ميثولوجيا الواقع ـ أراق سعيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse1809103إن موضوع الفلسفة كما كان يراه هيغل،  هو الواقع في شموليته. وقد تبدو هذه الفكرة، لأول وهلة،  موغلة في التبسيط والبساطة.  لكن الأمر يبدو على غير ما هو عليه ظاهريا،  حالما نطرح مسألة تحديد المقصود بالواقع. فبقدر ما يظهر هذا المفهوم طافحا بوضوح وبداهة دلالته ومعناه،  بقدر ما ينطوي في نفس الوقت،  على حصته من غموضه الآسر وكثافته الدلالية والمفهومية المتحجبة بالضبابية والالتباس. لذلك شكل الخوض في تحديد مفهوم الواقع،  انشغالا فلسفيا لدى العديد من الفلاسفة والمفكرين،  الذين لم يتوقفوا عند حدود التعامل مع الواقع من حيث كونه إحالة على الوجود العيني المباشر فحسب،  بل باعتباره مفهوما إشكاليا منفتحا على مستويات قرائية واستقرائية وتأويلية واسعة. وبصرف النظر عن التباين المحتمل في اقتراح تعريف إجرائي مقبول للواقع،  يمكن القول إنه يحيل على مجموع الأشياء الواقعة موضوعا عينيا مباشرا لفعل الوجود والكينونة. فالواقع هو« الموجود ثمة أصلا» بتعبير جاك لاكان. ومن هذه الزاوية،  يبدو مفهوم الواقع إحالة على التحقق الملموس للأشياء والظواهر التي تستجليها الذات الواعية من خلال عملية الاحتكاك الواقعي والملموس بالمواضيع والمظاهر والظواهر في أبعادها وتحققاتها وتمفصلاتها القابلة للترسب في الوعي والإدراك. وذلك بالنظر إلى أن «الإدراك هو تمثل حقيقة المُدْرَك1» و«الإدراك أيضا إحاطة الشيء بكماله وهو حصول الصورة عند النفس الناطقة2».

ومعنى هذا أن الإدراك هو المرقى الرئيسي لتخثر انعكاسات الواقع في الوعي والكيان وجريه على اللسان. وبما أن الإدراك، خاصية إنسانية عامة وحاضرة على مستويات متفاوتة لدى كل الناس، فإن الواقع يقع ضمن حيز المُدْرَكات التي لا تحتاج مبدئيا لمبالغة كبيرة في التوضيح أو استغراق كثير في التفسير. لهذا يقيم ديكارت علاقة مباشرة بين الواقع والوجود والكينونة، ويصنف مفهوم الواقع ضمن «المفاهيم شديدة الوضوح في ذاتها، لدرجة أن كل محاولة لتوضيحها أكثر، تقود بالضرورة إلى إغراقها في الغموض3». إلا أن هذا الموقف الذي يبدو ممتلئا بطمأنينته المعرفية، لا يمنع من التأكيد أن مفهوم الواقع،  يقع رغم ذلك ضمن نطاق إشكالي حابل بمواقف ورؤى مختلفة ومتباينة. إنه سؤال مولد لأسئلة رديفة ومتشعبة. إذ ما هو المدى التجريدي الذي يغطيه مفهوم الواقع؟ وما هي صيغة تحديده الملموس؟ وما هي حقيقته؟ هل هي حقيقة قائمة كمعطى مستقل عن الوعي والإدراك؟ أم هي حقيقة من درجة ثانية شبيهة بما هو عليه الظل بالنسبة للغصن، وما هو عليه الصدى بالنسبة للصوت، وما هي عليه الكلمة بالنسبة للشيء؟. إن هذا النوع من الأسئلة، يوجد في صلب الإشكالات المرتبطة معرفيا وفلسفيا بنظرية المعرفة. ومن هذا المنطلق «أصبح مفهوم الواقع مفهوما إشكاليا، خاصة بالنسبة للعلوم الطبيعية والمنطقية»4. ففي مجال العلم والفلسفة، تتوالى النظريات بحثا عن فهم أفضل للواقع وتطلعا إلى الإمساك الأنسب والأقوم بحقيقته التي لا تبدو أبدا حقيقة محسومة مستنفدة ونهائية «وهكذا بدا للناس،  في وقت معين،  أن فيزياء "نيوتن" هي الكلمة الأخيرة في ميدانها،  وأنها تعبر عن حقيقة مطلقة. ودام هذا الاعتقاد ما يقرب من قرنين من الزمان،  ثم جاءت فيزياء "أينشتاين" فابتلعت فيزياء "نيوتن" في داخلها، وتجاوزتها وأثبتت أن ما كان يعد حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلا حقيقة نسبية، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم. وهكذا يكون القديم متضمنا في الجديد، ولا يكون العالِم،  كالفيلسوف،  عقلا يبدأ من أول الشوط،  وإنما يستمد نقطة بدايته من حيث توقف غيره»5. ومعنى هذا أن مسار العلم والمعرفة، ليس –على مستوى من المستويات- سوى الملاحقة الشغوفة والأبدية لهاجس التطابق مع الفهم الحقيقي والإدراك الواعي للواقع في بعده الشامل والكوني، وفي مستواه الميكرو والماكروسكوبي. أي التطابق بين مقتضيات الوعي من جهة،  والواقع أو «الشيء في ذاته»  la chose en soi بتعبير كانط،  من جهة أخرى. لذلك يمكن النظر إلى المسار العلمي للإنسان،  باعتباره محاولة مسترسلة في الزمن من أجل فهم واقع العالم المحيط به ووصفه،  وذلك عبر بناء نماذج وتحديد قوانين قمينة برصد واستجلاء حقيقة الواقع من زاوية علمية. لهذا يتحدث العلماء عما يسمونه "قوانين الطبيعة" وذلك في سياق حديثهم عن القوانين الميكانيكية عند "نيوتن" وقوانين الكهرباء المغناطيسية الكلاسيكية لدى "ماكسويل". وقد توصل العلماء انطلاقا من ذلك،  إلى تحديد القوانين الكلية التي اعتبروها ثابتة في فهم الواقع الذي يحيط بنا وإضاءة أسراره وغموض ظواهره، وأطلقوا عليها اسم « قوانين الطبيعة». وتتمثل هذه القوانين في:سرعة الضوء (إينشتاين)، وكوانتيكا الفعل d’action quantum  (بلانك)،  و ثابتة "بولتسمان" constante de Boltzmann ، وثابتة الجاذبية la constante gravitationnelle (نيوتن)6. إلا أن "برجسون" يرى أن المستوى العيني المباشر للمعطيات الواقعية التي تمثل موضوع ومحتوى خبرتنا الإنسانية،  يمثل المستوى الحاسم في إدراك ما هو وواقعي، لكن حالما نشرع في بناء صروح عقلية وثقافية،  يحصل ابتعادنا عن واقع الواقع وانخراطنا في واقع ما أفرزه عقلنا وأنتجته ثقافتنا حول هذا الواقع. ومن هنا يرى "برجسون" أن سبيل العودة مجددا إلى الواقع في مستواه العيني المباشر، سيكون هو سبيل الميتافيزيقا. وحتى عند "هوسرل" وعند بعض الفينومينولوجيين المعاصرين نجد هذه الدعوة إلى العودة إلى «الأشياء في ذاتها»،  لكي يتسنى للوعي أن يخضع لنوع من الفيض عن الأشياء في ذاتها وواقعيتها، بدل الفيض النرجسي عن ذاته ورغباته واستيهاماته المفصولة عن روح الواقع وحقيقة أبعاده وتجلياته ومُسْـتَـأنَفاتِ أحواله. ومن هنا يمكن القول إن الوعي بالواقع، لا يتحقق إلا عبر التقابل بين الذات والموضوع، بين الأنا واللاأناle non-moi  . والمدى الذي تغطيه هذا المسافة الفاصلة بين الذات والموضوع،  بين الأنا ومُخَالِفِهَا،  هو مدار اشتغال الوعي والإدراك والتجربة والعلم والمعرفة. إنه مدار يملؤه الكائن الإنساني الشغوف بملء الفراغات. لأن الإنسان مثل الطبيعة، لا يطيق التمرغ طويلا في الفراغ والارتكان إلى التكوم داخل العماء المعرفي والعدمية الفكرية. وحدها المعرفة تملأ ما نتردى فيه من خواء وفراغ، ووحده الفكر يحملنا مثل سفينة نوح، نحو مدارج الدروب المضاءة ببهاء مقامات الذات العارفة.
تأسيسا على هذا، يمكن القول إن الواقع من حيث هو معطى سابق عن الرغبة، لا يمنح نفسه كموضوع للوعي فقط،  بل يوفر للذات في نفس الوقت إمكانية إعادة تفكيك رموزه واستبطان دواخله واستجلاء المتستر تحت سطحه والمتخفي وراء إهابه، وذلك بغية إعادة بناء مداراته وتشكيل حدود حضور الذات فيه ومن خلاله. إن من مقومات ومحددات المثقف والمفكر والعالم، يوجد مقوم الوعي الناضج بالواقع، أي معرفته معرفة خبرة وقرب ومعايشة وتحليل ونقد وموقف. وقد سئل إينشتاين مرة: "كيف توصلت إلى نظرية النسبية؟ فأجاب «بتحدي الواقع الذي كان العلماء مجتمعين عليه»7. ومعنى هذا أن الواقع يطرح نفسه في مختلف تخفياته وتجلياته وحالاته وتحولاته، كمعطى لكل خبرة إنسانية. فهو المضمار الذي منه تنطلق حركة الفكر وفيه تحل وإليه تؤوب وتصل. وهو المجال الأرحب لاشتغال الوعي وتشغيله وصياغته وتعديله. وهو بالإضافة إلى ذلك موضوع كل فعل إنساني هدام أو بناء، عفوي أو مغرض. وعلاقة الذات بالواقع تتحدد على مستويين:
المستوى الأول:تبدو فيه الذات قادرة على الفعل في الواقع وتفعيله والتحكم نسبيا في ترتيب حدوده وصياغة جوانب معينة من تمفصلاته وأشكاله ومؤدياته. ويتعلق هذا المستوى بالحيز الذي تتأسس فيه علاقة الذات بالواقع من خلال قدرة الفعل الإنساني على التحول إلى عنصر تأثير وتغيير للواقع في بعض مستوياته وتجلياته. وفي هذه الحالة يصبح الفعل الإنساني نفسه واقعا ضمن الواقع أو جزءا من هذا الواقع وامتدادا له وتمفصلا من تمفصلاته. فـ"الأبرتايد" مثلا في جمهورية جنوب إفريقيا، كان وضعا عنصريا كرسه العرف والنظام والمؤسسات، وحوله إلى واقع مطروح تتحدد ضمنه صيغة وجود معين، وشبكة محددة من الأدوار والمهام والوظائف العرقية والاجتماعية والوجودية. وبقدر ما كان هذا الواقع العنصري، متمكنا ومتجذرا ومحميا بواسطة السلطة والنظام والعقلية السائدة، بقدر ما كان موضوعا لاحتمال التغيير عبر الفعل الإنساني الذي اتخذ صيغ النضال والكفاح من أجل استبدال واقع مرفوض بواقع مرتجى ومأمول. 
المستوى الثاني: يبدو فيه الواقع متجاوزا لحدود القدرة الإنسانية ومُطْبِقـًا عليها بمحددات ومقتضيات لا إمكانية فيها لاحتمال تغيير أو تعديل. ويدخل في هذا الباب مثلا، القوانين الفيزيائية الكونية والنواميس الكلية ونظام الأشياء، الذي تنتظم فيه الظواهر المادية والمعنوية المرتبطة بالوجود والموجود، والمادة والفكر، والزمان والمكان والنسبي والمطلق. ويمكن تقريب هذا النوع من الواقع، انطلاقا من المثال التالي:لنتصور أن شخصا يعيش في بلد بعيد ووصل إليه خبر وفاة أبيه. إن هذا يعني أنه يواجه واقعا يتجاوزه، لأنه واقع الحياة نفسها التي تحتمل الموت بحكم طبيعتها الخاضعة لقانون حتمية الفناء واستحالة تغيير واقع الموت وواقعيته. ويترتب عن ذلك أن الزمان نفسه يُطرح كواقع لا سبيل للتصرف فيه لتمديد عمر الأب الذي استوفى أجله. والمكان بدوره يُطرح كواقع غاشم من حيث كونه لا يتيح الحضور في اللحظة والحين لتوديع الأب الراحل رغما عنه نحو الأبعد. وحتى واقعة الموت نفسها تَطرح نفسها كمعطى واقعي لا قدرة للذات على تحييده والحيلولة دون وقوعه. ومعنى هذا أن هذا المستوى من الواقع، لا سبيل لتدبيره أو مواجهته إلا من زاوية التقبل والتلقي.
والتسليم بهذه الأبعاد المميِّـزة للواقع الساري في الأشياء والساري عليها في نفس الوقت، هو الذي يقود الذات إلى تمثل نظام الأشياء انطلاقا مما يسمى بـ"مبدأ الواقع" principe de la realité . إن هذا المبدأ هو أس أساس تكيفنا مع الحياة نفسها. وكلما فقدت الذات وعيها بهذا المبدأ، تختل علاقتها بالواقع، ويصبح هذا الخلل نوعا من المرض النفسي كما هو الحال في مرض الشيزوفرينيا schizophrénie أو الهلوسة hallucination أو الأمراض العقلية الأخرى. وقد أكد الفيلسوف وعالم النفس الفرنسي  "بيير جاني" Pierre Janet  أن هذا النوع من الأمراض، يرتبط دوما بالفقدان المرضي للإحساس بمبدأ الواقع، الذي يتقابل مع ما سماه "فرويد": مبدأ اللذة، الذي يتيح استبدال قساوة وإكراهات الواقع، بلذة التنعم بتحقيق رغباتنا المكبوتة عبر متنفسات الحلم أو الفن أو حتى الجنون.  لذلك يبدو الوعي بالواقع – من هذه الزاوية - وعيا موزعا بين الوعي به كمعطى والوعي به كحلم وكرغبة. وقد أكد " سيغموند فرويد"، أن تشكل (الأنا-الواقع) le moi-realité، يقود الذات إلى إدراك هشاشة اللذة واستحالة اكتمال تحققها، بفعل إكراهات الواقع الذي يقاوم رغبات الذات وتوقها المستمر إلى المتعة، فتجد الذات نفسها بالتالي مجبرة على إعادة ترتيب علاقتها بالواقع من منطلق سياديته القاهرة التي لا تتيح للكائن بلوغ السعادة عبر المتعة واللذة.  وفي تقاطع واضح مع هذه الفكرة، توصل "جاك لاكان" إلى أن الذات لا توجد إلى عبر ما يسميه «الإخصاء » la castration، الذي تتمثل وظيفته في إعادة مَفْصََلةِ الحرمان وإدراجه كبعد من أبعاد تجربة العيش والمعيش، مما يتيح للذات أن توجد عبره، أي توجد باعتبارها رغبة مفصولة عن إمكانية التحقق والتحول بالتالي إلى واقع.
إن ما تناولناه إلى حد الآن حول مفهوم الواقع، يندرج في إطار ما يعنيه الواقع بالنسبة لبعض التمثلات النظرية العامة التي كانت لها أصداء في التجربة المشتركة للناس. لكن السؤال الذي يطرح نفسه- في محاولتنا لمقاربة هذا المفهوم - هو: ما معنى الواقع بالنسبة للفيلسوف أو لمن يملك الحس النقدي الضروري  لرؤية الأشياء بـ"اعتبار عقلي" على حد تعبير ابن سينا؟. الأكيد أن الفيلسوف رغم تعامله مع الواقع كمعطى سابق عن التجربة والرغبة والإرادة، إلا أنه لا يستسيغ حشر نفسه في تمثل هذا الواقع  من خلال المواضع المشتركة  les topos المألوفة والشائعة، بل ينحو- بحكم وضعه الاعتباري كذات مفكرة ومتوجهة عبر فعل التفكير إلى الارتقاء نحو الوعي والإدراك- إلى تبني سلوك النقد الإبستمولوجي الذي يتغيى الإحاطة الواعية بالواقع على وجه الحقيقة، وليس على وجه التخمين أو الإمكان أو الاحتمال.
ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن المقاربة النقدية للواقع، ظلت حاضرة كانشغال رئيسي في تاريخ الفلسفة، انطلاقا من فلاسفة الشك les sceptiques ووصولا إلى ديكارت.  بحيث كان المنطلق الإبستمولوجي المبدئي لهؤلاء الفلاسفة، هو التحفظ بخصوص التمثلات العامة والشائعة التي يبنيها الوعي الجمعي ويعممها ويكرسها دون تمحيص نقدي أو حس معرفي. إن منطلق الشك في تدبير حقيقة الوعي بالواقع، يمثل موقفا معرفيا يؤمن بأن الواقع ليس هو بالضرورة ما ألفنا أن نعتبره كذلك.  فالماء الدافئ مثلا، قد يكون فعلا دافئا بالنسبة لمن وضع يده فيه بعد إخراجها من الماء البارد.  ونفس الماء الدافئ قد يكون باردا لمن وضع يده فيه بعد إخراجها من ماء ذي درجة حرارة أكبر. إن هذا المثال على بساطته، يؤكد أن الواقع ليس معطى معياريا وقياسيا بالنسبة لكل الناس وفي كل الحالات.  لذلك كان الفيلسوف الإغريقي غورجياس Gorgias يؤكد أن كل الأحكام التي نبنيها حول الواقع، هي أحكام خاطئة. وحتى إن كانت فعلا صحيحة، فليست هناك أي إمكانية حقيقية للتأكد من صحتها. أما بروتاغوراس Protagoras  فقد كان يعتقد أن الإنسان لا يمكنه معرفة الأشياء في ذاتها أو كما هي في حقيقة واقعها، بل أقصى ما يمكن أن يعرفه هو صيغة إدراكه لهذه الأشياء.  بمعنى أن الفرق بين الواقع كما هو والواقع كما ندركه، فرق لا سبيل لتجسيره أو ملء فراغه.  إنه فرق حاصل ومنذور لأن يظل قائما في صلب كل تمثل للواقع أو تطلع لمعرفة الحقيقة. وقد أخذ هذا الموقف، صياغته الفلسفية النسقية مع الفيلسوف الإغريقي " بيرون" Pyrrhon الذي كان يعتقد أن الكائنات الإنسانية، لا يمكنها معرفة أي شيء عن طبيعة الأشياء الواقعية، لذلك وجب في رأيه الانصراف عن إبداء أي حكم حول الواقع.  وجَعَلَ هذا الشرط، علامة الحكمة والذكاء لدى الفيلسوف. وقد قامت فلسفة "جورج بركلي" على نقد فلسفة الشك هذه، التي لا تستند في رأيه، إلا لكون التجربة أو الحواس، مفصولة ماديا عن الأشياء ولا تملك أي وسيلة أخرى لمعرفتها أو التعرف عليها إلا عبر التمثلات والأفكار. لذلك يقترح أن السبيل الوحيد لتجاوز هذا الشرخ بين الواقع والفكر، هو الاقتناع بأن « كينونة » الأشياء المحسوسة لا تتمثل سوى في كينونتها المُدْرَكَة، لأن الأشياء ليست – في جوهرها القائم كتحقق- سوى " تشكيلة أفكار" collections d’idées .  وقد صاغ هذا الموقف من خلال قولته :الكينونة هي الكينونة المُدْرَكَة ((esse est percipi. بمعنى أن كل ما هو داخل تحت الإدراك، فهو بالضرورة جزء من الواقع وتجل من تجليات الكينونة. أما ما لا سبيل لإدراكه فهو كينونة عمياء وواقع غير ذي موضوع8.             
إن هذا الموقف المعرفي، يقود إلى إرساء وعي جديد بالواقع، أو بالأحرى، وعي جديد بعلاقة الإنسان بالواقع. إنها علاقة غير شفافة لأنها مثقلة بكثافة الحجب المسدلة بين الإنسان والحقيقة.  وعلى هذا الأساس، لا يمكن الحديث عن الواقع، بل عن شبه الواقع la pseudo-realité أو الواقع المزيف، الذي ننشئه ونحيا به ونجعله مقاس ومقياس مجموع إدراكاتنا وتمثلاتنا لما هو خارج عن ذواتنا. أي نحوله إلى مقياس ثابت نقيس به ما نعتقد أنه حقيقة المحيط  والعالم. إن الأمر يتعلق هنا بالحقيقة على الطريقة الأفلاطونية. لأن أفلاطون كان يرى أن ما هو ثابت وأبدي، هو المقياس الذي يبدو من خلاله المتغير واقعيا.  بمعنى أن الأفكار وحدها هي التي تجعل الواقع -من حيث هو معطى- قابلا لأن يكون مفكرا فيه.  وكلما تهيأت لنا سبل إرساء وجه التطابق بين أفكارنا من حيث هي تمثل، مع الواقع من حيث هو معطى، تتحدد صيغة الوعي باعتباره معرفة وتعرفا على الحقيقة والواقع و«إدراكا لخصوصية وتنوع الجواهر البسيطة» بتعبير"لايبنز". إن الأشياء لا تكون واقعية بالنسبة لنا إلا إذا شغلت ضمن تمثلاتنا وإدراكنا حيزا تتحول فيه إلى حضور سافر مُصَنَّفٍ ومُسَمَّى وحاصلٍ بالتالي كتحقق في تراتبية الأشياء والأفياء. وكل ما هو غائب عن مدار وحيز إدراكنا، لا يدخل تحت طائلة الواقع، ولا يحظى باسم أو هوية، لأنه غياب مطلق وواقع غير ذي موضوع، أي عدم مطلق أو شبيه بالعدم مثل التخيل والاستيهام والحلم. ويرى "جوزيا رويس" Josiah Royceالذي ينتمي للتيار المثالي الأمريكي- أن الواقع لا يدرك إدراكا فعليا وكليا إلا من خلال مشعل العلم الذي ينير سبل إدراك الواقع والوقائع، مما يتيح للذات أن تنتقل من مستوى الأنا المحدودة le moi fini إلى مستوى الأنا المطلقة le moi absolu . ومهما كانت طبيعة ونوعية التصورات التي اتخذت من التفكير في الواقع موضوعا للتأمل والتدبير الفكري والمعرفي، فإن الخط الناظم بين هذه التصورات يظل هو ربط الواقع بشرط الإدراك. وذلك بالنظر إلى « أنه لا وجود لواقع معطى إلا بالنسبة للإدراك» كما قال ديكارت. و«كل إدراك هو بالضرورة إدراك لشيء ما» على حد تعبير "هوسرل". إلا أن الحديث عن الإدراك هو أيضا مجال الحديث عن التمثلات بامتياز، كما قال "كانط".
   الواقع والأسطورة
إذا كان الواقع معطى قائما في حد ذاته وصفاته بصرف النظر عن احتمال جهله أو إدراكه، فإن الخطاب حول الواقع هو ارتقاء بالإدراك إلى مستوى الصياغة اللغوية أو التشفير الرمزي المواكب لـ/ والمترتب عن صيغ الوعي، التي يفرزها احتكاك الذات بالموضوع.  ويختلف الخطاب حول الواقع باختلاف الزاوية التي منها ننظر إليه أو نتقصده كموضوع للوعي وكمادة  للخطاب.  فبموازاة مع الخطاب العلمي الذي يرتهن في تعامله مع الواقع، بمحددات وتشريطات المقتضيات العقلانية، يحضر نوع آخر من الخطاب اللاعقلاني الذي يبني عناصر وعيه بالواقع، انطلاقا من محددات مستوفية لما هو خارق وخرافي ومستوفية في نفس الوقت، لما هو دال ومعبر عن الوجود الإنساني بمآزقه ومزالقه، وتصدعاته وتطلعاته، وأسئلته ومستغلقاته.  ونقصد به الخطاب الذي يتخذ من الأسطورة صيغة تفسيرية وتمثيلية لبعض جوانب الحياة والعالم والواقع.  والأسطورة بهذا المعنى، تحضر حتى عند الفلاسفة أنفسهم، الذين استعملوها كخطاب تفسيري لإضاءة بعض القضايا الفلسفية المرتبطة بالمعرفة والواقع، كما هو الشأن بالنسبة لأسطورة الكهف وأسطورة " أورفيوس" orphée عند أفلاطون، الذي لجأ بدوره إلى ابتكار أساطيره، رغم أنه أكد في بداية الكتاب الثاني من « الجمهورية» على ضرورة التمييز الحاسم بين الميتوس واللوغوس. والأسطورة تحضر أيضا كسند معرفي وتفسيري في العلوم الإنسانية، كما هو الشأن بالنسبة لأسطورة " أوديب" وأسطورة " نرسيس" Narcisseعند "سيغموند فرويد".  ومن هذه الزاوية، يبدو أن الأسطورة رغم لاعقلانية خطابها، تجد لها مكانا ضمن الخطاب العلمي والفلسفي الذي ينحو بحكم طبيعته نفسها إلى أن يكون خطابا عقلانيا بامتياز. وقد فسر " شيلينغ" ذلك بكون الأسطورة تقول الحقيقة العلمية بطريقتها الخاصة، فهي - رغم خصوصية خطابها- لا تقول « شيئا آخر»، بل تقول « نفس الشيء » الذي تقوله الحقيقة العلمية. ومن هنا خلص "شيلينغ" إلى أن الأسطورة ليست « استعارية »  allé-gorique، بل هي تحصيل حاصل استعاري tauté-gorique. والحقيقة أن ما يبدو مثيرا للاستغراب في هذا السياق، هو أن التعارض الذي أقامته الفلسفة الإغريقية بين "الميتوس" Muthos  و" اللوغوس" Logos، أي بين الأسطورة والعقل، ليس تعارضا حاسما ونهائيا، لأنه كثيرا ما يجد إمكانية التحول إلى توافق حتى في صلب الخطابات التي درجت على تقديم نفسها كخطابات ذات طبيعة عقلانية بامتياز. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو :كيف ولماذا يتحقق  إلغاء التعارض الجوهري بين الفلسفة التي تعتبر « تفكيرا بالمفاهيم »  والأسطورة التي تعتبر « حكاية استعارية للأصول » récit allégorique des origines؟.  كيف يتعايش العقل واللاعقل داخل نفس الخطاب؟ هل هذا النوع من التعايش، واقعة نصية حاضرة في ثنايا الخطاب على مستوى حيثياته المعرفية فقط، أم أنه حاضر كمكون بنيوي أيضا من مكونات الواقع في بعده الوجودي نفسه؟. إن هذه الأسئلة تمثل عتبة محورية تقود نحو أفق إشكالي متعلق بطبيعة العلاقة بين العقل واللاعقل. وهي إشكالية تندرج أساسا في المجال الذي تغطيه نظرية المعرفة. لكن ما يهمنا هنا هو أن الأسطورة بمعناها الأنتربولوجي، استطاعت أن ترسي لنفسها حيز وجود ومدار تأثير كبيرين، على مستوى مجموعة من التمثلات  حول الإنسان والعالم والخلق والمصير إلخ، لدرجة دفعت "كارل يونغ" إلى التأكيد « أن المجتمع الذي يفقد أساطيره– بدائيا كان أو متحضرا- يعاني كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحـه9 ». لكن إذا تجاوزنا هذا المستوى من الفهم في التعامل مع الأسطورة بمعناها الأنتربولوجي الذي « يسعى لأن يمنح الواقع حرمة»، يمكننا القول إن الواقع ينتج أيضا نوعا من الإيديولوجيا التي تقدم نفسها كخطاب يسعى لتنصيب نفسه كحقيقة أو مسلمة أو مقوم حياة، أي كنوع من " الدوكسا" الطافحة بفائض الدلالة المقاومة لأي قياس. وككل إيديولوجيا، ينطوي هذا النوع من الخطاب، على حصته من اللاعقلانية ويتحول إلى نوع من الميثولوجيا التي يحيا بها الناس لأنها تصبح جزءا من واقعهم، خاصة حين تجد فسحة ومتسعا للتجذر بفعل غياب الحس النقدي وتعذر القدرة على تعرية الخطاب من بلاغته المزيفة ومنطقه الهش الملتبس والمتلبس بلاعقلانية فحواه.  ومعنى هذا أن الواقع ينتج أساطيره، أي خطاباته وتمثلاته اللاعقلانية المشبعة بإيديولوجيا معتوهة تراهن على تكريس القائم وتبرير السائد وتعطيل الحس النقدي وتعليب الأفكار وسلعنة القيم ونمذجة السلوكات وتنحية العقل من الساحة والمضمار. 
ميثولوجيا الواقع
تأسيسا على هذا، لا يمكن الحديث عن واقع في درجة الصفر أو « واقع خام ». فالواقع ليس مجرد حقل وقائع ومجال ماهيات بحتة، بل هو أيضا حقل دلالات بامتياز. وذلك لأن ظواهر الواقع ومظاهره محملة دوما بقيم مضافة وبتمثلات واستيهامات ورموز. ومعنى هذا أن « القول بالواقع الخام هو إنكار للكثافة الـتأويلية، وهو قول بحضور المعنى ونفي لخبث العلامات والدلائل10 ». إن الواقع ليس أبدا كما يبدو، فخلف أشيائه وأفيائه، تنتصب الدلالات التي لا تنكشف إلا بالتأويل والتعرية وتحليل الرسالة وفك شفرة الخطاب والعلامات. وهذا السلوك المعرفي النقدي، يستند في أصل مقومات اشتغاله، إلى استدراج آليات نقد النقد وتحليل الخطاب والاستقراء السيميولوجي، الذي يحلل الدلالات التي تولدها العلامات في سيرورتها المنتجة للمعنى. وهو ما قام به "رولان بارث" في كتابه « ميثولوجيات» Mythologies وعبد السلام بنعبد العالي في كتابه « ميثولوجيا الواقع ». إن زاوية التقاطع بين هذين الكتابين، هو إرساء  فعل وسلوك الكتابة ضمن أفق نقد الدلالة critique de la signification، التي تولدها وتعممها الخطابات من منطلقات قصدياتها المتخفية. والمقصود هنا بالخطابات، ليس تلك التي تتعلق بالأنساق التواصلية الاعتباطية التي أرستها الممارسة التداولية في بعدها اللغوي التقريري، بل الأنساق الملحقة les systèmes annexes  أو الثانوية، التي تمرر - عبر قناة اللغة - قيما متضمنة أو مباشرة، كما هو الشأن في الخطاب الإشهاري مثلا. وإذا كان "رولان بارث" قد قدم في كتابه تحليلا ساخرا لبعض التمثلات المرتبطة بالطبقة البورجوازية الصغيرة الفرنسية، من خلال ما تنتجه من إيديولوجيا أو ميثولوجيا عبر قناة المقالات الصحفية أو الصور الفوتوغرافية أو الأخبار الصحفية المختلفة أو بعض المنتجات الصناعية(سيارة la D. S مثلا)، فإن عبد السلام بنعبد العالي، يتموقع بدوره ضمن زاوية نقدية "بارثية" تتغيى تجريد الخطابات المستشرية في المشهد الاجتماعي والثقافي والفكري والإعلامي العام، من هالتها وتلويناتها وطقوسية تلقيها، وذلك في أفق تكسير ما يبدو أنه قد تحول في الأذهان والعقليات إلى نوع من اليقينيات والمسلمات المسكوكة المنفلتة من المراجعة النقدية. مما يصبح معه الحديث عن ميثولوجيا الواقع، وَصْفَة وتوصيفا لحالة فكرية وثقافية عامة تستند في تحققات اشتغالها إلى خطابات منطوية – إلى جانب مستواها التقريري المباشر المكشوف، الذي يحيل على الواقع-على مستوى « إيحائي» مراوغ. وهذا المستوى الإيحائي هو الذي يدرج هذه الخطابات ضمن رهانات الدلالة ومجال تدافع القيم، ويحولها بالتالي إلى عنصر اشتغال دلالي طافح بفائض إيحاءاته، التي تنصبه في نهاية المطاف كعلامة بالمعنى السيميولوجي، وكميثولوجيا لاعقلانية متحجبة خلف الخطابات المطمئنة لوثوقية مرتكزاتها ويقينية مسكوكاتها وقصدياتها المتسترة غير المعلنة. لقد بين "رولان بارث" في كتابه "ميثولوجيات" كيف أن كل موضوع خطاب، يتحول عبر مخزونه الإيحائي إلى علامة وبالتالي إلى « أسطورة »، أي إلى شكل من الخطاب الذي يطمح إلى توليد دلالته وحقيقته الخاصتين، وترويجهما على أنهما صلب الحقيقة وعين الواقع. وهكذا أكد "بارث" أن الأسطورة ليست – بالمعنى السيميولوجي- إلا "قولا"، لكنه ليس قولا مثل باقي الأقوال، بل هو نسق من التواصل، ورسالة مرتبطة بمجتمع معين وبلحظة تاريخية معينة من تاريخ هذا المجتمع. وقد بلور "رولان بارث" صيغة هذا التصور في كتاب (ميثولوجيات)، ابتداء من سنة 1952، من خلال المقالات الشهرية التي كان ينشرها في مجلة les Lettres nouvelles. وكان هاجس هذه المقالات هو تفكيك وتحليل الأشياء اليومية والتطورات السوسيو- ثقافية التي كانت تشهدها فرنسا خلال السنوات الثلاثين المجيدة11 les Trentes Glorieuses. لذلك جاء هذا الكتاب متعددا في موضوعاته، منفتحا على تحليل خطابات و« أساطير» الواقع اليومي في تعدده وتلويناته وتهويلاته وغناه، وذلك من خلال التركيز على مجابهة الخطابات التي تتعمد الإفلات من الوصف الكاشف والدقيق. لذلك عمد "بارث" إلى التسلح بمقاربة تتعالى على المقاربة الوصفية التي عممتها الدراسات البنيوية، وتوجه في المقابل نحو تبني المقاربة السيميولوجية في التعامل مع النصوص التي ينتجها الخيال، كالحكايات والصور والتعابير والإشهار والبنيات التي تتلون في ذات الوقت بتلوينات الاحتمال وعدم اليقين12.  وبالرجوع إلى كتاب "عبد السلام بنعبد العالي"، نجد أن هذه المقاربة "البارثية"، حاضرة بشكل قوي ومُشغِّلة لسيرورة تحليلية تنصب على تيمات الموضة والإعلام والثقافة والكتابة والتاريخ والتراث والسلطة والمعرفة والقراءة والنص والتأويل والتقنية والعولمة. . . وباختصار كل ما يمثل موضوعا لخطابات "ميثولوجية" حول الواقع. وما يبدو مثيرا في هذه التيمات، هو تباين الحقول التي تنتمي إليها. إلا أن طرافة التناول الذي تبناه "عبد السلام بنعبد العالي" في مقاربته لهذه التيمات، تتمثل بالضبط في تعرية أحادية ومسكوكية الخطاب المتداول في تمثل وتمثيل أشياء الواقع ووقائعه ومواضيعه وموضوعاته، وذلك من خلال إعادة « تعبير اللامعبر عنه» بتعبير "جيل دولوز". ومن هذا المنطلق، فإن تعرية سبل اشتغال ميثولوجيا الواقع، هو نوع من مجابهة ومناهضة "الدوكسا"، انطلاقا من المقاربة التفكيكية التي « تبذر الشك في الخطابات، وتقوض أركانها، وترسي على النقيض من ذلك دعائم الشك في كل شيء. . [وذلك] لتصديع بنية الخطاب، مهما كان جنسه ونوعه، وتفحص ما تخفيه تلك البنية من شبكة دلالية. . وهذا يقود إلى تخصيب مستمر للمدلول بحسب تعدد قراءات الدال13». إن مجال الدلالات ليس هو مجال شفافية الخطاب والتخاطب، بل هو مجال المخاتلة المشاغبة التي تترسم سبل تلبيس التواصل، لبوسَ الرهانات اللاعقلانية الثاوية خلف تداول القول والفعل واللغة. لذلك يبدو مجال الدلالة والخطاب، هو مجال « تناحر السلط» بتعبير نور الدين أفاية. ولقد أوضح "جورج دوميزيل" في كتابه Mythe et Épopée   (1968) أن كل خطاب يخلق بواسطة الكلمات والجمل، « أرضا جديدة وسماء جديدة». وهذا يعنى أن الخطاب لا ينتج دوما عن الواقع، بل يؤسس أحيانا شروط إنتاج واقعه الخاص الذي قد يطرح نفسه كبديل عن الواقع. ومن هذه الزاوية، يقترح كتاب "ميثولوجيا الواقع" نفسه، كمراودة سلسة لأفق إعادة تسليط الضوء على لاعقلانية التلقي السائد للخطابات المطروحة جزافا مثل معاني الجاحظ في الطريق. إنها خطابات متضخمة بفائض لا عقلانيتها، ومعنى هذا أن مصدر قوتها لا يكمن في سيادية دلالتها أو قوتها الإقناعية الباهرة، بل يكمن على العكس من ذلك، في هذا النوع من التلف الذي أصاب الحس النقدي والسلوك التأويلي القمين بتدبير سلوك التلقي وسبل إبطال سحر الخطابات الملغمة بمتستر الدلالات. إن كتاب " ميثولوجيا الواقع" ليس صياغة نظرية أوصفية وليس تأملا محضا منشغلا بمجابهة نفسه في إسار من ظلال، بل هو ممارسة ودعوة لإتقان فن التفكير، لأن « إتقان فن التفكير والتمكن منه ليسا إلا البداية في إنجاز مهمة فهم الواقع14». ولربما كان الاقتراب من الواقع على هذا النحو، والاستغراق في تفكيك مفاصله وتمفصلاته وخطاباته ومؤدياته، والإقبال على تشريحه وإماطة اللثام عن مكر وقائعه وشعاراته ورهاناته وميثولوجياته، هو الأفق المرتجى الذي قد يقود إلى الخروج من شرنقة الخطابات النظرية المغرقة في التعالي عن الواقع بدعوى الاقتراب منه أو فهمه. وإذا كان "ميرلوبونتي" يرى أن المدلولات لا مرئية15، فمن شأن المقاربة التفكيكية الواعية بشروط اشتغالها وبمقوماتها التحليلية الفعلية الكاشفة، أن تلقي الضوء على المتستر في الخطابات وأن تكشف عما فيها من أنظمة عقلية ولا عقلية وعما يكتنفها من تماسك وتفكك وتعقد وتعارض والتباس16. لقد قال "أمبيرطو إيكو" في معرض حديثه عن "رولان بارث": « توجد طريقتان لكي تكون معلما، فهناك المعلم الذي يمنح حياته ونشاطه كنماذج للاحتذاء، وهناك المعلم الذي يمضي حياته في إنشاء نماذج نظرية أو تجريبية للتطبيق. وقد كان "بارث" ينتمي بكل تأكيد للفئة الاولى17». لأنه أدرك أن سبيل فهم الواقع، لا يمر عبر تجليله بالمزيد من فائض الكلام ومساحيق القول وسائب الصياغات، بل بترشيد العقل نحو مجابهة نقيضه ومداهمة الميثولوجيا واللاعقل في منشئهما الماكر الكامن في الخطابات المتقاطرة علينا من كل حدب وصوب ومن كل كوة أو أو باب واتجاه. إن آفة النقد هي الاشتغال بالنقد عن النقد، وهو مسلك نصادفه في العديد من الدراسات والمطارحات النقدية التي تدعي الخضوع لحذلقة المقتضيات الأكاديمية الفارهة الجوفاء. ومما لا شك فيه أن نقد الواقع وكشف لا عقلانية بنياته وميثولوجياه، لا يمكن أن يتحق بما يسميه عبد الله الغذامي بـ «العقل الصنيع»، أي العقل المتمفصل معرفيا وقيميا وفق مقاسات المسلمات واليقينيات المتداولة العمياء، بل يتحقق في المقابل من خلال العقل المواكب لسيرورة وعيه بمقتضيات اشتغاله التفكيكي المنتج القمين بتبين « المضمر النسقي» في كل أنساق وشفرات الواقع والوقائع والخطابات التي تملأ سديم الأرض وأديم السماء. لكن ليس من منطلق (ميتافيزيقا الحقيقة)، أي « تلك الميتافيزيقا التي تحاول الفلسفة اليوم، تحت أسماء متباينة في الظاهر، أن تتجاوزها لتجعل النقد لا يقابل حقيقة بحقيقة، وإنما يحفر النص ليجعله في "بعد عن ذاته"، ويكشف فراغاته ويحلل لا شعوره ويفضح لا مفكره فيصدع بناءه ويخلخل منطقه ويفك أواصره18». وذلك من منطلق استراتيجية التفكيك التي تعتبر استراتيجية شاملة، لأنها تنصب حتى على ذاتها، وهذه نقطة أساسية ينفصل فيها التفكيك عن النقد الذي نما، داخل ميتافيزيقا اليمين واليسار19. وبهذا النوع من المقاربات التي تستدرج طرائق نقدية تزاوج بين التفكيك والتأويل، يتسنى الخوض في أفق نقدي مغاير، يعيد النظر « من الداخل » في مستحكم النصوص والخطابات واليقينيات التي تبسط جناحها على واقعنا لتجهض فيه رفرفة المغاير والممكن والمتاح. 
      
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
1– زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري, الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة, دار الفكر المعاصر, بيروت,1411هـ, ص. 67
2  -  نفسه,ص 29.
3  - - R.  DESCARTES, « Les Principes de la philosophie », in Œuvres, éd.  C.  Adam & P.  Tannery, vol. I , Paris, rééd.  1964-1974 , chapitre X. 
4  - allemand par Pierre Cadiot,éd. Seuil,1986,p. 29. Kate Hamburger, Logique des genres littéraires,trad. de  l 
5  - فؤاد زكريا , التفكير العلمي , سلسلة عالم المعرفة ,العدد 3, مارس 1978 ,ص 17.
 
6  - Cohen-Tannoudji , les Constantes universelles, Paris, Hachette, 1991  Gilles
7   - زهير الكرمي , العلم ومشكلات الإنسان المعاصر, سلسلة عالم المعرفة , العدد 5, مايو 1978, ص.  143
8  -Berkeley, George, Œuvres I, trad.  par Marilene Phillipe, Paris, PUF, 1985
9  - نقلا عن عبد السلام المساوي, الموت بين الأسطورة والفلسفة, مجلة فكر ونقد, العدد 61,سبتمبر 2004, ص22.
10  - عبد السلام بنعبد العالي, ميثولوجيا الواقع, دار توبقال للنشر, 1999, الطبعة الأولى, ص 14.
11  -  عبارة ابتكرها عالم الاقتصاد الفرنسي " جون فوراستيي" Jean Fourastié. وذلك للإشارة إلى مرحلة التطور الاقتصادي القوي,الذي شهدته فرنسا وباقي الدول الصناعية, ما بين سنوات 1945 و 1975. 
12   - رولان بارث, درس السيميولوجيا , ترجمة عبد السلام بنعبد العالي, دار توبقال للنشر, 1986, ص. 29.
13  - عبد الله إبراهيم, التفكيك : الأصول والمقولات, درا لنشر: عيون المقالات,الدار البيضاء, 1990,ص. 44-45.
14  - روبرت هـ .  ثاولس, التفكير المستقيم والتفكير الأعوج, ترجمة حسن سعيد الكرمي, سلسلة عالم المعرفة, العدد 20,أغسطس 1979,ص 81.
15  - موريس ميرلو بونتي, المرئي واللامرئي, ترجمة محمد خضير, بغداد / دار الشؤون الثقافية العامة, 1987, ص. 134.
16  - Leitch ,V. B, Cultural Criticism , Literary Theory ,Poststructuralism, Columbia University Press,New york, 1992,p. 3-4
17  - version 9.  Encyclopaedia Universalis. (article) Phillip Dullac, Roland Barthes
18  - عبد السلام بنعبد العالي, تفكيك النقد, مجلة ( فكر ونقد), السنة الأولى, العدد 3, نوفمبر 1997,ص. 40.
19  - نفسه, ص. 41.