أهميــــة علـم النفس عند ابن باجه - عبد الصمد البلغيتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"والعلم بالنفس يتقدم سائر العلوم الطبيعية، والتعاليمية، بأنواع الشرف كلها"   ابن باجه[1]

تقــــديـــــم:

يشكل المبحث السيكولوجي في فلسفة ابن باجه فيلسوف سرقسطة وفاس[2]، من أهم المباحث الفلسفية التي عني بها هذا الفيلسوف- الذي اشتهر في القرن الخامس وبداية القرن السادس من الهجرة-بشروحه ومؤلفاته ذات الإتجاه الأرسطي الواضح مع تأثر كبير بالأفلاطونية في رسائل ونصوص أخرى[3]، ويأتي هذا الإهتمام في سياق التقليد الأرسطي الذي يجعل علم النفس مدخلا لدراسة العلوم الطبيعية بل أساسا لأي بحث في أقسام العلم جميعها، وهو ماجعل ابن باجه يوليه اهتماما خاصا ترجمه كتابه في النفس[4]، الذي يحتوي على نظريته في النفس وقواها، ليدشن بذلك تقليدا لأول مرة بالأندلس يضع أسس المبحث السيكولوجي للفلاسفة من بعده، كابن طفيل(ت581ه/1185م( وابن رشد(ت595ه/1198م( والفلاسفة اللاتين في أوربا القرون الوسطى. فما هي أسس هذا المبحث؟ وماهي منزلة علم النفس عند ابن باجه؟ وهل كان ابن باجه مجرد شارح وناقل لأرسطو أم محاور وناقد ومبدع؟

1-النفس محرك للجسم الطبيعي:

 ينطلق ابن باجه في تحليله للنفس من أن لكل متحرك محركا. فإما أن يكون هذا المحرك خارجا عن الجسم المتحرك. (كالأجسام الصناعية) وإما أن يكون المحرك من ذات المتحرك وقد يكون طبيعيا وبذاته ويسمى الحركة الإرادية عند الحيوان والنبات والإنسان. وقد يكون أيضا صناعيا كالديناميك.ص25[5]

المحرك:  -خارجيا عن المتحرك(الأجسام الصناعية)

        -داخليا من ذات المتحرك: -طبيعي ويسمى الحركة الإرادية(الحيوان.النبات. الإنسان)

 -صناعيا: الديناميك.

وأما الأجسام الطبيعية فمحركها في ذاتها وهي مؤلفة من محرك ومتحرك. وأما الصناعية فمحركها خارج عنها وهو موجود بالعرض.

والجسم الطبيعي حركته طبيعية إلى مكانه الطبيعي(وبذلك توجد فيه قوة على ما في الطبع) واستعداده لما في الطبع.

أما وجودها في أماكن غير طبيعية فيكون لورود عائق يعوقها وهذه هي الحركة القسرية. أي عندما يكون الجسم الطبيعي في غير مكانه الطبيعي أو في الأجسام الصناعية لأن مبدأ الحركة ليس من ذاته فإذا زال العائق صارت إلى مكانها الطبيعي سواء بحركة طبيعية أو بحركة إرادية(النفس).ص26[6]

ماهي الموجودات التي تتحرك بالذات؟ والموجودات التي تفعل أفعالها وهي تنفعل.ص24.

المحرك إما أن يحرك حركة مضادة كحركة اليد إلى فوق أو يحركها حركة طبيعية. المحرك: حركة طبيعية أو مضادة.ص27.

والصور نوعان إما صورة لإستكمال جسم طبيعي لا يجتمع فيه المحرك بالمتحرك بالذات. أي ما يتحرك دون آلة بل جملة. وإما صورة لإستكمال جسم طبيعي متحرك بآلات. فالقسم الأول طبيعة والقسم الثاني نفس.ص28.

الصور:لجسم طبيعي متحرك بغيره.(نفس)

       لجسم طبيعي متحرك بذاته.(طبيعة)

2-تعـــريف النفــــس:

والنفس هي استكمال لجسم طبيعي آلي.أي يتحرك بمحرك ليس من ذاته. وهي الاستكمال الأول ووجود النفس في الجسم يعني أنه جسم حي. فكل جسم متنفس حي. ص28.

غير أن إبن باجه لاحظ بأن مفهوم النفس غير واضح الدلالة فقولنا النفس استكمال أو جسم أو آلة. كل هذه على نحو من التشكيك لا القطع والإطلاق. لذلك وجب الفصل فيها: ولذلك أعطى للنفس أربعة انواع:

-النفس الغاذية(هي إستكمال الجسم الألي المغتدي)

-الحساسة(الجسم الألي الحاس)

-المتخيلة(الجسم الالي المتخيل)

-الناطقة(تقال بنوع من الإشتراك) ص29.

3-منــزلة علم النفـــــــس:

 يستحضر ابن باجه في سياق حديثه عن منزلة علم النفس أرسطو الذي يرى أن العلم كله حسن جميل وبعضه أشرف من بعض. وعلم النفس متقدم على جميع العلوم الطبيعية والتعاليمية وهو أشرفها على الإطلاق.

والنفس ضرورية لمعرفة كل علم فهي أساس الوقوف على مبادئ العلوم وماهي بالحد. فلابد للناظر في العلم الطبيعي من مقدمات لا تحصل إلا باكتساب علم النفس. إذن لا معرفة قبل المعرفة بأمر النفس.ص29/ش93.

وبما أن العلم لا يشرف إلا "بالوثاقة" أي بيقينية أقاويله. أو بموضوعه. فالأجدر أن يكون علم النفس أشرف العلوم لأنه يجمع بين الشرطين اليقينية وشرف الموضوع.

4-النــفس والعــلم بالمبــــــدأ الأول:

يؤكد ابن باجه أنه لا علم بالمبدإ الأول على وجه الكمال مالم يتقدم البحث في علم النفس والعقل.

وقد جعل للعلم بالشيء أنواع من النسب أي الحالات فإما علم ما هو أي البحث في ماهيته وكنه الشيء. وعلم يكون في لواحق الشيء الذاتية والخاصة به. والحالة الثالثة علم باللواحق العامة. ص30/ش94.

5-علـــــــم النـفس وإشكـالية الحـد:

 ثم يوضح ابن باجه المقصود بعلم ما هو الشيء أي في ماهيته فهو على صنفين إما علم غير تام. كأن يعلم فقط بجزء من أحد أجزائه وهذا أصناف. وإما علم تام وذلك في الإلمام بحده جملة.

والحد يقال في المعاني المشتركة المتساوية في حمل الشيء والتي لا وجود للشيء بدونها. وابن رشد عرف الحد بقوله:"هو قول يعرف ماهية الشيء بالأمور الذاتية التي بها قوامه".

العلم بالشيء:-ماهو-لواحقه الذاتية-لواحقه العامة.والعلم بما هو إما غير تام أو تام. ص31.

والأشياء المقومة للشيء هي أسبابه. والحدود بتأخير هي ما لم يتألف من أسباب. بل من أعراض إما ذاتية أو غير ذاتي بعيدة أو قريبة.

والحدود بتقديم وهذا أخلق أن يكون حدا. وهو ما ألف من أسباب قريبة أو بعيدة. /ش95.

ثم ينتقل ابن باجه بعد الحديث عن العلم وعن الحد إلى الحديث عن الاسباب من جهة أنها أربعة:المادة، والفاعل، والصورة، والغاية.

الحد بتأخير (الأدلة. ويفيد الحد بالأعراض) والحد بتقديم (وهو الأخلق بالحد يكون معطى أو الإستنباط أو البرهان) هو ما ألف من أسباب إما بعيدة وإما قريبة، والقريبة هي المادة والصورة والفاعل والغاية.

ويجدر في الحد بالتقديم أيضا، أن يكون مؤلفا من الأسباب الخاصة وليس العامة.

ثم يتابع ابن باجه في تعداد طرق التوصل وبناء الحدود، وقصده من ذلك واضح، فهو يمهد القول للنفس ويحاول تلمس الطريق لوضع حد لها لا يشوبه تشكيك أو نقصان. فيذكر طرق بناء الحدود وهو يقصد خاصة الحدود بتقديم، فما أن يأتي هذا الحد كمعطى أو مستنبطا، فإذا جاء الإستنباط فإما بالقسمة أو بالتركيب، أو الدليل أو الحس او بالقول.ص32/ش95 ، وهذه تجري مجرى المعطى.

أما إذا بنيت على أساس من البرهان المطلق، فإما أن تأتي الحدود نتيجة برهان أو مبدأ برهان أو تكون برهانا متغيرا بالوضع، وأما الحدود بالأدلة فإنها تفيد الحد بالعرض لا بالذات.

ثم يعود ابن باجه بعد هذا الوضع والتبيين إلى أن يؤكد على أن حدود النفس ليست حدودا معطاة بل هي من الحدود المستنبطة.

وابن باجه قبل ذلك يعتبر النفس من أصعب العلوم إذا كانت تطلب من جهة الحد بتقديم. غير أن هذه الصعوبات ممكن تجاوزها. ص33.

6-حـــد النفس وآراء المتقـــدمين:

ثم ان ابن باجه يفسر القول في العلوم التي تطلب ماهية الشيء وغاية طلبها معرفة هل ذلك الشيء واحد أو ليس بواحد؟ وهل هو ذو أجزاء أم ليس بذي أجزاء وهل هو ذو قوى أو ذو قوة واحدة؟ وهذا ما يجب اتباعه في طلب حد علم النفس./ش97.

على أن ابن باجه لم يشأ الدخول في حديثه عن النفس قبل عرضه لبعض أراء المتقدمين من الفلاسفة الطبيعيين في النفس، وقال: "إن منهم من قال النفس تدل على كثير أي أن اسمها يدخل في الأسماء المشككة...، وفريق قال: إنها تدل على أجزاء عديدة وكثيرة وهي منفصلة فيما بينها (ديمقريطس)، ومن رأى أنها واحدة ذات أجزاء كثيرة  متصلة بالموضوعات (جالينوس) وهذا الرأي الأخير قد اتخذه أفلاطون. ش/97.

وابن باجه يحدد الإشكال المركزي في علم النفس وغاية التشوق له وعظيم طلبه في السؤال التالي: هل النفس مفارقة للجسم أم غير مفارقة؟ وهو يشير إلى أن أرسطو في المقالة الأولى قال: أنه إن كان للنفس فعل من دون الجسد فيمكن أن تفارق. ص34.

ولكن إذا كانت النفس على هذا الحال فكيف ننظر فيها هل من جهة الأجسام التي تحملها أم من جهة لواحق تلك الأجسام التي هي فيها (كالصحة والمرض أو الأفعال كالغضب والرضى). والحد لكي يبنى لابد له من الجنس الذي يوصف به. ص35/ش98.

ثم إن ابن باجه يتساءل بعد هذا العرض لطرق استخراج الحد ويعدها ثلاثا:

-طريق التقسيم.

-طريق التركيب.

-والطريق المستعمل فيها البرهان.

ويتساءل عن أي الطرق نسلك في طلب حد النفس؟ ويعرض بعد ذلك أن طريق التقسيم غير متأتي في النفس، لأن جنسها غير معروف هل هو جسم أم لا.ص36.

ثم يقصي أيضا طريق البرهان لأنه لا يجعلنا نقف على المعاني التي يقال لها نفس. ثم يستقر ابن باجه على حد التركيب في النفس ولأن طريق التركيب يستعمل في الشيء المعلوم وجوده والنفس من الأمور الظاهرة وجودها مثلها مثل وجود الطبيعة (المعلوم بنفسه والمعلوم بغيره) والنظر في النفس يكون في أنفس كل حيوان وأما النبات فهو في موضع فحص. ص37.

لذلك يقول ابن باجه إن هذه الطريق من النظر سيتبعها في الفحص عن النفس لم تكن متبعة قبل أرسطو، فالأقدمون كانوا لا ينظرون للنفس في كل ما يقال عليه نفس ولكن كان النظر فقط من جهة النفس الإنسانية ولذلك فالفحص سيكون في الأمور المدنية (الأحوال الإنسانية)، ويضيف ابن باجه أن العلم بالنفس لا يطلب لهذا الغرض فقط (الامور المدنية) بل لأنه جزء من العلم الطبيعي.

نوع الحيوان، ينطلق ابن باجه في عرض القول عن أجسام الحيوان والتي يطلب فيها حد للنفس فيفصل فيها القول، فالحيوان جسم مركب غير متشابه الأجزاء لا متصل الأجزاء بل منفصل وهذه الاجزاء تتصل بالإلتحام أو بالفصل، وهي أجزاء متحركة بعضها في بعض، وذلك يوجد في كل حيوان وهو متحرك حساس.

ثم إن الحيوان مؤلف من جسم وصورة وهل النفس هي الصورة أو الجسم فقد تبين أنها صورة. ص38.

ولما كانت النفس هي إستكمال لجسم طبيعي آلي فهذا يشمل كل نفس وكل قواها ولكن ليس كمالا لكل جسم طبيعي كالارض أو النار فهي إذن لجسم له آلات يستعين بها كالتغذية والنمو. لذلك يشير ابن باجه أن النفس تقال بتشكيك وأنها من المترادفة أقوالها. ص39.

ثم يمضي في تفصيل القول في طبيعة النفس، يقول إن النفس ليست ذات طبيعة واحدة ولو كانت كذلك لتجانست أفعالها والمعلوم من أفعال الحيوان أنها غير متجانسة (اغتذاء، حس، حركة، تخيل، نطق...) بل حتى هذه القوى لا تتطابق من جهة التجانس وإنما تتقدم بعضها أو تتناسب فيما بينها، وكذلك النفس وقواها تأتي بتقديم وتأخير وتناسب، ولأجل هذا الذي تقدم لا يمكن أن يطابق الحد جميع ما يقال عليه النفس.

ولأجل ذلك لا يمكن سلك الطريقة البرهانية، ثم ينبه ابن باجه إلى أهمية هذا المنهج في النظر، هذا الطريق إن تم إغفاله من جهة الناظر سيكون سببا في ضياع النفس عنه، كما حصل مع الأقدمين فهذا من الأسباب التي جعلت أمر النفس تذهب عنهم.

ثم جعل ابن باجه يعرض لقولهم في النفس فقد كان الآدميون متفقين حول جوهرانية النفس، لذلك كانوا يجعلونها تحت انواع الجوهر، فقال بعضهم إنها نار، والبعض أنها دم أو هواء، وبعضهم حين لم يستطع أن يجعلها جسما جعلها من المقولات فرتبوها في المقولات العشر.

ثم يفرد القول لأفلاطون الذي جعل النفس من الجواهر فلما أراد تعريفها من جهة أنها هيولة والهيولة جوهر، وهي إما جسم وصورة، ولما كان جعلها جسما من المستحيل جعلها من جهة كونها صورة، فوجد أن صور الأفلاك بإعتبارها أنفسا مشتركة في أشياء، فالحس يختص بالحيوان والحركة تشمل الحيوان والأفلاك. ص40.

وقد قصد حدها من جهة ما تشترك فيه وهي الحركة ولهذا فهو يحدها بأنها "شيء محرك ذاته"، والشيء هنا يراد عنده الموجود، وسبب حده للنفس بهذا هو أن أفلاطون يعتقد بأن كل محرك هو بالضرورة متحرك لأنه لا يمكن أن يحرك دون ان يتحرك.(أنظر المقالة 7 من السماع[7]). ص41.

خــاتمـــة:

وينتهي ابن باجه إلى الإشارة لطريق الفحص في كتاب النفس لأرسطو فالفحص سيكون على الشكل الذي تقدم ولأن الأنفس بعضها متقدم بالطبع وبعضها متأخرة، فسيشرع بالفحص عن المتقدمة ثم التي تليها والتالية حتى الأخيرة، لذلك سيبدأ أرسطو بالنفس الغاذية لأنها أقدم قوى النفس ولها قوتان وهي قوة النمو وقوة التوليد، ثم القوة أو النفس الحاسة، والتي جعل فيها قوة البصر والسمع والشم والطعم واللمس والحس المشترك le sens commun  والتخيل imagination ، وهي أشدها تأخرا.

هذا الفحص الذي دشنه ابن باجه في المبحث السيكولوجي سوف ينعكس على مشروعه الفلسفي عموما، وبشكل خاص في نظرية الاتصال التي تعتبر غاية ابن باجه في فلسفته، وكذلك نظريته في العقل والصور الروحانيةles formes spirituelles، وهو ما يوضح بشكل جلي تميزه وإبداعه الذي انتبه له من جاء بعده وخاصة ابن رشد.

1-ابن باجه, أبوبكر, كتاب النفس, تحقيق وتقديم: جمال راشق, مركز الدراسات الرشدية, فاس, 1999, ص93[1]

2-راشق جمال, ابن باجه سيرة وبيبليوغرافية, الرابطة المحمدية للعلماء, دارالأمان, الرباط, 2017, ص 17[2]

3-العلوي جمال الدين, رسائل فلسفية لأبي بكر ابن باجه, تحقيقوتقديم, دار الثقافة بيروت, دار النشر الدارالبيضاء, 1983, ص18[3]

4-صدر هذا الكتاب في نشرتين وتحقيقين: الأول تحقيق محمد صغير المعصومي, دارصادر, بيروت,ط.1, 1960. والثاني لجمال راشق, م.م[4]

5ابن باجه أبوبكر, كتاب النفس, حققه: محمد صغير حسن معصومي, دار صادر, بيروت, ط.2, 1992-[5]

6-جميع الإحالات ستكون من كتاب النفس تحقيق محمد صغير حسن المعصومي, م.م[6]

7-ابن باجه أبوبكر, شروحات السماع الطبيعي, تحقيق: معن زيادة, دار الكندي, بيروت, 1978, ص41[7]