تأمّلات: بالأمس، افريقيا قريبة ، واليوم بعيدة - الحبيب النهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"إن الافريقي ليس عدوّا للتغيير، وعندنا، اليوم، الكشف واضح عن هذه الحقيقة،. لأنّ له موهبة مدهشة، تعينه على التطبّع والتأقلم هو سمة حيوية لم تستطع التجارب ان تنال منها وهذه الموهبة يجب ان تتيح له ليأخذ مكانه في العالم، هذا المكان الذي منع عن الوصول إليه، زمنا طويلا"[1] دنيز بولم

يكتب سارتر في كتابه "اورفيوس الاسود": ماذا تتوقعون حين تنزعون الكمامة من على تلك الافواه السوداء؟ هل تظنون انهم سيهتفون بحياتكم؟ هل كنتم تعتقدون انكم حين ترفعون هذه الرؤوس التي احناها اجدادنا عنوة ستجدون الحب في أعينهم لا أعرف ولكنني أقول ان ذلك الذي ينظر في عيني لأي شيء اخر غير سؤاله الدائم، فانه سيفقد بصره؛ فلا اعتراف ولا كراهية، ولو انني صرخت، فلن تكون صرخة سوداء، لا، فمن وجهة النظر المتبناة في هذا الكتاب، ليست هناك مشكلة للسود، وعلى أي حال، حتى إن وجدت، فإنها لا تهم الرجل الابيض إلا مصادفة، انها قصة حدثت في الظلام، والشمس التي بداخلي يجب ان تشرق على كل الشقوق" فرانز فانون

سَبِقَ استعمال اسم افريقا لتسمية تونس ليمنح للقارة ككلَ، رغم اننا مبكرا اكتوينا بنار الانتماء فتساءلنا على أي أرض نقِفُ؟ كنت ابحث عن الأقليّة التي هي جزء من تاريخنا محاولا بث روح التجديد فينا، وهذا جعلني أضع إصْبِعِي على زناد النقد، أُفَكِّكُ وَأَبْنِي التأويلات بحثا عن المختلف والمشترك. واليوم أَفْترض –وسأعود إلى ذلك مرّة أخرى- لو لا نقطة ضوء غامق سبقت العتمة ولو لا الوعي بمقاصد الخروج بالدين إلى الدنيا قلت وأنا واثق من مشكاة الانوار اأقرأ عليها نفق التحولات الكبرى التي عاشتها تونس بأقل الأضرار، لأنّ مبادئ حقوق الانسان وقيم التنوير التي دافع عنها المواطنيون الأحرار أسست مجتمعا مدنيا قويّا يتصدّى لكل أشكال الكُلْيَانِيَاتِ؟ وهذا المخرج رأيته همّا مشتركا -وهذا تحتاجه كلّ البلدان الأفريقية بلا استثناء- وها أني أحاول كتابة هذا النصّ عن افريقيا بوصفي إفريقيًّا أستطيع وحدي أن أتحدث عن فلسفة مقاومة الاحتقار والعنف والعنصرية[2] عن الاستماتة والثبات عن الكيان ومستعيرا عبارات جون بول سارتر[3] بما هي رمزّيًا استعادة قوّة الانتماء للإفريقانيّة التي يصعب على غزاة البحر الأبيض المتوسط اصطيادها: هي إفريقانيّة ظلت مشروعا غير منجز.

هذه البداية المنفعلة الفعّالة فاجأتني لأرتحل في أواخر -عشيّة من لحظات تأملاتي تمتد إلى المغيب ملوحة بانبعاث نوراني قريب- إلى اسم افريقيا لأبارك عمق الرموز الايحائية الموغلة في عبق الذاكرة الجماعية، كان الجوُّ حارا شَبَهْتُ فيها -مجازا وتجاوزا لفوضى التواصل وعماء التأويلات المتنازعة –  الشمس بقرص نار لا هي بمقدس ولا هي بمدنس قد امتزجت بسحب سوداء داكنة وسحب بيضاء  كقيمٍ اهترت وبَلتْ ولا برق ولا رعد، والكلُ ضد الكلِّ مَعَاوِلُ بِنَاءٍ: وهذه لمسة الوفيّة لجذونا الأفريقية كانت  بمثابة مطر يوقظ قوس قزح متعدّد الألوان والويل ثم الويل للون الدّم فهو مَحْقُورٌ ومذْمُومٌ. جئت إلى الورقة البيضاء في عتبتها ساءَلْتُ هول الفراغ الذي يتربع على عرشها وفيه الخوف من عدم مقاومة اللامعنى وقد استوى في مساحاتها وكأني في نزاع حربي بين العدم والوجود وشُفيت بلحظة شعريّة شاردة من مرض ذاتٍ قلقةٍ بخواء معنى الوجود: لماذا فرطنا في الزمن ومنجزات العلم؟ وَاتجهت نحو مسالك الفكر لعلني اعتقل لحظة ديمومة حب لفتاة اسمها إفريقيا" بحثا في السؤال: لماذا نُولي اهتماما بالبحر الأبيض المتوسط  عوضا عن إفريقيا؟ وكان اختياري متزامن مع تكثيف الملتقيات والندوات داخل تونس وخارجها[4] بحثا عن إمكانات المبادرة والاستثمار في إفريقيا فأُمضيت اتفاقيات وأُرسلت وفود ورؤساء أعمال ورؤوس أموال إلى بلدان إفريقية. وها إني استرجع حلما راود قادة الفكر المهتميين بإفريقيا نذكر من بينهم جورج بالاندييه[5]، جان زنجلر وفرانز فانون، ومالك ابن نبي،[6] ألبير ميمي وجاك بارك ومن ضمنهم كذلك أستاذي عبد الوهاب بوحديبة الذي بيّن منذ سنوات "أن السوسيولوجيا حول افريقيا، لا يمكن أن تكون إلاّ سيوسولوجيا التنمية"[7]. وكنت قد استفدت من كتابات لوي فنسان توماس الذي اهتم بإفريقيا خاصة في اطروحتي حول الموت[8] وكذلك كتاب محمد صالح محمد أيوب الذي تحدث فيه عن الأنماط الرئيسية لجماعات التحديث في وسط افريقيا وأشكال العمل الاجتماعي التي تتحرك فيه هذه الجماعات[9] وبالإضافة إلى ذلك لنسترجع  في أواخر الستينات رحلة الحبيب بورقيبة إلى عدد من البلدان الأفريقية-في دلالاتها التاريخيّة تحتاج دراسة مستقلة- حيث أن أبرز خطبه تميزت -في ذلك السياق التاريخي- بالتركيز على الوحدة الأفريقية التي رأى ارتكازها على اللغة الفرنسية ومتعاونة مع فرنسا ضرورة. ولا يجب أن نسى تألّق القمودي التونسي الإفريقي في الألعاب الأولمبية.بفرنسا (كان بمثابة انتصار للرياضة الأفريقية) –وهي نقطة ضوء يقع التغافل عنها – كما يجوز البحث عن سبب حمل هذه التجربة بذور فنائها في ذاتها هل فقط باعتبار أنّها لم تفك الارتباط بقوى الاستعمار القديم والحديث؟

ولكن ما أودّ الإشارة إليه في هذا النص التأمّلي المختزل هي هذه الملاحظات الملخصة في النقاط التاليّة:

  • رغم أن وعي نُخبِنا يسبق غالبا تجربة سياسات المجتمعات في طور النمو فأنّه لا يأخذ برأيها ولا يتم الاستناد على متخصصين في الشؤون الأفريقية ولا على التقارير الدقيقة والمحيّنة في حين المجتمعات المتقدمة كانت تجربتها عندها تسبق وعي خبرائها الاستراتجيين لأنّ سياساتهم الامبريالية كانت لا تتوقف على الحملقة في خزان افريقيا المادي واللامادي إذ الاستعمار هو السبب الذي به ظلّت إفريقيا قارة متخلفة، منهوبة ومستباحة وما يؤكد ذلك هو ما يحدث في بلدانها في ظلّ استمرار استنزاف الاستعمار لخيراتها والتحكّم في ثرواتها عن بعد لأنّه حسب فرانز فانون "قد تزول الأشكال الوحشية التي يجسدها وجود المحتل على الأرض زوالاً تاما. وفي الواقع زوالها لا يعدو كونه تخفيضاً لنفقات المحتل وإجراء إيجابياً من أجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهضاً، يدفع ثمنه مزيداً من تحكم الاستعمار وتلاعبه بمصيره"[10] فتظلُّ القارة مُثقلة بأوجاع الجوع والفقر والفوضى والتقاتل الدموي وبليت بالهجرات السرية في قوارب الموت وبتصاعد موجات العنصرية المقيتة فهل يعقل إذن الاستثمار الاقتصادي لمن ليس له معرفة مدققة عن الواقع الافريقي الذي يتحرك ككثبان الرمال؟
  • وجبت إعادة التفكير في التناقض بين الوعي بأهميّة الاستلهام من الثقافات الإفريقية ومنجزاتها وبين الشعور الجمعي فالمعلوم أنه رغم أن قارة افريقيا سميت باسم إفريقيّة إذالم تفرض تسمية تونس إلاّ في القرون القليلة الماضية، ذلك أنّ اسمها يعود إلى أصل لوبيّ "أفر" وتعني المغارة لأن البربر السكان الأصليين كانوا يسكنونها[11] وكانت تونس قد ساهمت في نشر الدين الاسلامي وخاصة الطرق الصوفيّة مما جعل إفريقيا تعيش "مرحلة جدّ راقية من "التنظيم السياسي والاقتصادي"[12] ولكن على مستوى المخزون النفسي اللاوعي للتونسي فعادة ما نتنصل من ذلك فعندما نتحدث عن الآخر الأفريقي نستشف منه كأننا نحن لسنا بأفريقيين فنقول مثلا "لاجئين افريقيين، قبضوا عليهم في سواحل البحر" "متزوجة بافريقي" ''طلبة افريقيون'' فكيف بتعاقب القرون والأزمان تباعدنا رغم القرب وانفصلنا عن هويتنا الافريقية وظل انتماءنا الافريقي مجرد عبارة في توطئة الدستور؟. وهل بهذا الشعور المزدوج يمكن تحقيق الوحدة الافريقية مستقبلا؟
  • قبل مجيء الاوروبيين[13] لم يعرف المجتمع الافريقي "الاقطاع، ولا الرأسمالية،.بل جلب الاستعمار معه ، وفرض، في أفريقيا التقسيم الطبقي ونشأة الطبقة الكادحة، وذلك بدمج افريقيا في سوق الراسمالية العالمية. ولم تقتصر النتيجة على التبعية للغرب بل خلقت اقتصادا مشوها لا يخضع لمطالب الشعوب الافريقية بل لنمو الغربيين نموا همجيا"[14] مما يعني ضرورة الانكباب لنقد الأعمال التحقيرية للثقافة الأفريقية واُعتبارها متخلفة في حين أنه على العكس من ذلك اكتشفت الانثروبولوجيا الافريقية ان هناك منطق خاص للمجتمعات الافريقية فالسحر لم يكن خرافة والديمقراطية لها اشكال تميز البناء الخاص للسلطة في افريقيا بحيث يمكن أن يكتسب الافارقة نقدا بفضل إرادة الوعي وبالعمل على تأكيد "حقوقهم وعلى مسؤولياتهم تجاه النظام الاستعماري" وهو ما سيؤول إلى ضرورة اعادة تقويم الماضي والثقافة" وإعادة تثمين كتابات من انتاج افارقة انفسهم او الذين لديهم إلمام بالثقافة الافريقية[15] لقد بيّنت هذه الدراسات المضادة للانثروبولوجيا الاستعمارية أن الجماعة التقليدية الافريقية كانت "تعيش حسب مبادئ: أولا الاحترام المتبادل بأن يعي كل امرئ انه جزء من الآخر ثانيا أن نظام التملك لجميع الخيرات يجب أن يكون ملكية مشتركة وثالثا يجب أن يكون العمل واجبا على الجميع''

هذه ملاحظات أوليّة فلم يكن بالنسبة إليّ أن اسمع تردد كلمة إفريقيا دون أن يثير في ذهني زوبعة فكرية حول امكانية تأسيس "سوسيولوجيا تنمية إفريقيا" فهل بالإمكان اليوم أن نؤسس لعلم متعدّد الاختصاصات يهتم بشؤون أفريقيا وقضاياها التنمويّة؟ ألم تشر العديد من الآراء إلى القول بأن "عالم اليوم، هو إفريقيا الغد"[16] وأنها "محرك نمونا المستقبلي"[17]

كتبت بتاريخ  26 اكتوبر 2020

 الحبيب النهدي: باحث وأستاذ جامعي متخصّص في علم الاجتماع الأديان وانثروبولوجيا الطقوس والاحتفال تونس

 

 

[1]دنيز بولم: الحضارة الافريقية ترجمة نسيم نصر الطبعة الثانية 198 ص 203

 

[2] تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي وصف فيها هذه الدول بأنها "حثالة"، بـ"الأوكار القذرة"! خلال اجتماع حول الهجرة في البيت الأبيض.راجع  فيديو سوار سويهي نص فرانس 24 تابعوا france24_ar على تويترآخر تحديث : 13/01/2018

 

[3] Memmi (Albert): Portait du colonisé. Précédé du portait du colonisateur et d’une préface de Jean-Paul Sartre ; Payot 2012 Paris 1973 p 23

 

[4]القمة الثالثة لمنتدى التعاون الصيني الافريقي المنعقدة ببكين 3 و 4 سبتمبر 2018 - فتح معبر بين الجزائر وموريطانيا- منتدى الاستثمار الافريقي من 07 إلى 09 نوفمبر 2018 بجنوب افريقيا - تونس تبحث عن بعدها الأفريقي 8 يونيو 2017 نن بوست

 

[5]كوبان (جان): جورج بالاندييه، عالم الاجتماع والمتخصص في القضايا الأفريقية ترجمة: محمد الإدريسي. مجلة إضافات/العددان 36-37 خريف 2016-شتاء 2017 صص : 341-245 جورج بالاندييه مدير مراكز البحوث الافريقية حلل وضعية الكولونيالية وما بعدها

 

[6]Bennabi (Malek) : A propos de la culture, Message au congrès des écrivains africains (mars 1959, Rome) In  premier festival culturel panafricain : la culture africaine, le symposium d’Alger 21 juillet – 1er août 1969, Société Nationale d’Edition et de Diffusion , ALGER 1969 pp 331-338

  • Balandier (George) : Afrique ambiguë 1975 et Sociologie actuelle de l’Afrique noire, dynamique des changements sociaux en Afrique centrale 1955
  • Ziegler (jean) : Sociologie de la Nouvelle Afrique 1964

 

[7] Bouhdiba (Abdelwahab): Culture et Société, Publications de l’université de Tunis 1978 p93

 

[8] Thomas (Louis-Vincent): Cinq essais sur la mort Africaine. Université de Dakar . Publication de la faculté des lettres et sciences humaines philosophie et sciences sociales N° 3. Dakar

 

[9]محمد أيوب (محمد صالح): جماعات التحديث الاجتماعي في وسط أفريقيا الطبعة الأولى دار الكتب المصرية 1991

 

[10] Fanon (Frantz) : Peau noire, masques blancs Seuil 1952

 

[11]التيمومي (الهادي): كيف صار التونسيون تونسيين؟ دار محمد علي الحامي للنشر الطبعة الأولى تونس توزيع دار التنوير للطباعة والنشر بيروت 2015 ص91 - 97

 

[12]عبد السلام الشدادي من مقدمة تحقيقه لكتاب المقدمة لابن خلون خزانة ابن خلدون بيت الفنون والعلوم والأدب المغرب ص XXIII

 

[13] الذي لم يكن لفرنسا أن تتغلغل فيه لو لا الاستعانة ببعض العارفين من التونسيين راجع محمد بن عثمان الحشائشي: الرّحلة الصّحراوية عبر أراضي طرابلس وبلاد التوارق ترجمة محمد المرزوقي الدار التونسية للنشر 1988

 

[14]روجيه غارودي حوار الحضارات ترجمة عادل العوّا منشورات عويدات بيروت باريس الطبعة الثالثة 1986 صص 201-202

 

[15]جيرار لكلرك: الانتروبولوجيا والاستعمار ترجمة جورج كتورة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت الطبعة الأولى 1990 ص 168 ص 169

 

[16] Béchir Ben Yahmed :ce que je crois : le monde d’aujourd’hui, l’Afrique de demain Jeune Afrique N 2648 du 9 au 15octobre 2011

 

[17] Interview Yves Delafon Par partenaire - Enedis 19/07/2018«Le moteur de notre croissance future, c'est l'Afrique»