الثقافات و اللغات ضمن هندسة التعليم و التربية - ديرار عبد السلام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مـــدخــل:
 مفهوم " الثقافة " مفهوم إشكالي بامتياز، متعدد التعاريف حسب الحقول المعرفية و  الاستعمالات، موضوع رهانات وصراعات و حروب أيضا، ضارية وإن كانت غير مرئية، تشهد عليها أحوال المنهزمين فيها الذين يخرجون ب " مديونيات" حضارية ووجودية.
و لا يقل مفهوم " اللغة " استشكالا عن مفهوم " الثقافة " لارتباطه الوثيق به أولا، و لتعدد تعريفاته هو الآخر ثانيا، و لتعقد العلاقات و تشابكها بين اللغات ثالثا.
أما مفهوم " السياق التعليمي "، فبالرغم مما يوحي من" وضوح " و " بداهة "و " امتلاء "، فإنه قد يكون أكثر تعقيدا واستشكالا من المفهومين السابقين، ما دام يشير إلى المدرسة ك"مؤسسة" حائزة على "شرعية " محددة، و إلى الفعل "البيداغوجي " كفعل مقنّن بضوابط " المؤسسة"، و إلى " المعلم " كمالك لسلطة " الكلام " التي تضمنها تلك " المؤسسة " بل وتغلّفها وتحيطها بالكثير من الهالة لضمان إخفاء " تعسفها " و ضمان مفعولها.

هذا فيما يخص المفاهيم الثلاثة كل واحد على حدة، حيث اختلف الانتروبولوجيون و اللسانيون و السوسيولوجيون و السيكو- لسانيون و الفلاسفة و السوسيو- لسانيون  و علماء التربية و غيرهم، و ما فتئ  الاختلاف يتعاظم و النظريات تتكاثر و تتنوع، بل و تبلغ ذروتها في عصرنا الحالي، نتيجة تطور المعرفة العلمية و أساليب و أدوات قياسها لموضوعاتها أولا، و نتيجة " الديناميكية " الصارخة ل "الموضوع" كوقائع على الأرض في الزمن الراهن، إذ ليس من العسير ملاحظة  "الانبثاق " الهادر للصراعات الإثنية و " الحروب " اللغوية و خطابات " الهوية " و " أزمة التربية " أو" المدرسة "... بل و الثقافة على المستوى العالمي.
 ذلك هو الحال على مستوى كل مفهوم من المفاهيم الثلاثة على حدة، أما و أني أروم الربط بينها  و "التورط " في تشابكاتها أو بالأحرى اشتباكاتها، فإنها مهمة في غاية التعقيد لا أملك  ادعاء  أكثر
 من إثارة بعض أسئلتها ومحاولة فك بعض خيوطها و تقديم تركيب  لبعض أفكار المتخصصين في متونها. فما هي " الثقافة "؟ و ما  "اللغة "؟ و ما المقصود ب " السياق التعليمي " أولا؟.
                                        
أ- تحديد المفاهيم الأساسية:

 1- مفهوم " الثقافة ":  
  تعتبر كلمة " ثقافة " من الكلمات التي تشير إلى معان متعددة ومختلفة تبعا لتباين استعمالها. و بالرغم من كونها تشير عموما إلى الفكر و قضاياه، فإنها تبقى فضفاضة و لا تمكّن من الإمساك بمضمون واضح محدد. و هي كلمة عربية فصحى من مشتقات فعل " ثقف " الذي يحدده لسان العرب كما يلي: " ثقف الشيء ثقفا و ثقافة و ثقوفة: حذقه، و رجل ثقف: حاذق، و يقال ثقف الشيء بمعنى تعلمه بسرعة"(1). و ليس هذا المعنى أبدا هو المقصود في عملنا.
و حتى لا نتيه بين تعريفات الكلمة في العربية و هي كثيرة و تشير إلى نفس المعنى الذي وضعه لها لسان العرب تقريبا، نقول ان أكثر التعريفات العربية ل " الثقافة " قربا للذي اخترناه لعملنا هو الذي ورد في " المقدمة " إذ يقول ابن خلدون: " إن العرب لهم آداب في  أحوال المعاش و السكن و البناء و أمور الدين و الدنيا و كذا سائر أعمالهم و عاداتهم و معاملاتهم و جميع تصرفاتهم...فلهم في ذلك كله آداب... هي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول "(2).
و لا مبالغة في القول أن مفهوم " الثقافة " في الاستعمالين الأنتروبولوجي و السوسيولوجي الأكثر جدة يتطابق مع ما وضعه ابن خلدون و إن كان قد استعمل محله كلمة " آداب ".فهذا نيقولا تيماشيف، الانتروبولوجي الانجليزي الذي كان أول من وضع تعريفا لهذا المفهوم يقول: " الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة و المعتقدات و الفن و الأخلاق الاجتماعية و القانون و العادات الاجتماعية و غير ذلك من القدرات و العادات التي  يكتسبها  الانسان  بصفته  عضوا  في المجتمع "(3). والثقافة بهذا المعنى تتقاطع و تتداخل مع مفهوم " الحضارة " بل إن المفهومين يوظفان بنفس المعنى تقريبا عند العديد من الباحثين(4) ما دام الأساس و الجوهر في الحالتين معا هو القيم، و القيم هنا بالمعنى العام الشاسع الذي يحيل إلى  " الجمال " بالمعنى الكانطي و الذي قد يكون لوحة أو قصيدة أو مجالا أو معمارا أو نمط عيش...أو كل ما يستحق الخلود و يجعل الجماعة التي تبدعه تفلت من حال الشعوب " البدون عالم "(Worldless) حسب تعبير الفيلسوفة حنّا أرندت (5).                                            
و الثقافات مختلفة و متنوعة و متعارضة و متقاربة و متداخلة أيضا ما دام " الأنا "سواء في صيغته الفردية أو الجمعية ( الثقافة ) لا يمكن أن يكون " خالصا " " صرفا " كما يكشف عن ذلك
فلاسفة الاختلاف حفرا و تفكيكا(6). و لعل أدق تمييز بين الثقافات على المستوى العالمي أو ما يسميه " المناطق الثقافية " هو الذي وضعه العالم الأمريكي إنجل هارت حين جعلها تتدرج على متصل تشكل ثقافة قيم الحفاظ على البقاء أحد طرفيه و ثقافة قيم التعبير عن الذات( Self- affirmation ) طرفه الآخر، و يفصّل ذلك بكشفه كون أهل الأولى ( ثقافة قيم الحفاظ على  البقاء ) يعتبرون " الميتافيزيقا " مهمة جدا بالنسبة لهم، و يعتقدون أنه من الأهمية بمكان أن يتعلم الطفل الطاعة و الإيمان الديني أكثر من الاستقلالية و التصميم، كما يتميزون بدرجة أعلى من الاحترام للسلطة، و يصفون أنفسهم بكونهم غير سعداء و بكونهم لم يسبق لهم أن وقعوا عريضة احتجاج أو التماس و لن يوقعوا عليها، كما يعتقدون بأن على المرء توخي الحذر في الوثوق بالآخرين. بينما تؤكد ثقافة التعبير عن الذات على عكس كل ذلك تماما(7).
و كل حديث عن الثقافة هو حديث عن الهوية، فما المقصود بالضبط ب"الهوية"؟.

2- مفهـوم " الهويــة ":
" الهوية " كما تحددها حنّا أرندت بطريقة غير مباشرة و هي تفكك أزمة الثقافة في الكتاب الذي أحلنا إليه سابقا هي " العوالم" الخاصة بكل مجموعة بشرية  على  حدة، و  التي  بدونها  فلا"وجود " أصلا لتلك المجموعات رغم كون كل فرد منها يتخذ لنفسه مأوى و يضع سقفا فوق رأسه ما دامت كل أعمال " التهيئة " تلك لا تفضي إلى عالم و لا تعزل ثقافة، و لا تصون هوية. إن الهوية التي نقصدها هنا هي تلك النواة الصلبة في كيان و كينونة مجموعة بشرية ( مجتمع ) و التي تطبع مخيالها و ذاكرتها،هذه الذاكرة نفسها المطبوعة أو الموشومة بالسياق «الثقافي- القيمي" الذي نشأت فيه و ب" نمط العيش" (life style) الذي ترعرعت فيه، دون أن يعني ذلك أبدا أن تكون هذه الجماعة رهنا لهويتها، سجينة لمعتقدات و تقاليد و ثوابت سلوكية أو فكرية ليست هي من اختارها(ه) و إلا لأصبحت الهوية فخّا يحرم  سجناءه  من "التورط" و من التفاعل الخلاق مع " الآخرين " (الهويات المختلفة )، إذ لا وجود  لهوية  جامدة  " محنّطة " إلا  بالنسبة  لمن  يصرّ - عن جهل قاتل أو لرهانات و حسابات خاصة- على أن يرى المستقبل في الماضي.
و إذا كانت مركّبات الهوية متعددة، تبدأ بالرموز و " المجالات " (les espaces    ) الخاصة، و لا تنتهي عند " السيرورات " أو " الأزمنة " الخاصة كذلك، فإن الانتروبولوجيين و السوسيولوجيين و الفلاسفة يجمعون على كون " اللغة " واحدة من أهم تلك المركبات. فما هي اللغة؟
3- مفهـوم " اللــغة ":                                          
  " اللغة " ظاهرة معقدة، وتعريفها أكثر تعقيدا، إذ منذ الحقب الإنجيلية و الإنسان يسعى إلى إيجاد أجوبة على السؤال" ما هي اللغة "(9) هذا ما يؤكده عالم اللسانيات اللامع نعوم شومسكي. و ما يضفي عليها طابع التعقيد المضاعف تشابكها مع مفاهيم/ ظواهر أخرى عديدة ك "اللسان" و "العقل " و الثقافة... بل تداخلها معها، إذ نصادف استعمال اللغة مرادفا للسان و العكس أيضا، و يعبر العديد من اللسانيين و الفلاسفة عن صعوبة وضع حدود فاصلة بين " اللغة " و"الفكر" انطلاقا من كون لا اشتغال للثاني بدون الأولى، لا بل إن الطبيب و عالم النفس والمربي الروسي الذي بات مشهورا اليوم كشف منذ بداية القرن العشرين ان " العلاقة بين " الكلمة "(the word) و الفكر هي سيرورة حية و ان الفكر يولد عبر وساطة (  by the intermediate )  الكلمات "(10). و يضيف ما هو أعمق بالنسبة لما يخصنا في هذا العمل، حيث يقول " اللغة و الفكر يعكسان الواقع بطريقة مختلفة عن التي يقوم بها الإدراك، هما وحدهما اللذان يسمحان باختراق طبيعة الوعي الانساني. و الكلمات تلعب دورا مركزيا ليس فقط في نمو الفكر، و لكن أيضا في النمو التاريخي للوعي بالكامل. إن كل كلمة هي ميكروكوزم (حقيّل صغير ) من الوعي الإنساني "(11). و هذا ما جعل الفلاسفة المعاصرين - مسنودين بالخلاصات العلمية للسانيين- يبتعدون كلية عن التصور الثنائي التقليدي للغة و الفكر، اعتمادا على كون الفكر غير قابل للإدراك إلا كنشاط أو فعالية، و ليس أبدا كجوهر أو كيان خالص، مما يجعل من قبيل الوهم تصوره بمعزل عن اللغة.
ثم إن اللغة المفردة (العربية أو الإنجليزية أو اليابانية...) ليست واحدة، و بمعان  عديدة:  فهناك اللغة  الشعرية، و  المسرحية، و  العلمية، و الفلسفية،  و الصحفية، و السياسية...  و بمعيار  آخر "تنشطر" نفس اللغة إلى واحدة رسمية، مشروعة، سائدة، و أخرى" متمردة " أو نقدية أو مهاجرة  (و المهاجرون في  اللغة  هم  القادرون  على  زعزعة  استقرارها، المبدعون  فيها،  المكسّرون للجامد فيها، الفاتحون لإمكانيات لتطويرها ). وبمعيار ثالث نجد نفس اللغة إما ركيكة و ضحلة وفقيرة أيضا، أو متينة ورصينة... و هكذا...، أي أن اللغة الواحدة لا يستقيم الحديث عنها بصيغة مجردة أو بصيغة المفرد.
و حين نقول ان اللغة ليست مجرد أداة للفكر ووعاء له، نقول بالضرورة ان اللغة " ثقافة "، أو على الأقل تتضمن في جوفها ثقافة، أو " أنماط" ( خطاطات ) ثقافية، و هذا ما يشير إليه علماء النفس المعاصرون المنفتحون على العلوم المعرفية الجديدة، بالبنيات الثقافية بل و حتى البنيات المعرفية التي تشرط أساليب و أنماط أصحابها في التفكير و التقييم و السلوك أو الفعل، و التي لا يمكنها أن تتواجد خارج اللغة ( و هي مسالة أساسية بالنسبة لنا في عملنا حين ننتقل لمناقشة اللغة في السياق التعليمي كما سيتضح لاحقا ).
و أخيرا، و مما له أهمية قصوى في سياق هذا العمل أيضا، نشير إلى أن اللغة ليست أبدا محايدة، بل إن الحديث عن الحياد هنا يكون مرادفا للوهم تماما، و يكفي القول مع رولان بارت أن كل لسان هو تصنيف قمعي... و ما أن ينطق لسان، و لو في صميم الذات أو عمق أعماقها، حتى يتورط في خدمة سلطة معينة (12) بمعنى أنه لا مجال للتعامل مع اللغة  بالكيفية  التي  تمثّلها  بها دي سوسير De Saussure حين نظر إليها كنظام بنيوي لينتهي إلى اعتبارها شرطا لفهم الكلام و واسطة ضرورية تمكن من تفسير العلاقة القائمة الثابتة التي تربط الصوت بالمعنى. و الحال أن المنظومات الرمزية(واللغة من أهمها)، بما هي أدوات تواصل و معرفة تشكل بنيات تخضع العالم لبنيات، تؤدي وظيفتها السياسية من حيث هي أدوات لفرض السيادة و إعطائها صفة المشروعية التي تساهم في ضمان هيمنة قوى اجتماعية على أخرى ( العنف الرمزي ). و ذلك عندما تفد لنجدتها و تطعيم علاقات القوة و الغلبة التي تؤسسها، مساهمة بذلك في " مؤالفة المسودين " على حد تعبير ماكس فيبر(13). و تبدو المسالة بثقل أكبر، حين نضع اللغة في السياق التعليمي، حيث تقترن " الميكانيكيات " اللغوية  (Verbal automatisms) ب "إكراهات " و " واجبات " و  "مراقبات " الفعل البيداغوجي كما سنفصل ذلك لاحقا. فما المقصود بالسياق التعليمي؟
                                                                                                      
4- مفهوم " السياق التعليمي ":
بمجرد ما يتخلص المحلل المفكك من شرك التصور الساذج المعمّم حول المؤسسة التعليمية باعتبارها مؤسسة  شبه "خيرية" ! لتربية من يقصدها، ( لا بل من المفروض عليه ولوجها "إجبارية التعليم " بالمجتمعات الحديثة ")، و تكوينه و تعليمه و تأهيله للحياة !!...، و يهمّ بالاشتغال على مفهوم " السياق التعليمي "، حتى تتزاحم في ذهنه مفاهيم عديدة مرادفة أو مجاورة أو متقاطعة و متداخلة مع هذا المفهوم، و تلتقي كلها في الكشف عن المنطق الداخلي للمؤسسة التعليمية، و لنسق التعليم بل و التربية عموما. ف " الفعل البيداغوجي " و " السلطة البيداغوجية "و"العمل البيداغوجي" و" نسق التعليم " و " السلطة المدرسية "  و "العمل المدرسي " و " العنف الرمزي " و " التحكم الثقافي " و " علاقة التواصل البيداغوجي " و " نمط الفرض أو الاجبار " (mode of imposition )،و نمط الطبع (inculcation mode)، و"المشروعية"  و  "الرأسمال الثقافي "، و " الهابيتوس " ( مجموع الاستعدادات التي يتم طبعها في فرد أو جماعة، فيسلك و تسلك وفقها دون وعي منها ) (habitus )، و " إعادة الانتاج الاجتماعي "، و " إعادة الانتاج الثقافي "...كل هذه المفاهيم، إما تشكل مركّبات بالمعنى الدولوزي ( نسبة إلى جيل دولوز )  في تفكيكه للمفهوم الفلسفي و آليات إبداعه، أو على الأقل تفرض نفسها أثناء تحليل مفهوم " السياق التعليمي ".
    إن " السياق التعليمي " هو " المكان " و " الزمان " الذي تجري فيهما العملية التواصلية المسماة " عملية تعليمية " أو " تعليمية- تعلّمية ".  و المكان هو مؤسسة بكل ما ترمز إليه من قوانين و ضوابط ترسم " الحدود " و " المسار ". و الزمان هو ما يشتهر عند العاملين بقطاع التعليم عبر العالم ب" الزمن المدرسي " الذي يحدد للمتعلمين " الحصص اليومية " المطلوب منهم حضورها و إلا ف" القانون" و " الضوابط " كفيلة بالحسم في مآلهم و مصيرهم، كما يحدد للمعلمين حصصهم الخاصة التي يطلب منهم أن يمارسوا " الفعل البيداغوجي " المحددة ملامحه و خطوطه و حدوده " بالقانون " و " الضوابط "، بل و الخاضعة ممارسته للتقويم و المراقبة، باعتباره- من منظور المؤسسة- قابلا "للنجاح" و " للفشل " أيضا.
    و كل فعل بيداغوجي - كما يقول بيير بورديو- هو - موضوعيا- عنف رمزي كالإجبار أو الفرض، عبر سلطة تحكّمية،  لتحكّم  ثقافي (14). إننا  بهذا المعنى  بعيدون  كل  البعد  عن  أنماط                                          الإغراء و الإغواء التي يحظى بها مفهوم " البيداغوجيا " عند الكثير من العاملين بحقل التعليم، إنه مفهوم "ماكر" و " مخادع " و " متنكر " ما دام لا يعلن أبدا عن حقيقته التي هي تورطه الصميمي و البالغ التأثير و الفعالية في علاقات القوة و في الرهانات حول السيرورات الممكنة لهذا المجتمع أو ذاك، إذ ضمن تشكيلة اجتماعية  محددة، فإن مختلف الأفعال البيداغوجية، و  التي  لا  يمكن  أبدا  تحديدها بانفصال أو بمعزل عن انتمائها لنسق أفعال بيداغوجية خاضع لتأثير هيمنة الفعل البيداغوجي السائد، تسعى إلى إعادة إنتاج نسق التعسفات الثقافية المميز لتلك التشكيلة الاجتماعية، أي هيمنة التعسف الثقافي السائد، مساهمة بذلك في إعادة إنتاج علاقات القوة التي تضع هذا التعسف الثقافي في موقع المهيمن(15)، هنا تصبح مهمة " المدرس " لا مهمة ذلك " الكائن " الذي قال عنه الشاعر العربي أنه كاد أن يكون رسولا، أو ذاك " المعلم المجاوز" الذي يلزم المعلمين الفعليين أو الواقعيين المضي إلى لقياه و مغادرة حال " المعلمين الأوثان " حسب نيتشه، بل المهمة الاجتماعية لشرعنة الثقافة السائدة، بعد الحصول على الاعتراف بشرعية فعله ( البيداغوجي )، هذا الاعتراف الذي يتخذ شكل اعتراف بشرعية سلطة المدرسين المكلفين بطبع (inculcation  ) هذه الثقافة(16).
    و يبدو مفهوم  " السياق التعليمي "، بهذه " المعيارية " خارج المألوف و السائد، بأهمية قصوى بالنسبة لسؤالنا المحوري في هذا العمل حول اللغات و الثقافات في السياق التعليمي، إن لم نقل أن اشتغالنا على هذا المفهوم منفردا يسمعنا " تقسيمات " و " رنات " سوسيولوجية  قبل وضعه على "حلبة" الاشتباك الفعلية في علاقته باللغة و الثقافة.     

ب- اللغات و الثقافات في السياق التعليمي:
   - توطئـــة:    
قد يبدو للبعض أننا أسهبنا في تحديد المفاهيم الأساسية لهذا العمل، و لهؤلاء نقول أننا قصدنا المسألة ما دامت المفاهيم في مختلف الحقول المعرفية هي الأدوات التي ندرك بها الواقع و تترتب وفقها في بنياتنا المعرفية الوقائع، و كلما كان بناؤها و إعادة بنائها بإضافة مركّبات جديدة، تتحول إلى "مسلاط" أو كاشف " ضوئي " بالغ الفعالية لبنيات الوقائع و منطق اشتغالها الداخلي و العلاقات و التفاعلات بينها. و لا مجازفة أو  قفزة  في  المجهول  بدون  سند  في  قولنا  ان  القارئ
المتفحص و الحذق لتعريفنا للمفاهيم الأساسية كفيل وحده بجعله يمسك بخيوط الإشكالية التي نسعى لفكها و الممثلة في موقع اللغات و الثقافات في السياق التعليمي، ما دامت مركّبات تلك المفاهيم وحدها تجعل الآذان التي ليست لها أرواح متوحشة بلغة إدغار موران "تسمع" كون اللغة ليست مجرد "لغة"، و أن لغة الآخر هي أكثر و أعمق و أعقد بكثير من مجرد "لغته"، و أن اللغة و الثقافة ضمن السياق التعليمي أو الفعل البيداغوجي بالتحديد تفرزان من القضايا و الإشكاليات ما يجسد الغير مألوف في المألوف  (the extraordinary in the ordinary)  بلغة سوسيولوجيا الحياة اليومية  
 
 1 - مدرس اللغة "الأم" ليس مدربا للتلاعب بالكلمات و استعمالها و معالجتها
نحوا و إعرابا و صرفا و أسلوبية بل هو "معلم" الثقافة "الأم":
   دروس في الإعراب
- الدرس الأول:
كان في الستين
مــازال يعــلّــم
مرة جاء إلى الصف و قال:
أعربوا: "جاء المعلم"
و حسـبنـاه يـمـــــــازح
فضحكنــا و أجـبـــــــا:
" جـاء " فـعـــــــل
و " المعلـــم " ...... !!؟
و فهمناه فجأة... في ثانية
فصمتنا... و سمعناه يتمتم
" جـــــاء " فــعـل
و" المعلم " لم يجـــئ
أحضره البوليس لكن... سيعلّم      
- الدرس الـثانـــي:
و كبرنا معه في الصف حتى قارب السبعين ولكن
كان مازال يعلّم
مثلا: قال المعـلم:
" سيدي يحلم بالثورة لكن لا يقاتل "
جملة ألف مفيدة
والذي يعربها يضحي مناضل
فصمتنا
لم نقل شيئا و لكن...
صمتنا كان يقاتل
صمتنا كان...و لكن
كان في الصف صبيّ أطعم الأرض بيديه
و مشى زيتونها في شفتيه
اسمه " عدنان "... فلاح بلا أرض و لكن
لم يكن بالصمت ...بل بكل ما فيه يقاتل
  يومها شاهدته يرفع "بالباء" المعلم
و يعــلّـــم:
 "  سيدي " ليست مبتدأ
 " يحلم " ليست فعل
 " الباء " مجرورة                                 
 " الثورة " لا تجرها باء
  لكن "لا يقاتل" هي الحقيقة.
      -  الدرس قبل الأخير:
بعد يوم دخل الصفّ المعلّم
جاء فرحانا وسريا كعطر البرتقال
كان في سبعينه طفلا...فحيّانا و قال
"وضعوا عدنان في السجن"
إعربيها يا صبايا
و اعربوها يا رجال
ففرحنا ...و بكينا...و هتفنا:
"عدنان" فاعل
"السجن" مفعول به
وحرقنا النحو والصرف و أغلال القواعد
و تحولنا نضال.   
                 
 راشد حسين - شاعر فلسطيني لم يكتب له الانتشار
 كما الحال مع محمود درويش و سميح القاسم

    لا، ليست مهمة مدرس اللغة أبدا هي تدريب متعلميه على التلاعب بالكلمات و استعمالها و معالجتها صرفا و نحوا و بلاغة و عروضا و أسلوبية، و هذا لا يعني أبدا  كون  هذه  الأمور  غير ذات أهمية بالنسبة للمتعلم ما دامت " الكلمات "و " الأشياء " و العلاقات بينها و الرهانات حولها، و احتكار الثانية باحتكار الحق في فرض الأولى كما يفكك ذلك ميشيل فوكو(17)محدد أساسي للمواقع الاجتماعية التي يحتلها الفاعلون الاجتماعيون و لمواقعهم ضمن علاقات القوة. إن التحكم في اللغة و إتقانها مسألة غير قابلة للنقاش، إلا أنها لا تمثل كل شيء و لا يلزم أن  تشكل  الاهتمام  المركزي الأوحد بالنسبة لمدرسها و هو يمارس " فعله البيداغوجي " اللهم إذا كان يتمثل ذاته ممثلا أو منفذا لسلطان ثقافي، أو هو نفسه ضحية هذا السلطان و يسلك بعيدا عن منطق الفعل الواعي، القادر على التمييز و الاختيار. فالكلمات نفسها ليست بريئة، بل هي أدوات الفرز و التمييز و الإقصاء و النبذ وإضفاء المشروعية و التكريس...أو العكس من كل ذلك تماما، الكلمات " رسمية " أو " غير رسمية "، تابثة و متبّثة أو متحركة و " مزعجة "، ف " الفقير " ليست هي " المفقر " (( poor is not  impoverished   و "الرعايا" ليست هي " المواطنون " ( Citizens   is not subjects ) و" أحياء البؤس " ليست هي " أحياء الهشاشة " (Poverty is not « fragility »)، و السائدون المحتكرون لكل أنماط خيرات المجتمع، الحارمون الآخرين من نصيبهم منها، ليست هي الأعيان (dominants  is not notables )...الخ.
    إن اللغة في المقام الأول مضامين سوسيو- تاريخية، ثقافية و حضارية، و حتى اللغات الإثنية، تلك الأكثر قدما و الأقل عددا من حيث المتكلمين بها، ليست أبدا ظواهر من الطبيعة بل منتوجات للثقافة(18). و بناء على ذلك، فمدرس اللغة " الأم " هو مدرس الثقافة " الأم " سواء كان على وعي أو على غير وعي بذلك ( و هنا تتضخم مخاطر و آفات الفعل البيداغوجي ). و معايير و قيم ورموز الثقافة " الأم " ليست متجانسة و متماثلة من حيث القيمة و الأهمية و الفعالية ضمن منظور غير متحجر للهوية، بل منها " البالي " المعيق للتطور الذي يلزم تجاوزه، خصوصا في مراحل انحدار و انتكاس المجتمع الحامل لهذه الثقافة، و منها " الخالد" " المحرك " الباعث للثقة في الذات و الذي تلزم صيانته، و لا هرب لمدرس اللغة " الأم " من التموقع ضمن أحد الموقعين (إن بوعي أو بغير وعي دائما)، فإما أن يجعل نحوه (His grammar )  و  صرفه ( His conjugation ) يعربان و يصرّفان كلمات وأفعال تبنين(عند متعلميه  بنيات معرفية و ثقافية تجعلهم واعين بذواتهم، مقررين في مصيرهم، مدركين لعمق انتمائهم لمحيطهم و تاريخهم وبيئتهم و رموزهم دون أن يمس ذلك في شيء  استعدادهم  لانفتاحهم على  غيرهم  و  التفاعل معهم  ما دام  " الأنا " الخالصة أو الهوية "العمياء" "الصماء" تنتمي إلى الميتافيزيقا. و إما أن يجعل هذا المدرس( مدرس اللغة ) نحوه و صرفه يشغّلان/ لا يشغّلان في إعراب و صرف كلمات و أفعال تكبّل و تحجّر و تحاصر و تخنق و تسجن و تضلّل...فتجعل المطبوعة (inculcated) فيه " ممنوعا من "صرف" الإبداع و الإسهام و " التعالي" transcendentality)) و القدرة على   تغيير  مجرى الأشياء و الأحداث و السيرورات، و التخلص من سجن التقاليد(  philistinism)، و خارج " إعراب " الفاعل، المتوثب، المتفاعل من موقع القوة و الندّية، الخالق ل"عالم" خاص لجماعته يصعب تجاهله من قبل باقي " العوالم " على مسرح أحداث العالم.
    يندرج تعليم اللغة " الأم " إذن ضمن إطار أوسع و أرحب و أعقد بكثير من السائد و المألوف عن هذه المهمة، ألا و هو إطار الثقافة التي هي عماد الأوطان كما  يجمع  على  ذلك  الأدباء و الفلاسفة و السوسيولوجيون و الانتروبولوجيون و المؤرخون أيضا، بل إن الأديب الألماني الشهير توماس مان Tomas Mann  الحائز على جائزة نوبل في الآداب يرى أن اللغة هي الوطن نفسه لما تتمتع به من قوة تحريرية هائلة(19)، و مما له الكثير من المعنى و فائضه في هذا السياق استحضار ما ذهب  إليه  أحد كبار الفلاسفة الذي نشهد عودة مكثفة لأعماله و هو فيد غنشطاين (L. Wittgenstein) حيث جعل مهمة الفلسفة الأساسية هي " نقد اللغة "(20) و سواء اتفقنا معه أو لم نتفق حول هذا الاختزال الباذخ لموضوع الفلسفة، فإن لما يقوله الكثير من المعنى بالنسبة لتحليلنا للمكانة المركزية لتعليم اللغة ضمن العملية التعليمية.
    و بناء على كل ذلك، تبدو مهمة مدرس اللغة " الأم " (بل و اللغات إجمالا ) أكثر حساسية و إشكالية مما يضفى على مهمة مدرس الفلسفة أو الاقتصاد السياسي، و بأضعاف المرات على مهمة مدرس الرياضيات التي نجح المالكون لسلطان ممارسة التعسف الثقافي عبر العالم في فرض اعتبار نجاح المتعلمين في التحكم في "قواعدها " معيارا عجيبا " للنجاح " و " التفوق " حتى و إن كان صاحبه  لا  يتقن  فك  خيوط  نص  بسيط  ( لغة ) يرتبط بمعالجة أو تحليل قضايا "العقل" أو "الإنسان"...و كأنه في العديد من الحالات - و خصوصا بالمجتمعات التقليدية- حيث يتخذ التعسف الثقافي أعلى أشكاله- لم " يتعلم "، بل أريد له أن يكون " كائنا تمارينيا" فقط. إنه "الفعل البيداغوجي" المرسومة تقاطيعه ضمن علاقات قوة تفضي إلى " تعسف ثقافي " يحتكر حق تحديد المراتبيات و الأفضليات و المعايير التي يجتهد في تحويلها إلى موضوع اعتراف جمعي، أي غير قابلة للنقاش سيكولوجيا، بل لا تخضع للنقاش أصلا كما الحال بالنسبة للذكاء مثلا.
    و إذا أضفنا إلى كل ذلك أساليب و طرق تدريس اللغة، يصبح وضعها في السياق التعليمي مشوبا و أكثر تعقيدا من كل ما أثرناه سابقا. إذ ضمن " فعل بيداغوجي" يقوم على التلقين كما هو
الحال في أنظمة التعليم التقليدية، ينضاف تعسف أشد وطأة باعتبار التلقين يعزز أشكال العلاقات الاجتماعية القهرية و التسلطية و الأبوية، و يدعم التحيزات الثقافية (المتضمنة أصلا في جوف كل لغة ) و كذا التحيزات الفكرية المتوافقة معها، كما تولد عملية التلقين - بالضرورة- التفكير التقريري أو  الاتفاقي  ( الالتقائي )، المتقارب لدى الأفراد. و هذا النوع من التفكير يدفع الفرد نحو قبول الأفكار و المعلومات الاتفاقية و التقريرية  أي  التي تقرر و  تتفق  مع   ما  هو  متداول و  معروف  من  قبل الجماعة(21). و يبقى التعسف قائما مهما ادعت طرق تدريس أخرى ( هي المطبقة اليوم بالمجتمعات الحديثة ) كونها " ديمقراطية " أو " فعالة " أو " مرتكزة و متمحورة حول المتعلم "... ما دام ذلك من صميم الفعل البيداغوجي بل و روح المؤسسة التعليمية عموما. و تضيف حنا أرندت إلى ذلك عمقه الفلسفي الصادم لكل المشتغلين عبر العالم في حقل التعليم دون تمييز بين مواد تدريسهم ( لغة، فلسفة، علوم الحياة، رياضيات...) أو بين أسلاك عملهم ( ابتدائي، ثانوي، جامعي ) حين تكشف حفرا غاية في العمق فتقول: " يكمن أملنا دائما في عنصر الجدّة الذي يأتي به كل جيل، و لكن ، و بالضبط لأننا لا نملك تعليق هذا الأمل إلا عليه، فإننا نهدم كل شيء إذا نحن حاولنا التحكم في توجيه هذا العنصر الجديد لكي نتمكن نحن القدماء من التقرير فيما سيكونه. إن الحفاظ على ما هو جديد و ثوري في كل طفل هو بالضبط ما يلزم أن تكون التربية محافظة(conservative) بصدده. يلزمها حماية هذه الجدة و استدماجها كخميرة (yeast) جديدة في عالم هرم سلفا، و الذي مهما كانت أفعاله ثورية، فإنه من وجهة نظر الجيل اللاحق، قديم (outdated)و قريب من الخراب(22).   
   2 - مدرس اللغة الأجنبية هو مدرس ثقافة ليست "أما" إلا أنها "أم"
          ب"الرضاعة"، و ليس معدا لمرشدين سياحيين سذّج:      

إذا كان تدريس أو تعليم اللغة الأم محفوفا بكل تلك المزالق كما حاولنا تفصيل ذلك فيما سبق، فإن تدريس لغة أجنبية أو جعلها موضوع "الفعل البيداغوجي" يبدو أكثر تعقيدا و استشكالا ما دامت اللغة عموما - و كما أسلفنا- جزء أساسي من الثقافة إن لم نقل أنها ثقافة كما يذهب إلى ذلك العديد من الباحثين. و النتيجة المنطقية البسيطة عن هذه المقدمة هي أننا حين نضع متعلمين- ضمن سياق " فعل بيداغوجي"- في وضعية تفاعل (ضمن أنظمة التعليم الحديثة) أو تلقّ (ضمن أخرى عتيقة/ تسلطية) مع/ل لغة غير لغتهم "الأم"، فإننا نضعهم في وضعية تفاعل مع ثقافة أو مكون مركزي من ثقافة "الآخر"، ما دامت هذه اللغة ليست أبدا مجرد مجموع "كلمات" تقابل تلك التي تشكل لغتهم و تشير إلى ما تشير إليها بشكل متطابق، أي أنها ترمز كما ترمز لغتهم إلى نفس الأفكار و التمثلات و الأحلام و الطموحات و المعايير و القيم...، و إلى نفس نمط السلوك و العيش. كما أن هذه اللغة الأجنبية بالنسبة لمتعلمها لا تشبه في شيء تلك اللغات الاصطناعية التي أبدعها الإنسان، و التي اتخذت - على طول الطريق - أشكالا اتفاقية. و نفكر طبعا في اللغات الرياضية التي استقل معها الرمز: لا يهم إن كان لا يوجد في الطبيعة لا عدد سلبي(negative number)، و لا عدد خيالي (imaginary number)، ولا مثلث كامل، و لا مجال كامل. ما يهم في الحقيقة الرياضية هو تماسك و تسلسل النظريات التي تتعامل مع الأرقام المثالية و الأشكال المثالية. و بلغة دي سوسير، يمكننا القول أنه في اللغات الرياضية، ليست للمرجع أو المشار إليه أية واقعية، كما أن الدال والمدلول يتواجدان و حدهما و معزولين رسميا عن كل واقع خارجي ضمن لا افتراقهما المطلق(23)، لا، ليست اللغة الأجنبية، لا مجرد مقابل للغة "الأم"، تشير إلى نفس ما تشير إليه، و لا تشبه في  شيء أبدا أرقام و أشكال الرياضيات التي لا مقابل لها على الأرض، بل اللغة الأجنبة هي منتوج تاريخي بامتياز، أي منتوج ثقافي، و بالضبط هي منتوج تاريخ "شعب" أو "مجتمع" أو "جماعة بشرية" محددة، تحمل إرثها و آلامها  و آمالها،  و نجاحاتها و انكساراتها، و نظرتها للحياة و الوجود، و نمط عيشها و...و...و قيمها عموما ما دام كل مجتمع لا يمكنه أن يشتغل و  يدوم  إلا بانخراط أعضائه في مجموعة من المبادئ التنظيمية و التي نسميها عموما بالقيم(24).
    و بناء على ذلك، فليست مهمة مدرس اللغة الأجنبية أبدا من قبيل مهمة من يراهن على إعداد مرشدين سياحيين سذج ، تقف عند حدود الحفظ الببغائي لمقابل الأسماء و الأفعال في اللغة المحلية، في لغة السياح المفترضين، بل إن مهمته هي جعل متعلميه في تماسّ فعلي مع ثقافة اللغة الأجنبية التي يطلب منهم تعلمها، و بالضبط مع قيمها، و عبر تخطيط دقيق و حذر لهذه المهمة علما بأن تماسّهم ذاك حاصل في كل الأحوال أي سواء كان المدرس/ منفذ الفعل البيداغوجي منتبها له و متحكما في سيرورته أم لا، و هنا تكمن عوامل مضاعفة التعسف الثقافي لهذا الفعل، ما دامت ثقافة "الآخر" و الذي ليس "آخرا" بصيغة المطلق كما فصلنا ذلك سابقا، هي "عالم" خاص، بكل ما يحمله مفهوم "العالم الخاص" من رموز خاصة و قيم خاصة و...و نمط عيش خاص و نظرة خاصة للحياة و الوجود، هذه المكونات أو المركبات التي منها ما يلتقي و يتقاطع مع أخرى مشكّلة ل"عالم خاص" آخر، ما دامت الثقافات و الحضارات كانت دوما و ما تزال في تفاعل دائم، ضمن جدلية الأخذ والعطاء المثمرة، و تاريخ العلوم مثلا شاهد صارخ على ذلك(25). إلا أن منها (الرموز و القيم و...وأنماط العيش) ما يخص " عالما خاصا" دون غيره، بل قد تتعارض كلية مع الأخرى الخاصة ب"عالم خاص" آخر، لأنها شديدة الارتباط بالسيرورة الخاصة للمجتمع الذي أفرزها، مشروطة بشروطه و بكل مكوناته المادية و النفسية، و استجابة لتلك المكونات في الوقت ذاته، إنها تحمل سمات " شخصية" و "كيان" و "هوية" أساسا كما حددنا ذلك في تحديدنا لمفهوم "الهوية" التي هي منتوج للتاريخ بامتياز(26) كما أن تلك الرموز و القيم و... الخاصة ب"عالم خاص" قد تكون في العديد من الحالات من "الرقي" و "السمو" و "الانسانية" ما يجعل استلهامها من قبل "عالم خاص" آخر أو "عوالم خاصة" أخرى في غاية الأهمية لتطورها، علما بأن الثقافات و الحضارات متأرجحة دوما بين الشموخ و الامتداد و التألق، و الأفول و التقهقر و الانحدار.
     و هنا تكمن النقط العمياء الكثيرة التي قد تكتنف التعامل مع اللغة الأجنبية ضمن السياق التعليمي. إذ أن تلقينها و كأنها رموز بدون روح يحرم المتعلمين (مهما كان مستواهم التعليمي) من
استنباط كون "الآخر" له رموز و قيم تتقاطع و قيمهم، و أن "الإنساني" يعلو على كل العوالم لأنه كوني. أو ان له أخرى (رموز و قيم) تتعارض كلية مع ما يؤطر وجودهم، تخصه طبعا، و هذا شأنه،  إلا  أنني و أنا  أتعلم  لغته، يلزمني الحذر من  تسللها إلى "عالمي"  لأنها  ستفسده  أو على  الأصح، ستخربه. أو ان له ثالثة وفرت لها طبيعة سيرورتها الخاصة ذات الحركة التقدمية أن تكتسب صفة الرفيعة و الخلاقة في الوقت الذي يحيا "عالمي" الخاص حالة انحصار أو انحدار. و بالتالي فإني أستلهمها و أستدخلها في ثقافتي دون مركب نقص، و بكامل وعي بأنها لن تخلق اضطرابا(disruption) في نسقي الرمزي الخاص، بل هي عامل تغير ضروري فيه كي لا يتحجّر. ثم إن هذا "الآخر" نفسه قد يكون استلهم منجزات "عالمي" يوم كان عالمه على غير ما هو عليه اليوم. تلك طبيعة العلاقة بين الثقافات.
    و لتبسيط المسألة نفترض أن مدرسا للغة أجنبية هي اللغة الفرنسية لمتعلمين بمجتمع من المجتمعات التي لغتها "الأم" هي العربية أو الهندية، من خلال الاشتغال على نص لأحد الكتاب الفرنسيين يتحدث عن "المكتبة الرئيسية في البيت، و مكتبة غرفة النوم، و الأخرى بقاعة الضيوف، و الصغيرة في المطبخ..."، فإذا غرق هذا المدرس و أغرق متعلميه معه في مجرد الخوض في مواقع الكلمات و الحروف و الجمل، ونحوها و صرفها، و تذوقها و تذويقها (و هي مسألة لا يمكن إنكار أهميتها، بل هي جزء أساسي مما نروم توضيحه)، فإنه سيحرمهم (كما يحرم نفسه) من تركيز الاهتمام على العلاقة بين النص و سياقه، و الذي من شأنه جعل المتعلمين يدركون الأهمية القصوى للكتاب بل و استبطانها لتصبح جزءا من بنياتهم الثقافية، أو على الأصح قيمة من قيمهم، يحسبون لها حسابا مستقبلا في تنظيم مجال بيوتهم و في ميزانياتهم. و الحال أن "الكتاب أحسن زينة في البيت حتى و إن لم نقرأه !" كما يقول الصينيون (يضفي عليه وقارا). ثم إن العلاقة بالكتاب واحدة من التقاطيع الكبرى للتخلف الذي تعانيه المجتمعات الناطقة بالعربية مثلا كما هو مشهور عالميا اليوم.
    إن "الجمال" و " اللذة" ليسا في الكلمات و الحروف و الجمل، و في "هندستها" و " معماريتها" التركيبية في النص فقط كما اختزل ذلك رولان بارت، كما أنها ليست من "الميتافيزيقا"، بل قد يكون "الجمال" أفدح و "اللذة" أكبر و أوسع إذا تم الإنصات في نفس الوقت  إلى  " التقسيمات " و "الرنات" التي تسمعنا إياها الحروف و الكلمات و الجمل من حيث جعلها معان و معايير و قيم ووقائع تحلق فوق رؤوسنا، و لا نملك غير الدخول معها في غفلة منا، أو و نحن منبهرين و مفتونين ب"الجمال" و "اللذة" داخل النص فقط، بدل أن نكون نحن المقررون في الذي نستلهمه و الذي نرفضه، و متى نستلهمه، و كيف نستدمجه دون خسائر و دون أن يفرض نفسه على "عالمنا" قسرا كمديونية ثقافية و حضارية تتجاوز آثارها الفادحة بأضعاف المرات تلك المشهورة في "اللغة المألوفة" أي "المديونية المالية" ما دامت هذه الأخيرة تفك بردّ الدين أو الدين و الفوائد المترتبة عنه، فيسعد الدائن باسترداد أمواله، أما في حالة المديونية الثقافية و الحضارية، فالوضع أكثر تعقيدا لأن الدائن غير واضح المعالم تماما، متحيز في جغرافيا خاصة واسعة هي جغرافيته الثقافية، و يتنكر في الغالب لكونه "دائنا"، و لا رغبة له في استرجاع ما "دفعه" بل هو حريص على جعل المدين يتوهم بأن الأمر يتعلق بمجرد "هبة" أو "عمل إحساني".
      و كلما تكرس هذا الوهم و طال أمده، كلما كانت "أرباح" الدائن من العملية باهظة، و إن كانت غير "مالية" أو غير مادية، بل رمزية مفادها "انمساخ" المدين و اضطراب نسقه الذاتي (Self- system) و فقدانه القدرة على التحكم في زمام الأمر، حتى أموره الخاصة، و كذا قدرته على المساهمة في صناعة الأحداث، و انتصاب الدائن سيدا على "الرمزي" و محتكرا له.
    و احتكار "الرمزي" دعامة أساسية من دعائم احتكار المادي عكس ما ذهب إليه ماركس حين اعتبر الأول مجرد انعكاس للثاني، و اختزل "الرأسمال" في "المادي" دون غيره. و الحال أن "الرأسمال الرمزي" يملك كل مواصفات الرأسمال، فهو قابل ل"الاستثمار" و "يزيد" و"ينقص"، «يربح" و"يخسر"، "يراهن" و"يضارب" أيضا... .
    و لنفترض مثالا مخالفا حتى لا نتهم بالأحادية أو التحيز أو الاستيلاب أو ما شابه ذلك: نفترض مدرسا للغة أجنبية هي اللغة الهندية لمتعلمين فرنسيين أو إنجليز و الذين لغتهم الأم هي طبعا على التوالي الفرنسية و الانجليزية، من خلال الاشتغال على رواية لأحد الروائيين الهنود، تعالج أو "تكتب" روح التضامن و التآزر في الثقافة الهندية، و سيادة "الروحي" على "المادي" فيها و منافعه، و الضعف الملحوظ للنزعة الفردية عند أهلها، و عدم معاناتهم من خصاص روحي... . و كما الحال في المثال الأول تماما، فإن اقتصار المدرس على "تذوق" حروف و كلمات و جمل اللغة الهندية و مواقع الفعل و الفاعل و النعت و... فيها، و سجن متعلميه ضمن هذه الحدود الضيقة، سيحرمهم و يحرمه من الكثير الذي يبدأ بإدراك إمكانيات هائلة للإفلات من حالة عدم الاستقرار و الاضطراب و القلق و النزعة الفردية الخانقة، وغياب "المعنى" و"الهدف" و "المثل"، و لا يقف عند حد "تذوق" هؤلاء المعلمين و المتعلمين الفرنسيين أو الانجليز  على  السواء، لا  للغة  الهندية فقط و جمالها، بل لكون "الهندي" أو "الشرقي" عموما ليس مردفا ل"التخلف" و "الماقبل- منطق" أو " اللاعقل" أو " البائد"... و غير ذلك من الصيغ التنميطية الجاهزة. و هو ما من شأنه أن يفتح آفاقا واسعة أمام هؤلاء المعلمين و المتعلمين لتطوير ذواتهم بالمعنى الفلسفي الأكثر عمقا من خلال التخلص -عبر استبصار نقدي ذاتي- من وهم كون "الأنا" مكتف بذاته، غير متوقف على "غيره" بأي حال من الأحوال، بل الكف عن الاندفاع وراء أية نزعة "توحيدية" للثقافات لأن في ذلك افقارا لها، بل و حرمانها من روافد مغذية، الواحدة أو أكثر بالنسبة للأخرى، تبعا لطبيعة اللحظة التاريخية في السيرورة العامة لوجود كل منها، أو تبعا لمنطق اشتغال باراديغم "التحدي و الاستجابة" حسب توينبي، و الذي ليس أبدا متأصلا في روح هذه الثقافة أو تلك، بل إنه (منطق اشتغال هذا الباراديغم) يكون في كل مرحلة من تاريخ كل ثقافة نتاج عوامل متداخلة هي التي تشرط اشتغاله ضمن حركية نكوصية أو ارتكاسية، أو على العكس من ذلك، ضمن حركة تقدمية خلاقة(27).
    إن أحوال الثقافات شديدة التقاطع مع أحوال الأفراد ضمن منظور العلوم المعرفية الأكثر جدّة أي الما بعد جان بياجي. إذ لم يعد مقبولا اليوم وصف هذا الفرد (المتعلم) أو ذاك بكونه بليد أو غبي، على أساس أن العلة أو الخلل ليس طبيعيا أو جينيا أو بيولوجيا أو متأصلا في ذاته ك"فرد" و لا خلاص له منه، بل فقط في المنهج أو الطريقة أو الأسلوب الذي ينجز به الأنشطة أو المهام المعرفية. لقد نجح العلماء الجدد المتعددو المشارب في تخليص مفهوم " الذكاء" من الأسطوري أو الميتولوجي إن لم نقل أنهم أنزلوه إلى الأرض، و كانت خلاصات أبحاثهم و مجهوداتهم بمتابة إعلان مزلزل بنهاية مسلمة شارفت امتلاك صفة "البداهة" (و تستمر في السيادة في العديد من بقاع العالم خارج الغرب). مفادها كون  النموذج النظري الذي شيده بياجي (و كثيرا ما انتقده العالم الروسي اللامع ليف سمينوفيتش فيكوتسكي في حينه دون أن تتمكن أفكاره من تخطي أسوار "امبراطورية الشر" آنذاك) هو أقرب إلى "الميتافيزيقا" منه إلى الوقائع كما تشتغل على الأرض،  أو هو من طينة الأرسطيات التي تعلي من وزن الأبعاد الصورية أو الشكلية، إذ يصنف  كل فرد لا يبلغ آداؤه الفعلي (الواقعي) للمهام، أو على الأصح للعمليات المحددة (في النموذج النظري) مستوى النموذج الأمثل المرسوم سلفا (بعيدا عن الواقع) لمرحلة من مراحل النمو (الصورية)، يصنف  هذا  الفرد  حالة  غير  سوية  بل  مرضية !!، هذا في الوقت الذي  تؤكد فيه  التجارب و الأبحاث الأكثر جدة أن مستوى نمو الفرد و "معامل" ذكائه ليس أبدا أمرا قارا، يقاس مرة واحدة و يصنف صاحبه ضمن "خانة" محددة و إلى الأبد، بل إنه بدرجات أو معاملات(coefficients) مختلفة حسب طبيعة " المجالات" أو "الميادين" التي يطلب فيها من هذا الفرد تشغيل قدراته العقلية، و كذا حسب السياق الذي يجري فيه هذا التشغيل. و بذلك يصبح النموذج الصوري هنا لا أداة لفهم الوقائع و بنائها علميا، بل مجرد أداة "تعسفية" تكره الواقع على مطابقتها، فتقول ما ليس إياه بطمسه to obliterate)).
     و إن أحوال الثقافات - كما أشرنا إلى ذلك سابقا- تكاد تتطابق مع أحوال الأفراد في أبعاد وجودهم التي أشرنا إليها، إذ لا وجود لثقافة "متخلفة" أو "لا عقلانية"...بصيغة المطلق، و العقلانية ليس لها "وطن"، و كل الثقافات "تصيب" و "تخطئ". هذا من جهة، و من جهة أخرى، فإن "النماذج" الثقافية و الحضارية التي تناوبت عبر تاريخ البشرية على تقديم نفسها "نموذجا" "واقعيا" يلزم الاقتداء به لم تكن "متحيّزة" في المكان و الزمان بنفس صفات الإغراء و الإبهار التي يسوّق بها نموذجها "النظري"، أي أنها ليست "واقعية" ما دام لكل منها تناقضاتها المريرة و بؤسها الدفين و أزمتها التي تكاد تعصف بها من حين لآخر...بل و أنين بعض أهلها تحت وطأة بعض مفعولاتها تبعا لمواقعهم من نمط توزيع الخيرات المادية و الرمزية الذي تحميه، و طبعا يبقى "الرفيع"، الجميل"، "الإنساني"،..."الخالد"، شامخا فيها، مغريا ب"الاستلهام" و "الاستنبات"،  و"الاستدخال" في ثقافات أخرى، ما دامت هي في حال "إزهار" و امتداد.
    و ضمن هذا المنظور الواسع، المنفتح و المتبصر، يصبح كل "معلم" للغة أجنبة، معلم لغة ثقافة ليست أما، إلا أنها "أم بالرضاعة". و "الأم بالرضاعة" ضمن العديد من الثقافات (مسألة اللغة والثقافة دائما) هي كالأم الفعلية تماما، تترتب عنهما معا نفس الالتزامات و الواجبات تقريبا، و نفس الموانع و المحرمات، و المهم بالنسبة لنا نحن خصوصا هي كونها تضمن نفس  " العطاء " و نفس "المنافع" و "الخيرات"...
   و يبدو التفاعل مع اللغة الأجنبية أو لغة "الآخر" خارج اعتبارها لغة ثقافته أو "لغة- ثقافة" فادح المخاطر حين نفترض كون هذا التفاعل يتم عبر الاشتغال على "نصوص" حاملة لا ل"الرفيع" و "العقلاني" و "الجميل" و "الانساني" و "الخالد" فيها، بل ل"السلبي" و"الأعمى" و"اللاعقلاني"... أم أن هناك من ثقافة "كاملة" "نهائية" "خالصة"؟ !!و الأمثلة كثيرة، و لا حصر لها، تشتغل في عصرنا الحالي بضراوة عبر وسائل الإعلام خصوصا، القادرة على "الاقناع السري"(28) لأقوام عديدين بالتخلي عن "سلاحهم" الفعال و أخذهم ب"سلاح" أعدائهم المنتهية صلاحيته أو الغير قابل للتوجيه سوى إلى "صدور" "الذات"، بدل التمسك بالصيد بالقوس و النشاب رغم يقينهم بفعالية سلاح جيرانهم "الأعداء" كما يقول كلود ليفي ستروس(29)ما دام الأمر لا يتعلق ب"مردودية" أو "فعالية" فقط، و إنما بأكثر من ذّلك، بوجود، بهوية.

خـــلاصـــة:  
    يتضح من كل ما سبق أن وضعية اللغات و الثقافات في السياق التعليمي أكثر تعقيدا و تشابكا، بل و محفوفة بالكثير من المزالق بالنسبة للفاعل الأساسي ضمنها و الذي هو "المدرس". و تبدو أهمية المسألة و "حساسيتها" بجلاء في طريقة تعامل المجتمعات المتقدمة اليوم مع لغات "الآخرين"، (حتى و أهلها في حالة هوان)، حيث تحظى هذه المهمة بكل الاحتراز و الحرص الدقيقين على التحكم في العملية و توجيهها ضمن تخطيط استراتيجي محكم، و في رحاب مؤسسات للبحث أو مراكز استراتيجية أو جامعات من العيار الثقيل، و بعقول علماء و خبراء و مفكرين من عيار أثقل، و حين يتم اللجوء إلى الاعتماد على "فاعلين" من أهل هذه اللغات، يكون الانتقاء "مجهريا" بمقاييس(test or Survey) غاية في الدقة و احتمالات الخطأ فيها جد ضعيفة، مما يفضي إلى اختيار شعراء أو روائيين أو لغويين غير إسميين في كل الأحوال، أي - و هذا ما يهمنا أساسا- بعيدين عن النظر إلى اللغة كحاصل مجموع حروف و كلمات و جمل...
   أما بالمجتمعات التقليدية، فتجري العملية ضمن شروط أقل ما يمكن قوله عنها كونها تفتقد إلى كل بعد استراتيجي، و يحكمها الارتباك و الغموض، و حتى الفوضى و احتقار الذات،  و إلا كيف يفسر تقديم لغة الآخر بهذه المجتمعات باعتبارها لغة "حية" ! و بما يوحي في الغالب بكون لغتهم قد "ماتت" !. يبدو ذلك جليا في الميل المرضي المقيت لبعض الفئات الاجتماعية بهذه المجتمعات (المدعى موت "لغتها") إلى التواصل فيما بينها باللغة "الحية" ! و تجنب استعمال اللغة الأم و كأنها "وصمة عار" أو على الأقل "صفة تخلف"، بل وحرصها على إبعاد أبنائها على تعلمها و كأنها الجذام تماما !! و الأخطر من ذلك أن تنتقل "العدوى" إلى باقي الفئات الاجتماعية بمختلف مواقعها حد اتخاذ تعليم الأبناء "لغات" "الآخرين" المتقدمين شكل "القيمة" أو "المبدأ الأساسي" الغير قابل للتصدع أو "التفنيد" !!. كما يتجلى غياب البعد الاستراتيجي في التعامل مع الظاهرة في "الليبرالية" المفرطة في قبول أو الاستسلام لاكتساح "لغات" عديدة ل"السوق اللغوي" الخاص و هو في حالة وهن، بل و دون ضوابط في العديد من الحالات. ثم في التساهل الفظيع في تكوين مدرسي هذه "اللغات" في حالات عديدة أيضا(30) و في كل الحالات، يبقى الحديث عن وعي (و لا حتى عن مجرد التفات إلى علاقة اللغة بالثقافة و إلى مستتبعات هذا الارتباط من قبيل الوهم أو اليوتوبيا، و تلك تقاطيع انجراف المجتمعات باتجاه حال شعوب بدون عالم(worldless) بالتعبير البليغ لحنا أرندت أو حال " الدواب الانسية" بلغة الفارابي الفادحة "الجمال"...           
      
الهوامــــش:
1- لسان العـــرب: مادة "ثقف"- ورد هذا التعريف في مجلة " آفاق عربية"- السنة الثانية- العدد:44- 1976- ص: 96.
2- عبد الرحمان ابن خلدون: المقدمة - دار إحياء التراث العربي- الطبعة الثالثة - بيروت- بدون تاريخ - ص:433.
3- نيقولا تيماشيف: نظرية في علم الاجتماع. ترجمة جماعة من الدكاترة - دار المعارف-
  القاهرة - 1982.
4- أنظر على سبيل المثال:
     - Samuel Huntington : The clash of civilization-   Ed :Simon  Shuster
New york-2008 .                       
     - Ronald Ingel Hart: Traditional values: who’s afraid of Ronald Mc
Donald?- in-“The Futurist” March- April- 2001
pp: 130- 138.
   5- Hanna Arendt: La crise de la culture - Ed -Gallimard - 1972
( pour la traduction française)- p :268.
6- أنظر أعمال جيل دولوز و فيلكس غاتاري، و جاك دريدا، و فريديريك نيتشه... .
    7- Ingel Hart : Op- cit. : p.:69  

8- علي حرب: الممنوع و الممتنع - نقد الذات المفكرة- المركز الثقافي العربي
            ط.1. 1995  ص: 105.
    9- Noam Chomsky: Syntactic structures - The Rague edition
- Monton- 1959 - p : 13.
  10- Lev Semionovitch Vygotsky : in Textes de base en psychologie
- Vygotsky aujourd’hui- Sous la direction de :
B Schneumly et J.P.Bronckard- éd : Delachaux and
Niestlé- Lauzanne.p :93
   11- L.S. Vygotsky: op- cit - p : 94.
   12- Roland Barthes : Leçon- Editions du Seuil- 1978- p : 72.
13- بيير بورديو:  الرمز و السلطة - ترجمة عبد السلام بن عبد العالي
             دار توبقال للنشر - ط.1 - 1986 - ص: 55.
   14- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : La reproduction
                                    -éléments pour une théorie du système
                                     d’enseignement - Les Editions de Minuit-
                                     Paris 1970- p : 19.       
   15- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : Op- cit . p : 25.

  16- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : Op- cit . p : 157 .
  17- Michel Foucault :Les mots et les choses- Une archéologie des
                                Sciences humaines - Paris- Gallimard 1966-p :124-125.
  18- Denis Huisman : Socrate sur internet - Pour une philosophie
                               Médiatique- Edition de Fallois - Paris- 1997-
                                p. :24-25.
   19- Thomas Mann : La montagne magique - traduit de L’allemand
                               par : Maurice Betz - éd : Arthemes Fayard -1994
                               p. :276.
   20- L . Wittgenstein : Tractatus logico- philosophicus suivi de
                               Investigations philosophiques- tr.fr.- Paris 1961
                              p. :46.
21- أحمد إبراهيم اليوسف: علاقة التربية بالمجتمع و تحديد ملامحها النوعية
                - مجلة" عالم الفكر "- المجلد التاسع و العشرون . العدد الأول
                 - يوليوز - شتنبر - 2000 - ص: 19
   22- Hanna Arendt: op.cit- p :247.
   23- Denis Huisman: op.cit- p :112.
   24- Denis Huisman: op.cit- p: 224
25- يكشف العديد من مؤرخي العلوم و الحضارات أيضا الغير المتمركزين على عرقهم أن  الفلسفة اليونانية تشكلت في جوانب لا يستهان بها عبر تجريد المنجزات العملية لحضارة المصريين و الصينيين و الأتروتسكيين. و ان ما بلغته الحضارة الإسلامية من شموخ و على مختلف المستويات خلال الفترة التي كان الغرب المتقدم اليوم يرزح فيها تحت وطأة عصوره الوسطى الخانقة ، كان للفلسفة اليونانية - التي ترجمت بضراوة - فيه نصيب. و أن ما بلغه الغرب اليوم من تقدم هائل قام في جزء منه على إنجازات المسلمين، وأن الشاهد على ذلك العدد المهم من الجامعات المختصة في ترجمة إنجازات العلماء و الفلاسفة و المفكرين المسلمين، و التي أحدثت بالتزامن مع طرد مسلمي الأندلس من جنوب أوربا الغربية.
26- هنا تكمن الخطورة القصوى للمجموعات البشرية التي ليس لها "تاريخ"، إذ تميل- بوعي و لا شعوريا أيضا- إلى الحقد على " الخالد" سواء كان إبداعا فكريا أو معمارا يشهد على إبداع أو...أو كل شيء يوجد باستقلال عن كل مرجعية نفعية و وظيفية. و هو ما تفتقده بالضرورة المجتمعات البشرية البدون تاريخ.
27- كم هو ممتع في هذا السياق قراءة الكتاب/ الموسوعة الشهير لأرنولد توينبي:
  - Arnold Joseph Toynbee : A study of history (three volumes)
                                 Oxford University Press- 1934                   
     إذ يكشف عبر تحليل عميق عوامل امتداد أو أفول الحضارات اعتمادا على نظرية "التحدي و الاستجابة".
  28- Denis Huisman : op.cit - p : 29…
  29- Claude Levy Strauss: Anthropologie Structural - Tome 2-
                                 Edition: Plon- 1973. P.: 237.   
                   
30- في إطار اشتغالي لمدة طويلة ضمن معهد لتكوين المدرسين صادفت مرات عديدة مدرسين ل"لغات" "الآخرين" يدافعون بتشنج و ثقة عمياء - ضمن ما "يلقنونه" للمتعلمين عن مضامين في "عتادهم" أو "عدّتهم" (نصوص في الغالب) تتناقض مع الواقع و منطق اشتغال الوقائع، بل مضللة و طامسة (اختزال مشاكل افريقيا في الجفاف، و تسجيل المتعلمين له فكرة "جوهرية" للنص بعد أن سجلها مدرسهم على السبورة بخط جميل أحيانا، و بلون مغاير أخاذ، مما يضاعف تسربها إلى أعماق البنيات المعرفية لهؤلاء المتعلمين، و ربما للاشعورهم. تقديم الانكسار و الاستسلام و الخضوع في صورة قيمة رفيعة هي التسامح...)، فهل يتوقع ضمن مثل هذه الشروط الانتباه و الحذر إلى و من الثقافي بالمعنى الانتروبولوجي، المالك لقدرات هائلة على التنكر، و من تم التسلسل إلى "عوالم" "الآخرين و أعينهم جاحظة...و للإشارة الضرورية، فالمسؤولية هنا في المقام الأول ليست مسؤولية هؤلاء المدرسين لأنها تدخل ضمن اختصاص المعنيين بالتخطيط الاستراتيجي للقضايا الكبرى للأوطان و لطبيعة رهاناتها و "أحلامها" بين بقية البشر، أو ل"رجال الدولة" بما تحمله "كلمة" "رجال" ضمن ثقافة محددة في لحظة محددة من لحظات سيرورتها، و بما يحمله مفهوم "الدولة" ضمن سوسيو- تاريخية السياسي الخاصة بهذه الثقافة، لا بمعنى " الرجل" ضمن ثقافة أخرى و هي في وضع انحدارها و تقهقرها، بحيث لا يتجاوز معناها مقابلة كلمة "المرأة" بالمعنى الجنسي الضيق، و لا بمعنى "الدولة" ضمن هذه الثقافة أيضا حيث لا تفيد "المؤسساتي" أبدا. مما يجعل المرأة تدخل ضمن "رجال الدولة" في الأولى ما دام المفهوم يحمل مضمونا مؤسساتيا و قدرة تدبيرية و إبداعية (الوزيرة النرويجية أو الدانماركية...هي في عداد رجال الدولة)، مما لا ينطبق عليها في الثقافة الثانية (لنتأمل دائما التداخل الدائم بين "اللغوي" و "الثقافي").