التعليم عن بعد ترسيخ للكفايات أم عودة للمضامين؟ - عمر بورواحة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لا يختلف اثنان في أن فيروس كورونا الذي اخترق صور الصين العظيم، وبدأ يجتاح الأرض طولا وعرضا من شمالها إلى جنوبها وشرقها إلى غربها، خلق أزمة كبيرة وحيرة عظيمة في نفوس الإنسانية، جعلت كل الشعوب تفكر في مصيرها المحتوم، وتحاول البحث عن سيناريوهات للنجاة والظفر بتأشيرة الاستمرارية في الحياة، وإنقاذ المجالات الأكثر تأثير وتأثر بالأزمة من الشلل والكسود. فكان ضمان استمرار العملية التعليمية التعلمية وتجنب توقفها رهانا ثقيلا أمام الأنظمة التربوية في مختلف البلدان والمجتمعات، الأمر الذي دفعها للبحث عن آليات وميكنزمات جديدة للتأقلم مع الوضع ومواجهة واقع الحال، وإنقاذ الموسم الدراسي من شبح سنة بيضاء كذا أن يعصف به..

وبفضل ثورة المعلوميات والاتصال التي عرفها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، بدأ تفكير التربويين ينصب على البحث عن طريقة جدية ناجعة وناجحة لتوظيف هذا الزخم العلمي التكنولوجي في إرساء نوع جديد من التعليم، يكون ذا جودة وفعالية لمساعدة المتعلمين والمتعلمات على إكمال مقرراتهم وتتبع دروسهم من قلب منازلهم في ظل الظروف غير المعهودة التي أحاطت بالعالم، فوجدت بعض الدول نفسها مؤهلة لدخول غمار هذا التحدي والغوص في بحر هذه التجربة لتوفرها على قاعدة معلوماتية قوية وتجربة عميقة في هذا المجال، بينما وجدت دول أخرى نفسها محاطة بمجموعة من الإرهاصات والتحديات التي عكرت طريقها وجعلتها في حيص بيص من أمرها، لكن رغم ذلك فقد دخلت في صراع مع الزمن بأبسط الشروط حتى لا يصاب تعليمها بالجمود ويصبح في عداد الموتى زمن الجائحة.

هكذا تم اعتماد باراديغم التعليم عن بعد كحل راهني متاح أمام الأنظمة التربوية، وكآلية تكنوتربوية مهمة في صراعها مع وباء ميكروسكوبي مجهري أوقف الحياة وشل مرافقها. والمغرب كغيره من بلدان العالم الثالث أو النامية إذا جاز قول ذلك، وجد نفسه في قلب الأسطوانة محاصرا بإكراهات كثيرة ومتعددة الأشكال ألحت عليه ضرورة تطوير هذا النوع من التعليم الجديد، لكن وللأسف الشديد الوقت غير كاف والظروف لا تسمح بذلك، مما جعله كثير التكلفة، ضعيف المردودية، ناقص الفعالية. وأمام هذا الواقع بدأت أقلام الباحثين والمهتمين بالشأن التربوي تتحرك لتتساءل حول واقع التعليم في زمن الكورونا ورهاناته، وماذا تحقيقه لمبدأ تكافؤ الفرص الذي يلح عليه الميثاق الوطني للتربية والتكوين والرؤية الإستراتيجية، وهل حقا التعليم عن بعد يرسخ الكفايات كمقاربة ناجعة وفعالة تبناها المغرب مع حلول الألفية الثالثة أم هو عودة للزمن العمودي وأحادية المعرفة (المضامين)؟

أسئلة صغيرة في الشكل عميقة في الدلالة، تتطلب حسا نقديا فطنا، وتبصرا تربويا رفيعا لكشف معناها وصبر أغوارها في ظل زمن الأسئلة الكثيرة والأجوبة غير الشافية..وضع فرض علينا ونتحمل تكاليفه في مجال التعليم كما في غيره من القطاعات الحيوية الأخرى فالتعليم روح المجتمع وقلبه النابض، وأساس كل رقي اجتماعي ونهضة اقتصادية وتطور علمي... فإن صلح صلحت باقي المجالات وإن فسد ضاع المجتمع كله. فهو مفتاح الخلاص ومنفذ النجاة من المحن والمصائب والفيروسات كما تأكد لنا في وقتنا الراهن، فقد ظل في الواجهة بكل روح وطنية ومسؤولية مهنية وأخلاقية نساء ورجال تكونوا في مدارسنا وتشربوا من ينابيعها على يد كوادر بشرية عالمة أدت الأمانة وبلغت الرسالة بجدية وتفان في العمل.

كما برزت في نفس الوقت حاجة العالم إلى علماء وخبراء في البيولوجية الدقيقة وعلم الفيروسات، للبحث عن لقاح فعال يخلص الإنسان من عدو خفي يهدد كيانه ويشكل خطرا رهيبا عليه.   

 لهذه الأسباب وغيرها يعتبر التعليم العمود الفقري للشعوب، مما يجعلها في كل وقت وحين تفكر في مشاريع ضخمة لإصلاحه، وملء ثغرات،ه وتجاوز تعثراته، حتى يصبح قاطرة أساسية للتنمية والتقدم المجتمعي في مختلف المجالات والأصعدة.. لذلك لجأت ثلة من الأنظمة التربوية مع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة إلى تبني إصلاحات تربوية مهمة، بغية دخول عالم المعرفة بقوة، ومسايرة التحولات والتغيرات الكثيرة والمختلفة التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة، وفي طليعة هذه البلدان المغرب الذي عقد آملا كبيرا على مشروع الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم (2015-2030)، والتي نصت في دعامتها الأولى على ضرورة تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص في العملية التعليمية التعلمية. فهل حقا يراعي التعليم عن بعد مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص؟   

حقا لقد شكل التعليم عن بعد إجراء وقائيا منطقيا للحفاظ على سلامة المتعلمات والمتعلمين وبديلا بيداغوجيا عن الدروس الحضورية المتوقفة، إلا أنه مع ذلك أبان عن فوارق سوسيوتربوية بارزة بين أسر المتعلمين على المستوى المادي، فأغلب الأسر لم تستطع تغطية مصاريف أبنائها، خاصة منها المعوزة التي فرض عليها الانخراط في هذا الورش التربوي الجديد، لمواكبة تعليم أبنائها وتوفير الظروف المواتية لهم لتتبع دروسهم وإكمال مقرراتهم داخل أصوار بيوتهم إسوة بباقي زملائهم، مما عمق جراحها، وزاد من أعبائها وأثقل كاهلها في توفير نفقات أبنائها في ظل ظروف الحجر الصحي المتسمة بالأزمة والركود الاقتصادي.

إن هذه الفوارق الاجتماعية بين الأسر والتفاوتات المجالية بينهم جعلت من عملية التعليم عن بعد غير متوازنة ومتكافئة، سواء تعلق الأمر بالتعليم العمومي والخصوصي أو المجالين القروي والحضري، الأمر الذي رفع من منسوب القلق والتوتر لدى المتعلمين أنفسهم وأسرهم حول مصيرهم، بسبب عدم توفرهم على الوسائل التكنولوجية المناسبة، أو لغياب التغطية وضعف صبيب الأنترنت، أو لافتقارهم للشروط المادية الكفيلة بتغطية نفقات بطاقات التعبئة... خاصة وأنا أغلبهم ينتمي إلى الطبقة المعوزة أو المتوسطة. هكذا وجد التلاميذ أنفسهم بين مطرقة الحسرة والضغط النفسي، وخيوط الأمل في النجاح والحصول على معدلات مشجعة ترضي أسرهم، وتفتح لهم آفاقا جديدة لمواصلة المشوار التعليمي.

وعلى هذا الأساس يمكن القول إن التعليم عن بعد فشل في تعويض الدروس الحضورية، بل أكثر من ذلك لم يستطع تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص الذي تنص عليه الوثائق التربوية، نظرا لدوره التكميلي وليس التعويضي في إطار العملية التعليمة التعلمية، ذلك أن دور التعليم عن بعد كما جاء في القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين يكون مكملا للدروس الحضورية ويعتمد في إطار تطوير وسائط التدريس والتعلم"[1] ولا يمكن أن يعتمد كبديل موضوعي للتعليم الحضوري.

هذا، ويعتبر اعتماد هذه التقنيات الحديثة في عملية التعليم تغييب فعلي لقطب أساسي من أقطاب العملية التعليمية التعلمية التي تقوم على ثلاثة عناصر أساسية: المعلم، والمتعلم والمعرفة، فنجد أن دور المتعلم جانبي وليس محوري متفاعل، مما يتنافى مع جوهر المقاربة بالكفايات التي تجعل من المتعلم محور النشاط التعليمي عوض المعلم أو المضامين وعوض الكتب المدرسية والوسائل الأخرى التي لا تعتبر إلا مجرد أدوات في خدمة العملية التعليمية التعلمية[2].

فالمقاربة بالكفايات التي بنيت على مبادئ مستقاة من البنائية والسوسيوبنائية وعلم النفس الفارقي تترجم في الميدان التعليمي من خلال تعلم متمركز حول المتعلم، إذ تسعى -أولا وقبل كل شيء- إلى تحقيق مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص، وتقليص الفجوة بين المدرسة والمجتمع عبر مد جسور التواصل بينهما، وجعل المدرسة قلب المجتمع والمجتمع امتداد للمدرسة.

إنها تسعى إلى ضمان تعليم جيد قابل للتحويل والاستثمار في الحياة الشخصية والجماعية يواكب كل المستجدات الطارئة، ويمكن المتعلمين من تنمية كفايات تؤهلهم ليصبحوا قادرين على التصرف بفعالية وإحكام أمام الوضعيات المختلفة التي قد تواجههم داخل فضاء المدرسة وخارجه، وذلك عن طريق تعبئة الموارد الصفية والخارج الصفية (معارف وقدرات ومهارات...) ودمجها وتحويلها لتتلاءم مع الوضعية المصادفة. إن جوهر المقاربة بالكفايات هو تزويد المتعلم بالموارد الكافية وتنمية قدراته المختلفة لمساعدته على الوصول إلى الكفاية التي يعرفها "كي لو بوتيرف Guy le Boterf" بقوله: "الكفاية هي قدرة على التصرف، أي قدرة على إدماج وتعبئة وتحويل مجموعة من الموارد (معارف، مؤهلات، تفكير منهجي...) في سياق معين، لمواجهة مختلف المشاكل التي تعترض الفرد لإنجاز مهمة معينة"[3]

وبالعودة إلا الأسلوب التعليمي الجديد المعتمد من قبل الوزارة لضمان الاستمرارية البيداغوجية والحد من انتشار وباء كورونا نجد أن هناك مفارقات بينه وبين تنزيل مبادئ المقاربة بالكفايات، لأنه لا يمكن الاعتماد في ظل هذه الوسائل التقنية على المتعلم، كما لا يمكن جعل المعرفة منه وإليه، فقد أصبح متلق سلبي يتلقى المعرفة ويلتهمها، واقتصر دوره فقط على المتابعة والاستماع. أضف إلى ذلك أنه أضحى من المستحيل اعتماد تقنيات التنشيط والبيداغوجيات الحديثة التي تعتمد على المتعلم أساسا لها في عملية التعليم عن بعد لأن إشراكه في هذه التقنيات مستبعدا في ظل الإمكانيات المتوفرة حاليا.

وبالتالي فإنه من العبث مقارنة التعليم عن بعد بالتعليم عن قرب، على اعتبار أن الأول جزء لا يتجزأ من الثاني، بل أكثر من ذلك إنه وسيلة فقط لتطوير التعليم الحضوري وتقويته والرفع من جودته، وهذا ما تأكد لنا عندما قررت الوزارة أن تمتحن المترشحات والمترشحين لاجتياز اختبارات الباكلوريا في الدروس التي تم إنجازها داخل الفصل قبل توقف الدراسة التي زامنت 14 من مارس 2020.

 

[1] ) المادة 3 من القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين.

[2] ) دليل المقاربة بالكفايات

[3] ) دليل المقاربة بالكفابات.