لحظة يأس مفاجئة- قصة: عبد الغفور مغوار

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

عندما أفقت من قيلولتي، لم أشعر برغبة في النهوض من سريري. لم أكن أشعر أبدًا بالاسترخاء ولا بالسعادة. كان جسدي كله متعرقا، فالحرارة كانت في ذلك اليوم من شهر يوليوز كأنه لفحة من جهنم. تنهيدة تسللت من بين ضلوعي دون إذن مني. الهواء الساخن المتسرب من شباك غرفتي أثار شهيتي للماء، مددت يدي إلى طاولة صغيرة جانب السرير وتناولت قنينة زجاجية وارتشفت رشفة ما زدت عليها لكون الماء قد صار دافئا لا يروي ظمأ. بعدما كنت متكورا على نفسي، طرفاي العلويان يشدان على طرفي السفليين من ركبتي اللتين قربتهما من بطني، تماما في وضعية جنين، غيرت وضعي فبقيت مستلقيا على ظهري، لأني شعرت بضيق حيث لم تكن نفسيتي مرتاحة بما يكفي، ربما كنت مهموما من شيء مجهول، أو ربما كان ينبغي علي اتخاذ قرار في مسألة ما ولم أدر كيف. في لحظة وأنا مغمض العينين شعرت وكأني جسد بلا روح، قد فقد مخي بوصلة تفكيره، وضاعت من ذاكرتي قنوات الذكريات. أي حيلة كانت ستنقذني للوصول إلى ماهية اللحظة وتحديد تواجدي طبقا للظروف الزمنية والمكانية. بقيت مغمض العينين، كجثة هامدة والعرق يتصبب مني، بلا مبادرة، أية مبادرة. لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا على هذه الحالة التي توقف فيها كل شيء، حالة شبيهة بعدم الوجود.

في لحظة، فتحت عيني واندهشت لكوني لم أسمع ولا صوتا ولا حركة. بالكاد كنت أعي أني أتنفس. شيء من أمل أعاد الروح في جسدي فأحسست بأطرافي ونبض قلب. أخذني خدر مبهم فتهت مغمض العينين ثانية، وراء شريط ذكريات في محطات متعددة من عمري ولست أدري كيف لاح هذا الشريط. ولما فتحت عيني رأيت وسط الجدار قد فتحت نافذة تشع نورا. سحرت للمنظر وانتابتني حالة هلع هستيرية، تخرس لها لساني وتيبس لها سائر جسدي، فاضطررت لإغماض عيني مجددا. في تلك اللحظة من اليأس عاودتني آلام السنين وحسرتها، وسيطر على عقلي شعور بالانهزام وتيقنت أن ساعتي قد دنت، وأني أعيش لحظة تسبق الاحتضار. استسلمت وقلت في نفسي: "عمري، السعادة فيه كانت لحظات معدودة، فليحدث لي ما شاء أن يحدث، لا ضير." وبكل شجاعة فتحت عيني على النور المنبثق من تلك الفتحة محدثا نفسي: "سأموت لا محالة، إنها النهاية".
خيم علي شعور بالوحدة واليأس في آن واحد. كنت وحيدًا في محنتي، لا من مواس، ولا من رحيم. كنت أتأرجح بين نارين، نار اليأس من الخروج من هذا المأزق ونار الرفض له. فقطعت رأسي موجات الألم حتى أني شعرت بتنمل عضلاتي، كان أشبه بتمزق وانفصال اللحم عن العظم. ربما قد توقفت الدورة الدموية وانحصر جهاز تنفسي. لم أكن قادرًا على مقاومة طوفان الموت هذا الذي غمرني فجأة. وهكذا، تيار من الحسرة حملني بعيدا. إلا أني أغمضت عيني مرة أخرى، لأجد نفسي قد حملت بعيدًا إلى شواطئ غير مألوفة، شفافة مياهها، أمواجها لطيفة، شمس دافئة كان ينعكس نورها الذهبي على وجه الماء الشبه الراكد، هي جنة قلت وحسبي أني أنقذت من جحيم كنت أعيشه قبل لحظات. شعرت بالانجذاب إلى هذا المنظر الرائع ولهذه الموسيقى الخفيفة التي أحدثتها طيور محلقة على مقربة مني، فكم كانت رغبتي جامحة في أن أغطس في هذا الماء، وانطلقت أركض بفرح طفولي نحوه وما إن لامست أخمص قدمي موجاته الصغيرة مداعبة وكأنها ترحب بمقدمي كأول زائر في هذا الشاطئ الخالي من البشر، حتى شعرت وكأني أولد من جديد. فجأة أصبح الموقف الذي عشته بمثابة هلوسة حين جاء إلى مسمعي صوت آذان العصر. فتحت عيني والنور الذي كان يشع من فتحة وسط الجدار كانت لوحة طرزت عليها بخيوط نحاسية آية قرآنية: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.