ارتجاج - قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

موجات من البشر تتدفق نحو مكان الحادث المروّع الذي حدث فجأة. هكذا هي المصائب تأتي من حيث لا نتوقع. تصدمنا حقيقة حدوثها فتحدث شروخا في الروح يعسر رتقها.

 عندما وصلت بعد أن عبرت شارعين وجدتني أقف مذهولا من هول ما وقعت عليه عيناي، أنصاف جثث متفحمة، وأطراف مقطوعة لا يزال الدم ينز منها وتفوح منه رائحته العطنة المقززة التي تزكم الأنوف، رؤوس متطايرة وأجساد متصلبة، أكوام من الجثث الملقاة هنا وهناك. عندما وصل آخر المحققين كان كثير من الفضوليين قد تجمعوا، منهم من مرّ كأن الأمر لا يعنيه، ومنهم من ظل واجما متسمرا في مكانه ملفوفا بكل جزع الدنيا تبحلق حدقتاه في هذا المدى الممتد من الدمار والخراب والدماء والأجساد المتصالبة والأطراف الملقاة في كل مكان. بكى الكثيرون صمتا وأخفوا دموعهم المتناثرة في كبرياء. ومنهم من ارتفع صوته بالشهيق. ومنهم من تقيّأ بمرارة. العيون مبحلقة في هذا الفراغ الرهيب الجارح. وجوه أخرى ظلت جامدة كالصخر لم تكشف مشاعر أصحابها. وجوه أخرى جاهد أصحاب ليحافظوا على حيادهم كأن الأمر لم يكن يهمهم.

في لحظة مجنونة خاطفة حدث كل شيء. لحظة مجنونة كإضاءة آلة تصوير حرص حاملها على السرعة والدقة حتى لا تفوته كل التفاصيل. لحظة توقفت فيها عقارب الزمن عن السير. لحظة تيبست فيها أطراف الأرض فتوقفت عن الدوران الروتيني. لحظة اختلت فيها نواميس الكون واضطرب قانون الطبيعة السرمدي...وفي لحظة انتهى كل شيء. لا عدسات المصورين التقطت الصورة كاملة، ولا مراسلو القنوات التلفزية نالوا شرف السبق في نقل الخبر. في لحظة منفلتة مارقة عن كل الطقوس والقوانين.

الأطفال يبحثون، في كل مكان. يبكون أحضان أمهاتهم الدافئة، ينبشون بين الأنقاض، يغوصون داخل بالوعات الصرف الصحي غير آبهين بالعفن والرطوبة. آباء يفتشون في عيون بعضهم البعض، التي سكن فيها شقاء السنين، عن فلذات أكبادهم الذين رحلوا فجأة مخلفين وراءهم أفراحا مؤجلة وتناثروا كالذر تحت أكداس الركام. تحولت هذه البقعة من الأرض إلى مقبرة جماعية تساوى في جوفها الأغنياء والفقراء والكبار والصغار والأنقياء والأرذال الأتقياء والكفار وذوو العاهات والأسوياء...

الأرواح ترفرف هناك فوق الرؤوس محلقة بعد أن فارقت الأجساد. لا أحد يراها لكن الكل يشعر بالهواء الذي يخلفه تحليقها المهرجاني، والكل يصغي إلى هسهساتها. أطياف تجمعت وصعدت تعانق عنان السماء بعد أن تخلصت من ربقة الأجساد التي هد أصحابها الألم وأعياهم اللهاث المجنون وراء انتصارت وهمية شأنهم في ذلك شأن دون كيشوط وهو يصارع طواحين الهواء. أجساد هدها الصراع السيزيفي المرير، يبحث أصحابها عن انتصارات يرتِقون بها ما تناثر من أيامهم الكالحة الجافة أو يطمرون بها بقايا فشلهم في تسلق سلم المجد...لا العضلات المفتولة القوية، ولا الأرصدة الضاجة بالمليارات، ولا المباني الشاهقة، ولا السيارات الفارهة، ولا الأسرّة الهانئة، ولا جمال العيون، ولا الجاه، ولا النسب ولا... ولا... ولا...لا هذا ولا ذاك أنقذ صاحبه عندما نُفِّذ حكم السماء.

على يميني وقف فتى بجسده الغض النظر يحدق في الأفق البعيد ومآقيه لا تتوقف عن ذرف الدموع. كانت عيناه ذابلتين مثقلتين بحجم حزن فاق سنواته العشر بكثير. غرز في قلبي سؤاله "ماما وين؟". لم أدر بما أجيبه اكتفيت بالتحديق بعيدا. قلت له في سري: "أنا أعجز منك يا بني عن إدراك ما حصل. لست بأعلم منك بمكان أمك. ولا تحت أية كومة أنقاض سُحق جسمها...لك الله يا صغيري، واصبر علك تظفر بالبشرى التي وُعد بها الصابرون". رأيت شعره الجميل المرسل على جبينه يتحول فجأة إلى مِدًى حادة وسهاما مذببة، صارت شعراته أشواك نيص[1] متأهب لمواجهة عدوه. تحولت كل شعرة فيه إلى شوكة تخترق قلوب هؤلاء الواقفين الواجمين العاجزين أمامه.

أدرك أنه لن يظفر مني بجواب. وظلت عيناه تدوران في محجريهما. وكي أتجنب حدتهما انثنيت بجسمي ووقفت على ركبتيَّ واحتضنته، ضممته إلى صدري فشعرت بوجيب قلبه ونواح روحه. وتخيلت ما ينتظره من يتم وفقر وتيه، ورُسِمت أمام عيني حياته بدروبها المعتمة ومسالكها الوعرة ومياهها الآسنة وبركها الموحلة المتعفنة...احترت، أأتركه وأمضي وأدس حزني بين الواقفين وأبتعد عن نظراته الجارحة، أم أحمله معي أشق أنا وهو دربا نحن من يحدد مسالكه؟

وفجأة تيبست أطرافه لكنها ظلت مطوقة رقبتي كأنه يتشبث بي  ويخشى أن يبقى وحيدا، ثم أحسست ببرودة أنامله الصغيرة الطرية، وشعرت بدقات قلبه تتباطأ. أمسكته من كتفيه وأبعدته قليلا إلى الوراء لتتسنى لي رؤية المشهد كاملا، فإذا عيناه ذابلتان جامدتان، ونظرته التي كانت قبل قليل حادة صارت منكسرة، ثم تراخت يداه وتحجرت دمعة في مآقيه. وعلى محياه ارتسمت ابتسامة عذبة آسرة. حولت بصري إلى الأعلى فلمحت روحه تحلق ضاحكة حائمة حولنا، وسرعان ما طارت في خط عمودي مخترقة الحجب، وينبعث منها شعاع يكاد يعشي الأبصار. 

 

 [1]- النيص: يعد أكبر القوارض إذ يصل طوله إلى المتر ويزن حوالي 15 كجم ، يتميز بوجود الأشواك الطويلة التي تغطي جسمه.