مأزق القراءة لدى المتعلم :السياقات الطبيعية لجدلية؛ الإقراء/ القراءة - البشير البقالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
lecture.jpgلا يخفى ما يكتسيه درس النصوص أو القراءة من أهمية. ورغم ما يدعيه معظم المهتمين بمناهج اللغة العربية، بكون التعبير والإنشاء غاية وباقي المكونات وسائل، فإن درس النصوص يظل رهانا كبيرا بالنظر إلى شموليته وغاياته وتحدياته.
لقد نصت مقاصد منهاج اللغة العربية صراحة على تلك الأهمية، إذ راهنت على إقدار المتعلم على فك رموز الخطاب تمهيدا لإقداره على عقدها. ولنا أن نفهم من هذا الرهان أن عملية فك رموز الخطاب هي المؤسس لعملية عقد رموز الخطاب. وهذا بالضبط مرجع تأكيدنا على أهمية القراءة وتبويئها مقام البؤرة في منهاج اللغة العربية، دون المساس،طبعا، بوحدة مكوناته وتماسكها وتكاملها.
    وإذا كان إنتاج الخطاب يشكل صعوبة كبيرة بالنسبة إلى المتعلم، فإن فعل القراءة يعد مأزقا حقيقيا، بما يفرزه لديه من أحاسيس الإحباط والاستلاب، حيث يظل النص مغلقا ومتعاليا لا يخضع لتمثلاته ورؤياه بسبب افتقاده للمهارة والقدرة على التسلل إلى أغواره ومساءلة مجاهيله وتلمس مكامنه. وأمام عجز المتعلم يستسلم درس النصوص لبراثن الإقراء لا القراءة، ويتجه صوب ما رسمه له مهندس الدرس بعيدا عن تفاعلات المتعلم وميوله، مما يفرز لديه، لاشعوريا، أحاسيس الاستلاب، إذ تغيب متعة الإدراك وينعدم الانتشاء بالإنجاز وتبقى المعرفة متعالية في برجها، ويجد المتعلم نفسه دائما في حاجة إلى وسيط للقراءة.
     إن القراءة، أية قراءة، لا تكون مجدية وفعالة إلا إذا ارتقت إلى مستوى السلطة النقدية، أي أن تكون في حد ذاتها سلطة نقدية. وإذا سلمنا بحقيقة أن كل سلطة لها صلاحيات، فإن القراءة أيضا، باعتبارها سلطة، لابد لها من صلاحيات ممنوحة ومخولة، هذه الصلاحيات ليست سوى أدوات القراءة ووسائل الزحف نحو جوهر النص واستراتيجيات تناوله وتفكيكه، وخطط الظفر بقيمة الجمالية. وكل قراءة مجردة من هذه الصلاحيات لا يمكن أن تكون ذات قيمة أو جدوى.
وما من شك في أن القراءة ليست فعلا اعتباطيا ولا ترضخ لأن تكون كذلك، إنما هي فعل يجدر أن يكون مشروطا بمجموعة من السياقات وممتثلا لمجموعة من المحددات والمرتكزات التي من دونها لا تنجح مغامرة القراءة، ولعل الجهل بتلك السياقات والمحددات والمرتكزات هو ما يخلق لدى المتعلم وهْم مأزق القراءة.
     إن مأزق القراءة الذي يتمخض فيه المتعلم يرجع بالأساس إلى التناول الانطباعي للنصوص، والتأويلات التي تطبعها المزاجية والميولات الذاتية، والتحلل من الثوابت الأساسية للقراءة، والخضوع لفوضى تداخل الأنواع الأدبية. مما يزيد إبهاما فوق إبهام، ويوسع الهوة بين المتعلم وكفاية القراءة، حيث يُقحم في مغامرة البحث عن المضمون على حساب ثوابت الخطاب ومكوناته وسماته، ويُزجّ به في متاهات استشراف القيم عوض البحث عن طرائق ورودها وسياقاتها النصية  الضرورية والافتراضية. إن المتعلم في أحسن أحواله، في الإنجاز والفاعلية أثناء درس النصوص، لا يكون سوى ذات باحثة عن إجابات على أسئلة توجهها ذات أخرى غير ذاته، لاهثة في متاهات البحث عن المعلومة المناسبة المخطط لها سلفا من لدن المدرس. وهنا تنعدم إمكانية التفاعل المباشر بين المتعلم وبين النص، وتنعدم بالتالي احتمالات الإبداع المرجوة منه.
    على أن الطريقة المثلى لجعل المتعلم ذاتا نشطة ومتفاعلة هي تمهيره على التأمل والمساءلة الممنهجين، وإكسابه القدرة على طرح السؤال عوض القدرة على الإجابة عن السؤال، لأن مأزق القراءة يتولد لديه من عدم قدرته على طرح السؤال.
     وتأتي فرضية القدرة على طرح السؤال هذه، انسجاما مع الغايات القصوى المنوطة بدرس النصوص، المتمثلة في إقدار المتعلم على فك رموز الخطاب وتمثل حدوده الأدبية، وسبر دلالاته وخلفياته وأبعاده، وبهذا المعنى يلزم أن يكون درس النصوص مجالا طبيعيا لجدلية الإقراء/القراءة، أي جسرا ينتقل عبره المتعلم من خضوعه للإقراء إلى ممارسته للقراءة، لأن الذات المتعلمة تصبو دائما، وإن لا شعوريا، إلى التحرر من كل سلطة معرفية وتحقيق ذات فردية مستقلة تقرأ وتتفاعل. فإلى متى سيظل المدرس يقرأ له؟     
    إن هذا السؤال وإن بدا بسيطا، فإنه في الحقيقة كبير عويص، ولعل الممارسين لفعل الإقراء يتلمسون جسامته جيدا، كما أن الأدبيات الحديثة في التدريس تلمح إلى جسامته خصوصا في سياق الحديث عن التربية على الاختيار، وفرْدنة التعلم، والتدريس بالمجزوءات، وتبني نظريات المشروع، وبيداغوجيا الإدماج، وغيرها من الأدبيات التعليمية- التعلمية الحديثة التي تراهن على استقلالية المتعلم وتأهيل قدراته وكفاياته.
     إن جدلية الإقراء/ القراءة لا يمكن أن تكون مثمرة إلا إذا خضعت لمجموعة من ثوابت التناول أثناء درس النصوص. وأهم هذه الثوابت التركيز على مقولة النوع الأدبي، لأن هذه المقولة مدخل أساس وبوصلة ضرورية لا تستقر أية قراءة بدونها.
     قد يقول قائل؛ إن مقولة النوع موجودة ضمن استراتيجيات تحليل النص تحت عنوان " نوعية النص". صحيح، إن هذا العنوان موجود في كل دروس النصوص. لكن، ليس كل موجود هو بالضرورة ذو فعالية؛ فهو  في الإعدادي لا يعدو أن يكون فقرة صغيرة ضمن تأطير النص الذي لا يستغرق  إجمالا  عشر دقائق. أما في الثانوي التأهيلي فيوضع ضمن مرحلة عابرة هي "ملاحظة النص"، وهذه الملاحظة تكون في غالب الأحيان بصرية تتوخى استشراف بعض المـؤشرات الدالة على طبيعة النص، مما يعطي الانطباع بأن مسألة النوع ليست ذات قيمة، فيسقط هذا المستوى المهاري في فخ التنميط، دون أن يدرك المتعلم الغاية منه.
     والواقع أن مقولة النوع الأدبي غاية في الأهمية، لأنه كفيل بأن يمنح القارئ اطمئنانا كافيا لسبر أغوار النص وتحليله وفق استراتيجية معقولة. وإذا كانت مقولة النوع الأدبي في حدها اللغوي تدل على نوع مخصوص من فنون القول، و تحيل إلى جنس أدبي معين بمكوناته و عناصره البنائية الضرورية، فإنها في حدها الإجرائي، وتبعا لذلك، يجب أن تتبوأ موقع ميثاق القراءة، وأن تعتبر مدخلا طبيعيا و ضروريا لقراءة النصوص، لأن الوعي الأجناسي كفيل بأن يُركّع لا محدودية النص لصالح القارئ، على اعتبار أنه يحدد البنود العريضة لكيفية التناول ووسائل التفاعل، ويحد من عنفوان النص ويفتح مغالقه ويقلص انفتاحه. فالنص كائن مغلق وعالم يحصنه الكاتب ويشحنه بالطاقات اللغوية والبلاغية المرصوصة، ويحاول قدر الإمكان أن يوطن أسراره في بناء محكم متماسك ينأى به عن المباشرة والوضوح، وأمام هذا الوضع تكون مهمّة القارئ هي إيجاد مداخل يتسلل عبرها إلى باطن النص.
     إن الوعي بمكونات  النوع الأدبي وضوابطه من شأنه أن يتيح إمكانيةَ التمكن من الآليات والضوابط التي يتميز بها كل نوع أدبي أو خطاب، لأن أي نص هو بالضرورة صادر عن تلك الضوابط والآليات حتى وإن كان خارقا لها. لذلك يصبح الوعي بها من لدن القارئ أحد أهم أولويات التمرس بالنصوص ومقاربتها.
       إننا لا نرمي من خلال ذلك إلى أن النوع الأدبي سياق وحده الحاسم، فالوعي الأجناسي لا تكتمل فعاليته إلا بتضافر عناصر عديدة. إننا نقول إنه أولوية لا بد منها، و بدونها لا تقوم قراءة، على أنه لا بد من استحضار سياقات أخرى ملازمة ومكملة له، أبرزها سياق النص، ونقصد به تلك الحمولة  التي أنشأها الكاتب، إن سياق النص هو سؤال توظيف المكونات، أي مجموع السمات التي تطبع مكونات النص. فالنص في النهاية هو تشاكل مكونات وسمات، وإذا كانت المكونات هي العناصر الضرورية لكل جنس أدبي، فإن السمات هي العناصر المحتملة والافتراضية لنص قيد الدراسة، أي طريقة توظيف المكونات واللمسات الفردية للكاتب في تناوله لمكونات النص. و مثلما أن سياق النوع  سلطة نوعية لا بد من أخذها بعين الاعتبار، فإن سياق النص سلطة نصية ينبغي مراعاتها كذلك، لأنه هو الذي يملي على القارئ كيفية التناول والتحلل من الأدوات الجاهزة، إذ يفرض عليه الانطلاق من خصوصياته وملامحه وسمات مكوناته ووظائفها، خصوصا وأن أية قراءة تنطلق من الجاهز إنما هي إجهاز على النص واقتحام سافر لحرماته وإجهاض لطاقاته الإبداعية.
    ويجرنا هذا السياق إلى استدراج سياقات أخرى محايِثة له، ذلك أن سياق النص لا لون له ولا طعم و لا صفة، إنه متحول و مختلف من نص إلى آخر، وهو لا يظهر بلحمه ودمه، إنما من خلال عناصر أخرى هي التي ترسم ملامحه وتبين شكله، وتلك العناصر تتمثل في سياقين هما: سياق الطاقة اللغوية و سياق الطاقة البلاغية، وهما ضروريان لأنهما يشكلان الدليل المادي على وجود النص بحمولاته وأبعاده ودلالاته، وهما بذلك يجسدان معترك صراع وتفاعل القارئ مع النص، الشيء الذي يجعلهما مدخلين أساسيين في مناطحة النصوص وفتح مغالقها واستشراف جوهرها ومقصدياتها. وهذان السياقان غالبا ما يرتبطان بالذوق والمراس والتمكن، لأنهما يقومان مقام الشاهد على الغائب الذي هو النص المتعالي موضوع وهدف بحث أي قارئ. وهو يظل غائبا ومتعاليا دائما وأبدا، وهذا ما يكسب النص خلودا ووجودا متجددا وانفتاحا على آفاق التلقي التي تتنوع وتختلف بتنوع مستويات القراء وميولهم ووضعياتهم وأذواقهم. لذلك ينبغي أن يكون رهان الإقراء هو تنمية الذوق والمراس لدى المتعلم لصقل مهاراته وتعزيز أدائه.
     وتجدر الإشارة إلى أن سياق الطاقة اللغوية و سياق الطاقة البلاغية لا قيمة لهما ولا فاعلية إلا بارتباطهما بالوعي الأجناسي بالنصوص. لأن لا اللغة ولا البلاغة تُدرسان بمعزل عن سياق النوع الأدبي، خصوصا إذا سلمنا بأن لكل نوع أدبي خصائصه التعبيرية والبلاغية وغاياته الجمالية، فإذا كانت غاية الشعر مثلا هي الإمتاع، فإن غاية الخطبة هي الإقناع، وبديهي أن تختلف لغة الشعر في بنيتها وحمولتها وطبيعتها عن لغة الخطبة. نفس الشيء يسقط على البلاغة، إذ تختلف هويتها وحمولتها بين الشعر والخطبة، وكذلك الرواية و القصة والمسرحية و غيرها من النصوص. مما يفرض النظر إلى هذين السياقين في إطارهما النوعي والنصي.
    على أن هذه السياقات جميعها لا تكتمل ولا تتوج إلا بسياق آخر كثير الأهمية، هو سياق التلقي أو القراءة، ونقصد به مجموع الشروط النفسية والثقافية والأدبية والمنهجية التي تؤطر فعل القراءة. وهذا السياق يعد مرتكزا أساسا في التحليل، خصوصا داخل الأقسام التعليمية، لأنه رهان الإقراء من جهة، وحلقة ضرورية لفعل القراءة من جهة أخرى، فالنص مسافة للحوار الفني والفكري بين سياق الإبداع وسياق التلقي، كما أن أي نص لا يعيش ولا تكتمل هويته ووظيفته إلا بالقراءة. من هنا يصح لنا التساؤل؛ كيف نجعل النصوص تعيش داخل الأقسام التعليمية؟ وكيف نهيئ لها سياقات للتلقي؟ و أخيرا؛ كيف نجعل من كل متعلم مشروعا لسياق قراءة مُفردَن  بلا وسيط؟.
     إن السبيل إلى ذلك هو استحضار هذه المرتكزات الخمسة أثناء تناول النصوص، لأنها مرتكزات طبيعية وبديهية، وتكمن أهميتها في أنها تحيد عن المنهج، أي أنها تُخضع النصوص لمكوناتها النوعية وسماتها النصية، و بالتالي تبتعد بها عن غموض المناهج وغموض المرجعيات الذي غالبا ما يطبع درس النصوص، مما يجعل المتعلم في لبس دائم، فاقداً القدرة عن المساءلة، ويبقى في بحث دائم عن الخيط الرفيع الذي يمكن أن يربطه بالنصوص و يمكنه من التفاعل معها.
     إن من شأن هذه المرتكزات أن تكسب المتعلم قدرا من الوعي ببعض مداخل قراءة النصوص، من خلال تحديد انتمائها ومضامينها وملامحها الجمالية، ومن شأنها أيضا أن تمكنه من القدرة على طرح أسئلة على النص، وتمنحه بعض الجرأة على محاورتها، وإن تكن في البداية محتشمة فإنها حتما ستكبر مع المراس والاحتكاك والرغبة في القراءة وتبني مشاريعها.
       إننا لا نرمي بذلك إلى إفراغ المناهج من فعاليتها وإنما نترك مسألة المناهج النقدية لوقتها ولمراحل النضج المنهجي لدى المتعلم، ففي ظل المناداة بالتربية على الاختيار، والتدريس بالمجزوءات، واحترام كفاءات المتعلم واتخاذها مرجعية، وفردنة التعلم، يلزم تهييء المتعلم من الثانوي الإعدادي وإقداره على الإنجاز والتساؤل، ومحاورة النصوص ليكون في الثانوي التأهيلي مشروعا لمتعلم مدمن على القراءة، قادر على تبني مشاريعها،  لأن لذة الإدراك والوعي بأسس القراءة وشروطها البديهية من شأنها أن تكسب المتعلم طاقة إضافية، ورغبة في سلك سبل الاستقلال وتحقيق الذات والنظر إلى النص نظرة واعية مدركة لحدوده التي هي ليست سوى نوعيته، وسياقه، وطاقاته اللغوية والبلاغية وسياق تلقّيه(**).
      لكل ذلك، لا بد من إكساب عنوان"نوعية النص" هيبته و دلالته العميقة في عملية الإقراء/ القراءة، لأن أية قراءة في غياب الوعي الأجناسي و باقي السياقات النصية تعتبر من قبيل العبث. وحتى في خضم تداخل الأنواع الذي يطبع أدب ونقد ما بعد الحداثة، وكذا في خضم التجريب الجامح الذي ينفي الحدود النوعية، تبقى هذه المرتكزات أساسية، على اعتبار أن الوعي النوعي ضروري لضبط خرق النوع وقياسه واستشراف وظائفه الجمالية.
-------------------------------------

(**) هذه السياقات أوردها الدكتور"محمد أنقار" كمرتكزات لمقاربة الصورة الروائية، في كتابه: "بناء الصورة في الرواية الاستعمارية- صورة المغرب في الرواية الإسبانية"، مكتبة الإدريسي- تطوان، الطبعة الأولى- 1994، ص: 16.