المتخيّل الطليق في كتاب عرائس المجالس لأبي اسحاق الثعلبي - عبد الباسط مرداس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
 أنفاسنموذج أسطورة  الكون والحيوان العجائبي
مقدمة

 نسجت الأسطورة  داخل الحقل العربي الإسلامي الوسيط متخيلا دينيا وأدبيا استطاع أن يخترق حدود الزمان ويتسرب داخل كتابات متعددة الأغراض كونت النواة الأولى للثقافة العربية الإسلامية. فظاهرة الوضع التي أثرت في الحديث النبوي وظاهرة ما يسمى " الإسرائيليات " وعلاقتها بكتب التفسير وظاهرة العجائب وعلاقتها بكتب الأدب والجغرافيا والحكايات بصفة عامة، ما هي  إلاّ عناصر تحدثنا عن الصلة الوطيدة بين هذه الأنواع الدينية والأدبية والمتخيل الذي يستمد قوته وتنتعش روحه داخل عالم الأسطورة.
 فالحدث الأسطوري، الذي يمثل " تاريخا مقدسا "، يستغّل أدنى فرصة يعطيها له النص المقدس ( القرآن) أو النص الحديثي أو الأدبي بصورة عامة فيشبعهم سردا. يُتمّم ويصنع الظروف والسياقات ويضيف الحلقات الناقصة داخل سلسلة الحكي.
 ونجد داخل الأغراض الأدبية السالفة الذكر وحدات سردية وحكايات مزركشة مصنوعة بقماش عجائبي وعناصر أسطورية تعطينا فكرة عن الدور الفعّال الذي
لعبه شخص القاص ( أو القصّاص) متلّبسا أقنعة مختلفة (مُذكّرا وواعظا ومفسرا) حيث أثرى هذه الحكايات بواسطة مخيلته الفياضة. فتكوين هذه القصص بهذه العناصر جعلها تحفظ لنا جانبا من جوانب المتخيل الديني والأدبي الذي كان سائدا في السرد العربي الإسلامي الوسيط .
  وبناءا على ما سلف فقد عرفت قصة خلق الكون عملية أسطرة باعتبارها الحدث التأسيسي الأول الذي أخرج  إلى الوجود كل الوحدات المكونة للكون، وأنتجت هذه الأسطورة داخل الحقل العربي الإسلامي متخيلا دينيا وعجائبيا وليد عمليات تفسيرية و تأويلية    متنوعة . سنحاول في  الجزء الأول من هذا المقال تسليط الأضواء على مكونات وتجليات هذه الأسطورة انطلاقا مما ذكره  الراو   يأبو  اسحاق        الثعلبي  من مواضيع وعناصر مختلفة لأسطورة خلق الكون -الأرض والسماء والشمس والقمر  - في عرائس المجالس).أما فيما يخص الجزء الثاني من  المقال   المتعلق بالحيوان العجائبي فسنتطرق للأسئلة التالية:  كيف أدرج الثعلبي الحيوان العجائبي في سرده؟ وما هو دوره داخل سرديات قصص الأنبياء ؟ما هي المكوّنات    والعناصر التي ساهمت في تصويره؟ أسئلة نحاول الإجابة عليها انطلاقا من أمثلة سردية.
1.1الثعلبي وأسطورة الكون

تعتبر المجالس الثلاثة الأولى التي خصّصها الثعلبي لأسطورة خلق الكون تقديما وتعريفا  للإله باعتباره خالق الكون، وذلك قبل  حكي قصص الأنبياء. فعلى رأس هذا الهرم القصصي هناك الإله. وأحسن طريقة لتقديمه هي إظهار خلقه، أي الكون الذي خلقه حسب المقولة المشهورة     كن فيكون     .

      سرديا عملية خلق الكون مذكورة بطريقة مُتفرّقة وغير مُنظّمة داخل النص القرآني. ففي القرآن لا نجد إلاّ  آيات قليلة  تحكي هذا الخلق والتي بطبيعة الحال سيستغّلها الراوي كنقطة بداية ليُتبعها بحكايات وأخبار تدخلنا عالم العجائبية. وهكذا عرف الجانب التلميحي القرآني تفصيلا وإضافات بالمعنى الأسطوري الذي نجده لنفس الأسطورة في التوراة .

     وقد استرعت هذه الآيات الكونية القرآنية اهتمام المفسرين والقصاص والمؤرخين المسلمين.. الخ  . إضافة إلى رواة قصص الأنبياء أمثال الثعلبي والكسائي  اللذين خصّصوا لها صفحات عديدة. ونجد كذلك هذه الأسطورة داخل كتب الأدب مما يدفعنا إلى الكلام عن أسطورة للخلق داخل حقل السرديات العربية  الوسيطة .

 

 1.2.1عجائبية خلق الأرض

     نظّم الثعلبي أسطورة خلق الأرض في سبعة أبواب مُكوّنة المجلس الأول الذي يفتح  العرائس والمعنون بـ " صفة خلق الأرض ". وحدود هذا الوصف، كما سنتطرق له، تنطلق من تراتبيّة وتنظيم اتّبعهما الراوي :فهناك نقطة للبداية ونقطة للنهاية وبينهما صفات مرتبة. و قراءة الأبواب السبعة التي تتعلّق بالأرض تعطينا فكرة عن العناصر التي خصّصها الراوي لهذا الكوكب :

الباب الأول : في بدء  خلق الأرض وكيفيتها،
الباب الثاني : في حدود الأرض ومسافتها وأطباقها وسكانها،
الباب الثالث : في ذكر الأيام التي خلق الله تعالى فيها الأرض،
الباب الرابع : في ذكر أسمائها وألقابها،
الباب الخامس : في ذكر مازين الله به الأرض،
الباب السادس : في عاقبتها ومآلها وآخر حالها،
الباب السابع : في وجوه الأرض المذكورة في القرآن.
 

    

يلاحظ القارئ لهذه الأبواب، التي تحمل العديد من الأخبار والوحدات السردية، أنّ الراوي يصف الكوكب الأرضي انطلاقا من وصف شمولي و مُدقّق  يهتمّ بأقصى التفاصيل التي تتمحور حول الحدود والمسافة والأطباق المختلفة والسكان والأيام التي استدعتها عملية الخلق والأسماء وكذلك الألقاب التي تحملها الأرض. فلنتتّبع العناصر المكوّنة لهذا الكوكب ونحاول التطرق إلى بعض  عناصرها محاولين إظهار جانب المتخيل فيها .

     ينجم عن السرد المكثّف الذي بنى به الثعلبي أسطورة خلق الأرض أن " الله لما أراد أن يخلق السماوات والأرض خلق جوهرة خضراء أضعاف طباق السماوات والأرض ثم نظر إليها نظرة هيبة فصارت ماء ثم نظر إلى الماء فغلا وارتفع منه زبد ودخان وبخار وأرعد من خشية الله فمن ذلك اليوم يرعد إلى يوم القيامة. "  الملاحظ أن  كيمياء الخلق مرّت عن طريق مجموعة من العمليات التي نتجت عنها سلسلة من العناصر و المواد : الماء و الزبد و الدخان و البخار و الرعد. فكلّ هذه الأشياء نتجت عن جوهرة خضراء عظيمة  لكن عظمة خالقها، كما يركّز عليه السرد، جعلتها  تمرّ،تحت عامل الهيبة  والخوف و الطاعة، بالتناسخ و التحولات  التي تفضي فيما بعد إلى النظام.   

  ويتابع الراوي وصفه ذاكرا عناصر أخرى استغلها الخالق ( الإله) في خلق الأرض. وتسترعي القارئ حكاية الثور الفردوسي الذي أهبطه الله من أعلى الفردوس والمصوّر بطريقة عجائبية :  سبعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وبجانب هذا الثور يتحدث السرد عن الياقوتة الخضراء العظيمة المُنزلة كذلك من أعالي الفردوس، وقصة الحوت العظيم لوتيا. كل هذه العناصر سيوظفها الراوي في قصته داخل تراتبية تعطي لكل عنصر وظيفته داخل عملية الخلق.

     فالملك الذي أهبطه الله من تحت العرش إلى الأرض، يضيف الراوي، دخل "تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه , إحدى يديه في المشرق والأخرى في المغرب، باسطتين قابضتين على قرار الأرضين السبع حتى ضبطها "  هذا الملك لم يكن لقدميه موضع قرار لهذا أنزل الله الثور، هذا الأخير استقرت قدماه على الياقوتة و هذه الأخيرة بدورها استقرت على ظهر الحوت العظيم لوتيا، والحوت مستقر على البر والبحر على متن الريح والريح على القدرة.

والملاحظ أنّ موضوع استقرار و توازن الأرض أثار اهتمام الراوي. فالملك و الثور والياقوتة و الصخرة و النون و البحر و الريح و الجبال، كلّها عناصر استعملها السرد وأعطى لكل عنصر على حدة مهمة يقوم بها في خلق النظام و التوازن. فعلى عكس الأساطير الشرقية القديمة التي تجعل من الماء العنصر الأول الذي نتجت منه عملية الخلق، نجد هنا أن العنصر الأوّل هو عبارة عن جوهرة خضراء ناجمة عن إرادة الإله. و بذلك فالكون،انطلاقا من المنطق السردي السالف، ظهر إلى الوجود على الشكل التالي:

الأيام

العناصر المخلوقة

السبت

الأرض

الأحد

الجبل

الاثنين

الأشجار

الثلاثاء

الظلمات

الأربعاء

النور

الخميس

الدواب

الجمعة

آدم

 

     وتعجّ الأرض غير قابلة للمهمة المخلوقة من أجلها وهي حمل الإنسان وخطاياه. وتحدّثنا الأسطورة أن الله خلق " جبلا عظيما من زبر جدة خضراء خضرة السماء منه يقال له جبل قاف فأحاط بها كلها وهو الذي أقسم الله به فقال : ق والقرآن المجيد ."  


1-2-2 سكان الأرض
    و يتابع الراوي قصته ويحدثنا عن الأطباق السبعة التي تكون الأرض وسكانها والمسافة الطويلة والبعيدة ( 500 عاما) التي تفرق بين كل أرض والتي تليها. فهناك سكان  من أجناس مختلفة وحيوانات غريبة  مصّنفون على الطريقة التالية :

الأرض الأولى : مسكن البشر،
الأرض الثانية : مسكن الريح،
الأرض الثالثة : مسكن لخلق شاذ الخلقة ومخيف، وجوههم مثل وجوه بني آدم وأفواههم مثل أفواه الكلاب، وأيديهم كأيدي الإنس وأرجلهم كأرجل البقر وآذانهم كآذان المعز، وأشعارهم كأصواف الضأن، لا يعصون الله، ليلنا نهارهم ونهارهم ليلنا.
الأرض الرابعة : فيها حجارة الكبريت التي أعدّها الله لأهل النار تُسجربها جهنم،
الأرض الخامسة: فيها عقارب أهل النار، وهي كبيرة أمثال البغال لها أذناب كأمثال الرماح مُصوّرة بطريقة مرعبة وعجائبية.الأرض السادسة : فيها دواوين أهل النار وأعمالهم وأرواحهم الخبيثة واسمها سجين،

الأرض السابعة : مسكن إبليس وجنوده .

       نلاحظ انطلاقا من هذه التراتبية السكانية  أنّ الأراضي الرابعة والخامسة والسادسة وصف لعالم جهنم والمكوّنات التي تتعلّق به. فابتداء من الأرض الثانية، يخال القارئ أنه أمام مشهد من مشاهد الهبوط في الدرك الأسفل من جهنم.   ويصادف خلقا غريبا وحيوانات مدهشة:حجارة الكبريت التي أعدها الله لأهل النار والعقارب و الحيات المهولة و المخيفة التي  "لو أمر الله حية منها أن تضرب بناب من أنيابها أعظم جبل في الأرض لهدته حتى يعود رميما" .



1-2-3 الأسماء والألقاب

    يصنّف الراوي تحت هذه الخانة السردية  أسماء وألقابا يعطيها لمختلف أطباق الأرض. وهي عبارة عن  بطاقة تعريف لهذه الأراضي العديدة والمجهولة بالنسبة للقارئ. و بهذه العملية تقوم الأسطورة  بإظهار المجهول وجعله مكشوفا،  و ذلك بإعطاء الكوكب الأرضي أسماء وألقابا  يصعب أحيانا تفسيرها أو إحالتها على أصل ثقافي مُعيّن.  ويُلخّص  التصنيف التالي لهذه المسميات  على الشكل التالي:


الأسماء الأسطورية                                  

الألقاب القرآنية

أديم

فراش

بسيط

قرار

ثقيل

رتق

بطيح

بساط

متثاقلة

مهاد

ماسكة

ذات الصدع

ثرى

كفات

 

  1-2-4   المزينات

    يلاحظ قارئ مرويات  الثعلبي  الكمية الغزيرة من السرد المتكامل الوصف الذي لا يترك الجزئيات جانبا. فبهذه العناصر السردية الدقيقة والوحدات الخبرية يُغذّي الراوي أسطورته ويُجمّلها. فالراوي  يحاول، بواسطة تراكم مروياته ووصفه، تقريب المُتلقّي  من  الأشياء التي خصّ الله بها الأراضي  أو ما يسميه  بـ " ما زين الله به الأرض ". وهذه المزينات لا تخرج عن سبعة أشياء، وهي الأزمنة والأمكنة والأنبياء وآل محمد والصحابة والمؤمنون وأنواع الحيوانات والنباتات والجماد . عدّة عناصر مُزينة بدورها بأشياء  حسب الطريقة التالية :

الأزمنة : زينها الله بأربع عشرة شهرًا
الأمكنة : مزينة بأربعة أماكن : مكة، المدينة، بيت المقدس، ومسجد العشائر
الأنبياء : مزينون بأربعة : إبراهيم، موسى، عيسى، محمد
آل محمد : مزينون بأربعة : علي، فاطمة، والحسن والحسين
الصحابة : مزينون بأربعة : أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي
المؤمنون : وزينهم بأربعة : العلماء والقراء والغزاة والعباد.
 

     وهكذا يظهر واضحا من العناصر التي سردها الراوي داخل خانة المزينات العلاقة المطروحة بين الأسطورة ومكوناتها الإسلامية. فالأمكنة الأربعة المذكورة والأسماء المذكورة ما هي إلا رمزيات دينية إسلامية لها مكانة  هامة داخل المخيال الديني الإسلامي, والراوي، كما سلف،  مفسر و واعظ , لم يترك الفرصة تضيع عليه. فهو يُقحم كل شيء داخل رواياته وأخباره يمكنه تغذية المؤمن (المسلم) وتقريبه من الله.  فالتفاصيل التي ذكرها ليست استطرادات خارجة عن الموضوع بقدر ما هي عملية أ سلمة الأسطورة وإعطائها طابعا وقرائن محلية لا تجعلها غريبة عن روح الدين  الجديد.

  وتدور دائرة الأسطورة من فترة التكوين إلى فترة الفناء. ولا تهمش الأسطورة مآل الأرض وعاقبتها، فلكلّ بداية نهاية. ويقحمنا الراوي في عالم القيامة ويقتبس من القرآن كلمات وأوصافا تتعلق بعاقبة الأرض كالتبديل والزلزلة والبروز والرج والرجف والمدّ والدكّ.

 

 1-3-1 عجائبية خلق السماء

     يحكي الثعلبي قصة خلق السماء داخل نفس الإطار السردي السابق متّبعا نفس الهندسة الحكائية التي تنطوي على سبعة أبواب. عدد رمزي  استخدمه الراوي داخل تراتبية وتقسيم يسندهما إلى وهب بن منبه القائل : " كادت الأشياء أن تكون سبعا، السماوات سبع والأرض سبع والجبال سبع وسبع بحار وعمر الدنيا سبعة آلاف .. الخ " . ويعدد وهب مجموعة من الأشياء التي عرفت هذا العدد .

وبذاك يتمحور برنامج خلق السماء  حول المواضيع التالية: بدء خلق السماوات  وجواهرها و أجناسها و هيئتها وألقابها و مزيناتها و أخيرا مآلها و آخر حالها، كما سنتطرق له.

1-3-2  جواهر السماء

 

   تبتدئ   عملية خلق السماء والأرض بوصف لجوهرة كبيرة  خضراء  خلقها الإله  والتي ستعرف، في هذه الفترة البدائية، سلسلة من التغيّرات و تمرّ بقانون التحوّل. ينظر الله إلى هذه الجوهرة وتتدخّل المعجزة  ويقع الاختيار على الزبد والدخان. عنصران هامان داخل كيمياء الخلق. فمن الزبد يخلق الله الأرض ومن الدخان ينشئ السماء، وتأتي الآية لتعطي لمختلف أطوار هذه العملية الخلقية المصداقية " ثم استوى إلى السماء وهي دخان .." ويمزج الخطاب القرآني مع الخطاب الأسطوري داخل تصوير سرد شيّق.



    وتأخذ الأسطورة مسيرتها في الحكي مُعددة جواهر السماء وأجناسها. فباستثناء السماء الأولى المخلوقة من الموج المكفوف والثانية من الصخر، فالسماوات الخمس الباقية وصفت عن طريق المعادن:

السماء الثالثة : الحديد
السماء الرابعة : النحاس
السماء الخامسة : الفضة
السماء السادسة : الذهب
السماء السابعة : ياقوتة بيضاء.
 

   فالسماء عبارة عن قبة، وكل سماء قد شُدّت  أقطارها بالأخرى والسماء السابعة شُدت بالعرش. و بهذه الطريقة يفسر الراوي الآية :" بغير عمد ترونها ". وكعادته في التدقيق في الوصف وإعطاء الجزئيات أهمية كبرى، يتحدث الثعلبي عن المسافة بين السماء والأرض والمسافة بين كل سماء والسماء التي تليها، مُكرّرا عدد خمسمائة عام .

1-3-3  الأسماء والألقاب

     على غرار الأسماء التي أعطاها الراوي للأراضي المختلفة التي تكون كوكب الأرض, وعلى نفس المنوال السردي، يعطي أسماء وألقابا لمختلف السماوات وذلك انطلاقا من روايتين، الأولى ينسبها لوهب بن منبه و الأخرى للضحاك بن مزاحم و مقاتل بن سليمان  نلخّص عناصر ها في اللوحة التالية:

السماوات

عن وهب

الضحاك/مقاتل

المادة

ألقاب القرآن

الأولى

ديناح

برقيعا

الحديد

البناء

الثانية

ديقا

قيدوم

النحاس

السقف

الثالثة

رقيع

الماعون

الشبة

الطرائق

الرابعة

فيلون

فيلون

الفضة البيضاء

الطباق

الخامسة

طفطاف

اللاحقوق

الذهب

الشداد

السادسة

سمساق

عاروس

ياقوتة حمراء

الرتق/الفتق

السابعة

اسحاقائيل

الرقيع

درة بيضاء

الدخان



    تظهر مرة أخرى من خلال اللوحة المقابلة بين الأسماء الأسطورية والألقاب القرآنية العملية التفسيرية والتأويلية التي يقوم بها الخطاب الأسطوري من أجل التقرّب من النص المقدس ( القرآن) وجلبه إليه من أجل الحصول على شرعية الحكي والتموضع داخل الحقل الديني. فهذه الأسماء الغريبة، التي ترجع ربما إلى تأثير بعض الأساطير الشرقية القديمة، تخرج من الخفاء والغموض حين نضعها بجانب الألفاظ القرآنية ( الألقاب)  .

     و يستمرّ الراوي في إظهار عالم الخفاء  ويحدّثنا عن  "مرهوثا"، هذا المكان الموجود وراء السماء السابعة و الذي يبعد مسيرة خمسمائة عام عنها. يحرسه جنود من الملائكة لهم وجوه شتى وأجنحة كثيرة وأنوار عديدة في الجسد. وفوق هذا العالم البعيد هناك غمامة غليظة غلظ عدد السماوات وعدد الأراضي. وفوق كل هذه العوالم العرش الإلهي. فإذا   كان إبليس وجنوده يسكنون في أسفل سافلين في الأرض السابعة فالتراتبية التي تعطيها الأسطورة لموطن الإله هي أعلى عليين فوق كل العوالم. وهذه الفكرة ليست غريبة عن المتخيل الديني للديانات التوحيدية . فالسرد يعلمنا أن السماء السابعة لا تعبر عن حدود العالم العلوي. ففوقها  عوالم أخرى.

1-3-4 سكان السماء

في معرض حديثه عن السماء يسرد الثعلبي الحديث التالي:" إن السماء أطت  وحق لها أن تئط ليس منها موضع أربع أصابع إلا و فيه ملك ساجد أو راكع أو قائم أو قاعد يذكر الله".  فعلاوة على التسبيح و العبادة،  كل سماء على حدة هي عبارة عن  عالم فريد من نوعه.  خلق كثير من الملائكة وأوصاف مختلفة. فرصة أخرى للراوي ليطلق العنان لسرده ويدخلنا عالم السماوات البعيد فنخالنا نراه كما لو كان لوحة قريبة  داخل متحف. تتوحد فيها أجناس مختلفة من الملائكة وألوان عجيبة ويصبح المكشوف ظاهرا والمسكوت عنه ( في القرآن) ناطقا على الشكل التالي:

السماء الأولى: ملائكة خلقوا من النار والريح,
السماء الثانية: ملائكة على ألوان شتى مصطفون بطريقة عجيبة،
السماء الثالثة: ملائكة ذو أجنحة متعددة ووجوه شتى،
السماء الرابعة: ملائكة كثيرة تزداد كل يوم عددا و تسبح،
السماء الخامسة: عدد كبير من الملائكة،
السماء السادسة: الكروبيون، لا يحصى عددهم ( جند الله الأعظم )،
السماء السابعة: جند الله من الملائكة.[1]
فانطلاقا من هذا التصنيف نلاحظ أنّ عنصر المَلَك حاضر داخل عالم السماء بأشكال مختلفة و أدوار ووظائف متعدّدة. وجلّ الروايات تؤكد على العدد الهائل والتسبيح والطاعة. وبذلك يصبح الملك يمثّل النموذج الإيجابي للمؤمن و العابد.

1-3-5 مزينات السماء

    يبلغ عدد هذه المزينات عشرة: الشمس والقمر والكواكب والعرش و الكرسي و اللوح و القلم والبيت المعمور و سدرة المنتهى و الجنة. الأوصاف التي يعطيها الراوي لهذه العناصر تستدعي وحدها العديد من التحاليل. فالألوان المستعملة والمعادن المستغلة في الوصف إضافة إلى الأعداد الضخمة والرمزية، كل هذه الأشياء تضفي عجائبية على سرد الراوي و أسطورته ونجد أنفسنا أمام لوحات جميلة نتطرق لها كالآتي:

1-3-6   العرش الإلهي

 ابتدأ الراوي وصف العرش  كعادته بالآيات  التي تذكره مكملا إياها بالأحاديث  والوحدات السردية التي تكشف للقارئ  العرش الإلهي وتصوره له، تصويراً ارتبط بالشكل و الحجم و المادة و المكونات واصفاً كل مسكوت عنه في القرآن. و من خلال هذه العملية السردية يصبح العرش عبارة عن:
ـ   صورة مُصغرة للخلق،
ـ فيه تمثال جميع ما خلق الله،
ـ ضخم الحجم حتى أن " ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية لخفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام "،
ـ كسوته من النور،
ـ عظيم والأشياء كلها فيه " كحلقة ملقاة في فلاة "،
ـ   وعندما أصابته نزوة مفرطة  طوّقه الله بحيّة ضخمة متعددة الأجنحة والريش والوجوه، فهي ملتوية به.

1-3-7  الكرسي

من بين مزينات السماء هناك الكرسي الذي يظهر من خلال السرد أنه شيء آخر غير العرش. فكلمتا كرسي و عرش ذُكرتا في القرآن بدون شرح و تفصيل مما دفع الراوي إلى ذكر بعض الأحاديث التي تُعرّف الكرسي بالصيغة التالية:
ـ عبارة عن لؤلؤة طويلة لا يعلم طولها أحد،
ـ و هو أمان لأهل الإيمان من شر الشيطان.

1-3-8  اللوح و القلم

ذكر القرآن  القلم واللوح  بدون تفصيل أو تعريف.  وتولّت الرواية الحديثية  إعطاء تعريف ميثولوجي لهذين العنصرين. فاستنادا على رواية مشهورة يرويها ابن عباس   وآخرون نستنتج أن أوّل ما خلق الله القلم فنظر إليه نظرة هيبة وكان طوله كما بين السماء والأرض فانشق نصفين و قال: اكتب فقال: يارب وما أكتب؟ قال: اكتب بسم الله الرحمان الرحيم، ثم قال له اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة.

أما اللوح المحفوظ فمصنوع من درة بيضاء و دفتاه ياقوتة حمراء وكتابته نور و قلمه نور و عرضه مسافة ما بين الأرض و السماء ومهمّته أن الله ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة نظرة منها يخلق و يرزق و يحيي و يميت و يفعل ما يشاء .

1-3-9  البيت المعمور

الأصل السردي لوصف هذا البيت السماوي هو حديث منسوب إلى النبي . يقع هذا البيت، حسب السرد، في السماء الدنيا بحيال الكعبة. فإذا كانت الكعبة هي قبلة المسلمين في الأرض يتّجهون نحوها في صلاتهم و إليها في حجّهم، فإن هذا البيت السماوي هو قبلة العديد من الملائكة. ملائكة مخلوقون بطريقة عجيبة كما يصوّر ذلك المحكي التالي: "إنّ في السماء السابعة بحرا من نور يقال له الحيوان يدخل فيه جبريل عليه السلام كل غداة فينغمس فيه انغماسة ثم يخرج فينتفض انتفاضة فيخرج منه سبعون ألف قطرة من نور فيخلق الله تعالى من كلّ قطرة ملكا فيؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلون فيه فيدخلونه و يصلون فيه ثم يخرجون فلا يعودون إليه إلى يوم القيامة".

 

1-3-10   سدرة المنتهى
استنادا إلى رواية ينسبها الثعلبي إلى كعب الأحبار و رواة آخرين تصبح العبارة القرآنية "سدرة المنتهى"، المذكورة  بدون تفصيل، تدلّ على:
ـ شجرة موجودة في السماء السابعة قرب الجنة، أصلها في الجنة وعروقها تحت الكرسي وأغصانها تحت العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق. كل ورقة منها تظلّ أمة من الأمم، وتغشاها ملائكة كأنهم فراش من ذهب، وتوجد عليها ملائكة لا يحصى عددهم
  وفيها مقام جبريل.

1-3-11  الجنة

بعض أوصاف الجنة مذكورة في القرآن ولكنها تبقى إلى حدّ ما أوصافا محدودة.  والوصف الغنيّ لها نجده في بطون كتب الحديث. ولكن لا يهمنا هنا جلّ تلك السرديات  التي يمكن التطرق إليها في دراسات أخرى. المهم هو أن الثعلبي في معرض ذكره لهذا العنصر الذي يعتبره مزينا للسماء ذكر فقط بعض العبارات التي تتمحور حول عناصر بنائها:

 لبنة من ذهب و لبنة من فضة، و ملاطها مسك أذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران.

1-4-1   الشمس و القمر أو الصراع حول السرد

يحمل عنوان المجلس الثالث  مقررا سرديا يتوخّى منه الراوي التطرق إلى صفة سير الشمس و القمر ابتداء من  بدء أمرهما   إلى معادهما. برنامج يحمل في طياته نفس المنهجية القصصية المتّبعة  لكلّ من الأرض و السماء: ذكر البدء والنهاية.  وبذلك فموضوع الخلق و القيامة حاضران في تصوير هذين الكوكبين.
 لا يعرف هذا المجلس تقسيما على منوال  المجالس السابقة. ويظهر من الحكاية الطويلة التي يسندها الثعلبي  إلى ابن عباس أنها تصحيح لرواية كان يحدث بها كعب الأحبار. فهذا الأخير  زعم أنه يُجاء بالشمس و القمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار
. وعند سماعه لهذا الخبر، يقول السارد، « طارت من ابن عباس شظية ووقعت أخرى غضبا ثم قال كذب كعب الأحبار، قالها ثلاثا بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام «  . فبغض النظر عن الصراع الديني والثقافي الذي تصوره هذه الحكاية، يمكننا القول إجمالا إنّ الراوي يريد أن يضع حكايته الطويلة، و التي يتولى سردها ابن عباس الصحابي المشهور داخل المخيال الديني والمعرفي الإسلامي   كترجمان القرآن عكس كعب الأحبار، داخل خانة الصدق والكذب.  فخضوع كعب الأحبار في آخر القصة   وقناعته برواية ابن عباس و تراجعه عن روايته ليس إلاّ دليلا على الفكرة السالفة.

أما من الناحية الشكلية فنحن أمام خبر طويل   متشابك ومُكثّف  سرديا،  حيث يلتصق  موضوع الخلق بموضوع القيامة. وهن ك أيضا وحدات عجائبية لتفسير مجموعة من الظواهر الطبيعية التي تتعلق بالشمس والقمر والكواكب  كالكسوف  والخسوف  والظلمة والنور والغروب والشروق الخ...

2-1   الحيوان ألعجائبي و القصص الدين

هناك تعاريف عديدة للحيوان العجائبي لا داعي لذكرها كلها مقتصرين على تعريف  صغير  وجامع نقتبسه من ج.لاسكو G..Lascault. يعتبر هذا الأخير  الحيوان العجائبي أو المسخ le monstre  عبارة عن حيوان غريب لم يشاهده خالقه ولكن في نفس الوقت وليد مخيلته  . حيوان يختلف عن الحيوانات الطبيعية الأخرى التي تعرف مسميات وتمثلات واضحة. فهو حيوان غير مألوف  تضيع فيه   جميع الفروق. فهذه الظاهرة تؤدي داخل سرديات الثعلبي دورًا هامًا بقدر ما تملأ فراغًا وتلعب دورًا داخل الحكاية. كيف ذلك؟

 

 2-2  الثور الفردوسي وأسطورة الكون

 يتكلّم  الثعلبي في أسطورة خلق الكون عن حيوان غريب يسمّيه ثور الجنة أو الثور الفردوسي ، أهبطه الله من الجنة للقيام بمهمة استقرار الأرض وتوازنها. ويعطيه الوصف التالي:

 "ثور له سبعون ألف قرن و أربعون ألف قائمة و جعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه.."  ونقرأ في موضع آخر، بالضبط في مجلس أيوب وقصة بلوقيا،المسافر الإسرائيلي الذي سافر بحثا عن الدين الحقيقي ، أنّ هذا الثور يسمى   بهموت  وهو أبيض، رأسه بالمشرق ومؤخّره بالمغرب بين قرنيه مسيرة  ثلاثين  ألف سنة وهو ساجد لربه تعالى على صخرة بيضاء .ولقب بهموت الذي يعطيه الراوي للثور هو نفس اللقب الذي يحمله الحوت العظيم الذي يسمى "لوتيا وكنيته بلهوت و لقبه بهموت" والمكلّف بحمل  الصخرة. فبهموت، دابة باللغة العبرية، حيوان ضخم الحجم مثل فرس النهر،  مذكور في أساطير ومعتقدات أخرى.   

 

2-3 العصفور الخرافي

 في روايته لقصة أصحاب الرس، يتحدث الراوي عن الطائر الأسطوري العنقاء المذكور في حكايات ألف ليلة وليلة وسرديات أخرى. وقد ذكر الثعلبي هذا الطائر من أجل تعيين موقع أصحاب الرس، المذكورون بإيجاز في القرآن و بدون تعيين  لا للمكان ولا للزمان. و يعرّف السرد هذا القوم  كما يلي:

‘"و كان لهم (أي أصحاب الرس) نبي يقال له حنظلة بن صفوان وكان بأرضهم جبل يقال له فتج مصعدا في السماء ميلا وكانت العنقاء تبيت به وهي أعظم ما يكون من الطير  وفيها من كل لون. وسموها العنقاء لطول عنقها وكانت في ذلك الجبل تنقض على الطير فتأكله فجاعت ذات يوم وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به فسميت عنقاء مغرب لأنها تغرب بما تأخذه(...) فشكوا ذلك إلى نبيهم فقال اللهم خذها واقطع نسلها وسلّط عليها آية تذهب بها فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم يرى لها أثر بعد ذلك فضرب بها العرب مثلا في أشعارها وحكمها."

وظيفة هذا  الحيوان الغريب  هي تعيين قوم الرس كما ذكرنا . فلا نلتقي به في مواضع أخرى من السرد. و يبقى عنصر الغريب هو القاسم المشترك الذي يجمع القوم والطائر، حيث يملك هذا الطائر أوصافًا تجعلنا نضعه في خانة العجيب. فهو طويل العنق ومتعدّد الألوان ويتغدى بالطيور  وأحيانا بالصبيان.

وفي معرض حديثه عن العنقاء ، يقرر الداميري، صاحب كتاب الحيوانات الكبرى،  أن  "العنقاء" كلمة لا تدل على معنى.  و المراد  أنه لا  مدلول لها. تنتمي إلى عالم عجائبي. لكن الداميري يروي في نفس المكان بعض الروايات السالفة المتعلقة بها والتي أضفت عليها أوصافا غريبة.

وفي أمكنة أخرى من سردياته يورد الثعلبي  كلاماً عن طيور عجيبة كما هو الحال في قصة بلوقيا. ففي مغامراته الشيقة والغريبة التقى بلوقيا بحيوانات عجيبة نذكر من بينها  الطائر الموسوم بطائر الجنة أو الطائر الفردوسي، الموصوف كالتالي:

".. و مضى (بلوقيا) حتى انتهى إلى جزيرة فإذا هو بشجرة عظيمة عليها  طائر واقف رأسه من ذهب عيناه من ياقوت ومنقاره من لؤلؤ ويداه من زعفران وقوائمه من زمرد. وإذا مائدة موضوعة تحت الشجرة وعليها طعام وحوت مشوي فسلم عليه بلوقيا فرد الطائر عليه السلام فقال له بلوقيا من أنت أيها الطائر؟ قال أنا من طيور الجنة ."

حديث بلوقيا،  كما يقول الراوي، مليء بالعجائب والأخبار الغريبة. فالعصفور الفردوسي ينتمي إلى عالم لم تره العين: عالم الجنة. طائر  مكون من الذهب والياقوت واللؤلؤ والزعفران والزمرد إضافة إلى عنصر الكلام. وصف مركب ومتداخل. ومن خلال  هذا التركيب تصنع العجائبية التي تبتعد عن عالم الطبيعة  والمشاهدة وتقترب من عالم الحلم، برونقها وبعدها الجمالي اللذان يشدان القارئ والمستمع.

 2-4 التنين أو حية العرش

 التنين حاضر داخل متخيل  مجموعة من السرديات والميثولوجيات والمعتقدات القديمة.  تمثلات عجائبية لهذا الحيوان الذي يملك الأ جنحة المتعددة   والقوائم الكثيرة  واللهيب  الذي يخرج من فمه.  لكن إذا كان التنين  يرمز بصفة عامة داخل المعتقدات القديمة إلى الشر والأهواء الشيطانية فإنه في المكان الذي يضعه سرد الثعلبي يصبح من المخلوقات الإلهية  وفي خدمة الخير ورمزًا للطاعة كما يصوره النص التالي:

"...لما خلق الله تعالى العرش قال: لم يخلق الله تعالى شيئا أعظم مني فاهتز فطوقه الله بحية لها سبعون ألف جناح في كل جناح سبعون ألف ريشة في كل ريشة سبعون ألف وجه وفي كل وجه سبعون ألف فم وفي كل فم سبعون ألف لسان يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر وورق الشجر وعدد الحصى والثرى وعدد أيام الدنيا والملائكة أجمع ، فالتفت الحية بالعرش فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية به" .

تصوير غريب لحية  تشبه التنين. لكن هذا الحيوان الغريب، كما يركز عليه السرد،  لا يخرج عن إرادة الله فهو في خدمته وتحت طاعته. ومهمة الحية هي تطويق العرش الإلهي الذي أصابته لحظة غرور وأكلت دماغه العظمة. فعلى نقيض أوصاف التنين، يكرر السرد فكرة التسبيح من خلال مجموعة من التشبيهات التي تؤكد على مبدأ الطاعة السالف الذكر. فالحيوان،هنا، في خدمة الدرس الديني، يمثله ويصوره أحسن تصوير.وهذه صفة قارة من صفات استعماله في سرديات الثعلبي.

 2-5  عجائبية العدد

ليست  الأرقام المستعملة بطريقة مُكررة لوصف بعض الحيوانات التي وصفها الثعلبي  مغالاة بقدر ما هي تدخل في رمزية عددية لا تشير إلى عدد معين. فتعددية أعضاء عقارب أهل النار أو حيات أهل النار ترمز للتمام والكمال الذي يوهم به العدد. وبذلك يصبح الشيء الموصوف، هنا الحيات والعقارب مثلاً، موضوعًا  في خانة التهويل والتخويف. فالعدد يرسم كائنات عجيبة وغريبة مكونة من عناصر إنسانية وحيوانية تضيف لها  هيبة، كما سنتحدث عنه لاحقاً.

يظهر أن وظيفة  العدد هي التطرق  إلى عالم الغيب بطريقة تقريبية. فالمظهر الرمزي أضحى لاصقا بالاستعمالات العددية التي يكررها الراوي في مواضع شتى، وذلك في عالم -مجهول - حيث تصبح فيه الأرقام غير قادرة  على وصفه. فالعدد في هذا السياق لا يشير إلى رقم مضبوط ومعين بقدر ما يندرج في عملية المقاربة. ولفهم هذا المنطق لابد من تقمص شخصية السامع في القرون الوسطى لنوع هذا القصص العجائبي الذي يوصل الدرس الديني والعبرة بطريقة سردية. 

 فعلى غرار عناصر أخرى ناتجة عن قانون رمزي يضع داخله الراوي سرده  ومشاهده، نعلم أن الرقم، خلال تطوره وصيرورته، ألبسته المجتمعات القديمة لباسا رمزيا يختلف من ثقافة لأخرى. فالأرقام كسبعة ومشتقاتها وخمسة وألف الخ ،كما تشير إلى ذلك كتب قواميس الرموز، لها تأويلاتها ودلالاتها الخاصة حسب الثقافات و المعتقدات.

2-6  العدد والتهويل 

إنّ العدد، كما ذكرناه، مكون  من مكونات الغريب والعجيب وأحد العناصر التي تطبع وتثير انتباه القارئ أو المستمع. عدد يتغير  لكنه يبقى وفيا لنفس المعيار كما هو الحال في الوصف التالي لحياة أهل النار الموجودة في  الأرض الخامسة:
حيات..أمثال الأودية لكل حية منها ثمانية عشر ألف ناب كل ناب منها كالنخلة الطويلة في أصل كل ناب ثمانية عشر ألف قلة من السم ..
  

تصوير إضافي لنفس الحياة نجده في قصة بلوقيا التي يمكن اعتبار بعض مقاطعها عبارة عن تصوير لعالم جهنم، يقول الراوي:

"قال لهن بلوقيا أيتها الحيات من أنتن فقلن نحن من حيات جهنم ونحن نعذب الكفار فيها يوم القيامةقالت جهنم أيتها الحيات هل في جهنم مثلكن أو أكبر منكن فقلن إن في جهنم حياة تدخل إحدانا في أنف إحداهن وتخرج من فيها ولا تشعر بها لعظمها."  

صور رهيبة يلعب فيها الجانب الدرامي دورًا هامًا من أجل إخراج العبرة إخراجًا مرعبا.

2-7  اللون ورسم السرد

في سرديات الثعلبي تعوض الكلمة الريشة  في رسم لوحات غاية في الجمال وغاية في الرعب حسب الموضوع  والعنصر الموصوف . و تعدد الألوان وحده يطبع   ويبرر شهرة  مخلوق سواء أكان  حيوانا أو شيئا آخر. فاللون نظام رمزي وخطاب مركب عن طريق الألوان. فهو مقياس من مقاييس الجمال. وهذا لمسناه من خلال أوصاف الثعلبي للحيوانات أو عناصر أخرى. فيصبح اللون، أحيانًا، خطابًا أو لغة تتحدث عن عظمة الإله ومخلوقاته.

فالقاص الذي يختفي وراء هذه الأوصاف المزركشة يقرب، بواسطة هذه العملية، خطاب المقدس  لمستمع يهوى هذا النوع من الوصف والسرد الملوّن.  ومن هذه الزاوية يلتقي كل من العبرة والجمال في الدرس الديني.

 2-8 المعادن والأحجار الكريمة

 يضع الراوي المعدن في صلب سردياته. فهناك صعود  عن طريق التدرج والارتقاء من معدن إلى ما فوقه وقعا  وشرفا ونقاهة وقيمة . فهناك الحديد والنحاس  والفضة البيضاء فالذهب فالياقوت الأحمر فالدرّة (لون النور) البيضاء، مرورا من الحديد المصقول إلى بياض الفضة فاصفرار الذهب فلألأة  الياقوت فبياض الدرة. معادن ممزوجة في وصف حيوانات غريبة كعصفور الجنة السالف الذكر. و ينجم عن التفاضل والتمايز بين الأحجار الكريمة والألوان  مقياس  وصفي وتراتبية تبناها الراوي. فهذا  التصنيف لا محالة له مرجعية ثقافية ورمزية كانت معهودة في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط والتي أمدّت مخيلة القاص، ومعه كل مبتدعي هذه الحكايات والأخبار العجيبة، بالمادة السردية والوحدات الأخبارية الغنية.

2-9 الحيوان والكلام

خاصية قديمة وحاضرة في مجموعة من النصوص والسرديات الثقافية، وخير دليل هو عالمية القصص   والحكايات التي تستعمل لسان الحيوانات وتلقنها خطابًا دينيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا وغير ذلك.
ففي قصة بلوقيا، السالفة، يتكلم هذا الأخير مع طائر الجنة بلغة بشرية وبالتحديد بالعربية. ونحن نعرف جليا أن الكلام هو من خاصيات البشر والمنطق من مميزات الإنسان.  فبإضفاء  الكلام على هذا الطائر  يضعه السرد  في صف الحيوان الغريب والغير العادي. و بذلك  يظهر عنصر الافتتان الحاضر  باستمرار كذلك  في العناصر الأخرى. 

الخاتمة

  نستخلص مما ذُكر أنّ  أسطورة خلق الكون  الثعلبية لم تترك شيئا لم تفسره ولم تخرجه من غيابات الغموض وتضعه على قارعة طريق الرواية المكشوفة . فالراوي يبحث دوما عن الأخبار القديمة والحكايات لإثراء سرده ورسم لوحة كاملة لأسطورته . يلاحظ القارئ توظيفا لخطاب القاص لدى الثعلبي. فالقاص أصبح فاعلا داخل الحقل الديني, وعارفا الأساليب والخطط من أجل وضع أسطورته داخل الإطار الديني الإسلامي مستعملاً النصوص المقدسة من أجل إعطاء المصداقية لأخباره وحكاياته المُتخيلة أحيانًا. فليس غريبا أن نجد ه يعرف نقدا لاذعا في القرن الخامس الهجري ببغداد من طرف أبي الفرج ابن الجوزي  وذلك في زمان أصبح فيه خطاب القاص مؤثرًا على طبقة كبرى من المجتمع. ومن ثم كان لابد من  عزل هذا الخطاب ونقده.

 فقد حاول الراوي الجمع بين النص المقدس والأسطورة على غرار القصاص. واختار الشرح والتأويل والتفسير، كعملية لإقحام الغريب والعجيب. مما أتاح له إعادة النتاج متوسلاً في ذلك إلى تأويل الآيات القرآنية التي تمس مسألة الخلق  داخل سرد   تصبح فيه الآية عبارة عن النواة التي يتمحور حولها الخطاب الأسطوري.

 والملاحظ أنّ الحصة الكبيرة التي تكوّن أسطورة الكون الثعلبية تنتمي إلى الحديث، حيث جُمعت الأخبار المنسوبة إلى الرسول و الرواة المشهورين. فإذا كانت نواة الأسطورة قرآنية فتفاصيلها و مقاطعها الحافة  تنتمي إلى  العالم السردي الحديثي بما يملكه من عجائبية و تدقيق في الجزئيات  والتفاصيل. فعن طريق الرواية الحديثية أخرج القاص سردا غالبه مواضيع  غيبية.

    فخبرة الراوي بالتفسير والوعظ ظاهرة في طريقة حكيه وبحثه عن العناصر السردية لأسطورته. فهناك قائمة طويلة لأسماء المفسرين  والرواة القدامى يسند إليها الأخبار والمرويات العجيبة .

     أسطورة الثعلبي عبارة عن فسيفساء مرتبة من  سرد  مُتنوّع ولكنه يصبّ في بحر واحد :هو إعطاء السامع والقارئ الحكي المنتظر. ففعل "روى" ومشتقاته وفعل "قال" عرفا استعمالا كثيرا داخل أسطورة الخلق بصفة خاصة وكتاب العرائس بصفة عامة .

فهندسة الخطاب الأسطوري  لم تهمش الشعر الذي له صلة بالموضوع. تنتمي كتابة الثعلبي إلى الجنس الأدبي من حيث  مزجها النثر والشعر، على غرار ما نجده في النصوص  الأدبية داخل الثقافة الإسلامية  الكلاسيكية في شتى المجالات والتي تبحث دائما في الشعر عن مورد للاستشهاد.

فمع أسطورة خلق الكون يمكن القول إنّنا أمام مرحلة من مراحل تطور و تشعب الكتابة الأسطورية. فيصعب الحصول بعد الثعلبي على نص أسطوري يتطرق لنفس الموضوع بهذه السعة والإحاطة والتنسيق. فقصة خلق الكون يعتبرها الراوي لبنة أولى لتشييد صرح بناء سردي يتمحور بالأساس حول قصص الأنبياء وحكايتهم. فهدف الراوي هو إقحام سامعه أو قارئه داخل الدرس الديني  والوعظي الذي تتحدث عنه قصص الأنبياء بطريقة واضحة وترمز له أسطورة الكون بشتى الصور والإيحاءات. فجل اللوحات الشيقة والجميلة التي صورها  تعبر عن عظمة الخالق وقدرته. وبذلك تصبح أسطورة الثعلبي، على عكس بعض الأساطير الشرقية القديمة، نموذج إيجابي يحمل فكرة واضحة عن  نظام الكون وخالقه الذي يملك زمام  كل شيء.

 أمافيما يتعلّق بالحيوان العجائبي    فالأمثلة القليلة التي تعاملنا معها أظهرت لنا إلى أي حد أعطى الراوي الحرية لمخيلته  وقلمه  لوصف عناصر حيوانية ندرجها بسهولة في عالم المسخ ومكوناته. فوراء هذه المشاهد الشيقة أحيانا والمخيفة والمروعة أحيانا أخرى نجد القاص  الذي أدرج هذا النوع  من الحيوان  في تركيبة أسطورة خلق الكون والسرديات الأخرى المنظمة في كتاب العرائس  . فالثور الفردوسي والحوت العظيم والعقارب الضخمة والحيات المتعددة الأجنحة والأوصاف تؤكد جميعها هذا الحضور. وفي هذا السياق الوصفي يضع الخيال فصلا بينه وبين الطبيعة. فالحيوان العجائبي، حسب ج. لاسكو، يحمل مغايرة واختلافا مع النظرة التي نملكها عادة  عن الحيوان الطبيعي . فهو، كما عايناه من خلال بعض الأمثلة، موزع بين عالم المحال وعالم الخيال. ومن تمّ  يشكل عالما مضادا. وهذا التضاد هو الذي يؤثر على مخيلة القارئ أو المستمع.

لا يستدعي النص السردي صور الحيوان الخرافي من أجل تزيين القصة  وإعطائها طابع الغرابة  وإنما يوظفها. فهي برغم غرابتها  ترمز إلى قدرة وحكمة الله في مخلوقاته. فكما لاحظناه هناك فعلا حضور لعظمة الخالق   والدرس   الديني الذي يبسطه الراوي ويشير إليه عن طريق حوار الحيوانات مع الإنسان والتركيز على التسبيح والخضوع التام للإله.

 نضيف كذلك أن هذه الحيوانات الغريبة لها وجود  في  كتب الأدب  والجغرافيا والرحلات  و العجائب،  وهيخاضعة لتركيبات عنصرية غريبة ناتجة عن مفارقات ناجمة  عن مرويات شفاهية قديمة ساهمت في  استلهامها و اقتباسها وأحيانا ف يتكوينها  وتصنيفها. فهذا اللعب بالعناصر والأعضاء في تكوين الحيوان العجائبي، الموجود في ثقافات متعددة، يدخله  الراوي في سياق المنظومة الدينية. فالحيوان الغريب  يدخل في عداد مخلوقات الله التي لا تعرف حدّا ولا نهاية كما يؤكد على ذلك القرآن : "ويخلق ما لا تعلمون" !

 

عبد الباسط مرداس  باحث وجامعي مقيم بفرنسا