امرأة الرواق -قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

عيناها لا تكفان عن ذرف الدموع. كنت أجلس قبالتها مباشرة، أصغي إلى وجيب قلبها فيتردد صداه في تلك الردهة الفسيحة في هذه البناية الصماء التي لا تستقبل إلا المواجع والآلام. تضيق وتتسع حسب انفعالات زائريها أو مغادريها، فتضج حتى لتخالها الآزفة قد أزفت، ثم تهدأ وتستكين وتصمت صمتا أشبه ما يكون بصمت المقابر وسكون القبور فيها.
وقع الأحذية فوق البلاط اللماع ذي الرائحة المقرفة الممزوجة بطعم الوجع والخوف والموت تقطع مساحات الصمت الذي يخيم بين الفينة والأخرى على هؤلاء القابعين المنتظرين في تهيب وتردد، فكل أزة باب قد تحمل خلفها وجعا، وكل صرخة مدوية تخترق الجدران قد تنبئ عن فجيعة.
في عينيها مساحة ممتدة من الحزن والألم اللذين يعتصران قلبها ويفتتان ما رُتق من بقايا روحها. حدقت في عينيها فإذا هما مثقلتان بهموم الدنيا، لم يكحلهما النعاس منذ دهر. وحيدة كانت تجلس رغم كثرة الجالسين يمينا وشمالا. تملأ رئتيها بين الفينة والأخرى هواء تسحبه بعمق وتنفثه آهات عنيفة. لم يكن يؤنسها سوى هاتفها الذي كانت تضاء شاشته لتقرأ رسالة أو تتفقد الوقت الذي أمعن في تعذيبها. هذا الزمن الذي يكاد يتوقف، تُشل حركته فيمعن في تعذيبنا ونمعن في تذكره وتتبع حركات عقارب ساعته الرتيبة.

شفتاها لا تتوقفان، تنفتحان وتنطبقان، يلهج لسانها بكل الأدعية التي تعلمتها وهي تصغي لوالدها يردد أوراده إثر كل صلاة. رن هاتفها، أيقظها من غفوة. تأملت الاسم والرقم، أدنت الآلة العجيبة من أذنها. لم تتكلم كثيرا، أصغت أكثر مما قالت. ختمت حديثها مع مخاطبها بعبارة "الله يقدّر الخير".
ظللت أتفرس في تلك الملامح الشاحبة التي علت وجهها المصفر الرازح تحت كلكل من الوحدة والهموم. غارت العينان ونتأت الوجنتان، شفتاها متيبستان، بعض الشيب اخترق حدود الحجاب الموضوع في غير عناية، الريق شاحب، والدمع لا ينقطع، ينحدر جمرا من المقلتين اللتين تدوران في محجريهما يمينا ويسارا كبندول ساعة حائطية في محطة قطارات مهجورة.
في هذا المكان لا يلتقي سوى ذوو المواجع والأوجاع. الكل فيه يعرف الكل، ولا أحد يحادث الآخر، كل في همومه غارق، يكتوي بلظى الفزع وحرقة الوجع. أنّى التفتَّ لتشكو تجدْ من هو أحق بالشكوى منك. اختار الجميع الصمت، فلا جدوى من السؤال عن سبب التواجد في هذا المكان الموحل. الأمر الذي قاد الواحد إليه قاد الكل.
تذكرت قول الشاعر: "وإني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا"
كثيرة هي الأجسام المتلاطمة المتقاطعة تحث الخطى لتعبر الأبواب، وسيدة الرواق تقبع وحيدة فوق كرسي حديدي ثُبتت أقدامه جيدا فوق البلاط حتى لا يحدث أزيزه ضجة تنغص الفرح على الموظفَيْن القابعَيْن خلف حاجز بلوري سميك يتبادلان النكت عبر الرسائل الالكترونية بواسطة هاتفيهما غير عابئين بآهات المكلومين ولا بصرخات الموجوعين، تند عنهما ضحكات متزامنة بين الفينة والأخرى لتخترق الصمت. تتقرفص وقد أسندت ظهرها إلى الجدار في بحث عبثي عن لحظة تمرق فيها لتهرب من هول الزمان ولوثة المكان. كان اضطرابها باديا في حركاتها إذ لم تستقر على هيأة، فما إن تقشع رأسها حتى تنحني وتضع مرفقيها فوق فخذيها وتحتضن وجهها براحتيها فتغدو كالمتضرعة وهي تذرف دموعها التي تنهمر جمرا فوق خديها من المآقي التي لا تكف عن الذرف المر الحارق.
كلما حاولت التسلل إلى أفكارها صدتني دموعها، ووقفت عاجزا أمام صمتها المقيت، أحاطت نفسها بجدار متحجر صلب، وتمترست خلف أسلاك شائكة لا يقدر على تخطيها إلا من غرف من النبع الذي اغترفت منه. وحدها كانت تجدف في بحرها العميق المظلم الموحش لتخوض غمار رحلة لا يعلم حدودها إلاّها.
سحبت من حقيبة يدها السوداء صورة، تأملتها مليا ثم أدنتها من أنفها وراحت تشم عبيرها، سحبت نفسا عميقا ثم أبعدت الصورة لتملأ منها عينيها، لتتفرس في الملامح والتفاصيل كأنها تراها لأول مرة، تدقق النظرات، تجيل بصرها في الزوايا ثم سرعان ما تعود إلى الملامح تتوغل فيها، تغوص بين تلافيفها رويدا رويدا، تغمرها بالقبلات الحارة، تذوب شوقا في الصورة الموضوعة في راحة يمناها...أي عشق تحمله هذه المرأة الوحيدة الباكية لصاحب الوجه الجامد الذي لا يتحرك في تلك الصورة. تزداد تعلقا بالوجه تقربه من صدرها الذي بدأ يعلو وينخفض إيذانا ببدء نوبة أخرى من البكاء المر الموجع، تضمه بعنف وشوق، يلتحم الجسدان، يتداخلان، ينصهران، تمنحه بعضا من روحها، تنفث فيه من أنفاسها فتخاله يضحك لها.
وفي لحظة يتوقف الزمن في الرواق الطويل الممتد، يزحف ببطء، يحمل معه دفقا من الأحزان اللامحدودة، حمما من الأوجاع وصهارات من الآلام تتشظى من الجدران، تصيب بلا رحمة. السرير الطبي الذي يدفعه ممرضان والجسد المسجى المغطى بلحاف أبيض صار خناجر تخترق الروح وتفتت الجمجمة، تعتصر القلب، تسحق الكيان. كل ما في الرواق تسمر، وحده السرير كان يتقدم بلا توقف ليعبر بنائمه من ضفة إلى أخرى. صارت الأجسام المتلاطمة مجرد خيالات هلامية يخترق أحدها الآخر.
وحدها امرأة الرواق تحركت، وقفت، سرت في جسدها النحيل قشعريرة، تفصد الجبين، تصبب العرق. وحين التقت نظراتنا بدت لي كأنها كبرت عقدين كاملين في لحظة. حملت كل أحزانها وهمومها ويممت وجهها صوب السرير الذي ما زال لم يعبر الرواق بعد، حاذته وسارت وقد ألقت بكلكلها على حافته وخطّي جمر ينهمران من المآقي فيلهبان الخدين. وبيد مرتعشة سحبت اللحاف، فانكشف الوجه، الجفون مسبلة، والشفتان الورديتان منطبقتان، وابتسامة رقيقة تعلو المحيّا كأن صاحبها ودع دنيانا قرير العين هانئ البال.
خاطبت نفسها وهي تكفكف دموعها المنهمرة بغير توقف: "كم يلزمني من الفرح كي أشفى منك، وكم يلزمني من الكلام الجميل كي تشفى ذاكرتي المسكونة بك من نسيانك، وكم يلزمني من المراهم لأُسكن كل الجراح التي تركها رحيلك المفاجئ وأنت تستعد لتستقبل عمرا جديدا وكم وكم وكم...".
تراجعت واستندت بظهرها إلى الجدار وراحت قدماها تنزلقان ببطء فوق البلاط وإذا الرواق الطويل الممتد يتحول أمام عينيها إلى ضباب أبيض كثيف، وتردد في الأرجاء صدى صرخة ارتج من هولها المبنى.