الذاكرة التاريخية و"عام زيت الطيّارة..."! - محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

الأعوامُ أسلوب تستعمله الثقافة الشفوية لتحديد الزمن، بواسطة أحداثٍ بَصَمَت الذاكرة الجماعية“
(السبتي عبد الأحد، من عام الفيل إلى عام الماريكان، منشورات المتوسط،2022،ص.492.)
ما كان أحد من جمهور قراء الرواية المغربية أن يتنبأ باسترجاع الروائي عبد المجيد سباطة سنة 2020 لواقعة مغمورة في الماضي القريب، ليشيد نصا حكائيا يروي بلغة الأدب فاجعة الزيوت المسمومة.
صدرت الرواية موسومة بعنوان ملفات التحقيق "الملف42"!.
وبعد أن صارت قضية تلوكها الألسن، وتتداولها منابر هنا وهناك، اكتشف عموم المغاربة موضوع الزيوت المسمومة، وجاء تارة في مقالات صحفية، أو قدمته قنوات تلفزيونية خاصة، وكثيرا ما تسابق هواة صحافة الإثارة لنشر فيديوهات لا تتجاوز حدود التجميع العشوائي لروايات أشخاص كانوا في زمن الواقعة، وفي أحسن الحالات نقل شهادات شفوية مؤلمة على لسان مجموعة من ضحايا الزيوت المسمومة، تتراوح ما بين وصف المعاناة الفردية للناجين من بين أولئك الضحايا، أو الجماعية أحيانا لأسر وعائلات لا تدري من يتكفل من بين أفرادها بالآخرين بعدما تقاسموا ذات يوم نفس الوجبة والطعام في البيت أو خارجه...
لماذا تمر كتابات الماضي القريب بمحاذاة الواقعة، بينما أفرطت في البحث في موضوعات تأسيس دولة ما بعد الحماية، وقدمت إنتاجا تاريخيا، وسوسيولوجيا، وثقافيا، وإثنولوجيا، وسياسيا غنيا حول ملابسات الصراع السياسي وتقاطباته، وتجاذبات القوى داخله باختلاف مواقعها وأدوارها؟.

هل يتعلق الأمر بحساسية الموضوع، خاصة وأنه كان ضمن الملفات التي نظرت فيها هيأة الإنصاف والمصالحة، وقبلها جهاز القضاء؟ أم لصعوبة وصول المؤرخ إلى أرشيف وثائقي وشواهد يطمئن إليها؟ أم لارتباطات معقدة بين تناول وجبة بزيوت مسمومة في حي هامشي أو داخل محل لإعداد الإسفنج وبين سياقات وطنية داخل دولة حديثة تتلمّس طريق ما بعد الاستقلال، وأخرى جهوية، أو دولية، في عز مرحلة التقاطب العالمي؟ أم كل ذلك، وغيره....مما هو غير معلوم عندنا.
لقد فتحت لحظة النقاش العمومي، وبإرادة معلنة للدولة، نهاية التسعينات ثغرة للنبش في صفحات التاريخ القريب، والتأسيس لدرس النظر في مرآة الماضي كما حدث، حتى لا يتكرر ما جرى...
ومن استرجاع الذاكرة الفردية والجماعية، انتقل الطموح إلى رحاب الجامعة ومؤسسات البحث والدراسات لمساءلة تلك الذاكرة بأدوات علمية ومعرفية-نظرية وأكاديمية، زاد منه ما ظهر من مساحات في حربة التعبير، وتقليص دوائر، ومجالات المحظور في البحوث التاريخية، وقد كان ذلك تحديا حقيقيا....

ابتهج مجتمع التاريخ، ومعه باقي المعارف المجاورة، لما بدأ الإعلان عن تأسيس وحدات بحث في التاريخ الراهن (سيرا على خطى المدرسة التاريخية الفرنسية) غير أن تلك الوحدات لم ترتق إلى مستوى المأسسة، وهو ما عبر عنه مؤرخ مغربي في درس افتتاحي له (السبتي،نونبر2022) حينما أشار إلى أن ماستر التاريخ الراهن "ذابَ من الناحية المؤسساتية" وإذا ما استمرت بعض الأعمال والأطروحات حول التاريخ الراهن فقد كان ذلك "دون قاعدة مؤسساتية، وعمليا هناك فشل في مأسسة البحث التاريخي في هذا المجال" .
بالتالي، فالأمر مفهوم بخصوص ندرة ما يمكن للباحث المتخصص العثور عليه بخصوص قضية الزيوت المسمومة، ولا يمكن بأي حال الاطمئنان إلى ما يروج في وسائل الإعلام العامة والتي يعتبر التاريخ وأدواته، والحقيقة التاريخية آخر اهتماماتها وإن ادعت غير ذلك.
بدأت الحكاية،كما جاء في القصاصات الإخبارية للصحف حينها، ومعها كان الحدث الذي لا نجد حوله في التأليف التاريخي الحديث إلاّ عناوين محدودة جدا، مع خريف 1959،عندما انتشر خبر إيداع عشرات المرضى، وعلى حين غرّة، بالمستشفى الإقليمي بمكناس، ثم انتقل من مجرد خبر بسيط أذاعته الصحف حينها، إلى موضوع أصاب العام والخاص بحالة ذعر بعد إذاعة بلاغ لوزارة الصحة على أمواج الراديو وشاشات التلفزة، يعلن ظهور "حالات تسمم غذائي"...،هو ما نعتته الصحف المغربيةب"بليّة وطنية بسبب الزيوت الرديئة" وصارت حديث الناس، والمسؤولين بالمدن كما بالقرى، ودخلت المنظمة العالمية للصحة على الخط بتنسيق مع وزارة الصحة.
لم تتوقف أخبار استقبال الحالات التي تعرضت للتسمم الغذائي في الفترة ما بين أكتوبر1959 ونونبر1959،وارتفع عدد الإصابات إلى حوالي عشرة آلاف شخص، حيث سجلت مصالح الصحة والداخلية عددا منها في مدن مكناس، وسيدي قاسم، والخميسات، وبعدها ظهرت حالات بعيدة عن البؤر الأولى للتسمم الغذائي، على محاور تمتد من مكناس إلى تطوان ونحو مراكش وإن بأعداد محدودة .
وكما عادة الشعوب في وصف ما تتعرض لها مكتفية بثقافتها الشعبية وبدرجات الوعي لديها، أطلق المغاربة على المرض اسم "مرض بُورْكّابْ" لأن أحد أعراضه الشائعة هي إصابة الأطراف السفلية، والعجز عن الحركة أو المشي الطبيعي.
كشفت التحقيقات الرسمية لمصالح وزارة الصحة، بعد توصلها لفك اللغز المفاجئ، عن أسباب "بُوركّابْ" الذي يصيب بالضرر الجهاز العصبي، ويسبب شلل الأطراف العلوية والسفلية، وقد ينتهي بالوفاة: استهلاك زيوت غذائية كانت تباع في الأسواق المحلية بالتقسيط تحت اسم "زيت لاروي" ويعرفها عموم الأهالي في الأحياء الشعبية ب"زيت الغزال"(لأنها تحمل صورة غزالةcerf) أو "زيت الهلال).
وأكدت التحقيقات بأن الأمر يتعلق بزيوت ذات تصنيع محلي تباع بالتقسيط وقد تم مزجها بمادة زيتية غير طبيعية تستعمل في تنظيف وتشحيم محركات الطائرات!.
تركت تداعيات الظروف العامة التي تمر منها البلاد سنة 1959 آثارها على الموضوع، فالبنيات الصحية ومراكز التطبيب محدودة التغطية والانتشار، ونسب أمية الكبار كما الصغار مرتفعة جدا وقتها، والفقر كان "ضيفا كثير الحضور!" خاصة بالأحياء الشعبية وفي البادية، والحكومة الرابعة في مغرب الاستقلال تصارع على أكثر من جبهة (حكومة عبد الله إبراهيم) وبالأمس القريب كانت أحداث توتر كبيرة "تافيلالت 1957" وتمرد "عدّي أوبيهي"ثم محاكمته (يناير1959) والريف(ماي1958)...صورةٌ، ووضع عام استفادت منه أيضا شبكة من التجار والوسطاء للإفلات من المراقبة، وعمدت إلى توسيع مجال تسويق الزيوت المسمومة ونقاط بيعها بالتقسيط (ما يفسر البؤر بالأحياء الشعبية والفقيرة.
بعد أن تحول المرض من مجرد خبر، إلى قضية رأي عام، تحركت مساطر التحقيق والمتابعة ثم المحاكمة، حيث كان تأسيس جمعية للدفاع عن ضحايا الزيوت سنة 1960،وخلال شهر أبريل من نفس السنة انطلقت بمكناس محاكمة المتهمين في القضية وعددهم 24 (صدرت الأحكام وكانت ما بين الحكم بالإعدام في حق 05 والمؤبد03 ثم البراءة 13،أما مسألة الاستفادة من العفو فإن تضارب الروايات حولها يمنع الجزم بحيثياتها) كما صدر الظهير الملكي القاضي بإحداث حق تعويض لفائدة الضحايا، ومعه ظهرت مجموعة طوابع بريدية عائدات بيعها تؤول إلى دعم الضحايا، فضلا عما خصصته وزارة الصحة من مبالغ للتكفل بالضحايا في مختلف المراكز والمؤسسات الاستشفائية التي تستقبلهم، إلى جانب المساعدات الدولية.
وفي سياق مرحلة المصالحة وطي صفحة الماضي، توصلت هيأة الإنصاف بمراسلة من الجمعية للتذكير بحقوق الضحايا وتعويضاتهم، هو ما توجه قرار صرف التعويضات الشهرية(حوالي1000درهم) لمن بقي على قيد الحياة من ضحايا الزيوت المسمومة.
ملابسات القضية، ولأنها ما تزال موضوع تجاذب، وملفاتها في الأرشيف، يصعب الإحاطة بها.
في المتن التاريخي المدوّن، وبعيدا عن الروايات الشفوية، تحضر القضية تحت عنوان "قضية الزيوت المسمومة"، وكانت واحدة من بين الفرضيات التفسيرية هي حصول بعض التجار المغاربة على كميات من زيت محركات الطائرات عبر وسطاء لهم علاقة بالقواعد الأمريكية: القواعد تسعى للتخلص من حمولاتها وسلعها بعد أن رفع المغرب مطالبه باستعجالية الجلاء الفعلي للقوات الأمريكية من تلك القواعد على أرضه( تعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية بعد إنزال أنفا 1942)،والتجار مع وسطائهم يسعون إلى رفع الكميات المعبأة من الزيوت ومنها زيادة التسويق وتحصيل الأرباح!.
وبقدر ما اشتهر في تاريخنا المعاصر ما عرف ب"عام البون" بقدر ما كان الأمر يقف عند حدود مسألة تدبير ندرة الغذاء والقوت اليومي في ظروف الحرب العالمية (نظام التقنين بعد إصدار دولة الحماية قرار يونيو 1940)وقليلا ما قد نجد إشارات تاريخية إلى تلك الحركة التجارية السرية التي نشأت في محيط القواعد الأمريكية، ومعها كان انتعاش تجارة بيع المواد والسلع المستعملة (الخوردة ):
"كان نزول الأمريكان لعدة سنوات معسكرات قارّة....ورمت تجمّعاتهم بنفاياتها على مقربة.. وعلى مساحات شاسعة، كوّنت مزبلة ضخمة، تختلط فيها سوائل الزيوت المحروقة بالخرق البالية وعلب الصفيح، والورق، وأعقاب السجائر، وقطع الغيار الفاسدة،...ونالت المزبلة شهرة فائقة، وأصبحت بذلك مقصِد طائفة من خلائق.. تنبش بين النفايات باحثة عن كل شيء يمكن ان يصلح، أو تجعله يصلح....سرعان ما اشتهرت في عدة نقط ..مراكز لرجال يشترون كل شيء أيّاً كان....أما خطة التصريف، فكانت تقضي بأن يتحمّل الزبون جزءا من أخطارها" (مبارك ربيع،الريح الشتوية،1996).
خلال القرن العشرين، وفي بلدان أخرى قد تنتمي للمركز أو المحيط، انفجرت ملفات "الصحة العامة" فكانت تأتي أخبارها بعناوين "حقن رضع بدم ملوث بفيروس داء فقدان المناعة"(أوربا) أو "حليب الرضع الملوث"(الصين) أو "الزيت الغذائي المسموم"(إسبانيا)....وقبل سنتين من أيامنا انتشر الهلع الجماعي عالميا بسبب فيروس قالت الحكايات الأولى عنه أنه ظهر في سوق شعبي آهل بالسكان، فكان أن عادت ذاكرة الثقافة الشعبية وتقاليدها الطبية التقليدية لتزاحم عبر أحدث وسائل الاتصال مختبرات الطب والبحوث الطبية في وصف "مرض الطاعون المجهول" والترويج للوصفات التي تعالج الإصابة بالمرض أو تحمي الناس منها في معيشهم اليومـــــــــي .
-03 دجنبر2022-