إن الناظر للتنظيم المجالي المغربي ، يلاحظ نزوعا نحو تقعيد ممارسة تبتغي الحكامة الترابية ، و تهفو إرساء مجال أقرب إلى التجانس ، ساعيا إلى ضمان قدر كبير من المرونة على آليات الرقابة و التدبير ، و " توريط " الفاعل المحلي في إدارة مجاله الخاص ؛ فالمتتبع لمختلف التقسيمات التي عرفها المغرب سواء في ظل الحماية التي قسمت المجال المغربي إلى مناطق عسكرية و أخرى مدنية ، بهدف تأمين مراقبتها للبلد ، دون أن تعير اهتماما للاعتبارات الاقتصادية التي تنبني عليها سياسة إعداد التراب الوطني ، مرورا بتقسيم Célérier سنة 1948 ، و الذي استهدف تجميع الوحدات المجالية ، وصولا إلى تقسيم 1971 الذي قسم المغرب إلى سبع جهات ، و قرر تطبيق الجهوية باعتبارها أداة للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية من أجل تحقيق تنمية متوازنة لمختلف أجزاء المملكة ، و أمام عدم قدرة هذا التقسيم على تجاوز إكراهات المجال و القضايا التنموية المتعلقة به ،رفع دستور 1992 الجهة إلى مؤسسة دستورية ، و أمدها ظهير 1997 بإمكانات مادية و مالية من خلال سياسة اللامركزية في بعدها الجهوي ، ( قانون تنظيم الجهات 96ـ 46 في أبريل 1997) ، حيث أصبح للجهة كيان مستقل يتمتع بالشخصية المعنوية و الاستقلال المالي ، بالإضافة إلى اختصاصات قانونية و تقريرية و استشارية .
غير أن الجهة في ظل دستور 1996 ؛ لم تكن لتتوفر على المقومات المعترف بها في إطار اللامركزية الإقليمية المدعمة لمجال استقلالها عن الإدارة المركزية ، إذ لا تمتلك طاقما إداريا خاصا بها في إطار قانون خاص بموظفي الجهات على غرار مرسوم 1977 المنظم لموظفي الجماعات ، بل و يبقى موظفوها تابعين للإدارة المركزية ملحقين بالجهات في إطار وضعية الإلحاق ، كما لا تتوفر على إطار قانوني خاص ينظم مالية الجهات على غرار القانون 45.08 المتعلق بالتنظيم المالي للجماعات المحلية و مجموعاتها ، و ذلك في ظل ضعف موارد الجهة و الذي يحول دون ممارسة اختصاصاتها بالنجاعة المطلوبة .
إن فشل تقسيم المغرب إلى 16 جهة بعد 14 سنة من التطبيق يعود إلى طبيعة الصلاحيات الحقيقية المكفولة لسلطات الوصاية ـ أي الولاة و العمال ـ الذين يتم تعيينهم بشكل مباشر من المركز الإداري للدولة ، و هذه من إحدى أهم العراقيل التي حدت و ستحد من مفهوم الجهوية المتقدمة ، ما دامت الدولة ظلت حبيسة تصورها الخاص لعلاقتها بالمجتمع من خلال سياسة الريبة و الاحتياط و التعامل الحذر المؤطرة بسياسة أمنية تكرس لنهج سلطوي يرى نفسه المنتج الحقيقي للمفاهيم السياسية و التنموية .
أقر دستور 2011 و في بابه التاسع خاصة في الفصول الممتدة من 135 إلى 146 ، باعتبارها الفصول المنظمة للجهات و الجماعات الترابية ، نظام الجهوية الموسعة ؛ و هو شكل إداري يعطي للجهات تحررا أكبر عن مركز القرار ، بمنح رؤسائها صلاحيات أوسع في مقدمتها تدبير الميزانيات من دون تدخل أطراف أخرى ، و تمكينهم من تنفيذ قرارات المجلس ، و تمثيل الجهة أمام القضاء ، و رفع الدعاوى و التحدث باسمها و التكلف بكل أعمال البيع و الكراء و الشراء و إبرام الصفقات ، و تقديم الخدمات المتعلقة بمنشآتها و ممتلكاتها .
قد تفيد هذه الاختصاصات بوجود نية بناء استقلال جهوي ، إلا أنه قد يصطدم ب 70 تدخل للوالي ـ السلطة الوصية ـ في عمل رئيس الجهة ، ذلك ما ينبئ بإرادة فرملة التنمية خارج الوصاية الأمنية ، و هو ما يعني أن اللامركزية تفهم فقط في جانبها الإداري " القانوني " الصوري ، دون تحديث وسائل و مقومات البناء الرامية إلى ترسيخ اللامركزية السياسية باعتبارها طموحا مشروعا ؛ فالجهوية الموسعة لم تأت نتيجة الرغبة في بناء التنوع الذاتي ، أي الانتقال إلى بلد يحتضن جميع مناطقه في سعي حثيث إلى تجاوز إكراهات الذات الداخلية و تصويب أخطائها و ندوبها ، بل جاءت كرد فعل سياسي على التصنيفات المتدنية للاقتصاد المغربي من طرف المؤسسات المالية العالمية ، و تصاعد وثيرة الاحتجاجات المدنية خاصة حركة 20 فبراير و تنسيقيات غلاء المعيشة و فواتير الماء و الكهرباء و التي انتقلت من 60 تنسيقية سنة 2006 إلى 90 سنة 2009 ، دون إغفال مبادرات إنشاء حركات الحكم الذاتي بكل من سوس و الريف ، الاستجابة لهذه المطالب عبر الجهوية المتقدمة لم تأت في إطار الرغبة في التغيير و تطوير ثقافة المؤسسات و الرقي بالممارسة السياسية و المدنية ، بل سعيا لإعادة بناء و هيكلة النظام و الحقل السياسيين بتجديد المفاهيم و التصورات ؛ فرقي الوثيقة الدستورية في إعلاء قيمة الجهة و دورها و السلط الممنوحة لها ، لا يعد في نظرنا كافيا للانتقال من مستوى جهوي إلى آخر أكثر تقدما و رقيا ، لأن ذلك مرهون قسرا بطبيعة تصور الفاعلين الرئيسيين ، و بحجم و طبيعة الإمكانات ؛ إذ إن حسن النية المرافقة للوثيقة الدستورية لا يشكل ضمانة تكتسي فعالية التنزيل سياسيا و حقوقيا .
لا زال الإشكال قائما في ظل الجهوية المتقدمة ؛ حيث إن مفهوم الجهة ( régionalisme) يعني مجموعة متماسكة ذات أهداف سياسية دفاعية قد تتحول إلى توجه سياسي ، أما المعنى الثاني ( régionalisation) ، فيفيد الإطار و المجال الإداري و الاقتصادي ، و تغدو الجهة وفق التصور المغربي من جهة اقتصادية تنطلق من الفكر نحو المجال ( التطويع و الإدماج ) ، بدل الارتفاع من المجال نحو الفكر ( التدرج في البناء و إيجاد سبل النجاح و الإنجاح ) .
و من جانب آخر ؛ يثبت مفهوم الجهوية صعوبة في التعريف بفعل الاختلاط التاريخي في الغاية ، حيث يصطدم مع ذاته ما دامت الجهوية هي مسار متطور و متجدد باستمرار ، تبعا للظروف السياسية و الثقافية و الاجتماعية المختلفة و المتغيرة زمنيا من فترة لأخرى و من بلد لآخر ، قد تعني الجهة لغويا الوجهة المؤطرة بالغاية و هي بذلك تختلف عن المنطقة ،و التي هي رقعة ترابية مشخصة ثقافيا أو سياسيا أو عسكريا ، و عن الناحية التي تطلق على اتجاه جغرافي غير محدد ترابيا ، و في هذا المستوى ليست الجهوية المتقدمة هي الجهوية الموسعة ؛ إذ تجمع الموسعة بين التدبير الإداري و السياسي بصفة مستقلة أي إحداث برلمان مصغر لكل جهة من خلال حكومة تدبر شأن كل جهة ، في وقت تفيد المتقدمة التدبير الإداري بصفة مستقلة عن اللامركزية .
سلف بنا أن أكدنا أن الاهتمام بالمجال الجهوي خاصة في دستور 2011 ، لم يأت إلا بعد استفحال خطورة الفوارق و التفاوتات الجهوية ، و عجز الإطار الإقليمي عن مواجهتها لمحدوديته و محدودية السلطات المخولة له ، و بفعل تجاوز حالة الركود و الكلفة التي تتأتى من ملف الصحراء و تسويق الصورة الحقوقية للحكم الذاتي في المحافل الدولية ، و ذلك ما يؤشر على أن الغاية من الجهوية المتقدمة لا تتماشى مع المتطلبات التنموية الداخلية ؛ أي أن عملية بناء المجتمع و الفرد داخل المشروع المجتمعي تتخلف علميا عن هذا المسار الجهوي ، الذي يتطلب فك الارتباط بين الدولة الأمنية و الريعية ، و ما بين الأسس العلمية الكفيلة بتحقيق التنمية المستدامة ، القائمة على إشراك كافة المكونات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية من دون استثناء بدءا بصياغة الخيارات ، مرورا بالإنجاز وصولا إلى التقييم و المراقبة . هذا المطلب الديمقراطي يعد قاعدة لحل مسألة الاندماج الاجتماعي الذي تعاني منه المجتمعات الهشة في نسيجها الاجتماعي بفعل ثقل الموروث العصبوي و التفاوت في مستوى مشاركة الجماعات الاجتماعية في السلطة ؛ فكلما ترسخت القيم الديمقراطية كلما سادت علاقة المواطنة ، و أعيد صوغ النسيج الاجتماعي على نحو تتضاءل فيه الانقسامات العمودية الموروثة ، و تتسع و شائج الترابط و الاندماج الاجتماعيين ، إذ كلما تباينت التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل و الثروة ، كلما قلت و ضعفت ثقافة المواطنة و اتسع نطاق الإحباط .
من المعلوم أن الجهة تختلف درجة ارتباطها بالدولة تماشيا مع الشكل الذي بنته في إطار نموذجها التاريخي و حسب مقومات شرعيتها السياسية ، و هنا يمكن أن تسقط المشاريع التنموية في ظل براثن هذا الإرث من خلال طبيعة توزيع "المنافع" و الحصص المالية و اللوجستية على الجهات و الأقاليم الدائرة في فلك السلطة أو المغضوب عليها ( المجالات و الأقاليم التي تبنت الانقلابات مثلا ، أو لها إرث في الثورة على السلطة المركزية ، و في المقابل إعلاء شأن منطقة من دون توفرها على امتيازات محددة كسطات البصري ، أو اللوبي الفاسي و علاقته بجهة فاس ـ مكناس حاليا) ، هذا الموروث الذهني المدعوم تاريخيا بالبيعة و الولاء أو التلكؤ فيهما ، لا يمكن أن يذوب بمجرد تبني الجهوية فهو موكول إلى سلطة المواريث الاجتماعية و السياسية و الثقافية ، التي تشكل أوراشا لفشل الدولة في بناء نموذجها الحضاري المتكامل ، إذ بالرغم من المطالب المتنامية لمكافحة الفساد و سيطرة الأسر المخزنية في ظل ثقافة اقتصاد الهمزة ( الريع و الظرفية ) ، و بناء الأمن الاجتماعي و زيادة الخدمات خاصة التعليم و الصحة ، و إعادة هيكلة النظام الضريبي ، لا زالت الانتظارات طويلة و ممتدة في الزمان و المكان ، مع ما يوازيها من غياب الشفافية و الرقابة الشعبية أو البرلمانية(آخرها السكوت المطبق من طرف غالبية الأحزاب و فعاليات المجتمع المدني على ما ورد في وثائق بنما و تورط منير الماجيدي السكرتير الخاص للملك ) ، بالإضافة إلى الانتقائية التي تضبط عمل المجلس الأعلى للحسابات ، الذي يوجه بوصلته نحو القطاعات التي لا " تهدد السلم الاجتماعي " و تورط فالعاليات السياسية و المدنية ، و تلوذ بعدم الاكتراث في ما يخص الجيش و الداخلية و القصر و الصناديق السوداء و تحييدها من سلطة الرقابة .
تأسيسا على ذلك ؛ العائق الذي يحول دون بناء نموذج جهوي لا يتعلق بالمسطرة القانونية و الإدارية ، بل يهم المعطى الذهني و السيكولوجية الاجتماعية و المجالية ، التي لم تنخرط فيها الدولة بعد من أجل تحطيم معيقات الانتقال من مستوى العرق و الحضانة القبلية و الطبيعية إلى مستوى الدولة و الكائن و المواطن ، أمام هذا العائق تنتصب و بشكل موازي النزوعات السلطوية و المخزنية القاتلة ، التي أفضت إلى إقامة " نظام " خاص لقتل الفاعل السياسي و النقابي و المدني ماديا و رمزيا ، و كرست لضعفه و هامشيته في المشاريع التنموية ، و أنتجت في المقابل " نخبة " تقنوقراطية و أحزاب إدارية تشكل جيشا احتياطيا للقصر ، و " البديل " المستعد دائما للتعويض و سد الخصاص ، ومداواة التمنع عن الإدماج التي تبديه بعض فصائل القوى ذات الامتداد الاجتماعي ، فقد أبان هذا الفاعل الاحتياطي عن ضعف كبير في قيادة المشاريع " التنموية " ، و أغرق البلاد في سلسلة تراجعات لعل أبرزها عدم قدرته على التسيير الذاتي من خلال التدبير المفوض الذي عرى على فشل النخب المحلية في إدارة الأوضاع (نتائجها واضحة في انتفاضة مدينة الدار البيضاء على شركة ريضال ، و مدينة طنجة مع شركة أمانديس في أكتوبر من السنة الماضية ) ، و مما قد يزيد الأمر صعوبة غموض إنتاج النخب في ظل تباين جهوي حاد في الكفاءة البشرية ، عبر الاختلاف في بناء حجم الأقاليم و عدم تساويها في الساكنة النشيطة و الموارد الطبيعية و الثروة الفكرية و العلمية ، و يتضح أن تقريب المجتمع من نفسه و من حاجاته النفسية و البيولوجية هو الدواء الفعال و الملائم لمواجهة انخفاض فعالية الدولة و " جدواها " .
بناء على هذه الأسس ، قد لا يعكس مشروع الجهوية طابع الأصالة و الجدة ، ما دام لم يشتغل على بناء مشروع مجتمعي يهتم ببناء الثقافة المواطنة و تدبير مصادر وعيها و تنميتها المستدامة ، دون أن يكون أسير إكراهات دولية تفرض عليه الانخراط في مشاريع لم يوفر لها سبل المناعة الذاتية ، و قد لا نغالي إذا حسبنا أن هذا المشروع الذي أصبح واقعا مجرد خطوة استباقية في إطار صراع استراتيجي ، و ليس خطوة في إطار إرساء نموذج تنموي قار له ملامحه الخاصة ، عوض أن يكون " قنبلة " تفجر و تكشف عن طبقات التاريخ اللاواعية و المكبوثة (رقي الفكرة و هشاشة الواقع و البنية الاجتماعية ) ، و التي قد تعرقل حسن النية المرافقة للتقسيم الحالي من خلال الإدماج الذي يبدو متجانسا من الناحية الأفقية ، و لكنه فقير و ضحل من الناحية العمودية لغياب المشروع الثقافي الكفيل بالحد من امتداداته العرقية و القبلية و ضعف الثقافة المواطنة و نقصد هنا الاعتداد بالانتماء المجالي القبلي الضيق من خلال بعض المؤشرات المتعلقة "بالعروبي" و "المديني" أو الشمال و الداخل أو حتى ما بين أبناء المدينة الواحدة " المدينة القديمة " و أصحاب السكن الاقتصادي " ، فالإصرار على بناء جهوية معينة عن طريق الإخراج الإداري و القانوني و الدستوري ، لا تصنع تميزا سياسيا و كفاءة ضرورية تؤهل لخوض البناء الفدرالي إلا إذا تم الأمر بالقوة و التسييف ، و هنا نكون أمام جهوية من نوع آخر.