أعود في هذا المقال الى الفكر الاصلاحي المغربي زمن الحماية,أستجلي حضور المرأة في متن فقهاء كانت لهم رؤى طلائعية في واقع كان يرزح تحت ثقل التقليد ويتغنى بالموروث الجامد.مع الاشارة الى أن هذه العودة ليست تعني انتصارا لهذه الرؤى ولا دعوة مضمرة الى اعادة انتاجها في واقع مشبع بالتحول.
ان عودتي هذه , مجرد محاولة للتأمل واستقراء البوادر الأولى لتكسير الأطر الجامدة,ايمانا منها بأنه لا أمل في مجتمع يعطل ’’نصفه’’. وقد اقتصرت في هذه القراءة على ماكتبه محمد بن الحسن الحجوي-1874-1956- الفقيه ورجل المخزن,أحد صانعي واقع تلك المرحلة بفعل المناصب التي شغلها,وكذا بفعل الكتابات الهامة التي ضمنها أفكارا اصلاحية تجديدية جرت عليه ويلات مناوئيه.
ففضلا عن مؤلفاته التي قاربت المائة مؤلف في ميادين شتى,في الفقه والتفسير والتاريخ والتربية والرحلات,تولى الحجوي مناصب عدة ,من بينها نائبا للسلطان في حدود المغرب مع الجزائر, عضو المجلس الأعلى للتعليم,ثم رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي,فوزيرا للعدل.وهي كلها وظائف مكنته من الاطلاع عن قرب على مجريات الأحداث التي كانت تعيشها البلاد,وبالتالي الصدع بمشروع اصلاحي يهدف الى النهوض بالواقع المغربي.
وقد كانت قضية المرأة من بين أكثر القضايا التي شغلت الرجل, واستأثرت بمساحات واسعة في مشروعه التحديثي,فقد توقف عندها في مناسبات عدة ليعالج اشكالاتها في معظم كتبه,لاسيما كتابه الأبرز’’الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي’’.
يعود تهمم الحجوي بالمرأة الى وعيه المبكر بأهمية حضورها في كل مشروع نهضوي ترومه الدول المسلمة,اذ كيف تنهض أمة و’’نصفها’’ المؤنث جاهل,من هنا كانت دعوته الملحة الى ضرورة تعليم المرأة وتبويئها المكانة التي يجب أن تكون لها,حاشدا لذلك عددا من النصوص ألقم بها فقهاء الجمود ومناصريهم آنذاك,,
ان دعوة الحجوي الى تعليم المرأة لم تك تحمل دعوة الى السفور- وهي حجة خصومه آنئذ, اذ انهم كانوا يقرنون كل دعوة لتعليم المرأة بالدعوة الى السفور,- ففي السفور ’’سفالة الأخلاق وكثرة البذخ الذي يوجبه التبرج وذهاب الثروات الطائلة.وفي ذلك خراب البيوت باسراف النسوة في تبديل أنواع الزينة والتنميص والتزيين’’.وهو مالا يتوافق والحياء الذي هو شعبة من الايمان حسب الحجوي.ومنه نفهم هجومه على الأوروبيات,والفرنسيات منهن على الخصوص,حين ’’ خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرجا لا يتصور فوقه الا سفاد الحيوانات في الطرق جهارا.الى هذا الحد وصلوا أو اقتربوا منه,وفعلوا مقدماته جهرا’’1.
كلام الحجوي هذا, يؤكد أمرين اثنين,أولهما رفضه التهتك الذي هومناف للأخلاق- أخلاق الحجوي ومجتمعه-,وثانيهما ثورته على القيم التي تحكم المجتمع الغربي ,ذكوره واناثه,والتي سمحت بعدد من الممارسات الشاذة –من وجهة نظره- كالتقبيل والعناق وغيرها,وهي المقصودة بقوله’’وفعلوا مقدماته جهارا’’.
ان موقف الحجوي هذا صادر عن ثقافته التي هي جزء من شخصية الفقيه العارف بأمور الدين,والحافظ للنصوص.ثقافة تحسن ما حسنه الشرع,وتطرح ما يطرحه. فأمام الامتعاظ البين من سلوكات الفرنسيين,نجد استحسانا وثناء على نساء ’’النجليز’’ وبعض عادات المجتمع الانجليزي. حيث الحشمة والوقار ,وقلة التهتك في نسائهم.2.بل لقد كانت للانجليز عادة تمنى الحجوي لو يأخذ بها أبناء قومه,وهي عادة الفصل بين الرجال والنساء في الحافلات,فقد جهزوا أماكن خاصة بالنساء دون الرجال تجنبا للاختلاط الذي يرفضه الفقيه.
لم يكن الحجوي الوحيد الذي استاء من صور ’’الحرية’’ التي كانت عليها المرأة الغربية,بل ان من سبقوه الى زيارة أوروبا- من المشارقة والمغاربة- قاسموه الموقف نفسه. فقد حمل الشدياق حملة شعواء على فسق المرأة الغربية ,وحين قارن بينها وبين المرأة الشرقية ,أكد ما تتميز به الأخيرة من سمو الأخلاق ورقة العاطفة,فلا يعيبها الا جهلها.3. ذاك الجهل الذي سعى الحجوي جاهدا الى محاربته, حين كتب في ذلك وجاهربه في’’ تعليم الفتيات لا سفور المرأة’’ و حين طالب السلطان سنة 1931بضرورة التباحث مع المقيم العام لاستصدار قرار يصير بموجبه تعليم البنات رسميا,فلامحيد عن تكوين المرأة المسلمة الملتزمة بتعاليم دينها,والممتلكة لسلاح المعرفة الذي من شأنه أن يرفع قدرها ,فيرتفع به شأن مجتمعها بأكمله.كما أنه لا سبيل لأن نصير أمة معدودة من الأمم الحية الا بتعميم القراءة والكتابة بين الحواضر والبوادي,وتعميم التعليم الابتدائي حتى يصير جل أفرادها رجالا ونساء يقرؤون ويكتبون.4.
لكن هذه الدعوة وغيرها لم تعرف طريقها الى التحقق,في واقع هيمنت فيه ارادة تأبيد الجهل,بالاستعمار أولا,ثم بارادة التيار التقليدي,الذي وظف هذه الدعاوى للطعن في شخص الحجوي,والتحريض عليه, متهما اياه بالدعوة الى السفور, ومعتبرا دعواه افتراء ما سبق اليه أحد.
ان رؤية الحجوي وغيره من الاصلاحيين للمرأة, تأطرت في عمومها بثقافة دينية,استبعدت كل مستهجن ومحرم من ممارسات وسلوكات لا يقرها الدين ولا الأخلاق- وفق فهم المرحلة-.رؤية تستحضر تاريخا مجيدا للمرأة كانت فيه الفقيهة والمحدثة,الممرضة والمحتسبة وصاحبة المشورة,قبل الليل السرمدي الذي حل بسماء دنيا العرب والمسلمين,فركنوا لفهم جامد يتغذى على الموروث الثقافي الذي احتضنته أزمنة التقهقر والتردي الحضاريين,وينتعش بفتاوى أخلصت للخوف والهروب الى الوراء ضمانا للحفاظ على ماهو كائن .لذلك لم يكن من سبيل لتجاوز كل هذا الخرف,الا باشاعة العلم والمعرفة,وتمكين المرأة من التعليم أملا في انعاش ذاكرة استوطنها النسيان.ومنه كان الحاح كل رموز الاصلاح في العالم العربي على التعليم كمدخل للنهوض بالمرأةوواخراجها من دائرة التهميش التي لم ينتج عنها الا تخلف المجتمعات العربية من الماء الى الماء,
هوامش
1 محمد بن الحسن الحجوي ,الرحلة الاوروبية 1919حققها وقدم لها د سعيد الفاضلي ,دار السويدي للنشر والتوزيع,ط 2003,ص74
2 نفسه ص 114
3 نازك سابايارد,,الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة’’ مؤسسة نوفل ,بيروت ط1,ص116
4 محمد بن الحسن الحجوي, الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي, ج2 ص 396