب لم يعارضوا القرآن الكريم، لتعذر ذلك عليهم، وذلك لما يختص به من مزية في الفصاحة. فالقرآن بلغ مبلغا في الفصاحة والبلاغة يفوق بدرجات ما جرت عليه عادة العرب عصر المبعث، وهذه المزية لم تجر بها العادة في كلام الفصحاء[9]. يقول القاضي: «اعلم... أن للكلام الفصيح مراتبَ ونهايات؛ وأن جملة الكلمات وإن كانت محصورة، فتأليفها يقع على طرائق مختلفة من الوجوه.. فتختلف لذلك مراتبه في الفصاحة. فيجب أن لا يمتنع أن يقع فيه التفاضل، وتبين بعض مراتبه من بعض، ويزيد عليه قدرا يسيرا أو كبيرا. وما هذا حاله فالتحدي صحيح فيه، لأن فيه مقادير معتادة تصح بها زيادات في الرتب غير معتادة..»[10]. فالكلام الفصيح مراتب يعلو بعضها بعضا، والدرجة التي بلغت نهاية الذوق ونهاية العلم في الفصاحة هي درجة المعجز، وهي درجة القرآن الكريم. وتقتضي هذه الدرجة أن يكون الكلام خارقا للعادة تركيبا وبلاغة وحسن بيان. فما الوجه الذي يقع به التفاضل في فصاحة الكلام؟

2.   نظرية النظم عند القاضي عبد الجبار:

قبل أن يعرض القاضي عبد الجبار رأيه الخاص في الوجه الذي يقع له التفاضل في فصاحة الكلام، عرض رأي أستاذه في الفصاحة التي يفضل بها الكلام عن بعض. قال: «قال شيخنا أبو هاشم: إنما يكون اللفظ فصيحا لجزالة لفظه وحسن معناه، ولا بد من اعتبار الأمرين. لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا. فإذن؛ يجب أن يكون اللفظ جامعا لهذين الأمرين. وليس فصاحة الكلام بأن يكون على نظم مخصوص...»[11]. فرأي أستاذه أن تكون فصاحة الكلام بجزالة اللفظ وحسن المعنى معا، كما يرى أن الاختلاف في الأسلوب (شعرا ونثرا) لا يصلح لأن يكون معيارا للفصاحة، ولا مقياسا للخطاب البليغ. والسر في أن أبا هاشم ساوى بين الألفاظ والمعاني في فصاحة الكلام، هو أنه كان معاصرا لأبي الحسن الأشعري، الذي أظهر القول بأن كلام الله المعجزَ ليس هو هذا القرآن، وإنما الكلام النفسي الذي لم يزل مع الله. لهذا وجد أبو هاشم نفسه مضطرا إلى صياغة رأي المعتزلة في الإعجاز صياغة جديدة، فنص على المساواة بين المعاني والألفاظ ردّا على الأشاعرة، وعلى نظرية أخرى ترى أن السر في القرآن هو مجيئه بطريقة مخصوصة لا هي بالشعر ولا هي بالنثر[12].

وبعد أن عرض القاضي عبد الجبار رأي أستاذه في الفصاحة، ربما أحس بنقص فيه،  حيث شغل نفسه بالرد على الأشاعرة وأهمل صورة تركيب الكلام (النظم) التي هي مجال التفاضل. لذلك عقد فصلا آخر صاغ فيه رأيه في العلة التي يقع بها التفاضل في الكلام، مستدركا على رأي أستاذه. فقال في أوله: «اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام؛ وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع»[13].

فالذي يعول عليه في بلاغة الكلام عند القاضي عبد الجبار هي الفصاحة. والفصاحة لا تتحقق بجزالة الألفاظ وحسن المعاني فحسب، ذلك أن الألفاظ في حالة إفرادها لا توصف بالفصاحة ولا بالجزالة، إنما توصف بذلك إذا انضمت مع أخواتها على طريقة مخصوصة. فالقاضي عبد الجبار ينظر إلى الكلمة نظرتين باعتبارين مختلفين: نظرة في حال إفرادها، ونظرة أخرى في حال نظمها مع غيرها من الكلام. وهي في كلتا الحالتين واقعة تحت ثلاثة أحوال[14]: أولا؛ مفهومها في ذاتها، من حيث وضعها الذي لها عند أهلها (الدلالة الذاتية). ثانيا: مفهومها حين تتداول عليها الحركات الإعرابية، فتكون فاعلا أو مفعولا إلى غير ذلك من مواقع الكلمة في الإعراب (الدلالة الإعرابية). ثم ثالثا: مفهومها حين تأخذ مكانا خاصا في التركيب، فتتقدم أو تتأخر.. (دلالة السياق).

فهذه النظرية تقوم على أساسين: أولهما اختيار الألفاظ وانتقاؤها في صورتها الإفرادية، وثانيها نظم تلك الألفاظ في صورة حسنة، مع مراعاة حسن الموقع وجمال الشكل. فتكون الكلمة فصيحة "بملاءمتها لجارتها، وتعلقها بأخواتها، وارتباطها بالبناء اللغوي، ووقوعها في الموقع اللائق بها، بحيث يحدث ارتباطها بجارتها، وتعلقها بالنظم، صورة تؤدي دورا يضفي على المعنى جمالا ورونقا، ويمكنه في نفس المتلقي"[15].

وقد صرّح القاضي عبد الجبار أن المعاني لا تظهر فيها مزية الفصاحة، لذلك قال: «إن المعاني وإن كان لا بد منها فلا تظهر فيها المزية، وإن كانت تظهر في الكلام لأجلها. ولذلك نجد المعبرَيْن عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصحَ من الآخر، والمعنى متفق.. فهو مما لابد من اعتباره، وإن كانت المزية تظهر بغيره. على أنا نعلم: أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبرَ؛ التزايدُ عند الألفاظ، التي يعبر بها عنها»[16]. فالقاضي عبد الجبار لا يقصي المعنى كلية، إلا أنه لا يدخله في مجال المزية التي يكون بها الكلام فصيحا. فالذي تظهر به المزية ليس إلا «الإبدال الذي تختص به الكلمات، أو التقدم أو التأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة. ولا بد في الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه»[17].

وبهذا؛ يكون القاضي عبد الجبار أحسنَ مقرر لنظرية النظم الاعتزالية، بتقريره أن التفاضل إنما هو في نظم الألفاظ وضمها على طريقة مخصوصة، وأن المعاني لا تفاضل فيها. ويكون بذلك قد أرسى المفهوم الاعتزالي لنظرية النظم، مؤكدا قول الجاحظ: «المعاني مطروحة على الطريق». لكن من المآخذ عليه أنْ غلب عليه المنهج الكلامي في الاحتجاج لنظم القرآن وفصاحته، وصلاحيته لأن يتحدى به ويكون دلالة على النبوة. ولذلك وقف بالقضية عند حدود التفكير النظري المجرد، ولم يتجاوزه للبرهنة النصية التي من شأنها أن تجلي معالم هذا الإعجاز وتكشف عن دلائله[18].


[1]) المغني في أبواب التوحيد والعدل؛ القاضي عبد الجبار، مج 16، ص104.
[2]) إعجاز القرآن بين الأشاعرة والمعتزلة؛ منير سلطان، الطبعة الثالثة، منشأة المشارف، الإسكندرية، 1986، ص88.
وانظر أيضا: نظرية النظم في أصولها الكلامية؛ الحسين أطبيب، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، 2010، ص104- 105.
[3]) بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار وأثره في الدراسات البلاغية؛ عبد الفتاح لاشين، دار الفكر العربي، ص481.
[4]) المغني؛ 16، ص220.
[5]) إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة؛ ص90.
[6]) المغني؛ ج16، ص324.
[7]) نظرية النظم في أصولها الكلامية، ص108- 110. بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار وأثره في الدراسات البلاغية؛ عبد الفتاح لاشين، دار الفكر العربي، ص477- 480.
[8]) المغني؛ ج16، ص321.
[9]) نظرية النظم في أصولها الكلامية؛ ص107. إعجاز القرآن بين الأشاعرة والمعتزلة؛ ص96.
[10]) المغني؛ ج16، ص214.
[11]) المغني؛ج16؛ ص197.
[12]) المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن؛ أحمد أبوزيد، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف، الرباط، ص291.
[13]) المغني؛ ج16، ص198.
[14]) بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار؛ ص471. نظرية النظم في أصولها الكلامية؛ ص116.
[15]) نظرية النظم في أصولها الكلامية؛ 116.
[16]) المغني؛ج16، ص199.
[17]) نفسه؛ ص200.
[18]) انظر بهذا الصدد: نظرية النظم في أصولها الكلامية؛ ص123- 136.