نُدُوبُ حَرْبٍ قَدِيمَةٌ – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

صوت ارتطام الباخرة بحافة المرسى على سواحل هافونغ، تلك المدينة الفيتنامية الساحلية القابعة في الشمال، هز الجميع. كان وصول الباخرة إيذانا بوصول دفعة جديدة من المجندين المجلوبين من دول شمال إفريقيا لخوض غمار حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
صراخ وعويل ونداءات بلغات متداخلة وأصوات تأتي من كل ناحية. لم أع ما أفعل. سرت مع السائرين أرتطم بهذا ويدفعني ذلك. ها نحن أخيرا في رصيف ميناء هافونغ، مدينة كُتب لأقدامنا أن تصافح ترابها، وقُدّر لها أن تشهد وصول وجوه غريبة لتصفعها رياح جنوب شرق آسيا القاسية. الملابس الجديدة الفضفاضة وحلاقة الشعر والحذاء ذو الساق حولتني فجأة إلى كائن غريب لا أعرفه، هل أنا الطاهر أم خياله؟ ودون وعي مني صرت أهذي بأسماء من عرفتهم في القرية أو بين الحقول. أسمع هتافات عالية ووقع أحذية موقعة تتحرك بسرعة في اتجاهات متعاكسة. الوجوه أقنعة والعيون مبحلقة في الفراغ، تيه وامتداد رهيب للزمن والمكان، وحشة وخوف وأوامر بلغات غريبة يبرطم بها جنرالات توشح أكتافهم نجوم تتلألأ فتعشي الأبصار.

ملأني الخوف. ونز من جسدي عرق بارد بلل ثيابي ففاحت منها رائحة عطنة مقززة، وتسمرت في مكاني وتفرست حولي علِّي أتعرف على هؤلاء الذين حشروا معي ويسيرون على يميني وعلى شمالي مطأطئي الرؤوس كأننا نساق إلى حتفنا. وتساءلت: "متى ينتهي هذا الكابوس وتزال الأصفاد الحديدية من معاصمنا؟". تدافعت الأفكار إلى رأسي وصارت سيوفا قاطعة، وجالت بذهني كل الصور التي خزنتها الذاكرة في ظلماتها عن الحروب وويلاتها، وعن الميادين والقتل والفتك بالأسرى والتنكيل بهم. "لماذا يفعل بنا هكذا، ولماذا يدفعوننا إلى موت مهين قد لا نجد بعده من يوارينا التراب فتدنس حرمات أجسادنا ونلقى في حفر جماعية مثل كلاب أصابها وباء وخيف من انتقال عدواها إلى بني البشر؟" أي فظاعة تقود البشر للتقاتل؟ أي جرم ارتكبته حتى أغيّب عن أبنائي وزوجتي ووالدتي وكل الذين أعرفهم وأحبهم؟ أين عدالة الله في كونه؟
صوت قوي يأمرنا بالاصطفاف صفين متوازيين، ثم السير إلى الأمام مرددين نفس الكلمات التي كان يرددها. إنه بلا شك صوت العقيد جان بيار الذي حدثوني عنه ونحن محشورين في غرف السفينة التي أوصلتنا إلى هنا. يصدر الأوامر ثم يمضي مسرعا. لا وقت لديه لبسط الخرائط والتفصيلات، الكل يعرف دوره، وعلى الكل أن يلتزم بحدود ذلك الدور الموكل إليه. لا مجال للخطأ أو الارتباك...إنها لعنة الحرب التي أصابتنا بلوثتها فقتلت في الإنسان كل إحساس بالإنسانية، جردته من كل المشاعر النبيلة والعواطف الفياضة. تركته وعاء فارغا إلا من القسوة والفتك وهتك الأعراض واستباحة الحرمات. يتساءل المرء عن سبب كل هذا الشر المتأصل في الإنسان، فلا يجد غير الطمع والرغبة في السيطرة.
ها قد صرنا مجندين. تفرست في وجه من كان على يميني فلاحت لي ملامحه جافة كأن الدم قد جف في عروقه، تيبست شفتاه وغارت عيناه. أشعث أغبر بجسده النحيل بدا في البدلة العسكرية الفضفاضة كالفزاعة التي كان والدي يصنعها بما توفر لديه من ملابس قديمة ويغرسها على حافات حقلنا ليخيف بها الطيور التي لا تبقي ولا تذر، ثم تستغلها والدتي بعد انتهاء موسم الحصاد لإبعاد الثعالب عن أقنان الدجاج.
جسمي منهك وعقلي مشطور نصفين نصف يريد أن يستوعب الوضع الجديد ويتأقلم معه، ونصف يخترق الفضاء ليصل إلى القرية ويشاهد ما خلّفه رحيلي المفاجئ في أهلي وأحبتي. أتضرع إلى الله وأتوسل بسيدي الطايع أن يعتق غربتي وينجيني من هذه المحنة. وقد نذرت إن أنا أُفرج عليّ أن أنحر عجلا في الزاوية وأوزع لحمه بين سكان القرية.
تقدمنا واحدا تلو الآخر، ومررنا جميعا وتباعا أمام عسكري حاد الملامح يسأل عن الاسم الثلاثي لكل منا وعمره والبلاد التي جاء منها. وبجانبه مترجم ينقل لنا ما كان يقوله وينقل له أجوبتنا فيخطها على أوراق دفتر صفراء بالية بقلم حبر أسود جاف. ثم يسحب من كيس ملقى بجانبه قلادة تحتوي قرصا عليه رقم. يكتب أمام الاسم الرقم الذي على القرص ثم يلقي تلك القلادة ودون أن يكلف نفسه رفع عينيه عن الدفتر ويأمر بصوت مغمغم "ضعها حول عنقك ولا تنزعها أبدا". وهكذا تحولنا إلى مجرد أرقام. وعبرنا إلى عالم جديد لا يعلم حدوده إلا الله.