القطار - قصة : محمود الريماوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseلم يكن مليئا بالركاب والأمتعة فقط بل بالانفعالات أيضا. انه قطار قديم أشبه بتلك التي تقل الجنود وكما في قطارات أفلام الحرب .
و"منذ صنعوه منذ بدأ يعمل وهو ينطلق بنا" . بهذا حدثني جاري الطبيب الخمسيني ولم اكن لأشك فيما قاله بالكاد اذكر شيئا سابقا على صعودي اليه . لقد استيقظت على ضجيجه ونشأت على دعوة المبهمة، ورغم ان سرعته كبيرة إلا أن الوقت كان يتقدم بنا ببطء شديد. قليلا ما تحدثت إلى رفيقي وجاري على المقعد الجلدي . كنا نتبادل النظرات مع الاهتزازات العنيفة. وكان الصخب واللغط حولي يمتص رغبتي في الكلام ويبددها. حدث غير مرة ان هممت بالحديث فإذا بالضوء ينطفىء قبل أن اتفوه بكلمة. كان بوسعي بالطبع أن اتحدث في العتمة، وان اعلى صوتي ليسمعني جيدا خلال ذلك .
الا ان وقع الكلام في العتمة ليس كوقعه في الانارة . والحلول المفاجىء للعتمة يشتت افكاري ، علاوة على مايثيره من توجس مشروع فما الذي يمنع في الاثناء من ارتكاب جريمة خاطفة.
أما الجاران الآخران قبالتي ، السمين القصير والطويل الاصلع ، فقد كانا في انشغال عن كل ماحولهما، وينهمكان في احاديث لا تتوقف وبصوت غير خفيض عن الربح والخسارة واصول التعامل والفرص التي لا تضيع وعما يصح وما لا يصح . يتحدثان بأنفاس لاهثة وبتفاهم ظاهر ولا يعيقهما شىء : لا ظلمة مفاجئة ولا حال من هرج ومرج . ومع ذلك كان لابد لي ان اتحدث وأبادر الى الحديث . اذ كان جاري من النوع العادي الذي يبادلني صمتا بصمت وحديثا بحديث . . الانفاق . . انها الانفاق
همس لي : ان الضوء ينطفىء في الانفاق . في اكثرها ما اطول كل منها.انك تختار وقتا غير ملائم كي .ترى ذلك ؟ ليس انا من يرى ذلك . بل هذا هو الذي يحدث .
حاجة ما تطغى علي للحديث كلما اقربنا من نفق دون اناعلم اننا نقترب .
ومع أنها انفاق إلا أن الركاب لا يأخذون الأمر بتسليم . تعلو الهمهمات أولا ثم الهتافات فالاحتجاجات على انقطاعالضوء. فاتشجع من جهتي على الحديث واتحدث . وهكذا كان .
 كان قطارا كبيرا هائلا يتسع لسكان مدينة قطار طويل لا يبلغه النظر، طويل بأطول من ليالي شتاء القرى قاطراته بلا عدد وكل منها يقل حمولة قطار من ركاب يعرفون بعضهم بعضا ومن لم يكن يعرف أحدا من قبل - كحالنا الطبيب وأنا - فقد تعرف إليه خلال الرحلة وانها لرحلة شاقة طويلة ولقد طالت بأكثر مما تصورنا. ولم نكن لنعرف موعدا للوصول . كنا ندرك فقط ان قطارنا سائر على سكته ومادام يسير فلابد انه واصل بنا.
ان امره لغريب ويخالف ما هو معهود من نظام دقيق للقطارات حيث مواقيت الانطلاق والوصول محددة مسبقا ومرعية دائما. هكذا فاتحت جاري وكانت مضت أيام لم نتبادل فيها أي حديث . لم يثر تساؤلي دهشته ولم يخرجه من بروده وثباته ، اذ انه سمع كما يبدو بمثل هذا التساؤل من قبل واجاب عنه عشرات المرات.

قال بنبرة واثقة لا تخفى شعوره بالضيق . ان قطارنا ليس ككل القطارات . قال ذلك دون ان يلتفت نحوي وكأنه يقود القطار، أو يخاطب شخصا آخر غيري .. أو لا يخاطب احدا ابدا. لماذا؟ لماذا لا يكون قطارنا مثل بقية القطارات ونكون مثل كل الركاب المسافرين؟ هنا خرج قليلا عن استغراقه وشاب الانفعال نبرته : ليس أنا من يجيبك على السؤال لست إلا راكبا مثلك.

وفي واقع الأمر لم يكن مثلي . كان دائم القراءة، ينكب على كتب قديمة وصحف وخرائط ويدون ملاحظات ، يغيب عني لساعات ويقفل راجعا في الليل.
كم مضي على صعودنا إلى القطار.
 تساءلت مع ذات نفسي بصوت بدا مسموعا. كنت اعرف متى. ضحك الرجل واعاد السؤال هازئا. منذ متى ؟ منذ صنعوه منذ بدأ يعمل وهو ينطلق بنا.
لم اتحدث من قبل ولا من بعد في هذا الشأن . ولم اسمع بمثل هذا الحديث من حولي ، اذ كان ذلك يؤسينا ويكسرنا
ويجعلنا "نغرق في الماضي " . من يكبرنا سنا كانوا دائبي التنهد وهز اطراق الرأس امارة على الهزء والغيظ . اما نحن الاصغر منهم فقد كان نهتف بعزيمة قوية : ليس مهما كم من الوقت مضى.. المهم كم من الوقت بقى. كنت اقول بذلك طاويا شجني كمن يدس شيئا في مقر الحقيبة . وأفاجأ بجلبة من حولي وبنسوة يتراكضن وبإسدال ستائر. وإذا بالجلبة تتكشف من حالة وضع . سيدة حامل من الركاب رزقت بمولود. واعرف من جاري الطبيب الخمسيني بعد عودته إلى جواري انه هو الذي اشرف على الولادة.
معنى ذلك ان ركابا جددا ينضمون الينا.
اجل . - الم تكن تعرف . جاءت بنت . المولودة بنت .. بنت ..
وماذا اسموها؟
فلسطين .
هل اسموها بهذا الاسم حقا؟
اجل . . ولو كان المولود صبيا كما تمنى والداه لما كان بوسعهما تسميته بهذا الاسم الذي احباه ، حبا جما.
ياله من اسم .
قلت ة ياله من اسم . انه اشبه بأن تسمى البنت بنتا.. وقلت وقد جنحت بي ، رغبة في الاسترسال .
أعلم ان الجميع يحبون تسمية بناتهم بهذا الاسم لكن قلة القلة من يفعلون .
وقلت . قد اتخيلها - فلسطين - امرأة في الأربعينات ، ولا اتصورها طفلة وليدة . لعله كان يجدر بالأم ان تحمل اسما جميلا كاملا كهذا.
وقلت ان الناس يولدون ويكبرون ويموتون فماذا لو اصابها مكروه. انقول انها قد.. قد.. لا سمح المته ؟
كان جاري يسمعني بانتباه وقد أرضاه اني اعبر عن نفسي بوضوح واسترسال . ولما توقفت فقد اخذ عني دفة الحديث قائلا بوقار دافىء :
لا شرط على الأسماء. لا شرط . يكون للاسم معنى أو يكون له وقع ، أو أنه يتوارث . ولكل زمان اسماؤه . على أن العرب في الجملة لا تطلق اسماء الأوطان على ابنائها. لكن وضعنا نحن يختلف قليلا وإلا.. وإلا لما كنا في هذا القطار. كنت اناديه .دكتور، باعتبار أنه أكثر أهمية من اسمه . و كان يناديني مرة يا أخ ومرة بأستاذ. ولربما كنا نتجنب الأسماء حتى لا نغرق في الماضي .
سيكون لهم - قال - سيكون لهم على الأقل ان يهتفوا لها وينادوها طوال الوقت بأحب الاسماء اليهم .
قلت من جهتي : من هذه الجهة صحيح . صحيح . ثم وجدتني اسخر قليلا.
لن يكون بوسعهم شتمها أو توبيخها. سيحرمون من ذلك . ومع هذا الحديث لم تفارقني الدهشة حيال طفلة القطار. اذ أين مسقط رأسها؟ حين تسأل غدا بماذا تجيب ؟ ليست مشكلة.
قلت لنفسي : ليست مشكلة. ليست مشكلاتنا جميعا من هذا النوع . الا ان ركابا من حولي نساء ورجال، لم يشاطروني دهشتي . فقد اتاني وسط الضجيج صوت امرأة صغيرة يقول انه حتى في رحلات الطائرات التي تستغرق اربع أو خمس ساعات أو أقل يحدث ان تضع امرأة مولودها فوق السحاب .

فما غرابة ان يحدث ذلك على الأرض . وقد تناهى الصوت أيضا الى جاري ، فسبقته إلى الكلام قائلا اجل ما الغرابة ان يحدث ذلك على الأرض وفي قطار صعد اليه الركاب ركابا فاذا هم في حكم القاطنين المقيمين . قلت ذلك بانفعال وعلى سبيل توطين النفس على محاولة التصديق . فأنبأني جاري وعلى طريقة دعني ازدك من الشعر بيتا، انه لم يعد يذكر عدد المرات التي ساعد فيها نساء القطار الحوامل على الولادة.
لكني لم الاحظ . قلت له اني لم الاحظ ذلك .
فقال لي ان عدم ملاحظتي لوقوع الشيء لا تعني عدم وقوعه . لا.. لا تعني قلت باستسلام.
وعادت الابتسامة الى محياه المتغضن قليلا وعادت مشاعر الشفقة تطل من عينيه الضيقتيى، وهو يميل علي هامسا: إن عددا من النساء قد انتفخت بطونهن في أثناء الرحلة سمعت ذلك فانقشع مزاجي . اخذت اتلفت حولي وسألته. تحدث أشياء كهذه ..هنا؟
لم لا؟ قال : كدت اقول له مرة أخرى اني لم الاحظ ذلك لكني اكتفيت بكتم ضحكتي .
هل تريد للحياة ان تتوقف لمجرد ان القطار لا يتوقف ؟ وفي النهاية فقد ابدى تفهمه لاستغرابي اذ اني صعدت إلى
القطار بعده . فهو أكبر مني سنا. وقد وجدت في هذا التفهم فرصة للدفاع عن نفسي كمن يسعى لرد تهمة الغفلة وقلة الحيلة عنه.
معنى ذلك . . ذلك معناه اننا نحيا ونموت في هذا القطار.
فأجاب بثقة وحزم كأنما لينهرني ويضع حدا لسذاجتي . اننا لا نتوقف عند المحطات بلا سبب.
ولم يكن القطار ليتوقف الا في محطات نائية، حيث هناك على مرمى النظر في الجهات الأربع أضواء شحيحة تتوامض وبيوت قليلة متباعدة وأشجار مفردة متناثرة تبدو كأشباح لا يعرف من يراها ان كانت ثابتة أهم متموجة تقترب أم انها تبتعد. محطات نائية بدليل انها خالية مهجورة لا اثر فيها لبقايا اطعمة أو لقط شارد أو كلب ضال . نتوقف عندها في ساعات الليل المتأخرة فاذا بها اشد وحشة وانسدادا من القطار. نقف هناك نتفقد اطرافنا ونجيل النظر في سماء عالية واجمة وندق باقدامنا ارضا غريبة خرساء. فلا يبقى في نفوسنا مانتمناه سوى ان ينطلق بنا قطارنا من جديد. ولم نكن لنلتفت كثيرا الى بعضنا الا بغرض التعرف على مدى اختلاف هيئة الواحد منا داخل القطار وخارجه وسنلتقي عما قريب في الداخل ونرى بعضنا مجددا، ولا نعلم اي نفر منا قد انسل وغادرنا هناك تاركا افراد اسرته في القطار يعلمون أو لا يعلمون بالذي فعل . ينسل وينطلق في الظلمة يشق طريقا له واذ تنطلق الصافرة الجارحة المبروحة مؤذنة بالانطلاق ، فقد كنا نسمع في الخارج على مبعدة من المحطة التي نتأهب لمفارقتها، نسمع اصوات اعيرة نارية وإذ نحاول التثبت مما سمعناه يكون قطارنا قد انطلق نازحا ثم مندفعا متسارعا بصريره المخنوق وحمولته الثقيلة.
كان كل منا يؤوب إلى قاطرته فلا يسمح له بالانتقال الى قاطرة اخرى. الا بالتحايل المضني على الحراس او بارضائهم بما ليس فوق طاقتنا. وبكل هدوء ابلغني جاري انه يجلس الى جواري اما زوجته وأولاده الثلاثة فانهم يستقلون قاطرة اخرى وانه لم يلتق بهم منذ انطلقت الرحلة.
الم يصعدوا معا؟
قال انهم صعدوا معا لكن الفوضى الضاربة آنذاك والخشية من انطلاق سريع ومفاجىء للقطار اربكتهم وفرقت شملهم . ماذا عنك انت .. ماذا عن افراد عائلتك ؟
سألني بحذر.
ليس لدى عائلة. أجبت بحياء واقتضاب ، كمن يجيب على سؤال كم الوقت بأنها الواحدة.
ثم أوضحت له ليس لدي عائلة. امي ماتت وأبي لم يصعد القطار.
قلت بحياء مفتعل وشجاعة أكثر افتعالا ادرت وجهي الى النافذة المغلقة العالية فرأيت المدى في الخارج مفعما بالوحشة والعماء. . امي ماتت وأبي اختار البقاء إلى جوارها. وأنا مبعوثه . اطلقني ليبقى، وها هو القطار ينهب السكة الحديد وينهب عمري الأربعيني .
عدت من النافذة فاستقبلني جاري قائلا كنت اخشى ان يكون الأمر كذلك . ما الذي جعلك تخشى وتتكهن ؟
ان الامر جد واضح . فانت تتصرف كوحيد.
المتني صراحته ، اذ لم اكن احسب ان وحدتي مكشوفة إلى هذا الحد ووسط هذه الجموع. فسألته حينئذ وقد حلت الصراحة والمباسطة بيننا ان يجيبني بصدق ، عما اذا كان يعتقد حقا، ان القطار وبعد كل هذا التأخر واصل بنا إلى المحطة الأخيرة. فأجاب على الفور انه مؤمن بذلك كل الايمان لكنه لا يعرف متى. لم افهم على وجه الدقة ما الجديد وما المفيد بكلامه.
فاستدرك ليعينني على الفهم قد لا يصل القطار بنا اما نحن فواصلون . كيف . سألته كيف . ، لم يجبني رغم الحاحي بالسؤال . جعل يحرجني بنظرات غائرة، حتى اضناني البحث عن تفسير. . سألته : مابك ، ما الذي تود قوله بنظراتك المبهمة هذه ؟ لم يجب . فتش في جيوب معطفه ، واخرج سيجارة . أطباء ويدخنون . لم اره  يدخن من قبل . لكنه لم يشعلها. اكتفى فقط بوضعها بين اصبعيه . عادت نظراته تتركز علي كأنما يريد سبر غوري للمرة الأخيرة.
اليس امرا غريبا
سألني
فسألته : ما الغريب ؟
اجاب . انك لم تفكر بمحطات التوقف .
اخذت نبضاتي تتسارع . اننا في قطار سائر ومحطات التوقف ليست الا محطات توقف لا نلبث ان نفارقها. تسقط قلوبنا هناك . نسمع لها رنينا، نلتقطها ونعيدها الى مواضعها لا أصادف فيها من يستبقلني أو يشيعني أو يحملني رسالة. فقط اتنفس هناك هواء طلقا.
وإذا بي اجيبه دون تفكير.
محطات التوقف ؟ بلى اني افكر بها.
قلت ذلك ونبضات قلبي تتسارع ، فسارع يستوضحني أ أنت واثق مما تقول ؟
لم لا أكون واثقا. . لم لا تكون أنت واثقا مما أقول؟
انفرجت اساريره . انفرجت بمقدار إذ لم يفارقه تماما تحفظه وتشككه المعهودين ثم اقترب مني وهمس لي بنبر اخوي انه يمكنني في المحطة التالية اني احمل بعض امتعتي ما يلزم منها، وان ادع الباقي في موضعه . أومأت برأسي فهمس ثانية : لا فائدة لن تعود اننا لن نعود إلي هنا. وسرحت مع نفسي هاتفا في
دخيلتي . يا له من حسم كان الانطلاق في القطار حلما وها هو الهبوط منه والتخلص منه ، حلم آخر وضعونا في القطار فقلنا ان ذلك اجدى الف مرة من قطع الطريق مشيا على الاقدام حتى لم نعد نعرف شيئا سوى حمى السفر ودوار القطار. وإذ كان صبرنا ينفد فقد كان لأحدنا أن يداعبنا ويعابثنا بأن لا حق لأحد في الشكوى في قطار الشرق السريع .

ياله من حلم . ياله من قطار. هتفت في سري . اما هو فقد انحنى يخاطب قلبه ما الذي يدريني لعلهم غادروا. من يضمن بقاء شبان يافعين من يضمن لي بقاءهم مع الركاب حتى الان ؟ كان جاري الطبيب يقلب يديه فيما هو يتحدث عن أفراد عائلته . وأخذنا. وكان الظلام مخيما في الخارج ، نترقب توقفنا في المحطة التالية. ولربما حدث أمر كهذا مع سوانا، من قبل. وبدا الترقب أطول من كل الانتظار الذي كابدناه . لم نعتزم فعمل شىء سوى أن نأخذ ما بقى من مصيرنا بما بقى من أيدينا وكنا نسمع من خلفنا وحولنا اهازيج طيبة عن الشوق والمحبة عن الوفاء والوعود، وعن الوصول والوصال ، وكنت اسمع الصوت المتهدج لأبي أعلى من الضجيج ، واسمع صمت امي أعلى من صوت ابي . ووجدتني اهمس لرفيقي لن نندفع في احشاء العتمة، سننتظر اول شعاع قبل ان نشق طريقنا قلت ذلك بنشوة نشوة من يعقد موعدا مع الفجر. فأومأ برأسه ، ولم أعرف . عن موافقة أم أنه يدعوني للتريث ولم اكن فكرت بالذي قلته . إلا عندما سألني وأجبته ، إذ أومضت الفكرة في رأسي وميض دينار ذهبي في خاطر فقير جعلت أتململ في مكاني ثم نهضت ومشيت . طالعت وجوها أعرفها ولا أعرفها. كسرت استغراق بعضهم وقطعت ضجيج آخرين وسمعت كلاما عن الحروب الصليبية والامبراطورية العثمانية والانجليز الذين جاءوا باليهود وكلاما عن السعال وصعوبات التنفس والاستحمام ومن افضل الولد ام البنت .. البنت أم أختها ومن أسوأ النظام القديم أما النظام الجديد وماذا نفعل لو لم يتوقف القطار وماذا نفعل لو توقف ، ولأي جهة تولي وجهك ساعة تصلي .
سمعت منهم ولم يسمعوا مني سوى التحيات والابتسامات وبعضهم "عاني للجلوس " وإذ عدت كان جاري يستمع للحوار الذي لاينقطع بين الراكبين قبالتنا القصير السمين والطويل الأصلع عن الأرباح والخسائر وعما يصح وما لا يصح ، وقد عملت من جاري أنه متى تحرك احدهما من مكانه فانه يتجه لعقد صفقات ومواعيد قبل ان يقفل عائدا ليواصل مع رفيقه بجدية بالغة حديثا محموما تتخلله عبارات . عندما نصل ، أول مانصل .
ثم إذا بالأحداث تتسارع بعد كل هذا التباطؤ الذي شهدته الرحلة. تتسارع باسرع من نبضات القلوب . وبأسرع من قدرتنا على التفكر والتدبر.
ولكأنهم السائق (سائق المصير، البعيد المتباعد الحاجب المحتجب ) ومساعدوه والحراس ، لكأنهم قد عرفوا بالذي نفكر فيه . ففي أول محطة للتوقف قالوا عبر الميكرفون الداخلي انهم سيبقون على الابواب مغلقة، وانهم يتبعون في ذلك نظاما عالميا يحظر فيه على الركاب الترجل من القطار سمع الركاب بذلك واخذوا يهمهمون ، ويتبادلون النظرات ثم اشتد عليهم وقع المفاجأة وتطاير القلق فوق رؤوسهم وعلى صدورهم. فانفجروا غاضبين صارخين. نهضوا وأخذوا يطلقون الشتائم : لسنا أسرى . لسنا رهائن ،. لسنا بضائع للشحن . لستم آباءنا ولا أسيادنا. ثم أخذوا يحطمون كل ما تصل اليه أيديهم وأقدامهم . فيما انضمت اصواتنا إلى أصوات عقلاء ليس هكذا.. ليس هكذا. إلا أن الاحتجاجات المدوية ظلت تدوي وانطلقت من جميع القاطرات كهدير بشري يمزق السكون ويرتج له الفراغ من حولنا حتى بدا القطار وكأنه يهتز ويتمايل تحت وطأة الضغط البشري . وبدل أن نسمع جوابا على الاحتجاجات إذا بالاضواء تطفأ ولم نكن عبرنا نفقا وإذا بالظلام يسود ثم أسكت المحرك الهادر للقطار الذي توقف. توقف وتصلب على السكة.
اندفعنا نحطم النوافذ، فإذا بالأبواب تنفتح ، والناس يتدفقون منها سراعا، ولم تلبث الباحة ان امتلأت وغصت بحشود هائلة ناقمة . وقد لاحظنا في الاثناء ان نفرا منا ليسوا جميعهم من كبار السن قد تريثوا ثم اثروا البقاء والاعتصام داخل القطار. وقد بدت هيئة القطار عندما ترجلنا منه . بدت بلونها الترابي الكالح أكثر قدما مما هي عليه في حقيقة الأمر، وكأن عقودا من الزمن ، تعاقبت عليه وهو جاثم في مكانه .
قصة :محمود الريماوي(كاتب فلسطيني )

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟