الانسياق وراء "النَّقْر" أم المقاومة؟: في صحبة فلاسفة كلاسيكيين لنحت استراتجيات التعامل مع مراقبة العصر الرقمي ـ ترجمة: يحيى بوافي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

هل تقبل أن تكون مراقبا إما لأن ذلك يخدمك بشكل من الأشكال، أو لأنك لا تبالي به؟  هل تبحث عن مواجهة الاستغلال الذي يتخذك موضوعا؟ أربعة من الفلاسفة بإمكان صحبتهم مساعدتك والأخذ بيدك  لأجل تحديد موقفك.
مشيل إيلتشانينوف

في صحبة غوتفريد فلهلم لايبنز(1646-1716) Gottfried Wilhelm Leibniz أو المُجوِّدُ المتفائل

أنت تحت العين الرقيبة لكل من غوغل وفايسبوك وأمازون وغيرهم، ذلك ما تعرفه، غير أنك تتحمله لاعتقادك، مثلُك في ذلك مثل مقاولي الشبكة العنكبوتبة، أن عالماً يتحدث فيه الناس بعضهم إلى بعض ويتواصلون فيما بينهم أفضل من عالم يتجاهل فيه أحدهم الآخر. فأنت على يقين تام أن أفعالك وتحركاتك مراقبةُ كما أن المنتجات التي يتم نُصْحُك بها هي في تطابق مع أذواقك.  لكن هذا الأمر هو الأحسن والأفضل! بل إنك لَتشعُر في نفسك بضرب من الافتتان  بهذه البناءات الهندسية الرقمية البديعة والهائلة  التي تضمن اتصال الملايير من الأفراد فيما بينهم  بكل اللغات وحول جميع المواضيع، وهي بناءات لا تزداد إلا انغراسا ورسوخا. تديرها خواريزميات خفية وقوية جدا، تابعة لـشركة ذات تكنولوجيا فائقة   بكاليفورنيا.

وإذن فأنت في أعماقك متفائل، مثلك في ذلك مثل ذاك الذي يُلْهِمُكَ بوعي منك أو بدونه ؛ أي الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنز- فهذا العبقري العالمي، هو من نظَّر للعالم الرقمي الذي نعيش اليوم تحت سَطْوَته دون أن يكون لنا إحساس بأنه يُكْرِهنا على ذلك. وأول ما تصوَّره لايبنز هو الشبكة؛ لأن الواقع بنظره مركَّبُ من أفراد ودرّات أساسية يسميها بالمونادات، وهو يعتبر أن بعضها مستقل عن بعض بشكل مطلق: " كل جوهر فرد أو وجود تام هو عالم قائم بذاته" (رسالة لايبنز إلى أرنولد بتاريخ 14 يوليوز1686). غير أن هذه الجواهر المستقلة هي في تواصل دائم لا يفْتُر مع بعضها البعض، وهو عين ما يحدث حاليا  مع العشرات من الأصدقاء على شبكات التواصل الاجتماعي، ونتيجة ذلك أن  كل واحد منا يعكس كيفية بعينها في رؤية العالم.  لتترابط تلك الرؤى الفردية للعالم فيما بينها خالقةً شبكة مُتْرعَةً بالمعلومات، يتم استرجاعها من قبل من يتولون تنظيم المجموع. وهذا الحوار الدائم المتواصل بين الوحدات أو الكيانات المنغلقة على ذاتها إنمايستهدف ويروم، كما يردد مارك زوكيربورغMark Zuckerberg  ، مبتكر الفايسبوكFacebook  ، تحقيق أفضل تفاهم متبادل. أما الثمن الذي من الواجب أداؤه لقاءَ هذه الأخوَّة الكونية فهو المراقبة والتقاط معطياتنا واستشعارها والإعداد والتنسيق formatage. وهذه الهندسة المعقدة يلزمها حاسوب هائل هو، لدى لايبنز، الله الذي يتولى حساب التأليفات التوفيقية بين المونادات  لتعطي "أفضل العوالم الممكنة". وهو العالم الذي لا يقصي الشر بشكل كامل مادام الظل يرافق النور دائما، لكن الشر يتم  التقليل منه إلى أقصى حد، بنفس الكيفية التي لا يمكن معها لزوكريبرغ Zuckerberg  منع الإرهابيين من تصوير أفعالهم الشريرة  أو الحؤول دون تعبير دُعاة الكراهية  القائمة على الخوف من الآخرين، مع بحثه في ذات الوقت  عن إيقافهم قدر الإمكان.  ويبقى المشكل المطروح هو ذاك المرتبط بما سيتبقى لي من حرية إن صِرْتُ دولابا داخل آلة في غاية التعقيد تحقّقُ انتظاراتي وتُرضي رغباتي.  لقد تصور لايبنز حلا لهذا المشكل  لا يمكننا استحضاره دون استدعاء ما نتحمله من مراقبة على شبكة الانترنيت. فنحن نظن أننا نتمتع بالحرية في اختيار هذه الغاية أو تلك، غير أن اعتقادنا في حرية اختيارنا ما هو إلا ملاذ، لأن الله في الحقيقة (أو سيد الشبكة في حالتنا) هو من يعلم علم اليقين ما سنختاره. فهو يحيط علما بأذواقنا واعتقاداتنا، ويقترح علينا إمكانات توافقنا، لكننا نقبلها في نهاية المطاف بهما.  لقد صرح مالك شركة الفايسبوك سنة2007 ، كما لو كان لايبنزيا قبالة الأبدي، قائلا:" لقد زعمت دائما أننا إن منحنا للناس صوتا وساعدناهم على الاتصال فيما بينهم، فإن ذلك سيكون كفيلا بأن يجعل العالم أفضل" (أورده جوليان لوبوت Julien le Bot في رأس زوكريبرغ la tête de Zuckerberg Solin-Actes Sud,20019ة,Solin-Actes Sudbergكربرغحنا للناس صوتا و ساعدناهم على الاتصال فيما بينهم، فإن ذلك سيكون كفيلا بأن يجعل العالم أفضل" ( أورده جو").

برفقة جيرمي بنثام (1748-1832)Jeremy Bentham أو  المُراقَبُ الحاسِب

أنت على علم بأنك مراقب، كما أنك لا تجهل أن ما تتلقاه من إعلانات على الشبكة إنما تم قدُّهُ على مقاسك ولأجلك تحديدا، وأن ما تعثر عليه من معلومات  إنما تم انتقاؤها اعتمادا على مرات إبحارك المتكررة على الانترنيت، وأنك لا ترى سوى ما يُراد لك أن تراه. هذا ما يجعلك حدرا بحيث تسارع أولا إلى قراءة شروط الاستخدام، ولا تقبل أي شيء بعيون مغمضة، كما تتلخص بانتظام من ملفات تعريف الارتباطcookies ،لكنك تدرك في العمق أن هذه الوضعية تبقى أنسب لك شريطة استجابتها لشرط واحد هو أن تكون في خدمة مصلحتك، وأن تكون قادرا بدورك على المشاركة في هذه المراقبة المُعمَّمة. تلك هي الرؤية التي تم توظيفها من طرف فيلسوف انجليزي  ليبرالي و أحد رواد المدرسة النفعية هو جيرمي بنثام Jeremy Bentham، فعند نهاية قرن الأنوار ، تفطَّنَ إلى انعدام القدرة على تحقيق السيادة على الجماهير والهيمنة عليها اعتمادا على الملكية المطلقة عبر توسل الحق الإلهي وتراتبية صلبة. لذلك ارتأى أن يتم تعويضها بـ" تشريع غير مباشرlégislation indirecte"،بمعنى سلطة تٌمارس مفعولها على أشخاص يريدون ذلك، مادام  يمنحهم مكاسب ويوفر لهم مزايا، فأي فائدة ومصلحة يمكن أن تكون للمرء في أن يكون مُرَاقباً؟ قد تكون تلك الفائدة متمثلة في أن يكون الآخرون بدورهم موضوع مراقبة !  لن يكون  هناك عندها شيء لتنتقده، لأن كاميرات المراقبة والبطائق المغناطيسية  بالهواتف المحمولة  التي تؤمّنُ تعقٌّب التنقلات  والتقاط المعطيات الرقمية، كل ذلك يرتبط بالجانحين والمجرمين و الارهابيين فقط. وبالتالي ستكون المراقبة هي ما يؤمِّن الحماية. تلك هي الحجة التي يدفع بها أنصار المدينة الذكيةSmart city ، تلك المدينة المتصلة بكاميرات المراقبة التي لا يفلت من عدساتها شيء.

لقد اقترح جيرمي بنثام على الجمعية الوطنية الفتية في فرنسا مبدأ لبناء السجون هو البانوبتيكون panoptique (من  الكلمة الانجليزية panopticon  التي تعني اشتقاقيا "مراقبة الكل" (opticon (مراقبة) وpan(الكل)). فقد أعلن سنة 1791:" لو قمنا بإنشاء أداة تجعل المرء سيدا [وعلى علم]  بكل ما يمكن أن يحدث ويقع لعدد من الناس، وأن نحيط بكل ما يدور حولهم، بالكيفية التي تجعلنا نولِّدُ عندهم  الانطباع الذي نريده،  وأن نحصّل يقينا بأفعالهم وبصلاتهم  وبكل ظروف حياتهم، بشكل لا يكون معه في مقدور أي شيء الانفلات من التأثير المرغوب  أو معاكسته، عندها لن يسارونا أدنى شك في أن أداة من هذا النوع  ستكون فعالة ومفيدة جدا بحيث يكون في مقدور الحكومات تطبيقها على مختلف الموضوعات ذات الأهمية القصوى."  لقد تصور بنثام سجنا (أو مستشفى أو مدرسة أو مصنع) تم بناؤه من دائرتين لهما نفس المركز،  فعند المحيط  توجد زنازين السجناء المجهَّزَة بنوافذ من جهتها الداخلية وفي المركز ينتصب برج المراقبة، لكن دون أن تقع عين السجناء على الحارس الموجود فيه، والهدف من وراء ذلك هو "بناء تفتيش من نوع جديد[...]يضع العديد من الأشخاص في تبعية لشخص واحد، عبر منحه ضربا من الحضور الشامل في  سياج مجاله". ومهما غاب فإن الرأي حول حضوره سيكون فاعلا مثل حضوره تماما، كما لو كان من طبيعة شيطانية!

 ينبغي ألا ننسى أيضا أن بنثام  في "رسالة من أجل تيسير وسائل التعرف على الأفراد وإيجادهم traité pour faciliter les moyens de reconnaitre et de retrouver les individus " اقترح  وشما عالميا لجميع الناس حتى يسهل إيقاف واعتقال الجانحين والوقاية من الجريمة.  كل ذلك يتم، كما يدقق هو نفسه التعبير، بداخل "ثقافة لطف وطيبة"، لأنه يمثل مصلحة كل واحد في أن يرى طمأنينته مضمونة ومؤمَّنةً. إن قبلت أن تكون موضوع مراقبة فعليك بدورك أن تكون قادرا على مراقبة الآخرين.  هكذا يتعين على السجن المبني وفقا لمبدأ البانوبتيكي أن يكون "شفافا ومفتوحا للجميع". أما على المستوى العملي "فكل واحد في إمكانه الحكم  بنفسه ما إذا كان المتعهِّدُ  يضطلع بالوظائف التي يستلزمها موقعه" ، كما أن الحراس والمتعهِّدون يخضعون بدورهم للمراقبة، وهو ما يسمى بلغة العالم الرقمي الملاحق أو المُطارِد (satlker) [منstalk  التي تعني  في اللسان الانجليزي طارد وتعقب traquer]. طبعا تريد أن تعرف أين تحبذ قضاء  عطلتك وأن نكون مؤثِّرين في اختيارك بالنسبة لأمكنة قضاء عطلك المستقبلية،  لكن شريطة أن تعرف  بدورك أماكن قضاء الآخرين لفترات راحتهم.

مع دينيس ديدرو(1713-1784) Denis Diderot أو التمرد من الداخل

 لا تتحمل أن يكون ما يتعلق بك من قائع خاصة وأفعال معروفا من طرف شركات تعيد بيع المعطيات الخاصة بك. تعلم أن اعتِقَالك وسجْنَك داخل فقاعة معلوماتية يزداد استحكاما، وأنك  تسير على شفير ألا تجد أثناء إبحارك في شبكة الانترنيت أي شيء يتَّسم بالجدة. بسبب ذلك قررت أن تسترد دفة التحكم ، فطفقت  في تعلُّمِ البرمحة  لتبني حاسوبك الخاص اعتمادا على نفسك، وعزمتَ على مشاركة البرامج ضمن أفق تعاوني، فكان أن تبنَّيتَ أخلاقيات الهاكر éthique du Hacker  الذي يزعم فهم الموضوعات التي يستخدمها، مع قيامه بذلك على نحو حرِّ، وعدم تسامحه  مع إضفاء الطابع التجاري على العمل الجماعي من طرف المقاولات الخاصة(أو حتى من طرف الدول و إن بدرحة أقل).

 إن أقدمتم على القيام بذلك فمعناه أنكم تسيرون محتدين  بدونيس ديدور، الذي فعَّلَ ذات المنطق وأعْمَلَهُ  بمعية دلامبيير D’Ambert  وجماعة من المثقفين  لتحرير موسوعة   هائلة حوالي منتصف القرن الثامن عشر18م. فقد تفطن هذا المفكر إلى أن معرفة عصره وممارساته قد تم الاستحواذ عليها من قبل السلطات  لتُشكِّل بذلك "كتاب الدولة لا كتاب الشعب"(بيان "الموسوعة"):"ما الفائدة من وراء إشاعة معارف الأمة ومعاملاتها السرية و ابتكاراتها وصناعاتها ومواردها وأسرارها ونورها وفنونها وكامل حكمتها![...] سيعترضون على ذلك ويمكنهم أن يضيفوا إليه أيضا:  ألا يمكننا أن نتطلع إلى أنه عوض تنوير الغريب، يمكننا أن نلف بالظلمات وأن نغرق ما تبقى من الأرض في البربرية،  لنحقق هيمنتنا عليه بصورة أوكد؟"    

 يجب على المجتمع استرجاع معرفته وتملُّكها، كما ينصح بذلك ديدرو قائلا : "من اللازم أن تتم معالجة كل شيء، وأن يتم تحريك كل شيء ونبْشه دون استثناء، ودون أي تعظيم أو تحفظ وتوجس[...] فكل ألوان الصبيانية القديمة من اللازم دوسها بالأقدام، وكل الحدود التي لم يقم العقل بوضعها من اللازم قلبها، وعتْقُ العلوم والفنون وتمكينها من الحرية التي تبقى بالنسبة لها غاية الأهمية". كما يتعين على الخصوص عدم التوقف عند المواد الفكرية فحسب، بل العمل على شرح كيف تشتغل الآلات، ويحكي ديدرو في تقديمه للموسوعة قائلا:" لقد اتجهنا إلى من هم أمْهر من  بين الحرفيين في مدينة باريس وفي مجموع المملكة. كما تحملنا عناء الولوج إلى محترفاتهم وتوجيه أسئلة لهم وتدوين ما يملونه علينا من أجوبة وأفكار، لنستخلص منها المصطلحات الخاصة بمهنتهم، واضعين لها جداول خاصة،  ومقدِّمين تعريفات لها، و بشأنها  نتحدث مع أولئك الذين حصلنا منهم على  مذكرات"، بل كان من اللازم حتى"امتلاك الآلات وبنائها  والبدء في العمل  والتَّحوُّل إلى متعلم، إن جاز القول، يصنع اعتمادا على نفسه أعمالا سيئة كي يعلِّمَ الآخرين كيف يصنعون أعمالا أفضل! "

لهذا السبب احتوت "الموسوعة" الكثير من الصور: "إن معجما بسيطا للغة، مهما تمت إجادته، لا يمكنه القفز على الصور وتخطيها، دون أن يسقط في تعريفات غامضة وملتبسة." وعمل من يتولى إعداد صياغة الآلات وتركيبها لا يمكن إلا أن يكون جماعيا و "لا يمكن أن يكون عملا يتولاه شخص بمفرده". واستئناف تملك الإعلاميات معناه التحرر من سطوة أشكال الاحتكار وألوانه، وبالتالي الانعتاق من ربقة  المراقبة والتهيئة أو الإعداد والتنسيقle formatage . واليوم نلفي أتباع ديدرو ينخرطون بهذا الشكل  في سياسة "قانون أو مدونة المصدر المفتوحcode source ouvert  "؛ الذي يفتح أمام كل واحد باب الاستفادة من البرنام  المعلومياتي و الاسهام في تحسينه، كما هو الحال بالنسبة لرسائل البريد الإلكتروني المشَفَّرَةmessage chiffrée signal ، فهم يعتنقون مبدأ وضعه الفيلسوف ديدرو ويعملون بمقتضاه ومضمونه:" لا أومن إطلاقا بأن يُوهبَ إنسان واحد معرفة كل ما يمكن أن يُعْرَف، وأن يستخدم ويستعمل كل ما هو كائن، وأن يرى كل ما يمكن أن يُرى، وأن يفهم كل ما هو معقول[ أو قابل للتعقل]."

في رفقة هنري دافيد ثورو(1817-1862Henry David Thoreau( أو اختيار المنفى  الجدري

 قرَّرتَ الالتحاق بجماعات المتمردين، فسارعتَ إلى ايقاف تشغيل جميع برامج تحديد المواقع الجغرافية من تطبيقاتك، بل أكثر من ذلك سارعت إلى التخلي عن هاتفك الذكي تماما والانسحاب من كل الشبكات، بل إنك رفضت حتى اعتماد ساعة متصلة بالشبكة،  كل هذا لم يُشْفِ غليلك،  فهل سيصل بك الأمر حدَّ إرجاع بطاقتك الزرقاء؟

ها أنت بعد كل هذه الخطوات تشعر بنفسك أكثر حرية، لكن سيلزمك إعادة تعلم قراءة الخريطة الجغرافية، كما  سيكون من اللازم عليك دعوة أصدقائك حتى تعرف جديدهم، ويتعين عليك  أن تسأل عن دليل القراءة وأن تعثر بنفسك على المتاجر التي أنت بحاجة إليها، بعد رفضك استقبال أي توصيات أو اقتراحات بخصوص مشترياتك. لكن  ما الأكثر طرافة من كل هذا؟ ما من شك في أنه سيكون  معاملتك من قبل من هم أقرب إليك باعتبارك مصابا بجنون العظمة وذو طبع غير اجتماعي وحامل لنزعة تضاد التقدم وتعاكسه !

عندها سيكون من اللازم عليك قراءة كتاب "والدن أو الحياة في الغابات Walden ou la vie dans les bois "للفيلسوف الأمريكي هنري دافيد تورو(1817-1862) Henry David Thoreau، فبعد أن تعب وضجر من الحياة الحضرية، انسحب سنة 1845 إلى مكان على مقربة من بحيرة والدين (ماساشوستيس)، حيث بنى كوخا من الخشب ليعيش مدة سنتين فيما يشبه الاكتفاء الذاتي. وإذا كان ثورو قد غاد الحضارة، فلأنه عاين " أن الهدف الذي يرومه الإنسان المتحضر ليس هدفا جديرا بالاحترام أكثر من هدف الإنسان المتوحش"، وأن ما توفره اليوم الوسائل والأدوات الرقمية من رفاهية، لا يمكنه تبرير  تنازله وتخليه عن حريته. فـ"اليأس الهادئ والمطمئِن" المصاحب لاستيلاب واغتراب معاصريه، إنما يعود إلى "اعتقادهم الصادق في أنه لم يُترك أمامهم أي خيار على الإطلاق"، وهو ما يحدث على نفس المنوال تقريبا بالنسبة لأولئك الذي يخضعون اليوم للمراقبة. "ليس الوقت بالمتأخر أبدا كي نتحرر من أحكامنا المسبقة"، كما يقول ثورو، داعيا إلى التشكيك والطعن الجدري في النظام الحالي "ما تسميه نظرات عيني خيراً،  أعتقد في قرارة نفسي أنه شرُّ في  قسمِهِ الأكبر". وما لا يقوى ثورو على تحمله هو حياة  مبعثرة ومشتتة مليئة  بالاستثارات السطحية،  و"حياتنا يتم تبديدها في التفاصيل والجزئيات" كما يقول، داعيا إلى"البساطة ثم البساطة !"، شاجِبا ومندِّدا بإدماننا على الأخبار وغيرها من البيانات، التي  نتحراها ونلهث وراءها باستمرار " بالكاد يغفو إنسان نصف ساعة بعد العشاء، متأففا، وعند استيقاظه يرفع رأسه ويتساءل: " ما المستجدات"، كما لو كانت بقية البشرية قائمة بدورة حراسة على مقربة منه [...] وبعد ليلة نوم تبقى الأخبار الجديدة ضرورية ضرورة أول فطور" وضدا على هذا الفائض في المعلومات يدعونا إلى أن "نستيقظ باكرا ونُبقِي على صومنا أو نقطعه بتؤدة ودون اضطراب".

 إن ثورو بعيشه عيشة بسيطة وبنائه لمنزله وانتاجه لغذائه، يكون قد اقترح سبيلا أكثر عمقا من كونه مجرد هروب خارج العالم. فهو لم يأسف على مغادرته لشبكات الاتصال، لأن "الرفقة والصحبة لا تساوي في غالب الأحيان الشيء الكثير" كما يقول، وبذلك تكون الإقامة في والدن walden مُفْصِحة عن ميلاد جديد مفاده أن "كل صباح كان بمثابة دعوة سارة لأن أضع حياتي ببساطتها، بل ويمكنني القول ببراءتها، في اتحاد مع الطبيعة ذاتها". إن التخلي عن الإعداد والتهيئة    وتركهما وراء ظهورنا نهائيا هو بمثابة تشاور ورَوِيَّة حتى وإن كانت العودة إلى المدينة وإلى شبكة الاتصال أمرا محتملا، فإن قطع الاتصال ولوكان ظرفيا هو أمر يستحق العناء بحق.

Michel Eltchaninoff, Cliquer ou résister ? les stratégies des classiques, Philosophie Magazine,N°133,octobre 2019 ,pp ;54-57.