الاستبداد.. درس الكواكبي المتجدد - حسن إدحم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

رغم مرور ما يزيد عن قرن من الزمن على صدور كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" للكواكبي أحد رموز النهضة في المشرق العربي، إلا أن هذا المؤلف لازال مدخلا مهما لفهم الاستبداد وأبعاده المختلفة، وكذا تقاطعاته مع العديد من القضايا الأخرى التي يستغلها المستبد لترسيخ استبداده وحكمه الجائر، كما أن الذي يطلع على هذا العمل، سيدرك منذ الصفحة الأولى أنه أمام مفكر نهضوي فهم الداء الذي ينخر الدولة والمجتمع في المشرق.
  انخرط الكواكبي في نفس الهم الذي شغل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده...، وهو محاولة الإجابة على أسباب تخلف الذات وتقدم الأخر الغربي بالخصوص. هذه الاشكالية الخالدة قاربها "الكواكبي" من وجهة نظر واقعية جدا تتمثل في النظام السياسي الغير ديمقراطي الذي يكرس التخلف. قد لا يكون هذا الطرح بالشيء الجديد، فقبله "ابن خلدون" تطرق للأمر حينما تحدث في مقدمته على ضرورة رفق السلطان برعيته، ولكن تكمن جدة موقف الكواكبي في تقديمه لأهم مرتكزات الاستبداد التي يقتات عليها الحكم الشمولي، هكذا إذن يفضح صاحب " طبائع الاستبداد" علاقة الاستبداد بالدين والمال وكذا المجد، مبينا كيف ينعكس ذلك كله على تربية وأخلاق الشعب الذي يعاني تحت نير الاستبداد الذي يحول دونه والتطور أو "الترقي" بلغة الكواكبي.

     دون تفكير كبير سيدرك القارئ أن الدين والمال...لايزالان أهم الأسس التي تقوي وتعضد حكم كل متسلط في مجتمعاتنا المعاصرة. فماذا يقصد الكواكبي بالاستبداد؟ ماهي أهم تقاطعاته مع الدين والمال؟ كيف يؤثر الاستبداد كبنية مركبة في تربية وأخلاق الشعب؟ وإلى أي حد يمكن اعتباره عائقا أمام التنمية والتطور؟
في معنى الاستبداد:
    الاستبداد عند الكواكبي هو الداء الخطير الذي يحد من تطور أمة ما ويكرس تخلفها، ويقترح علينا كلمات عديدة يمكن أن نستبدل بها كلمة استبداد، كاستعباد، اعتساف، تسلط، وتحكم. قد لا يهم تنوع الكلمات بقدر ما يهم معناها الواحد الذي يعني إطلاق عنان حكومة ما أو فرد مطلق في تسيير شؤون الشعب دون أدنى رقابة. وأشد أنواع هذا الاستبداد حسب الكواكبي هو حكومة الفرد المطلق الحائز على سلطة دينية. قد لا تهم أسماء الحكومات فهي يمكن أن تكون كلها مستبدة إلا في الحالة التي تكون فيها مراقبة، بمعنى أنها تحاسب حسابا لا تسامح فيه.
    الاستبداد إذن هو الذي يخرب العمران، ما ينفك الكواكبي ينعته بكل عبارات التخلف والتعطل...وحسبنا أن نذكر عبارته القوية هذه التي يختم بها الفصل الأول من كتابه " ما أليق بالأسير في أرض أن يتحول عنها إلى حيث يملك حريته، فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط"  
في علاقة الاستبداد بالدين والمال:
      سبق وأن أشرنا إلى المستبد الحائز على سلطة دينية، وهنا نذرك أن المعنى هو جعله للدين وسيلة لتبرير حكمه وجعله أمرا واقعا وشرعيا. يتطرق الكواكبي لهذه المسألة مبينا أن الدين عبر التاريخ كانت له علاقة وطيدة بالاستبداد السياسي. يقر أيضا بأن حتى في الحضارة الاسلامية دائما ما استعملت الدولة والحكام بالخصوص الدين من أجل توطيد حكمهم، رغم كون الإسلام بالأساس خطاب رفق، وعدل وحرية، إلا أنه لم يسلم من استعماله كأداة إيديولوجية و سياسية.
     الدين يحتاجه المستبد كخطاب تبرري قصد الهيمنة والتحكم، ولكن هذا وحده لا يكفي فلابد من القوة المادية التي تتمثل بالأساس في المال، فالمال في عهدة الحكومة المستبدة حفظه أصعب من كسبه، لسبب بسيط وهو أن المستبد يمكن أن يسلب أملاك الناس سواء بمبرر أو بدونه، غير أن المتسلط عموما يعتمد على الأغنياء ويجود عليهم بالامتيازات لكونهم أعمدة حكمه، لكنه حسب الكواكبي يخاف الفقراء " خوف النعجة من الذئاب" ويتقرب إليهم ببعض الأعمال البسيطة، غير أنهم هم أيضا يخافونه حتى أنهم لا يجرؤن على معارضته والتفكير ضده.
في علاقة الاستبداد بالعلم والتربية والأخلاق:
     يقيم الكواكبي تعارضا واضحا بين العلم والاستبداد، فهما شيآن لا يلتقيان أو قل هما ضدان، فالعلم وصاحبه يزعج المستبد، لأن العلم بطبعه مرتبط بالإبداع والخلق، وهذا لا يكون دون حرية، غير أن العلوم كلها لا تزعج المستبد، فمثلا علوم اللغة وكذا العلوم الدينية لا تقض مضجع المستبد كونها لا تشكل خطرا على حكمه، فما ترتعد له فرائص المتسلط "هي علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية" ، العلوم العقلية، وما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية هي التي يخشاها المتسلطون، لكونها تفتح عيون الناس على عيوب وأمراض الاستبداد.
     إن الاستبداد حينما يستبعد العلم يكون للأمر عواقب وخيمة على تربية وأخلاق الشعب، فأخلاق الأمة تصير بديئة، حيث تنتشر الخيانة والكذب والجبن، وتقل قيم المروءة والاقدام، وتسوء علاقات الناس ببعضهم بالمجمل، فالعدالة والحرية تحث الناس على العمل والجد...وكلها قيم تربوية يتشربها الناس بشكل طبيعي وحر دون قهر أو ترهيب، وبالقياس تتراجع هذه القيم التربوية حينما يسود الاستبداد.
خلاصة:
       "والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل"  يكفي هذا الاقتباس من كتاب الكواكبي لكي ندرك أن الاستبداد هو أكبر عائق أمام التطور والتنمية والترقي، فلا يمكن تصور أمة متطورة وتساير روح العصر دون سيادة الحرية والعدالة. الكواكبي لم يكتفي بتحليل هذه الظاهرة وحسب، وإنما أضاف فصلا أخيرا يشير فيه إلى بعض سبل التخلص من الاستبداد ومواجهته، ومنها أن مواجهة الاستبداد لا تتم بالعنف، بل باللين والتدرج، وتهيئة بديل يحل محله، وهذا كله لن يحصل دون انتشار الحكمة والعلم في المجتمع رغم الجهد الذي يبذله الطاغية لمحاربة العلم والفكر النقدي.
      هكذا نرى أن درس "طبائع الاستبداد" راهني لا يموت مادام حال الشرق هو نفسه كما تركه الكواكبي، لازال يعاني تحت وطأة الاستبداد وربما أصبح في حال أسوأ مع استغلال المستبدين لوسائل أخرى أكثر تطورا، كالإعلام قصد تشديد القبضة على الشعوب. هذا كما يتبين لنا أن جلد الذات وتحميل الأفراد وبعض المؤسسات التربوية لوحدهم مسؤولية التدني الأخلاقي والتربوي أمر وجب أن نعيد فيه النظر، فالاستبداد من المفروض أن ننظر إليه كعامل رئيس أدى بشكل مباشر إلى تخلف مجتمعاتنا. هذا هو درس الكواكبي الذي يبقى حيا دوما.