عبد الله العروي ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي - يحيى بن الوليد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاساقتنعت بعد تجربة كأستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية أن مؤلفات عهد الاستعمار حول المغرب، التي نهملها ونحتقرها، لا تزال تؤثر في أذهان الأجانب. إن الباحث الأمريكي يتسرع في جمع المعلومات حول ماضي المنطقة دون أن يكون مؤِهلا لنقدها والتمييز بين أنواعها. يتهافت على الفرضيات التي يتحفظ حتى أصحابها عند تقديمها فيأخذها كحقائق نهائية. يجهل العربية والبربرية ويهدف إلى فهم الحالة القائمة فلا يهمه من التاريخ إلا ما هو لازم أكاديميا وما يسهل إدراك المشكلات الاجتماعية والسياسية. فيستهويه ما كتبه الفرنسيون ويعطيه قيمة أعلى من قيمته الحقيقية. والباحث الأمريكي ليس إلا مثلا على كل الدارسين الأجانب.
«فكرت، والحالة هذه، أنه من المفيد أن أقدم نظرة مغربية على تاريخ المغرب، حتى ولو لم آت بأي كشف جديد، مقتصرا على تقديم تأويلات جديدة للأحداث والوقائع»
(عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، ص 28 ــ 29).
سيكون من باب «الذهان القرائي» دراسة خطاب المؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي في ضوء «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» التي تستند إلى «وعي نظري» لا يسمح المجال بأن نعرض لها في هذا التقديم(١)، هذا بالإضافة إلى ما يتيحه هذا الوعي من إمكانات متعددة على مستوى دراسة العديد من «النصوص» المكرسة والمتداولة في «ثقافات» ما ينعت بـ«العالم الثالث». وهذا إذا كان خطاب عبد الله العروي يتيح إمكانية حصره في خانة «العالم الثالث» وغيرها من الخانات أو التسميات التي عادة ما يلجأ إليها الباحثون في نطاق السعي إلى «السيطرة المفترضة» على مواضيعهم. وحتى نلج الموضوع، موضوعنا، تجدر الملاحظة إلى أنه ثمة فرق جلي بين إدوار سعيد (1935 ــ 2003) الذي مهد، وبقوة، للنظرية سالفة الذكر، وعبد الله العروي المشدود إلى قارة معرفية أخرى لا تزال تتأبى على الدراسة والتحليل بسبب من «المفهومية» المكثفة التي يستند إليها صاحبها في كتابة التاريخ ورصد المفاهيم والنقد الإيديولوجي. وكما أن الفرق بينهما كامن في المرجعية وفي المفهوم أو المفاهيم التي تسند المرجعية ذاتها. وكل ذلك في المنظور الذي يصل ما بين هذين الطرفين معا وفي المدار نفسه الذي لا يفارق الهدف المتوخى من «الثقافة» على نحو ما يفهمها كل واحد منهما على حدة. ومن هذه الناحية يمكن الإشارة إلى «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» باعتبارها مرجعية ناظمة لـ«مشروع» إدوارد سعيد، وخصوصا من ناحية مفهومها المركزي «الخطاب» (Discours) الكاشف عن «تمفصلات» الثقافة (النوع الروائي بشكل خاص) والقهر الإمبريالي، وكل ذلك في إطار من السعي إلى «فك الاستعمار» (Décolonisation) عن «العالم الثالث».
هذا في مقابل «تاريخانية» عبدالله العروي بمفاهيمها المتعددة وفي مقدمها، وقد يكون هذا تحت التأثير الهيجلي، مفهوم «الدولة»، وكل ذلك أيضا بدافع من الرغبة في الانخراط، وبالاستناد إلى «الوعي التاريخي النقدي»، في «الحداثة». غير أن هذا الفرق لا يحول دون الإفادة من «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» في دراسة خطاب المفكر/ المؤرخ عبد الله العروي وانطلاقا من النص الروائي ذاته الذي أشرنا إليه قبل قليل والذي يحتل مكانة بارزة في خطاب العروي الموزع على جبهات متعددة. ومن ثم فالرواية، في خطابه، جبهة أخرى لبلورة ذات الأسئلة التي تشغل باله الفكري، لكن بصيغة أخرى هي صيغة الإبداع الروائي التي سنتحدث عنها بعد حين. ولا تفوتنا الإشارة، هنا، إلى أن العروي كان يرغب في كتابة الرواية قبل أن يكون مؤرخا(٢).
وقبل أن ندرس أفق عبد الله العروي الروائي لا بأس من أن نشير إلى أن هذا الأخير، وهنا مصدر قوته، اختار، ودون أن نتغافل عن ثقافته الغربية العميقة، أن يدرس الفكر العربي أو ــ وتبعا لعنوان كتابه الأشهر ــ «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، وكل ذلك بالاعتماد على نوع من «التحليل غير الرحيم» لـ«عوائق التحديث» (تحديث المجتمع) التي تقف وراء فشل «مشروع الدولة القومية». غير أن مناقشته للدولة القومية لم تجعله، وفي إطار نوع من «التحليل الثقافي»، يسلم من استحضار «الدولة المستعمَرة» التي سبقتها، هذا بالإضافة إلى «الدولة الليبرالية» التي لا يمكن التغافل عنها هي الأخرى في هذا السياق. ولذلك فإن العروي لا يقفز على «الغرب» الذي يراه في «أساس» أو «قاع» الفكر العربي، إضافة إلى ما يدعو إليه من «انفتاح» على «المجتمع العصري» المتمثل في «العالم الغربي» وبالاستناد إلى ما ينعته في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» بـ«الوعي النقدي التاريخي الكامن في قلب التاريخ الكوني»(٣). وفي الوقت ذاته لا يدعو إلى «اكتفاء» الفكر العربي بالغرب، بل عليه أن يخرج من «الأدلوجة» لكي يطرق باب الفكر الحديث «المطابق» للواقع. ورغم هذا التقدير لـ«الغرب» فإنه لا يقفز على «الاستعمار»، بل إنه يراه في عمق «استرسال التاريخ». فكل مجتمع هو نتاج موجات استعمارية متعددة، إذ لا يوجد عرق صرف أو طاهر وبالمثل لا توجد ثقافة في معزل عن التأثيرات الخارجية... والقول بغير ذلك هو ذو صلة بـ«الأسطورة» لا بـ«العلم»(٤). وألم يتصور البعض أن صفة «ما بعد الكولونيالية» تشير إلى نظرتنا، في أواخر القرن العشرين، إلى علاقات القوة السياسية والثقافية، وأما الفترة التي تغطيها فهي التاريخ كله(٥).
 وفيما يتعلق بالاستعمار الأوروبي يقول عبد الله العروي: «ذات يوم خرجت أوروبا البشرية من أوروبا الجغرافية واستولت تدريجيا على سائر البسيطة. ليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الدهشة إذ سبقت شعوب أوروبا في هذا الميدان شعوب كثيرة في القارات الأخرى.
«السؤال المطروح هو: فيم تختلف السيطرة الأوروبية، أثناء القرنين الأخيرين، عن السيطرات المتلاحقة التي عرفها التاريخ؟»(٦). وكما أن العروي ينتقد الغرب وسواء على مستوى «الحضور المعرفي الصرف» أو على مستوى «الحضور الثقافي الإمبريالي «... إلا أنه، ومقارنة مع إدوار سعيد، يميز بين «الغرب التاريخي» و«الغرب الاستعماري المتأخر» الذي حصر إدوارد سعيد مجال اهتمامه فيه، بل إنه يشير ــ وإن عرضا ــ إلى أن إدوارد سعيد «سحب على الغرب التاريخي ما يصدق فقط على الغرب الاستعماري المتأخر»(٧). وفي السياق نفسه يتصور العروي أن المثقف العربي يرفض التمييز بين «مقومات الفكر الحديث» وبين «إيدولوجيا الغرب الإمبريالي الحالي»(٨). والأهم بالنسبة إليه، في نطاق النقد الجذري للغرب، هو أساس «العقلانية» التي ينهض عليها هذا الغرب. يقول موضحا هذه الفكرة: «الواقع أننا إلى حد الآن، وباستثناء كتابات ظرفية، لم نر مفكرا من كبار مفكري العالم الثالث نقد نقدا جذريا الأدلوجة الأوروبية الأساسية، أي العقلانية المطبقة على الطبيعة والإنسان والتاريخ»(٩). وأليس الاستعمار، وفي «المنظور» الذي أفضى إلى «تشكيل العالم الثالث»، و«التنكر» له في الوقت ذاته، إحدى نتائج هذه «العقلانية». وكما أن «الحداثة»، التي أشرنا إليها من قبل، أو بالأدق الحداثة في صيغتها الأوروبية التي تواجهنا اليوم والتي ينعتها العروي بـ«الحداثة الموشومة»، تزامنت مع الاستعمار. ومعنى ذلك أن العروي لا يتغافل عن الحداثة في صورتها الاستعمارية الاستعبادية الاستغلالية والقاتلة في أحيان... تلك الحداثة التي ــ وكما يشرح ــ غيرت الآفاق، وتركت النفوس على حالها... بل دفعت بها إلى الوراء، ونمَّت بالتالي النزعات المعادية لها(10). هذا بالإضافة إلى أنه لا يتصور أن «التحديث» تزامن مع «الاستعمار» في العالم الثالث فقط، فقد حصل هذا التزامن داخل أوربا ذاتها. وهذا ــ في تصوره ــ هو «مكر العقل» الذي أخذنا نتعرف عليه(١١). غير أن ما يهم العروي، وفي المقام الأول، لا ينحصر في هذا النوع من «التشخيص» لـ«العدو»؛ أو لنقل إن هذا النوع من التشخيص لا ينبغي أن يكون في معزل عن تشخيص «هوية الذات» الذي كرس له العروي أهم مؤلفاته، ودون أن نتغافل عن منجزه في مجال التاريخ الذي لا نعدم فيه النقد الذي وجَّهه لـ«التأليف الاستعماري» و«التأليف العربي الإسلامي». غير أن ذلك لم يجعله يستبعد ما نعته بـ«عار الاستعمار» أو «القهر الكولونيالي» الذي يشرحه قائلا: «لم تعد الإمبريالية تعني القهر، الاضطهاد الخفي والمكشوف، الجور الذي تزكيه قوة السلاح، إنما تمثل الوجه الخلفي للقلق المعشش في داخلنا»(12). إجمالا فـالعروي لا يستقر على «المنظور الثالثي» بمفرده، إذ ثمة منظور آخر أقوى هو «المنظور العالمي» الذي يبدو جليا في تحليلاته؛ لكن دون أن نتغافل، وكما ينبهنا هشام جعيط،  عن «المنظور العربي» وعن «المنظور الإسلامي» أيضا الذي يتسرب في خطابه، وخصوصا في نقده لـ«الاستشراق»(13). وربما توجبت الإشارة، هنا، إلى امتناع العروي عن «التصريح» أو «الحوار» مع وكالات الغرب الحاقد على الإسلام وعلى الرغم من «الامتعاض» الذي لا يخفيه العروي من «الحركات الإسلامية»(14).
وتمييز العروي بين «الغرب التاريخي» و«الغرب الاستعماري» لم يحل دون تقدير إدوارد سعيد لخطاب عبد الله العروي لما يتسم به هذا الخطاب الأخير من «تحليل» قل نظيره في الفكر العربي المعاصر الذي وجه إليه العروي نفسه «نقدا قويا». وليس من الغريب أن يشير إدوارد سعيد، في «نقد الاستشراق»، إلى «نقد» العروي لـ«استشراق» بعض المستشرقين، وخصوصا المستشرق الأمريكي (الألماني الأصل) فون غرنباوم (Gustave Von Grunebaum) (1909 ــ 1972)(15). غير أن المفكر المغربي لا ينظر إلى الاستشراق، وهنا مصدر اختلاف من نوع آخر مع إدوارد سعيد، «نظرة موحدة» طالما أنه يرى، وعلى الرغم من «النقد الصارم» الذي وجهه له (16)، أنه «أثر» في الثقافة العربية الحديثة(١٧). إجمالا يشير إدوارد سعيد، في أهم كتبه الإشكالية، إلى العروي؛ ومن هذه الناحية ينعته  بـ«المؤرخ والمنظر السياسي» في كتاب «الاستشراق»، وبـ«أفضل مؤرخ في شمال إفريقيا اليوم» في «الثقافة والإمبريالية»(١٨). والتاريخ ،عند العروي، وفي المنظور الذي لا يحيد عما يسميه بـ«صناعة المؤرخ»، هو غير «الخيال» و«المطلق» . وهو يتجاوز منطق «السرد» ليلتبس بـ«النقد» ذاته وبـ«نسق المفاهيم»، إضافة إلى أن عمل «المؤرخ» يتميز عن عمل «الفيلسوف» أو «رجل الدين». ودون التغافل عن ما يسميه العروي بـ«مادة تاريخ التاريخ» التي يقيس بها «مراحل تطور صناعة المؤرخ والتي لا تزال في نظرة مهملة في الجامعات المغربية...( ١٩). وكما أن «مفهوم التاريخ»، في نظره، قرين «التحديث»: «تحديث الفكر»، إضافة إلى أنه يتميز عن «ما فوق التاريخ» الذي هو ميدان عالم الإلهيات و«ما تحت التاريخ» الذي هو ميدان عالم الأنثروبولوجيا(٢٠). وفي هذا الصدد تبدو أهمية «التاريخانية» التي تعطي لـ«التاريخ» وزنه، موازاة مع الإقرار بـ«دور المثقف» في هذا المجال. وعلى أية حال فهذا موضوع آخر، وتعكسه مصنفات الرجل. وخلاصة القول، في هذه النقطة، إن المسألة لا يمكنها أن تنحصر في مجرد هذا النوع من الإحالة (إحالة إدوار سعيد)، وعلى أهميتها، على العروي... وخصوصا إذا ما شددنا على أن هذا الأخير يكمن في مرجعية إدوارد سعيد ذاتها إلى جانب أسماء (ماركسية) أخرى مثل غرامشي ولوكاش وفانون وإيميه سيزار وريموند وليامز وسي. ل. ر. جيمس وراناجيت جحا...( ٢١). هذا إذا ما لم نقل بأن عبد الله العروي يكمن في مرجعية «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» ذاتها وبمعزل عن النظر إليه في ضوء المقارنة مع إدوار سعيد كما تشير إلى ذلك بعض الدراسات المكرسة لموضوع الخطاب ما بعد الكولونيالي(٢٢).
وثمة ملحوظة تفرض ذاتها بخصوص كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، ولاسيما وأننا نسعى إلى أن ندرس «خطاب العروي»، هنا، في ضوء محور عام هو «المغرب وخطاب ما بعد الاستعمار». ومفاد هذه الملحوظة أن الكتاب كان سيكون مكرسا لـ«الفكر المغربي» أو بالأحرى لـ«الإيديولوجيا المغربية المعاصرة»، إلا أن صاحبه سرعان ما عدل عن الفكرة وعمل ــ بالتالي ــ على توسيع الإشكالية لتشمل الفكر العربي بشكل عام والمصري منه بشكل خاص. غير أن هذا التوسيع من إطار الإشكالية لا يفيد البتة أي نوع من «الاحتماء» أو «المراوغة» التي يمكن تلخيصها في «انتقاد» ما هو «قطري» انطلاقا مما هو «قومي». فالمغرب وارد، وبقوة، في «النقد الصارم» الذي يلوي بالكتاب ككل، ثم إن هذا النقد في شكل إشارات موجزة غير أنها واضحة المغزى. ويهمنا أن نعرض، هنا، لفكرة تبدو في غاية من الأهمية وتتصل بفهم/ توظيف «الفلكلور» في المغرب، وهي فكرة يمكن النظر إليها في ضوء «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» المنتظم في نطاق «النقد الثقافي». على أن الموضوع وحتى إن كان ذا صلة بـ«المغرب الثقافي» فإن العروي يعرض له في سياق أوسع هو سياق: «العرب والتعبير عن الذات». معنى ذلك أنه ينظر إلى الموضوع في ضوء معيار «التعبير» الذي يتطلب وقفة خاصة ذات صلة بـ«جبهة النقد الأدبي» في خطاب العروي المتعدد الجبهات، وللأسف لم يتم الالتفات إليها ضمن سيل القراءات التي اعتنت بـ«محاورة فكر العروي»(٢٣). وقد سعينا من جانبنا إلى معالجة الموضوع من خلال دراسة مطولة موسومة بـ«خطاب المؤرخ/ عبدالله العروي... ناقدا أدبيا»، وهي منشورة في مجلة «الكلمة» (الإلكترونية) (السنة الأولى، العدد ٤، أبريل 2007). غير أنه تجدر الإشارة إلى أنه سيكون من الصعب حشر «تحليلات» العروي ضمن «النقد الثقافي» الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل، خصوصا وأننا نقصد، هنا، إلى النقد الثقافي بمعناه «المنهجي» (وعلى افتراض أن هذا النقد يتقوم على منهج أم أنه خليط قراءات ومعارف ومناهج). والدليل على الصعوبة سالفة الذكر أن العروي يرفض فكرة «وحدة التعبير»، بل إنه يتصورها «فكرة خاطئة»(٢٤). ولا تمت هذه الفكرة بأية صلة للنقد الثقافي الذي يأخذ بيد جميع أشكال «التمثيل» (Représentation) (لكي لا نقول «التعبير») وبما في ذلك الأشكال التي نعدها «ساقطة» أو «هابطة»، لكن شريطة أن تكون ذات «انتشار» جماهيري. وفي السياق نفسه يرفض العروي مفهوم «الجغرافية الثقافية»، وهو مفهوم «قاعدي» في النقد الثقافي. يقول في «خواطر الصباح»: «... وإنما أسجل أن الجغرافية الثقافية، ربط ثقافة أو منظومة فكرية بمنطقة معينة عادة قديمة، متأصلة في الشرق وإنها استغلت ضده بعد أن فقد امتيازه»(٢٥). ومن الجلي أن يفضي رفض «الجغرافية الثقافية» إلى رفض «الفلكلور»، بل ورفض أشكال «تعبيرية» أخرى ذات صلة بهذا الأخير مثل الشعر والغناء والرقص... إلخ. هذا إذا ما لم نقل بأن الأمر يؤدي إلى نوع من الرفض لـ«الريف» أيضا، الريف بـ«ثقافته» وضمنها «الفلكلور» حتما؛ هذا إذا ما لم نقل بأن هذه «الثقافة» هي «الفكلور» ذاته.
ورفض العروي لـفكرة «وحدة التعبير» قرين نظرة «تراتبية»، مضمرة، لأشكال التعبير، مما يجعل شكلا معينا يكتسي أهمية قصوى بالنظر إلى أشكال أخرى. ومن ثم يمكن أن نفهم تشديده على المسرح والقصة، لكن بغير الأهمية البالغة التي يوليها للرواية. وكل ذلك في المنظور الذي لا يجعله يتوانى عن استبعاد «ذبابة» الفلكلور عن «جمهورية» هذه الأشكال. وكما يتصور أن الفلكلور يرتبط بنوع خاص من الغرب ينعته بـ«الغرب الدخيل»، ومعنى ذلك أنه عديم الصلة بـ«الثقافة الأصيلة». يقول موضحا هذه الفكرة: «إن هذا الفلكلور المسترجع، عكس ما يظنه الملاحظ غير المدقق، لا يمثل ثقافة أصيلة تواجه ثقافة دخيلة متولدة عن الهجمة الغربية، بل الفلكلور هو جزء لا يتجزأ من الثقافة الدخيلة. إنه لا يحيل على المجتمع القديم، وإنما على الجديد، إذ يشير، في عمقه، إلى مدى تبرجز المجتمع»(٢٦). إضافة إلى أن انتشار الفلكلور مرتبط بـ«الثقافة البورجوازية المستوردة» أو بـ«الطبقة المثقفة المنحدرة من البورجوازية الصغيرة» التي توجه «السياسة الثقافية» داخل «الدولة القومية» سالفة الذكر. ويشرح العروي أن هذه الطبقة «تود التخلص من المدلول الطبقي الغالب على الإنتاج الأدبي المكتوب، فتدافع عن واقعية المحتوى. لكنها تشعر في نفس الوقت، ولو بكيفية مبهمة، بسبب من ما رسب في الماركسية الوضعانية المبسطة التي تدين بها من النظرية الهيغلية حول التعبير الفني، أن المدلول الطبقي مرتبط بكيفية ما بالأشكال التعبيرية. وبما أن هذه الأشكال الخاصة بالأدب المكتوب، نثرا وشعرا، تعشش في أذهان الغرب، فلا مناص حينئذ، للتخلص فعلا من المدلول الطبقي، من بخس قيمة الأدب المكتوب وتضخيم قيمة كل ما يمت إلى الفلكلور بصلة على اعتبار أنه يحتوي على عبارات شعبية حية ومبتكرة»(٢٧).
غير أن السعي إلى ترسيخ الفلكلور في الفضاء الثقافي المغربي لا يعود إلى الطبقة سالفة الذكر فقط، وإنما يعود إلى بعض الكتاب الأجانب أيضا، وخصوصا من الذين أقاموا لفترات طويلة بالمغرب وفي مقدمهم الكاتب الأميريكي الشهير بول بولز(١٩١٠ ــ ١٩٩٩) الذي أقام بالمغرب لما يزيد عن ستين عاما. ونقد العروي لهذا الكاتِب، وعلى الرغم من خلفيته الماركسية الغالبة، التي كانت تفرضها المرحلة السابقة أيضا، مرحلة «الوعي الإيديولوجي»، يدنينا، بشكل من الأشكال، من «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي»... حتى وإن كان محمد شكري (1935 ــ 203)، وفي حال تفرض نفسها أكثر، وفي الكِتاب الذي كرسه للكًاتب نفسه «بول بولز وعزلة طنجة» (1996)، أقرب، ومن ناحية «فعل القراءة» ذاته، إلى «تدمير النسق الكولونيالي»، ورغم «التباس» ما هو «ثقافي» (مقاوِم) بما هو «شخصي» (انتقامي) في «حديث» شكري(٢٨). بكلام أوجز: إن الاهتمام بـ«الفلكلور»، أو «الثقافة الشعبية»، وكما يحسم العروي، لا يفهم في معزل عن «الاحتلال الاستعماري»، إذ أن «العلماء الاستعماريين» هم الذين بدأوا البحث في اللهجات والفنون الشعبية والتقاليد المحلية والصناعات التقليدية... إلخ(٢٩). وفي سياق نقده لبول بولز يضيق العروي: «يستلزم مفهوم الفلكور وجود مركز وضاحية. فهذا بول باولز، الكاتب الأميريكي المستقر في مدينة طنجة، يطلب من أحد المغاربة الأميين أن يتحدث لساعات عديدة، ثم يسجل كلامه قبل أن يترجمه حرفيا وينشره ظنا منه أنه يعطي بعمله هذا صورة وفية صادقة عن الحياة كما يعيشها حقا المغاربة. لكن هل يدرك باولز فيما ينشر سوى هلوساته الدفينة؟ يظن أنه يكشف عند محدثه الزمن الراكد والوجود العاطل. كذلك عندما يسعى جاهدا إلى وصف حالة الصمت المطلق كما يجربه في قلب الصحراء، فإنه ينسى أن هذا الصمت لا «يسمعه» إلا من سكن من قبل في نيويورك أو لندن» هكذا إلى أن يصل إلى أن «صورة» بول باولز «تسطح المرء وترده قسرا إلى مستواه الفلكلوري»(٣٠). على أن «الصمت» الذي يسمعه بول بولز في الصحراء والذي يلفت انتباه العروي ألا يمكن أن نعترض عليه بـ«الجو القاتم الكئيب» الذي تحدث عنه «السارد» حين حط «إدريس» في باريس كما جاء في نص «أوراق»(٣١). ومن ثم ألا يكون هذا الجو قاتما وكئيبا إلا في نظر «الشرقي» وفي إطار من تلك «الإشكالية» (إشكالية الغرب والشرق) التي كانت لها «دلالة حدية» في خمسينيات القرن المنصرم؟
إجمالا يمكن رد رفض العروي للفلكلور إلى ارتباط هذا الأخير بـ«المحلية» أو «الخصوصية» التي لا تساير ذلك النوع من «الاسترسال التاريخي» الكفيل بضمان الانخراط في «العقل الكوني». إضافة إلى أن الفلكلور «مرحلة» قد لا تمت بصلة لـ«الاستدراك» أو «الثقافة العصرية»، بل إنه تكريس لـ«التخلف التاريخي» الذي أصر العروي على انتقاده بـ«صرامة» و بـ«دون تسامح أو تشف» . وفي ضوء مثل هذه الصرامة، وفي منأى عن «شقشقة الكلام» كما ينعتها العروي، يدعونا هذا الأخير إلى «التمييز» بين ما هو «فلكلوري» وما هو «تعبيري حقا»(٣٢). ولذلك فإن الفلكلور، وحسب تصوره، لا يجعلنا خارج «التعبير» فقط، وإنما ــ وفي موازاة أو قبل ذلك ــ خارج «التاريخ» أو «قارة التاريخ» إذا جازت عبارة لويس ألتوسير. أجل قد تكون للفلكور صلة بـ«التاريخ»، لكن بـ«ما تحت التاريخ» لا بـ«مفهوم التاريخ» كما سلفت الإشارة إلى ذلك قبل قليل؛ ذلك «المفهوم» الذي حرص العروي، وفي كتاب يحمل العنوان نفسه، وصادر العام 1992، على «تحديده».
غير أنه لا بأس من أن نختم، في هذه النقطة، بأن العروي لا يرفض الفلكلور بأكمله، وليس غريبا أن يستثني ذلك النوع الذي أدرك ــ وفي إطار من «المثقافة» ــ تلك العلاقة المخصوصة مع الغرب. «الغرب الانتقادي» الذي يستنجد به العروي لتجاوز معضلات الوعي العربي الحاضر كما قال المستشرق ماكسيم رودنسون في تقديم الترجمة العربية لـ«الإيديولوجية العربية المعاصرة»(٣٣). ومن ثم فإن تأثره بـ«المنهج الياباني»، وهو تأثر بارز في نص «أوراق» أيضا، لم يجعله يتغافل عن فلكلور اليابانيين الذين «قصدوا إلى سر الحضارة الغربية«(٣٤). يقول: «تساءل يوما ناقد ذكي: لماذا استطاع اليابانيون أن يوظفوا فولكلورهم لإبداع أعمال أدبية وسينمائية حظيت بشهرة عالمية في حين أن العرب عجزوا عن نفس الإنجاز رغم امتلاكهم تراثا غنيا متنوعا؟»(٣٥). وفي السياق نفسه يتصور «أن الفلكلور لا يقوم عند العرب اليوم بالمهمة التي يقوم بها مذهب الزنجوية عند الأفارقة السود...»( ٣٦). وهل يعود ذلك إلى ما كان العروي نفسه قد نعته، وفي موقع آخر، بـ«الصلة الواضحة» التي تصل «الدعوة الزنجية» بـ«السوريالية»؟(٣٧).
وثمة مظهر آخر يمكن التشديد عليه، وفي إطار من الإفادة من «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» دائما، لكن في دراسة خطاب العروي الروائي هذه المرة، هو مظهر الثقافة. والمؤكد أن الثقافة مفهوم «زئبقي» و«منفلت»، لكنها تظل، وفي ضوء المستندات النظرية لخطاب ما بعد الكولونيالية، فضاء لـ«المقاومة». ومن هذه الناحية تشكل الثقافة، في خطاب العروي مدخلا لدراسة «التعثر» الذي مس «الدولة القومية» بعد «الاستقلال»، وكما أنها تشكل مدخلا لـ«الحداثة» في مواجهة «التقليدانية». فالمشكلة تظل، في الأساس، وحسب العروي، «ثقافية»؛ ثم إن المثقف العربي، وعلى الرغم من ثقافته الغربية، تظل مشكلته «عربية». وهذا ما تعكسه تحليلات العروي نفسه، وبدءا من كتابه الصادم والإشكالي «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» (1966) الذي هو تحليل صارم لـ«أداء المثقف» (العربي) من حيث العلاقة مع «الليبرالية»، وبالتالي لـ«الإخفاق» الذي يطاله من هذه الناحية. وحتى إن كان العروي يتصور أنه يتعامل مع «الإيديولوجيا» كـ«مادة بحثية» وليس كـ«مضمون» فإن تعامله معها يكشف، في الوقت ذاته، عن «مضمون» (متعقل) ينحاز إليه الدارس... مضمون يكمن في «التاريخانية» أو في «المثقف التاريخاني» الذي طرحه في كتابه «أزمة المثقفين العرب» (1970) ثم في نسخة هذا الكتاب العربية «العرب والفكر التاريخي» (1973). المثقف التاريخاني الذي يظهر كـ«رد» على «المثقف السلفي» و«المثقف الليبرالي الانتقائي» اللذين كانا وراء «الإخفاق التاريخي».
وفي جميع الأحوال ليس موضوعنا، هنا، هو دراسة خطاب العروي النقدي المعقد؛ فما يهمنا، فيما تبقى، هو أن ندرس خطابه الروائي القائم على «التخييل» الذي لا يفارق، وكما سنرى فيما بعد، «تمثلات المثقف» إذا جازت عبارة إدوار سعيد. وخطاب في حجم خطاب عبد الله العروي، ورغم «وحدته السياقية الكبرى»، يفرض علينا نوعا من «التمييز» بين «التحليل» و«الأدب» وسواء من حيث «المادة» التي تظل مختلفة بينهما أو من حيث «الحسم» الذي يطبع دراسة «المادة الفكرية» في مقابل ــ وبتعبير العروي نفسه ــ «ترك الأمور معلقة» في نطاق تتبع مسار أو تحركات الشخصية داخل فضاءاتها المحددة. هذا بالإضافة إلى أن العروي يكون في أعماله الفكرية (أو النقدية كما ينعتها) «متجردا غير منتم لبلد أو ثقافة أو عقيدة معينة»، عكس أعماله الإبداعية التي يتخلى فيها عن هذا «الحياد». وكل ذلك موازاة مع سعيه، في التعبير الأدبي، إلى «فك الغموض»؛ مما يقوده إلى «التحرر» من «التعقل» الذي يطبع كتاباته النقدية، رغم أن هذا «التعقل» يظل يلوي بـ«التقنية» الموظفة في النص الروائي. وفي هذا الصدد أمكننا أن نصل، ومن وجوه، بين الكتابة النقدية والكتابة الروائية، وكل ذلك من خلال التأثير الهيجلي. «هيغل الذي أدخل العقل في الفن مائة في المائة» كما يذكرنا العروي نفسه. ومن ثم فإن التقنية، تقنية العروي، تنطوي بدورها على «أفكار»؛ وهو الموضوع الذي عالجته الدراسات النقدية المنضوية في إطار ما يعرف بـ«الهيجلية الجديدة»، وقد سعينا إلى معالجة جانب من الإشكال في دراستنا المشار إليها من قبل «عبد الله العروي... ناقدا أدبيا». ويبقى أن نشير، الآن، إلى «التمييز» الذي يقيمه العروي بين «الموصوف» و«الموضوع» في سياق فهم «التجريب» الذي يتصوره «قدرا» بالنسبة للرواية المغربية، التجريب الذي هو قرين «البحث» عن «الموضوع» حتى لا يتحول إلى «لعب لغوي» مفصول عن مشكلات الناس والمجتمع والتاريخ، أي إلى «تخريب». وكل ذلك في سياق تشخيص «الإخفاق» الذي هو الوجه الآخر لـ«التخلف» الذي يحلله في أعماله النقدية والذي يراه «أفقا» مفروضا على المفكر العربي. ومن هنا فإن التجريب ليس عملية «عدمية»، طالما أنه قرين التشخيص سالف الذكر؛ التشخيص الذي لا يفارق بدوره مسألة «الاستلذاذ» التي يكررها العروي في أكثر من حوار من حواراته(38)، «الاستلذاذ» الذي يفارق «الإيديولوجيا» التي هي مدار «الكتابة النقدية».
وقد يحق لعبد الله العروي أن يشتكي من النقاد الذين يستخلصون، وبـ«طريقة تعسفية»، إن لن نقل «ميكانيكية» في أحيان، آراءه من كتبه النقدية. وفي هذا الصدد يقول: «لكل ناقد الحرية بالطبع. لكن عندما يأخذ ما اكتبه في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» ويطبقه على عملي، فهذا في نظري مجحف نسبيا، لأنني لو كنت أريد أن أعبر عن الأفكار بشكلين مختلفين لما كتبت القصة»(٣٩). وربما في هذا السياق أمكننا أن نستعيد قولة ريتشارد هوكارت الشهيرة التي يدعو فيها إلى أن «نثق بالقصة لا بالقاص». إلا أنه يمكن أن نرد شكوى العروي، هنا، إلى ثقل أو غلبة المفكر على المبدع في خطاب العروي. غير أن السؤال الذي يفرض ذاته: هل يمكن حقا للتمييز بين «التحليل» و«التخييل» أن يصمد (كثيرا) في خطاب العروي، وخصوصا إذا ما نظرنا إلى هذا الخطاب بوصفه «كلا موحدا»؟ وألا يمكن الحديث عن نوع من «الإضاءة والاستضاءة» أو «التأثر والتأثير» أو «التأثر المتبادل» بين «التحليل» و«التخييل» في خطاب العروي؟ ومن هذه الناحية تبدو رواية «أوراق»، ومقارنة مع باقي روايات العروي، أكثر «قابلية» لهذا النوع من «التأثر المتبادل» وإلا ما الذي جعل العروي نفسه يحيل عليها، أو بالأحرى «يستنجد» بها، وفي أكثر من مرة، في كتابه السالف الذكر؟(٤٠) ونقصد إلى كتابه «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» في ترجمته اللاحقة التي أنجزها العروي نفسه العام ٥٩٩١ وبعد وفاة محمد عيتاني قد نقله إلى العربية العام 1970.
 أجل كثيرا ما يشدد صاحب «اليتيم»، في النص الروائي، وفي نطاق البحث عن «الموضوع»، على «اللغة». وحتى إن كانت هذه اللغة تلتبس بـ«التجريب»، كما يفهمه العروي، فإنها تبدو، في النظر الأخير، مشدودة إلى «الفكر» ذاته. والعروي نفسه لا يخفي أن الرواية «جهد فكري»(٤١)، إضافة إلى أنه يلح على «شرط الثقافة الموسوعية» عند الروائيين (ونقاد الأدب أيضا). ولعل هذا الجهد ما جعله ينتقد، وباستمرار، نجيب محفوظ (١٩١١ ــ 2006)، بل ويتحدث عن «خيبته» تجاه هذا الروائي الكبير الذي يبدو أكثر ما قرأ له بين الروائيين العرب. وقد ظل مصرا على هذا الموقف منذ كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» (1967) حتى اليوم، وعلى الرغم من «التبدلات» التي حصلت في عالم الكتابة عند صاحب «الثلاثية». ويمكن أن نسأل هنا: ألا يمكن استخلاص «مواقف فكرية» من نصوص نجيب محفوظ؟ ومن هذه الناحية ربما كان هناك «شرخ» بين هذه المواقف واللغة التي تستوعبها، وهو ما لا يقبل به العروي في نطاق تصوره لما ينعته بـ«العقدة التاريخية».
ويظل حضور العروي/ المفكر، في التخييل، أقوى من حضور العروي/ الأديب. ولعل هذا ما جعل نصوصه الروائية مصدر «صعوبة» متواصلة، بل وجعل البعض يتصور أن العروي ــ وطبعا بغير المعنى القدحي للعبارة ــ «روائيا من الدرجة الثانية»(٤٢). وفي هذا السياق يمكن أن نفهم تشديد ناقد/ روائي مغربي على أن العروي «ظهر على الناس أول مرة بعمل فكري»(٤٣) وعلى ما ينطوي عليه مثل هذا القول من تفضيل للعروي المفكر. وللمناسبة فنصوص هذا الأخير في «التخييل» مجال لمواصلة «الحفر» و«النبش» في أسباب «التخلف» وفي مظاهر «سوسيولوجيا المثقفين»؛ «التخلف» الذي يعادل ــ في التخييل ــ «الإخفاق»، و«سوسيولوجيا المثقفين» التي تعادل «تعاسة المثقف» أو «تجربة الفوات والضياع». وحين نبحث في هذه «القياسات» فإنه لا ينبغي أن نتغافل عن دائرة «الكتابة» التي يتراجع فيها «التشخيص غير الرحيم» ــ الذي يلازم التحليل ــ لفائدة نوع من «التفجير» الذي هو بدوره قرين نوع من «العطف» وخصوصا على شخصية إدريس ذات الحضور الكثيف في عالم العروي الروائي.
وفي السياق نفسه ثمة ملاحظة تفرض ذاتها، بقوة، بخصوص تجربة عبد الله العروي الروائية، وتكمن في تداخل أو تواشج رواياته وخصوصا من ناحية الاعتناء بالفضاء والشخصيات. وفي هذا الإطار يمكن التشديد على شخصية «إدريس» المحورية في نص «أوراق» (١٩٨٩)، موازاة مع حضورها المتفاوت في باقي نصوصه الروائية: «الغربة» (1972) و«اليتيم» (1978) و«الفريق» (1986). هذا إذا ما لم نقل بأنها تحضر حتى في مذكراته «خواطر الصباح»/ الجزء الثالث « حجرة في العنق» (2005). ويتصور العروي أنه لم يكن ينوي أن يتحقق هذا التداخل والتواشج في نصوصه الروائية، وأن يضع قراءه بالتالي أمام «رواية مطولة» كاشفة عن «تكامل» العديد من الوقائع والمواقف. ولعل في هذا التداخل ما يشي بنوع من «النسقية» التي تلوي بجميع هذه النصوص. غير أن ما سلف لا ينفي بعض الفروق بين هذه النصوص، وخصوصا من ناحية التجربة السردية التي تستوعب كل نص على حدة.
ولعل أول مرتكز في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وعلى صعيد التصور الروائي، هو مسألة «المكان» الذي يعد «علة» وجود النص الروائي. والعروي بدوره يشدد على «المكون الطوبوغرافي» (المدن الكبرى بشكل خاص) موازاة مع «المكون الاجتماعي» أو «التاريخي» في نطاق تصوره للنص الروائي أو «الرواية الجامعة». وفي هذا الصدد تبدو مدن مغربية مثل الرباط ومراكش والدار البيضاء... وأخرى أوروبية وفي مقدمها باريس... إطارا لوقائع النصوص وتدافع مواقف الشخوص، لكن دون أن نتغافل عن مدينة «إدريس» الصغيرة «الصديقية» التي بنيت أصلا لمحاربة الأجنبي كما قال العروي نفسه(٤٤). واللافت للنظر، هنا، هيمنة حضور الغرب في روايات العروي. وقد حضر هذا الغرب في روايات مغربية أخرى بدءا من رواية «في الطفولة» لعبد المجيد بن جلون (1957) وانتهاء بـ«البعيدون» لبهاء الدين الطود (2001) مرورا بـ«المرأة والوردة» (٢٧٩١)... إلخ. وقد حضر الغرب في روايات عربية عديدة يصعب حصرها، وخصوصا في فترة الستينيات. وقد تراوح هذا الحضور، ومنذ بدايات التعرف الأولى على الغرب وحتى اليوم، وبدءا من رواية شكيب الجابري التأسيسية «نهج» (1937) وتوفيق الحكيم «عصفور من الشرق» (1038)، بين «الانبهار» و«الصدام» و«الشعور القومي» و«الرجولة والأنثى»... موازاة مع «معاداة الاستعمار» وثنائية «المستعمِر والمستعمَر» و «ما بعد الاستعمار»... إلخ. وفي هذا الصدد يمكن القول مع الأستاذ أحمد اليابوري، في سياق دراسته لرواية «الغربة» لعبد الله العروي نفسه، من «أن تيمة الغرب تكاد تكون مستهلكة في الرواية العربية، إلا أن كل نص روائي يتناول ذلك الغرب تحت ضغط أسئلة خاصة، يطرحها الواقع، خارج دائرة الأجوبة الجاهزة التي يقدمها تراث الماضي»(٤٥).
ورواية «أوراق» أكثر التصاقا بالغرب، وأقربها ــ وفي جانب كبير منها ــ من طرح مسألة «خطاب ما بعد الاستعمار». ومن هذه الناحية يمكن إدراجها في ذلك السياق الذي يصلها بـ«قنديل أم هاشم» (1944) و«موسم الهجرة إلى الشمال» (1967) ، ومرد ذلك إلى الحكاية/ الإطار التي تنتظم جميع هذه النصوص: أي حكاية ذلك «الطالب» الذي يذهب إلى عواصم الغرب (الرأسمالي بشكل خاص) من أجل «التحصيل العلمي».... وبعد ذلك يعود إلى وطنه، لكن دون أن يسلم من «شقوق» تمس «هويته القومية». وعبد الله العروي يقدر هذبن النصين (وقبلهما نص «أديب» لطه حسين (1935) غير أنه لم يتأثر بهما قط، وهو ما يبدو جليا في نص «أوراق» وسواء من حيث طبيعة «حضور» الغرب أو من حيث «الشكل» الذي يستوعب «المضامين المعقولة». الشكل الذي يوليه العروي، وبفهم محدد، أهمية قصوى، والذي هو قرين ــ وإضافة إلى ما سلف ــ «تكثيف العقدة» (التاريخية) و«تشتيت الكلام» و»تقطيع المادة الموصوفة».
وفي الحق لم تكن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» في أساس ظهور «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» فقط، بل إنها مهدَّت لهذه «النظرية»(٤٥). وليس غريبا أن يشكل الطيب صالح، برائعته، «مدرسة» امتد تأثيرها إلى العديد من البلدان العربية. ومن الجلي أن يمتد هذا التأثير إلى المغرب على نحو ما يتجسد في رواية «البعيدون» التي سلفت الإشارة إليها قبل قليل، بل إن هذا النص يضعنا ــ وعلى مستوى «الأطروحة» الناظمة له ــ بإزاء نوع من «التناص» لرواية «موسم الهجرة إلى الشمال». وتتمحور رواية «البعيدون» حول شخصية تحمل هي الأخرى اسم «إدريس» التي سترحل بدورها إلى «الغرب» من أجل دراسة «الصحافة»، بل والعمل في إحدى المجلات «اللندنية» التي تعنى بـ«الاستشراق»، وبعد ذلك ستعود إلى موطنها الأصلي (المغرب) لتلقى المصير نفسه الذي لقيه «إدريس» العروي و«مصطفى سعيد» الطيب صالح.. أي مصير «الموت». هذا على الرغم من أن الكاتب حاول إعطاء «الموت» طابعا «محليا» (مأساويا) حيث جعل «المياه» تجرف البطل في مدينته الهامشية «القصر الكبير». وفي الحق فإن «إدريس»، في «البعيدون»، مات قبل أن يموت؛ أو بكلام آخر: لقد كان يحمل معه موته «المؤجل» منذ أن ولج «الغرب». إن دور «المثقف» الذي أراد إدريس أن يضطلع به سرعان ما جعله يصطدم بـ«الغرب» (المتصهين) حين سيصرخ العامل التقني بـ«المجلة»، وفي أثناء الحفل الذي أقامه ستيف الصحفي بـ«المجلة» نفسها، في وجه إدريس قائلا: «أنت إدريس... لتعلم أن كتابتك مقرفة، تبعث على الغثيان، تحاول تلميع صورة العربي من خلال ما تدعيه من حضارة الشرق. أنت دجال، متى كان للعرب وللشرق عموما حضارة حتى ينقلها عنهم الغرب؟»(٤٦).
واللافت للنظر، في النص، عدم تمحوره حول عواصم «الغرب الرأسمالي» التي استأثرت بالنصوص سالفة الذكر؛ ونقصد، هنا، إلى ما كان قد نعته فرنان بروديل بـ«العاصمة ــ العالم» على غرار نيويورك في الوقت الحاضر ومن قبل باريس ولندن. فثمة إسبانيا التي حط فيها إدريس وإن في مرحلة أولى، إسبانيا الستينيات التي لم تكن تختلف كثيرا عن «الجنوب» أو بالأحرى «الجنوب الفقير» كما ينعته المفكر الجزائري محمد أركون. ومن ثم فإن «أنْخِل» (الإسباني)، الذي رافق البطل إلى انجلترا بحثا عن «العمل»، «عاش بؤس أيامنا الأخيرة» كما قال عنه إدريس»(٤٧)... إضافة إلى أنهما كان يعملان معا في الفلاحة ومثل «البهائم»(٤٨)، وكل ذلك بدافع من أجل تعلم «اللغة الإنجليزية»(٤٩). إجمالا فبطل «البعيدون» ظل يفكر بـ«منطق» الشرقي الغازي بـ«قضيبه»، وهذا ما تأكد منذ إقامته في إسبانيا. لقد سقط في ما كان يرسمه «الاستشراق» الذي قطع على نفسه محاربته، إنه صورة لـ«الاستشراق المعكوس». يقول: «ليلي يصير نهارا لأشهر لا تحصى، وفراشي كأروقة مؤسسة الأمم المتحدة، تعبره لهجات وجنسيات مختلفة، أعاملها بالعدل والقسطاس، كأنها أسنان المشط، لا أفرق بين الطبقات، أكرم ابنة حارس العمارة مثلما أكرم ابنة ضابط سام في جيش فرانكو. فمتى كان الذئب يفرق بين الحمل والخروف؟»(٥٠). إنه مقطع جدير بأن يذكرنا بما كان يفعله مصطفى سعيد (الإفريقي الأسود المستعمَر) بنساء انجلترا انتقاما للسودانيين (2000) الذين سقطوا بسلاح كتشنر.
وقبل معالجة رواية «أوراق» هناك ملحوظة تبدو في غاية من الأهمية وتتصل باللغة العربية التي آثر العروي أن يكتب بها سواء نص «أوراق» أو باقي نصوصه الروائية. ولعل ما يفرض هذه الملحوظة طبيعة الاستعمار (الفرنسي) الذي صمم، وفي الفضاء المغاربي (الجزائري بشكل خاص)، على محو هذه اللغة. وفي هذا السياق يمكن أن نستحضر إعلان الوزير الفرنسي شوتلن بأن العربية، في الجزائر ذاتها، أو «فرنسا الثالثة» كما كان يلقبها البعض، «لغة أجنبية» كما يذكرنا بذلك إدوار سعيد نفسه في كتابة «الثقافة والإمبريالية»(٥١)؛ بل إن البربر بدورهم، وفي نظر بعض الكتاب من المؤرخين،  ظلوا يحاربون اللغة العربية على مدار ثلاثة عشر قرنا. وعلى ذكر «البربر» ألمْ يقل الكاتب الجزائري كاتب ياسين (وللمناسبة فالعروي يفضل روايته «نجمة»): «نحن غير قادرين على تسمية بلدنا باسمها، «الجزائر» ليس الاسم الحقيقي لبلدنا، بل هو لفظ سياحي . ماذا تعني كلمة جزائر؟ أرأيتم بلدا يسمى «الجزر»؟ العرب هم من أطلق عليها هذا الاسم، أنا أفضل تسميتها أمازيغ، سوف تستعيد الجزائر ذات يوم اسمها الحقيقي»(52).
هذا بالإضافة إلى ما كان قد قاله فرنان بروديل من أن «فرنسا، هي اللغة الفرنسية»(53). أجل علينا ألا ننسى أن بريطانيا وفرنسا كانتا، في النصف الأول من القرن العشرين، دولتين استعماريتين تحتلان مساحات شاسعة من العالم، مما جعل العديد من أبناء المستعمَرات يجيدون لغتها، بل ويكتبون بها. وبما أن الاستعمار القديم قد تراجع وانكمش إلى داخل حدوده فإن اللغة تبدو وسيلة جديدة لـ«إعادة الانتشار الإمبريالي»... غير أن هذا النوع من الانتشار ــ عبر اللغة ــ «يعرّض» الثقافة الغربية إلى نوع من «الاحتلال المعاكس» من قبل الثقافات غير الغربية، ويؤدي ــ بالتالي ــ إلى «تهجين» اللغة وتطعيمها بمفردات وأفكار غريبة عليها ولاسيما من قبل الذين يستندون، وفي الكتابة، إلى ذلك النوع من «الهوية القومية العالمثالثية المتطرفة والعاطفية». وبهذا المعنى تؤدي عملية انتشار اللغة، خارج حدودها الجغرافية والثقافية، إلى «خلخلة» هذه اللغة و«تجويفها» من الداخل بحيث تتغير المفاهيم الكلية المركزية التي كانت الثقافة الغربية تسبغها على نفسها(54).
ومن هذه الناحية فإن العروي يمتلك فرنسية عالية، بل إنه استهل كتاباته (النقدية)، وعلى غرار العديد من أباء جيله، باللغة الفرنسية. ومن ثم كان بإمكانه أن يكتب بها، في مجال الرواية، وفي الحدود التي كانت ستفضي به إلى «الخلخلة» سالفة الذكر، خصوصا وأنه يتوفر على ثقافة عالية وعلى شعور حاد بـ«مسؤولية» ــ لا «موضة « ــ الفكر. ولا نظن أنه كان سيكون أقل شهرة، من أمين معلوف أو الطاهر بن جلون أو أهداف سويف أو غير هؤلاء ممن يكتبون باللغات الأجنبية، لو أنه كتب نصوصه الروائية باللغة الفرنسية. وليس من شك في أن «إقلاعه» عن الكتابة، في مجال الرواية، باللغة الفرنسية له ما يبرره، وإلا كان قد أدى به الأمر إلى السقوط في «الفرنكفونية» التي انتقدها بشدة منذ أول أعماله النقدية حيث كتب يقول: «إن ما يسمى بالأدب الفرانكفوني في شمال إفريقيا، باستثناء إنتاج كاتب ياسين المتميز، يتسم على العموم بطابع ظرفية عابرة ولا يستهوي القارئ إلا بصفته شهادة على وضعية في غاية الخصوصية، ذلك لأن أصحابه أنفسهم يعتبرونه فرعا محليا لثقافة أعم وأعلى منه، لها وحدها الحق في استحسانه أو استهجانه(٥٥). والظاهر أن «الخصوصية»، هنا، ترادف «الفلكلور» الذي يميز العروي بينه وبين «التعبير»/ «التاريخ» كما ما سلفت الإشارة إلى ذلك من قبل. على أن المسألة لا يمكنها أن ترد إلى مثل هذا الموقف من الفلكلور بمفرده، وإنما ترد، في نظر العروي نفسه، إلى طبيعة اللغة الفرنسية ذاتها وإمكاناتها «التعبيرية» على مستوى الكتابة الروائية. فاللغة الفرنسية تتسم بنوع من «المحدودية» التي لا تسعف، في تصوره، على «التعبير». ويشرح هذه المحدودية بالروايات (روايات إرنست همنغواي مثلا) التي تفقد ٠٥٪ من «الإيحاءات» حين تترجم من الانجليزية إلى الفرنسية(٥٦). فاللغة الفرنسية، في تصوره، «صالحة» لـ«التحليل العقلاني». ومن ثم فإن العروي لا يكتب باللغة العربية بدافع من الحرص على «الهوية القومية» لـ«الأدب المغربي»؛ هذا بالإضافة إلى اقتناعه بأن الكتابة باللغة الأخيرة، وخصوصا في المنظور الذي يقرنها بـ«مهاجمة الاستعمار»، غير كفيل بالحفاظ على الهوية سالفة الذكر. ولذلك فـ«الاستلذاذ» سالف الذكر، الاستلذاذ بـ«الإخفاق»، الذي هو مدار «التخييل الروائي»، لا يعثر عليه  العروي، وكما يجزم، إلا في اللغة العربية(٥٧) التي يعدها أثمن كنز يملكه العرب حاليا(٥٨). من الجلي، إذن، أنه لا يلخص «الموقف»، من اللغة الفرنسية، في «الانتشار الإمبريالي» بمفرده. وفي مقابل ذلك فإن انتقاده لطريقة تعليم «اللغة العربية»، واستمرارا لما سلف ذكره، وفي نص أوراق» ذاته، لا يمكن تلخيصه في «السرد ضد كولونيالي»... وإلا ما الذي جعله يبدو غير موافق على حصر «واجب» المعلم في «تعليم قواعد الدين» و«توعية النشء وتلقينه مبادئ الوطنية»(٥٩)؟ فـ«الهوية القومية»، عند العروي، وعلى صعيد اللغة ذاتها، قرينة نوع من التطلع إلى «المستوى العالمي»؛ وهو تطلع لا يمكنه التحقق في معزل عن اللغة، لكن من حيث هي وسيلة «عصرية» و«طيعة» للتعبير(٦٠). ومن هنا تتأكد أهمية اللغة على مستوى الإيمان بـ«العقل الكوني» وبالتالي «الانخراط الواعي في آفاق العصر».
وتتمحور رواية «أوراق» حول شخصية إدريس الذي فارق الحياة، لكن بعد وقائع «الغربة» و«اليتيم» و«الفريق». وإدريس، في نص «أوراق» دائما، مات دون أن يموت (وعلى ما في هذا القول من تناقض ظاهري)، طالما أنه خلف «مخلفات» هي في شكل أوراق سيسعى الكاتب من خلالها إلى «استخلاص» دلالات «الموت». غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الأوراق انتهت، في البداية، إلى شعيب صديق إدريس الذي سيسلمها إلى السارد الذي سيقبل، وبعد أخذ ورد، بـ«ترتيبها» وعيا، من هذا الأخير، بدور «الترتيب» الذي لا يقل خطورة عن «الكتابة». وعلى الرغم من «مركزية» إدريس، التي يشي بها عنوان «أوراق» الفرعي: «سيرة إدريس الذهنية»، فإن «نص إدريس» لا يمكن أن يفهم في معزل عن «نص السارد» القائم على «العطف» على إدريس جنبا إلى جنب «نص شعيب»: شعيب الذي كان قد عرف إدريس من قبل،والذي بدا «تقليديا» منذ رواية «الغربة». غير أن هذه النصوص لا تفهم إلا في ضوء نص المؤلِف الذي «يلتبس»، ومن وجوه، بإدريس ذاته، حتى وإن كان العروي يشير إلى عدم هذا الالتباس. ولعل هذا الالتباس ما جعل من«أوراق»، وعلى مستوى «التجنيس»، «كتابا نقديا»؛ غير أن المنحى «النقدي»، هنا، لا يخدش «دلالات» استقطار «السيرة الذهنية». ولا يتجسد «النقد»، في نص «أوراق»، من ناحية التبويب والتقطيع والهوامش والتأريخ والتنقيط فقط، وإنما من ناحية المضامين أو ــ بتعبير العروي الأثير ــ «الموضوع» الذي يتكشف عنه الشكل ذاته. الموضوع الذي هو قرين الجدالات والتعليقات والتلاخيص والتفصيلات والعروض والإضافات... موازاة مع أجناس فرعية متخللة مثل الرسائل واليوميات وأدب الرحلة والمذكرات والبورتريهات، وهي أجناس جديرة بإثراء مفهوم «السيرة» الناظمة للرواية. إضافة إلى انبناء السرد على التخييل في تقاطعه مع التاريخ والسياسة والاقتصاد... موازاة مع ما يتخلل هذا السرد من عرض وتعليق، وشرح وتفسير، ومراقبة وتأويل، وتحقيق وتوثيق... إلخ. ولعل ما سلف كذلك جدير بأن يجعلنا أمام «رواية جامعة» قوامها «تداخل» الخطابات والأشكال والصيغ. والمؤكد أن مثل هذه التداخل ما جعل الرواية تتميز عن رواية «الغربة» و«اليتيم» اللتين حفلتا بدورهما بإدريس. وخلاصة القول، في هذه النقطة، ورغم الالتباس سالف الذكر، فإن «أوراق»، وحتى إن كان صاحبها مفكرا ومؤرخا، تندرج ضمن جنس الرواية. وهي لا تخلو من تميُز مقارنة مع سرود كتبها مفكرون يروُون فيها حياتهم مثل «أوراق العمر» للويس عوض (1989) و«حصاد السنين» لزكي نجيب محمود (١٩٩١) و«صور من الماضي» لهشام شرابي (1993) و«حفريات في الذاكرة» لمحمد عابد الجابري (1996) و«غربة الراعي» لإحسان عباس (1996) و«رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمار» لعبد الوهاب المسيري (2001)... إلخ. ففي حال «أوراق» العروي ثمة نوع من السعي إلى «الالتباس» بـ«التخييل» وعدم التقوقع في «الذاكرة» بمفردها.
وتنقسم «أواق» إلى ثلاثة أقسام تعكس ثلاث مراحل في مسار الرحلة الذهنية لإدريس، وهي: مرحلة ما قبل الذهاب إلى باريس، ومرحلة التحصيل الدراسي بباريس، ومرحلة العودة إلى الوطن. غير أن هذا التمييز لا يلغي، وعلى أكثر من مستوى من مستويات التفكير، التداخل بين هذه المراحل بالنظر إلى دائرة «الثقافة» التي يتحرك فيها إدريس والتي تبدو بمثابة «وطن مواز» بالنسبة له. ويتم إخبارنا، في نص الاستهلال، بأن إدريس عاش عشرين سنة في الاستعمار (1963 ــ 1956) وعشرين سنة في الاستقلال (1956 ــ 1976)؛ غير أن الوقائع والمواقف، وفي أغلبها الأعم، ذات صلة بفترة الاستعمار كما سنلاحظ بعد حين. وكما يتم إخبارنا، في مستهل الفصل الأول، بـ«يتم» إدريس من أمه؛ غير أن هذه الأم «نذرت وهو [أي إدريس] في بطنها أن لا تدخله مدارس النصارى، وأن توقفه على شيوخ فاس ومراكش. لكنها ماتت وهو صغير فوجه إلى غير ما أرادت. سافر إلى بر العدو ولسنين عديدة حتى ثقف رطانتهم وصناعتهم. خالط الكبراء والنبهاء منهم دون أن يتخلى عن عقيدة وعادات قومه»(61). واللغة كما قال ماركس «وسيلة من وسائل المخالطة» داخل المجتمع؛ غير أن هذه المخالطة، وخصوصا في «الغرب»، ومع «كبراء» هذا الأخير و«نبهائه»، لا يمكنها أن تتحقق في معزل عن «الثقافة الموسوعية» و«تمثلات المثقف». ذلك هو «الغرب» الذي لا يمكن الفكاك منه، الغرب الذي هو «قبالتي» كما وصفه أحمد المديني في دراسته لـ«غربة» العروي(62).
 وتجدر الإشارة إلى أن إدريس لم يرحل إلى باريس إلا بعد أن اتضحت ملامح تكوينه المعرفي، حيث كان قد اطلع على كبار فلاسفته أمثال سارتر ونيتشه وديكارت وكارل ماكس... موازاة مع «حسه الوطني والقومي» الذي كان قد اتضح في أثناء مناقشاته مع أبيه في الفصل الثالث «الوطن» الذي كان يوازي تهيؤ إدريس للسفر إلى باريس. ومعنى ذلك أنه سيرحل بنوع من «النضج الفكري» إلى «الخارج»، ذلك النضج الذي لا يبرز عند الكثيرين. غير أن هذا «النضج الفكري» كان يقابله، وعلى صعيد «المسلكيات الشخصية»، «خلل عاطفي» يبدو جليا على مدار تدافع وقائع الرواية ككل، وخصوصا في باريس، أو «عاصمة الوجدان» كما نعتها في «خواطر الصباح»(63)، التي تحول فيها إلى «متصوف» بدلا من «طائر» إذا جاز الوصف الذي كان جان بول سارتر قد ألصقه بالكاتب المغربي الراحل محمد خير الدين (1941 ــ 1995) الذي أقام لفترة في باريس/ «قلعة الحرية».
وتعكس «أوراق» ذلك «الطالب» المتميز والمشدود، في المجالس وعبر المذكرات واليوميات، إلى مناقشة قضايا الاستعمار والهوية والتقدم والتأخر... وبالاعتماد على منظور قوامه سند «النقد» و«نقد النقد» وشرط «حرية التفكير». إنها تعكس نموذج «الطالب الوطني» لا «الطالب البائس»؛ وتلك هي حال إدوار سعيد أيضا. ويهما أن نشدد، هنا، على أن إدريس لم يحصر كل شيء في «فوبيا الاستعمار» أو «ثنائية المستعمِر والمستعمَر» سالفة الذكر، أو لنقل بكلام آخر: إنه كان ينتقد هذا الأخير مقدار ما كان ينتقد، وبلا هوادة، مجتمعه التقليدي. إجمالا إن العروي لا ينظر إلى الاستعمار «نظرة موحدة»، طالما أن هذا الأخير ينطوي على بعض «الإيجابيات» لكن بغير المعنى الذي راح يروج له «اليمين» الفرنسي في الفترة الأخيرة في سياق ارتفاع الدعاوى التي تطالب فرنسا بـ«الاعتذار» عن «الاستعمار» في «المغرب الكبير». ويفترض العروي، في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، أن «العهد الحديث» لم يبدأ في العالم العربي إلا مع «الاحتلال الاستعماري»؛ ومعنى ذلك أن الاستعمار كان وراء «القطيعة» بين «القرون الوسطى» و«الأزمنة الحديثة» في التاريخ العربي كما جاء في نص الترجمة العربية(64). والفكرة ذاتها يصوغها، في «أوراق»، فـ«تحت الحكم الاستعماري تظهر طبقات اجتماعية جديدة ومدن كبيرة ويتم تنظيم قضاء مستقل وربط الأسواق المحلية بالأسواق العالمية وتحطيم التنظيمات التقليدية المحافظة وتحرير قوى جديدة...». وفيما يتعلق بالمغرب يقول: «إذا لو بقي المغرب مستقلا بسبب التنافس بين الدول الأوروبية أما كان يكون وضعه اليوم مثل اليمن أو التبت أو السيام؟». غير أن الاستعمار المباشر تترتب عنه مخلفات عديدة تتجاوز الاستغلال المادي المباشر، إذ «يجلب إلى البلاد جالية أجنبية لا تلبث أن تطالب بحكم ذاتي ثم بمقاسمة السيادة، ويدخل نظاما علمانيا منافيا لأعراف وتقاليد الأغلبية الأصيلة...»(65).
وعلى مستوى آخر، وفي نطاق مناقشة «مفكري الاستعمار»، يشاطر إدريس التصور الذي يتصور «أن الاستعمار الصريح أفضل بكثير من المقنع». موازاة مع أن «الاستعمار عملية طويلة»، طالما أنه لا يبدأ بمجرد حدث أو سنة(٦٦). وعلى الرغم من «مكاسب» الاستعمار ــ التي سلفت الإشارة إلى بعضها ــ فقد ظل إدريس يحلم بـ«مغرب حر ومستقل»، لكن شريطة التفكير العميق في «مضامين الاستقلال» الذي هو «بداية محنة كبرى»(67). والظاهر أن إدريس كان يفكر في «المشروع المجتمعي التحديثي» الذي يضمن للمجتمع تسيير نفسه وبالتالي يحُول دون عودة الاستعمار من جديد. وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم النقد الصارم والواضح الذي وجهه لـ«حزب الاستقلال» الذي كان له امتداد كبير في «الشارع» المغربي في تلك الفترة، وينتقد الحزب لأنه لخص جميع الأشياء في «الكفاح السياسي» حيث كان يتصور أن «الكفاح السياسي كاف» بمفرده. وهنا يكمن الفرق بين «الحركة الوطنية التاريخية» و«الحركة الوطنية التكتيكية»(68) كما قال العروي نفسه في موضع آخر. وهي الحركة نفسها التي سيخصها العروي نفسه، وبعد الاستقلال، بكتاب سيستند فيه إلى منظور نقدي لا سياسي إصلاحي.
وفي السياق نفسه تقول «أوراق»: «لنفرض أن الفرنسيين طردوا من البلاد هل الشعب المغربي الفقير الجاهل الممزق قادر على تسيير شؤونه؟ هذا السؤال لا يطرحه أبدا مسيرو الحزب» وكما أن «الحزب حركة تتساكن فيها جماعات غير متجانسة [...] لا تفكر أبدا في تحليل المجتمع ورصد تطوراته»(69). وكما ينتقد الحزب من ناحية «التمثيلية السياسية» حيث يقول: « والحزب أيضا ارتكب خطأ موضوعيا ما كان في وسعه أن يتحاشاه. ظن أنه ينطق بلسان الشعب في حين أنه كان ينطق بلسان الأقلية المتقدمة (أكثر من اللازم) على الأغلبية»(70). وينتقده من ناحية «التكتيك» أيضا، إذ لم يتحالف مع «الجميع» وبما في ذلك «الشيوعيين». ويضيف أن الحزب، بإهماله لـ«البادية»، يكون قد سار في خط السياسة الفرنسية؛ لأن «كل مصائب المغرب راجعة إلى الفجوة بين إيمان المدينة وجهالة البادية»(71). وفي هذا الصدد يمكن فهم الرصاصة التي أطلقت على الزعيم علال الفاسي، بعد الاستقلال، وعلى وجه التحديد في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر 1956 في قبيلة آت يوسي عند مروره بالسيارة بين صفرو وبولمان، ولا يفوت العروي أن يشير إلى الفكرة ذاتها في كتابه «خواطر الصباح»(72). وهي إشارة قوية ودالة على سوء تقدير العلاقة بين المدينة والقرية. وخلاصة القول، في نطاق رصد «الأخطاء»، إن إدريس لا ينتقد الحزب من ناحية «المبادئ» (الصالحة في نظره)، وإنما ينتقده من ناحية «الخطة» (الفاسدة). فهو لم يكن يتحرك خارج دائرة «الوطنية»؛ غير أن الوطنية التي مال إليها كانت، حسب السارد، وبسبب من فهمه «الثقافوي» لا «السياسوي» للسياسة، «عالية التجريد بالغة التطرف»(73). إضافة إلى أنه كان على وعي بما نعته المفكر الجزائري مالك بن نبي بـ«المرحلة الحماسية»(74) التي كانت تسابق «النزعة المعادية للاستعمار».
وبالنظر إلى ما لازم حزب الاستقلال، والحركة الوطنية ككل، من غلبة للمنظور الذي يقر بـأولوية الكفاح» والذي ــ في الوقت ذاته ــ يستعجل «الاستقلال»، كان من الجلي أن يتلقف إدريس، وبإعجاب ممزوج بالنقد، كتاب الزعيم علال الفاسي «النقد الذاتي» الذي ظهر أول مرة في القاهرة العام 1952، أي في تاريخ «فاصل» من تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب أو «الحركات الاستقلالية في المغرب العربي» أخذا بأحد عناوين كتب علال الفاسي السابقة. وتتجسد أهمية الكتاب في كون أن صاحبه تحرر من «النظرة الحزبية الضيقة» التي كانت تفرضها «المرحلة الحماسية» سالفة الذكر. وليس من الغريب أن ينبه علال الفاسي نفسه، وفي ختام نص المقدمة، إلى أن ما يقدمه، في «النقد الذاتي»، يستجيب لصفته «الشخصية» وليس لصفته «الحزبية» («زعيم» حزب الاستقلال)؛ غير أن هذا «التمييز» لا يحول دون الحديث عن نوع من «تأثيرات» الحزب التي تتسرب في «النص التحتي» لـ«النقد الذاتي». ومن ثم فإنه صاغ، وفي نطاق «رؤية وطنية» رحبة، أفكارا عديدة تشمل مجالات عديدة للمجتمع وفي مقدمها مجال الفكر ذاته الذي كرس له القسم الأول من الكتاب، الفكر القائم على الحرية والنقد والمسؤولية والتوجيه... إلخ. هذا بالإضافة إلى فكرة «العلمانية» التي تثير انتباه إدريس في كتاب/ فكر علال الفاسي، خصوصا وأنها فكرة «ملتبسة» وتثير «الشعور»... ومناقشة علال لها، وبالاستناد إلى «الخلفية الدينية المستنيرة»، تندرج في صميم «استشراف آفاق المستقبل». و«بتأليفه النقد الذاتي ودع علال جيلا من الوطنيين ورحب بجيل آخر وبذلك ضمن لنفسه مقعدا بين الشباب»(75). وكما قال الناقد والكاتب عبد القادر الشاوي في كتابه «حزب الاستقلال»:  «...ولولا وجود (النقد الذاتي) كمشروع طموح، لصار من الصعب تماما الحكم على نشاطه في هذه الفترة بصورة إيجابية. فالحماس الجماهيري وأعمال المقاومة المسلحة، زيادة على انتشار مفهومات الوطنية عن النضال والاستعمار... إلخ، كانت تفعل في واقع الصراع في استقلال كبير عن الحزب»(76). إجمالا إن علال الفاسي يتصور، وفي الكتاب ذاته، أن «المغربي»، ظل، وعبر التاريخ، رافضا لأي «سلطة خارجية»، قد تسقطه في أي نوع من «التبعية»، وبما في ذلك «السلطة الروحية» كما تجسد من خلال مشيخة (المغاربة) للزوايا والطرق في المغرب(٧٧). غير أن تاريخ صدور الكتاب (1952)، وتأثير المرحلة ذاتها، وبسبب من محنة الاستعمار، لم يجعل إدريس يتوانى عن النبش في أسباب «الصمت» الذي طبع «أطروحة» الكتاب من ناحية «علاقة الحزب بالمقاومة المسلحة». وللإشارة فقد انطلقت هذه المقاومة (الحضرية) المسلحة من خارج الحزب، ثم إن هذا الأخير لم يتمكن من «السيطرة» عليها إلا في فترات لاحقة.
وفي مقابل «الفكر الوطني» كان إدريس يناقش «الفكر الاستعماري» أيضا. وأول ما يستوقفنا، هنا، نقده لرواية الكاتب المغربي إدريس الشرايبي (1926 ــ 2007) «الماضي البسيط»(Le passe simple) (1954) التي صفى فيها صاحبها حسابه مع الأسرة والمجتمع، بل وختمها قائلا: «أنا متجه إلى باريس بالذات» (78). وقد استغلتها الإدارة الفرنسية لتبرير سياستها الاستعمارية. ويتصور صاحب الرواية، وعلى حد تعبير السارد، «أن الوطنية حركة تمثل مطامع ومصالح الطبقة البورجوازية المغربية، الطفيلية المنحلة أخلاقا والمتخلفة فكريا، وأن الملك محمد بن يوسف، عندما تحالف معها، فقد حب وولاء الغالبية العظمى من الشعب في البوادي والقرى» ويعلق السارد «أن المؤلف كان ضحية حملة دعائية ذكية، ولكن الطلبة المغاربة في باريس، خاصة المتحزبين، لم يلتفتوا إلى هذا الجانب بل عبروا عن سخطهم بشتى الوسائل وألقوا كامل المسؤولية إلى كتف الكاتب...»(79). غير أن إقدام الكاتب نفسه، وبعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى، على نشر مقال يسير في الاتجاه نفسه أكد محتوى الرواية ومدى إساءتها لـ«مقدسات» البلاد. وقد كانت لكتابته هذه، وعلاوة على النقد العنيف الذي قوبلت به في لحظتها، تداعيات امتدت لسنوات في صفوف «الإنتلجينسيا المغربية» إلى أن التفتت إليه مجلة «جيل لاحق» أو « جيل ما بعد الاستقلال مباشرة»، ونقصد إلى مجلة «أنفاس» (Souffles) التي ستكرس له في عددها الخامس من عام 1967 ملفا تحت عنوان «إدريس الشرايبي ونحن». وهذا بعد أن كان أحد الكتاب المغاربة البارزين (بالفرنسية) وهو عبد الكبير الخطيبي قد أفرد له، وقبل عام واحد فقط، وفي المجلة ذاتها (العدد ٣)، مقالا صغيرا «دافع» فيه عنه، لكن دون «التغافل عن «الموقف» سالف الذكر الذي نعته بـ«غير الواقعي»(80). إجمالا فنص «الماضي البسيط» لا يمكن تلخيصه في هذا «الموقف»، لأنه تضمن «تمردا» على العادات الأسرية والتقاليد المجتمعية؛ مما يجعله نصا مندرجا في نطاق ما نعته إدريس «أوراق» بـ«الفكر الفوضوي» جنبا إلى جنب إدريس «الماضي البسيط» الذي ألح بدوره على: «إن هذا البلد لفي حاجة إلى فوضويين»(81).
إلا أن فكرة «القابلية للاستعمار» (La colonisabilité) كان المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905 ــ 1973) قد أثارها منذ كتاباته الأولى. وفي تصور هذا الأخير: لقد طرح المجتمع الإسلامي مشكلة «الاستعمار»، وفي مقابل ذلك أهمل مشكلة «القابلية للاستعمار»(82). غير أن فكرته لم تكن «مغرضة» مقارنة مع رواية «الماضي البسيط». ولا يخفى أن كتابات هذا المفكر اتسمت بنوع من «التحليل» المغاير والمخالف لما كان سائدا في الفكر العربي، خصوصا وأنه ركز على «مشكلات الأفكار» في العالم الإسلامي... الأفكار التي تتحول إلى «قوة مادية» إذا جازت عبارة كارل ماركس. وكل ذلك في المنظور الذي لم يجعله يلخص الأشياء في معاداة الاستعمار وتربية الأجيال على الحقد على هذا الأخير، بل ولا حتى في مفاهيم الاستشراق التي كانت تؤطر «الانقسام» و«التضاد» بين «لشرق» والغرب»(83)... ولا في أن نساير الاستعمار حين يعد سبب «تأخرنا هو الإسلام» فنرد عليه بـ«أن السبب هو الاستعمار ذاته»(84). فالمشكل، في تصوره، يتجاوز ذلك إلى «الثقافة» ككل، الثقافة التي هي شرط «الحضارة» و«الإنسان». إجمالا لا تعزب عن بال إدريس أفكار مالك بن نبي، بل إنه يناقش بعضها في «أوراق» ولاسيما من ناحية «المرجعية» وطبيعة «التحليل» الذي لا يبدو موافقا عليه. غير أنه يستهل مناقشته بفكرة «القابلية للاستعمار» التي يرفضها من الأساس، يقول: «نشرت دار لوسوي، ذات الاتجاه المسيحي التقدمي، كتابا بعنوان دعوة الإسلام لمهندس جزائري، هو مالك بنابي، ناقم على اتجاه الأحزاب الوطنية. صادف صدور الكتاب اندلاع الثورة، فاستغلته الدعاية الاستعمارية كما استغلت من قبل قصة إدريس الشرايبي. لهذا السبب عارض إدريس أطروحته، خاصة تلك التي تقول إن البلاد الإسلامية استعمرت لأنها كانت قابلة للاستعمار، كما لو كان المسؤول عن السرقة ليس السارق بل صاحب الدار الذي سها ولم يقفل الباب»(85). وقد كان الوضع في الجزائر يفرض مثل هذا النوع من «النقد»، ويمكن أن نرد ذلك إلى ما كان يعرف بـ«تصلب» جبهة التحرير الوطنية. أجل لم يكن ثمة أي نوع من «الشك» حول «الاستقلال» باعتباره «شرطا مسبقا» على أي تفاوض، غير أن ذلك لم يجعل البعض يخفي تساؤله حول ما إذا كان لهذه الجبهة من «برنامج». فـ«الاستقلال لا يختصر بعلم يُرَفْرَف» كما سيقول صاحب كتاب «تقليد وثورة» (١٩٩١) رضا مالك(86) رئيس الحكومة الجزائرية (1992 ــ 1994)، أي في أحلك الفترات التي تلت انتفاضة خريف 1988.
ويمكن أن نختم بأن نص «أوراق» ذو «خلفية ثقافية» تبدو ماسكة بصيغ وأشكال وخطابات النص. ثم إن «الثورة»، التي ظل إدريس يحلم بها، وقف على «المثقفين» لا «عموم الناس» أو «الجماهير»؛ وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء «قليل» (الأقلية المثقفة) فهم «يستطيعون أن يؤثروا في عقول الناس»، و«لكنهم خيبوا الآمال المعقودة عليهم»(87). ويشدد إدريس على دور هذه الأقلية،لأنها الأكثر قابلية لـ«الانفتاح» على العالم الخارجي كما يمكن أن يستخلص من دراسات العروي النقدية من ناحية موازية. ثم إ ن إدريس بدوره يعكس «تمثلات المثقف»، المثقف التاريخاني في استناده إلى مرجعية «الحداثة» أو «الفكر الحداثي ــ التاريخي». الحداثة التي لا تفارق «السياسة»، لكن بغير المعنى «المادي» أو «الإجرائي» لهذه الأخيرة. أجل إن إدريس لم ينخرط في أي حزب أو حركة، لقد احتفظ لنفسه بـ«حرية التفكير». غير أن هذه الاستقلالية لم تمنعه من أن يكون في صميم السياسة، ولاسيما من ناحية المفهوم ــ المفتاح: «الالتزام»، لكن بغير معناه المتصلب والشرس.
أجل أحس إدريس بـ«الخيبة» بعد استقلال المغرب، وبـ«الزمن المتثاقل» إذا جاز المفهوم الذي يوظفه العروي في «العرب والفكر التاريخي»(٨٨). غير أنه لم يصطدم، وبحدة، بالوضع الاجتماعي القائم على نحو ما حصل لـ«إسماعيل» بطل «قنديل أم هاشم» حين لفت انتباهه، فور نزوله من الباخرة في الإسكندرية، «أول قارب يظهر، فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته، مقوس الظهر، أقعى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد»(89)؛ ولا ما حصل لطه حسين، في نص «المعذبون في الأرض»، وكما يذكرنا بذلك العروي نفسه، في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، حين عاد (أي طه حسين) إلى مصر في أعقاب عطلة صيفية فإذا به يصطدم بنبأ «الكوليرا» الذي ألم بمصر(90).  وهل معنى ذلك أن إدريس «عدو نفسه»؟ قد يكون ذلك بشكل من الأشكال. على أنه ثمة «انقطاع» سيحصل، وبعد عودته من باريس، على مستوى «الأسئلة» التي كان هذا الأخير يطرحها من قبل و«باستمرار وبدون عياء» إذا جاز توظيف عبارة العروي(91). وكل ذلك في المنظور الذي سيفضي به إلى تلك «العزلة» التي ستحوله بالتالي إلى جنوب المغرب، البعيد. ولم تكن هذه العزلة من تلقاء نفسه، ولا يمكن فهمها في معزل عن بنيات المجتمع التي كانت تستوعبه. ومن هذه الناحية ألا يمكن النظر إلى عزلته بوصفها «عزلة المثقف النقدي»؟ «المثقف» الذي ظلت «أطيافه» تلازم إدريس حتى في مجال العاطفة. وأليس «موت» إدريس، الذي تختتم به أحداث الرواية، هو الوجه الآخر لـ«أزمة» هذا المثقف ذات «الوجوه المتعددة»؟ وألم تتعدد أسباب «موت» إدريس؟ وألم يتم بسط هذه الأسباب في نص »التأبين» لكن دون ترجيح أحدها؟ وكما سلفت الإشارة فـ«موته» ليس «موتا مأساويا»، إنه بمثابة «قتل سردي» أو «طلاق» بين السارد وإدريس؛ ذلك الطلاق الذي دفع السارد إلى أن يترك، في الأخير، في نص «التأبين» سالف الذكر،  لشعيب حرية «التعليق» على «الحدث». على أن إدريس لا يمكن أن يختزل في السارد بمفرده الذي أفضى به إلى تلك النتيجة التي لا تبدو صادمة بالنظر إلى الوقائع التي سبقتها، ثم إنه وحتى إن كان إدريس قد «ذهب بعيدا... « فهو يعكس «جيلا» بأكمله: جيل الاستعمار، والوطنية، والثقافة المزدوجة، وهيجل وماركس، ومطلب الحداثة... إلخ. ومن ثم ألا يحق لنا أن نقول بأنه يلتبس بالمغرب ذاته خصوصا وأنه ظل يحضر في مستويات عديدة للمجتمع رغم مظهر العزلة الذي غلب عليه، أكثر، في الأخير. ومن هنا ألا يمكن القول بأن إدريس هو «المغرب» الساعي إلى مقاومة «اليأس التاريخي» من أجل الاندراج في «الاسترسال التاريخي»؟
إحـــــــــــــــــــــالات:
1 ــ تجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة جزء من دراسة مطولة حول «المغرب وخطاب ما بعد الاستعمار»، وهي قيد الإنجاز والتطوير والتوسيع. والدراسة مصدرة بفصل نظري مطول حول «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي»، ونأمل أن تظهر في قادم الأيام.
2 ــ عبد الله العروي: الأفق الروائي (حوار)/ الكرمل، العدد ١١، 1984، ص170.
3 ــ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995، ص 138.
4 - A. Laroui : Esquisses Historiques, Centre Cultural Arabe, 1993, P 162.5 ــ دوغلاس روبسون: الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة، ترجمة ثائر ديب/ نزوى، العدد ٥٤ يناير 2006، ص 46.
6 ــ عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1992، ص 155.
7 ــ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 86.
8 ــ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 86. وانظر: ــ عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1985، ص 21.
9 ــ عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص 168.
10 ــ عبد الله العروي: عوائق التحديث (محاضرة)/ جريدة الاتحاد الاشتراكي، ملحق «فكر ونقد»، 03/ 02/2006.
11 - A . Laroui : Islamisme Modernisme Libéralisme, Centre Culturel Arabe, 1997, P 25.
12 ــ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص 74.
13 ــ للمزيد من التوسع في هذه الفكرة انظر الجزء الذي كرسه هشام جعيط في «أوروبا والإسلام» (دار الطليعة، بيروت، 1995) لمناقشة تصور عبد الله العروي لـ«أزمة المثقفين العرب».
14 ــ عبد الله العروي: مذكرات الصباح/ حجرة في العنق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005، ص 50.
15 ــ ظهرت دراسة العروي حول المستشرق الأمريكي (الألماني الأصل) فون غرنباوم (Gustave Von Grunebaum) (1909 ــ 1972) في مجلة «ديوجين» (Diogène) (العدد 83، 1973)، وبعد ذلك ضمها إلى كتابه «العرب والفكر التاريخي» (1973).
16 ــ عبدالله العروي: خواطر الصباح/ يوميات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2003، ص30.
17 ــ عبدالله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص١٣١.
18 ــ إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، المؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ١٩٨١، ص 197. وإدوار سعيد: الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، 1997، ٢٤٢.
19 ــ عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة السادسة، 2000، ص ٢٢.
20 ــ عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص 50.
21 ــ ثائر ديب: إدوارد سعيد ونقاده الماركسيون: صنمية الخطاب الاستشراقي/ جريدة السفير، 28/ 10/ 2005.
٢٢ ــ زيودين ساردار وبورين فان لون: الدراسات الثقافية، ترجمة وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٣٠٠٢، ص٤١١.
23 ــ التعريف بكتاب محاورة فكر الروي
24 ــ عبدالله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص213.
25 ــ عبدالله العروي: خواطر الصباح/ يوميات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، ص188.
26 ــ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص120.
27 ــ المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
28 ــ يحيى بن الوليد: تدمير النسق الكولونيالي ــ محمد شكري «قارئا» للكتاب الأجانب/ نص المداخلة التي ساهمنا بها في دورة محمد شكري الثانية (الهامش/ الهامشي والأدب) التي نظمها المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية يومي ٩ و 10 دجنبر 2005. وينتظر أن تظهر أشغال هذه الندوة في كتاب جماعي.
29ـ عبدالله العروي: العرب والفكر التاريخي، ص102
30ـ عبدالله العروي: : الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص210
31ــ عبدالله العروي: أوراق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، ٦٩٩١، ص17.
32ـ عبدالله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص214
٣٣ ــ ماكسيم رودنسون: مقدمة الترجمة العربية لـ«الإيديولوجية العربية المعاصرة»، محمد عيتاني، دار الحقيقة،بيروت، الطبعة الرابعة، ١٩٨١، ص٦.
34ـ عبدالله العروي: : الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص47
35ـ م ن، ص235
36 م ن، ٤١٢.
37ـ عبدالله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص167.
38ـ للمزيد من التوسع في هذا الموضوع ينظر نص الحوار مع عبدالله العروي في كتاب «من التاريخ إلى الحب»، الفنك، الدار البيضاء، 1996.
39 ــ عبدالله العروي: الأفق الروائي (حوار)/ الكرمل (مرجع سابق)، ص176. وللمناسبة يستهل الناقد المغربي صدوق نور الدين بهذه الفقرة دراسته «عبد الله العروي والحداثة الروائية»، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1994. وفي السياق نفسه لا تزال بعض الدراسات تربط بين «الأدب» و«التحليل» عند العروي، انظر: الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث، أحمد المديني، شركة ناداكوم للطباعة والنشر، الرباط، 2000. ويعتمد صاحب الدراسة على التصنيف (الثقافي) الثلاثي (الشيخ/ الليبرالي/ التقنوي) الذي اعتمده العروي في «الإيديولوجية العربية المعاصرة». ومن ثم يمثل شعيب، في رواية «الغربة»، وفي نظر صاحب الدراسة ، «الشيخ»، في حين يقع إدريس في مفترق طرق الأنهاج سالفة الذكر، ص 318.
40 ــ عبدالله العروي: : الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص21، ص٦٦.
41 ــ عبدالله العروي: من التاريخ إلى الحب، ص ٦.
42 ــ جابر عصفور: القاهرة لم تعد العاصمة الثقافية.. الوحيدة (حوار)/ الوطن العربي، العدد 1061، الجمعة، 04/ 07/ 1997، ص43.
43 ــ أحمد المديني: الكتابة السردية، ص312.
4٤ ــ أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1993، ص51.
45 ــ ينظر في هذا الصدد الدراسة المتينة لخيري دومة: عدوى الرحيل/ موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية «ما بعد الاستعمار» (جهاز الإنترنت).
46 ــ صدرت رواية «البعيدون» أول مرة عن منشورات الهلال بالقاهرة عام 2001. ونعتمد، هنا، الطبعة الثانية الصادرة عن منشورات سليكي إخوان، طنجة، 2001، ص 170.
47 ــ م ن، ص 122.
48 ــ م ن، ص١٠١.
49ــ م ن، ص 127.
50 ــ صص 54ــ٥٥.
51 ــ إدوار سعيد: الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الأدب، بيروت، 1997، ص 239.
52 ــ نقلا عن «غرامشي في العالم العربي»، تحرير مكيشيل بروندينو والطاهر لبيب، ترجمة كاميليا صبحي، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠٠٢، ص 112.
53 ــ للمزيد من التوسع ينظر كتاب: الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي، الدكتور بنسالم حميش، سلسة المعرفة للجميع (المغرب)، العدد 23، فبراير ٢٠٠٢.
54 ــ فخري صالح: تهجين الثقافات يمزج الشرق بالغرب/ الحياة (اللندنية)، 24/ 01/ 2006.
٥٥ ــ عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص211.
56 ــ عبدالله العروي: من التاريخ إلى الحب، ص 41.
57 ــ عبدالله العروي: الأفق الروائي/ الكرمل، ص 184.
58 ــ عبدالله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص 177.
59 ــ عبدالله العروي: أوراق، صص ٥٥ــ 65.
60 ــ عبدالله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص 177.
61 ــ عبدالله العروي: أوراق،ص 31.
62 ــ أحمد المديني: الكتابة السردية، ص 311.
63 ــ عبدالله العروي: خواطر الصباح/ حجرة في العنق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005، ص 62.
64 ــ عبدالله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص59. عبدالله العروي:  الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة بيروت، الطبعة الرابعة، 1981، ص 39.
65 ــ عبدالله العروي: أوراق، ص 59.
٦٦ ــ م ن، ص 134.
67 ــ م ن، ص 107.
68 -A. Laroui : Esquisses Historiques, P 132.
69 ــ عبد الله العروي: أوراق، ص 100.
70 ــ م ن، ص ٦٦.
71 ــ م ن، ص 69.
72 ــ عبدالقادر الشاوي: حزب الاستقلال، عيون المقالات، الدار البيضاء، 1990، ص 221.
73 ــ عبدالله العروي: أوراق، ص 95.
74 ــ مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1984، ص 106.
75 ــ عبدالله العروي: أوراق، ص ١٠١.
76 ــ عبدالقادر الشاوي: حزب الاستقلال، ص 110.
٧٧ ــ علال الفاسي: النقد الذاتي، لجنة نشر تراث زعيم التحرير علال الفاسي، الطبعة الخامسة، الرباط، 1979، ص 138.
78 ــ إدريس الشرايبي: بوابات الماضي، ترجمة محمد عجينة، دار سراس للنشر، تونس، 1986، ص 304.
79 ــ عبدالله العروي: أوراق، ص 108.
80- Abdelkebir khatib : Justice Pour Driss Charaibi / .84 P ,6691 ,3 N ,selffuoS
81 ــ إدريس الشرايبي: بوابات الماضي، ص٠٢٢.
82- Malek Bennabi : Le Problème Des Idées Dans Le Monde Musulman , El Bay'yinate, Alger, 1990,P 49.
38 ــ تركي علي الربيعو: قراءة في موازاة فكر بن نبي (ملف «مالك بن نبي: مجدد استثنائي في الفكر الإسلامي)/ حوار العرب، العدد 14، يناير 2006، ص 63.
75- Malek Bennabi : Le Problème Des Idées Dans Le Monde Musulman, P 60.
85 ــ عبدالله العروي: أوراق، ص 129.
86 ــ رضا مالك: تقليد وثورة ــ الرهان الحقيقي، ترجمة جوزف أبو رزق، دار الفارابي، بيروت، لبنان، 2003، ص 119.
87 ــ عبدالله العروي: أوراق، ص 54.
٨٨ ــ عبدالله العروي: العرب والفكر التاريخي، ص 112.
89 ــ يحيى حقي: قنديل أم هاشم، سلسلة اقرأ، دار المعارف، الطبعة التاسعة، 1995، ص ٢٢.
90 ــ عبدالله العروي: : الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص37.
91 ــ  عبدالله العروي: مجمل تاريخ المغرب، ص30.