الوضعية المشكلة وتدريس القيم المجالية الخاصة بمنهاج مادة الجغرافيا بالمرحلة التأهيلية من التعليم الثانوي، نموذج «العدالة المجالية» من خلال درس البرازيل/(الحلقة الثالثة) - عبد الرحمان شهبون

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 «la géographie peut servir à faire la guerre et donc à produire la justice ‘’spatiale ‘’ »
Bernard Bret, 03/2015, Géocarrefour Volume 90, La Nature en question. Varia . compte rendu d'ouvrages Théry H., 2014, Le Brésil, pays émergé, Paris, A. Colin, coll. Perspectives géopolitiques, 300
 p.

المحور الثالث : مفهوم "العدالة المجالية" ونشأة الجغرافية القيمية

    الملاحظ أن التقارب بين القيم الفلسفية (العدالة) والأبحاث الجغرافية، قديم قدم الدراسات الجغرافية (المدينة الفاضلة)، لكن استثمار القيم الفلسفية بمنظور التأصيل الجغرافي تعتبر مسالة جد حديثة ترجع خلفياتها غلى ما بعد الحرب العالمية الثانية،  والهدف منها ليس مناولة الموضوع الجغرافي بمنظور فلسفي صرف، ولكن بمنظور جيو مجالي يعمل على استدماج القيم الفلسفية ضمن التنظيم المجالي، في أفق عقلنة تشخيص وتفسير الأبعاد القيمية المجالية (قيمة العدالة). انطلاقا من هذا الجانب فإنه من المسلمات البديهية على مستوى تنظيم المجال (من المجال المحلي، إلى المجال العالمي)، أنه لا وجود لتنظيم سوسيو مجالي عادل/منصف. وبذلك فالعدالة المجالية تشكل حلما أو يوتوبيا بالنسبة للإنسان (مواطن – باحث – مسؤول عن الإعداد والتخطيط – فاعل جمعوي...). كما يجب علينا الاحتراس أثناء مناولة هذا المفهوم وعدم خلطه بالمفاهيم القريبة منه والمتداخلة معه وهي مفاهيم الاختلافات/التباينات المجالية (les différenciations spatiales)، والتفاوتات المجالية (les inégalités spatiales)، واللاعدالة المجالية/اللاعدالة الترابية (l’injustice territoriale)، والعدالة الاجتماعية، فالاختلافات أو التباينات المجالية تمثل حقيقة واقعية، وأن التفاوت في تنظيم المجال هو المحرك الأساس/المظهر لعملية اللاعدالة المجالية، ومن جانب آخر تعد العدالة الاجتماعية مدخلا أساسيا لإحقاق العدالة المجالية والعكس صحيح، معنى هذا أننا أمام قضية تحمل وجهين لعملة واحدة...   

    قبل استعراض بعض التعاريف التي حاولت مقاربة وتدقيق مفهوم "العدالة المجالية"، لابد من وقفة تأملية حول كرونولوجيا استخدام وتوظيف هذا المفهوم القيمي الجديد ضمن الدراسات الجغرافية، والسياقات التي حتمت اقحامه ودلالاته، ودوره في نشأة تيار جغرافي جديد عرف بالجغرافية النقدية/الراديكالية أو الجغرافية القيمية (الجغرافية الاجتماعية/الجغرافية ما بعد الحداثية) والتي أعطت نفسا جديدا للدراسات الجغرافية، فاتحة أمامها ميادين جديدة للمناولة والدراسة وخاصة في الأوساط الحضرية...

    يعد الجغرافي الأمريكي "إسحاق بومين Isaiah Bowman" أول من حاول تأسيس جغرافية في خدمة العدالة ما بين الأمم في حدود سنة 1942، وهو ما شجع جون ڴوتمان (Jean Gottmann) منذ 1951 في كتاباته على صياغة فكرة التقارب بين الجغرافية والعدالة، حيث طرح إشكالية العلاقة بين المساواة والإنصاف والعدالة المجالية[1] (العدالة ضمن المجال الجغرافي 1996). لكن الانتشار الواسع والعميق لمفهوم العدالة المجالية ضمن الدراسات الجغرافية وتجذرها لم يتم إلا بعد أن طرح الفيلسوف الأمريكي جون راولز (John Rawls) نظريته حول العدالة في كتابة الشهير "نظرية في العدالة" الصادر سنة 1971[2]. والتي تشكل أهم النظريات التي صيغت حول "العدالة" باعتبارها إنصافا للأفراد ضمن نظريات العقد الاجتماعي. وقد حدد "جون راولز" ثلاث مبادئ أساسية للعدالة وهي :

*المبدأ الأول : "مبدأ الحد الأقصى maximin "، ضرورة الاهتمام المجتمعي ضمن "الحدود القصوى" بالنسبة للأفراد الذين لهم أقل الحظوظ في المجتمع، بطريقة تمكنهم من الارتقاء الاجتماعي نحو الأفضل. هذا المبدأ الذي يهدف إلى بلوغ الحد الاقصى بالنسبة للفئات الدنيا والذي يختزل في مبدأ الحدود القصوى (maximin)، وهو يعني المساواة في الحظوظ للولوج لمختلف الأدوار الاجتماعية. هذا المبدأ الأول يحيل إلى التساؤل حول الدور الذي يمكن أن يلعبه المركز بالنسبة للهامش (نظرية المركز والهامش)، على مستوى إعادة إنتاج الثروات والخيرات وتوزيعها على الهامش (المركز كقطب للتنمية)، أو العكس عندما يكتفي المركز بدور استقطاب الثروات والخيرات دون إعادة انتشارها نحو الهامش حيث تزداد حدة اللاعدالة المجالية (التداخل الواضح بين نظرية العدالة الراولزية/التوزيعية ونظرية المركز والهامش)... 

*المبدأ الثاني : "مبدأ الاختلاف"، فهو يقتضي لكي تتحقق العدالة فعليَّاً على أرض الواقع أن يتمَّ تنظيم الّلامساواة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بكيفية تجعلها لفائدة الفئات الأقلّ حظّاً والأكثر تضرُّراً. فهنا المبدأ يجيز اللَّامساواة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بين مختلف الفئات والمجموعات شريطة: )أ( أن تكون لصالح الفئات الأكثر فقراً، )ب( وأن تكون المناصب المتاحة مفتوحة أمام الجميع انطلاقاً من مبدأ تكافؤ الفرص. هو المساواة بين الأفراد (l’égalité)، والذي يعني المساواة في الحقوق، وهنا تفكير "جون راولز" يدمج بين مبدأ المساواة ومبدأ اللامساواة، بحجة أن هذه اللامساواة يجب أن تكون في خدمة الأفراد الذين لهم أقل الحظوظ.

وهكذا وانطلاقاً من هذين المبدأين (مبدأ المساواة في الحريَّة، ومبدأ الاختلاف(، تصبح العدالة والحريَّة حقّين غير قابلين للخرق لأنَّهما أساس العيش المشترك داخل المجتمع التعاقدي.  فهذه الحياة المشتركة لا يمكن أن تكون عادلة إلا إذا كان أعضاؤها الأحرار يحتكمون في تدبير شؤونهم إلى قواعد متفق عليها ومقبولة من حيث إجراءاتها من قبل الجميع. لتثبيت هذه القواعد- أي قواعد التشارك المنصف- ينطلق «راولز » من وضعية افتراضيَّة يعتبرها بمثابة "الوضعيَّة الأصليَّة" (La situation originelle وهي الوضعيَّة التي يجد فيها كلُّ شخص نفسه قبل التعاقد، بحيث يجهل المكانة التي سيحتلها داخل المجتمع، لا موقعه الطبقي ولا وضعيته الاجتماعيَّة، كما يجهل حصّته من الاستعدادات والمؤهلات الطبيعيَّة التي سيحصل عليها. هؤلاء الأفراد الواقعون تحت ما يسمّيه "راولز " "قناع الجهل"  (un voile d`ignorance) سيسعون إلى تحقيق الحدّ الأقصى للإنصاف، وهذا ما سيقودهم إلى تبنّي النظام السياسي القائم على الديمقراطيَّة الليبراليَّة، مع ما يقتضيه من مساواة فعليَّة في تكافؤ الفرص واحترام مبدأ الاختلاف. في هذه الديمقراطيَّة الليبراليَّة تضطلع الدولة بدور هام في تدبير اقتصاد السوق، حيث تحافظ على سلامة المنافسة ووفرة الشغل، وتضمن حدَّاً أدنى من مستوى العيش المعقول للمعوزين، بتحقيق الإنصاف في توزيع الخيرات وأداء الضرائب.

*المبدأ الثالث : "مبدأ الإصلاح/التعويض" (le principe de réparation) والهادف إلى الاهتمام الأكثر بالفئات غير المحظوظة، أي القيام بتمييز إيجابي، يرتكز على سحب "حجاب/ستار الجهل" (فلا يمكن لأحد أن يحصل على ما يريد بناء على ميوله، لأن وجود الآخرين يحول دون ذلك)، وولوج الحياة الحقيقية، حيث نلاحظ أن اللامساواة تتم بشكل معاكس لأهداف الفئات الدنيا من المجتمع. هذه اللامساواة/التفاوتات تتناقض مع المبدأين الأول (maximin)والثاني (المساواة)...

    عموما يقر الفيلسوف "جون راولز" بمساواة الأفراد لكونهم يشكلون جزءا من الجنس البشري، ولهم قيمة هوياتية رغم اختلاف ظروفهم الاجتماعية. هناك مبدأ الحدود القصوى ((maximin، الذي يبرهن على اللامساواة/التفاوتات تجاه الأفراد الذين لهم أقل الحظوظ، ومن هنا يطرح مبدأ الإصلاح في أفق إصلاح هذه اللامساواة. لكنه يميز بين ثلاث مفاهيم متداخلة وهي الاختلافات، والتفاوتات، واللاعدالة (différence- inégalité- injustice)، فرغم وجود الاختلافات بين الأفراد فهم متساوون، في حين أن وجود التفاوتات هو ما يشكل أصل اللاعدالة...

    يعتقد «رولز » أنَّ مبادئ نظريته في العدالة إذا ما تمَّ تعميمها على صعيد كلِّ المجتمعات وتبنَّاها "القانون الدولي" ، ستؤدّي لا محالة إلى إقصاء الأنظمة الدكتاتوريَّة والاستبداديَّة، لكنَّها مع ذلك ستكون متسامحة مع الأنظمة غير الديمقراطيَّة )أي الأنظمة التراتبيَّة( حتى لو كانت ثيوقراطيَّة؛ وما ذلك إلا لأنَّ "راولز" يعتقد أنَّ شمولية "حقوق الإنسان"  و "مبادئ النزعة الإنسانيَّة" مثل مبدأ "التسامح" من شأنها، إذا ما اعتمدت من قبل الدول كأساس للتربية، أن تؤدّي إلى تحقيق السعادة. فالتربية بالنسبة إلى "راولز" هي مفتاح لحلِّ كلِّ المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فعلى سبيل المثال ليس النقص في الإنتاج الغذائي هو السبب الرئيس وراء المجاعة، وإنَّما الاضطهاد الممارس على الشعوب من قبل بعض الحكَّام، وفساد النخبة، واستعباد المرأة  )الناجم عن سيادة بعض الأحكام المسبقة الدينيَّة(، والكثافة السكَّانيَّة. لهذا فأفضل ما يمكن القيام به هو إعطاء الجميع فرصاً متكافئة للولوج إلى التربية والصحة.

    ومع إشعاع النظرية الفلسفية والتي صاغها "جون راولز"، واستثمارها من طرف الدراسات الجغرافية الحضرية لدراسة اللاعدالة التي تميز فضاء المدينة على جميع الأصعدة (الاقصاء الاجتماعي – التفاوت في استخدام المجال الحضري...). اتسع آفاق الدراسات الجغرافية بشكل واسع في العالم الأنكلوسكسوني ثم ضمن الفضاء الفرنكوفوني فيما بعد. ويعد الجغرافي دايفد هارفي (David Harvey) أول من استخدم مفهوم "العدالة السوسيو ترابية" بفرنسا لتطبيقها ضمن الدراسات الجغرافية الحضرية من خلال نشره لكتاب "العدالة الاجتماعية والمدينة" الصادر سنة 1973، بهدف دراسة التمايزات داخل المجال الحضري، واقتفاء لأثره أدمج "ألان رينو (Alain Reynaud) مفهوم العدالة المجالية سنة 1981 لدراسة التمايزات الحضرية[3]... تبعهما في ذلك العديد من الجغرافيين الأنكلوسكسونيين (دايفد سميث Smith/الجغرافيا التفاوت والمجتمع 1987 –Edward Soja إدوارد صويا 2000...). وقد كان للندوة الدولية المنعقدة سنة 1977 بفرنسا تحت إشراف "دايفد هارفي"، وبحضور العديد من الجغرافيين الفرنسيين أمثال أنطوان بايلي(Antoine Bailly)، بول كلافال (Paul Claval)، دور في استيعاب مفهوم "العدالة المجالية" وتوظيفه ضمن الدراسات الجغرافية بالفضاء الفرنسي منذ 1981، حيث نشطت الدراسات الجغرافية النقدية/الرادكالية لانتقاد القيم الليبرالية الحرة، وللإقصاء والتهميش الذي تتعرض له بعض الأقليات داخل المجالات الحضرية، والعمل على اقتراح رؤى متفاعلة للحياة الحضرية في إطار التنوع الثقافي والعدالة السوسيو مجالية. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه الجغرافي الفرنسي برنار بريت (Bernard Bret) حيث أعطى بعدا جغرافيا لنظرية "جون راولز" حول العدالة، من خلال دراساته حول اللاعدالة المجالية بالنسبة للتنمية بالبرازيل وبمدن جنوب إفريقيا... والتي توجها سنة 2015 بإصدار كتاب حول جغرافية العدالة المجالية[4]. وبالموازاة مع ذلك ساهم العديد من الباحثين في إنشاء موقع الكتروني باللغتين الفرنسية والإنجليزية يحمل عنوان "مجلة العدالة المجالية" (Justice spatiale revue)[5]...

    من هذا المدخل الكرونولوجي المؤثث لعملية انفتاح الجغرافيا على المفاهيم والنظريات القيمية ومنها مفهوم "العدالة المجالية"، يشكل تحديا حقيقيا للدراسات الجغرافية (الانزلاقات المنهجية – المفاهيمية...)، ويطرح على الدارسين في منظومة القيم المجالية صعوبات جمة وأهمها :

*التحدي الأول : يتمثل في كون مفهوم "العدالة المجالية"، هو مفهوم مركب من مفهومين متداخلين ينتميان لحقلين معرفيين مختلفين : يتضمن من جهة أولى القيم الفلسفية (العدالة)، ومن جهة ثانية القيم الجغرافية (المجال)، ودون الخوض في النقاشات الجانبية بالنسبة لمفهوم العدالة وتأرجحها بين الفضيلة والحق. فإن ما يستوقفنا في هذه المداخلة هو مفهوم المجال الجغرافي باعتباره منتوجا اجتماعيا :"المجال الجغرافي هو الرقعة من الأرض التي تستعملها مجموعة بشرية ما لتوفير الغذاء والسكن ومختلف الوظائف الأخرى، والمجال هو منظومة علاقات متكونة من عناصر طبيعية وأخرى اقتصادية وبشرية، توجد بينها تفاعلات عديدة من جهة، ونتاج اجتماعي بما انه حصيلة تدخلات الفاعلين، من جهة ثانية".[6]  

* التحدي الثاني : يتمثل  في اختلاف البعد الدلالي للعدالة المجالية/العدالة الاجتماعية(العدالة السوسيومجالية) :   فالحديث عن العدالة المجالية لا يعني العدالة بين الأمكنة، ولكن المقصود هو البعد المجالي للعدالة ما بين الأفراد من خلال التأثير/الانعكاس الذي تمارسه الفاعلية البشرية/المجتمعية على التنظيم المجالي. وأن العدالة المجالية هي نافذة من أجل الاشتغال على التفاعلات بين ما هو مجالي وبين ما هو اجتماعي، فاللاعدالة الاجتماعية تختزل ضمن التنظيم المجالي، وأن التنظيم الاجتماعي للمجال هو المولد لعملية اللاعدالة المجالية.    

- فالجغرافي الجنوب الإفريقي كرودون بيري (Gordon Pirie) " يستعمل العدالة المجالية كصيغة أساسية من أجل الحديث عن العدالة الاجتماعية داخل المجال".

- أما أنطوان بايلي (Antoine Bailly) : فيعتبر أن "العدالة المجالية هي مجموع التدخلات التي تقوم بها السياسات العمومية ضمن البنيات الاقتصادية بهدف التقليص من الاختلالات ما بين المركز والهامش (باريز وبقية الأقاليم الفرنسية)".

- أما الجغرافي الفرنسي جاك ليفي (Jacques Lévy) فيعبرها "تفكيرا منصفا في مجال التقسيم الانتخابي وهو منفذ موسع للنقاش حول العدالة المجالية".[7]

*التحدي الثالث : الذي يطرحه مفهوم "العدالة المجالية"، يتمثل في كون الأبحاث الحديثة التي تناولت هذا المفهوم لم تعطه وضعية ابستمولوجية واضحة، حيث تقدمه بعض الأبحاث كمفهوم ( Arnaud Brennetot= notion ) ، والبعض الآخر كمصطلح  ( Bernard Bret = concept)، مع العلم أنه تم استخدام التعبيرين معا بشكل متوازي دون إعطائهما تعريفا دقيقا.

- فالجغرافي الأمريكي إدوارد صويا (Edward Soja) ينتقد النظرة الليبرالية للعدالة، ويتمسك بالاتجاه النقدي (الماركسي)، حيث يعتبر العدالة المجالية : "أداة تمكن من تحديد العلاقات الجدلية الموجودة ما بين المجال والعدالة. وأن الأبعاد المجالية للعدالة لها انعكاسات/نتائج من خلال إعادة إنتاج اللاعدالة". وفي كتابة الأخير "بحثا عن العدالة المجالية 2010 ( seeking spatial justice) يركز على البعد السوسيو مجالي في إطار مقاربته للعدالة، فبالنسبة له : فاللاعدالة المجالية تهم كل المجتمع والحياة الاجتماعية على الأقل بالمقارنة مع العوامل الاجتماعية التي تؤثر في المجال أو في جغرافية اللاعدالة"[8].  

- أما الجغرافي البريطاني مصطفى ديك (M.Dekec) "يجعل من هذه العلاقة الجدلية جوهر العدالة المجالية من خلال حديثه عن مجالية العدالة، واللاعدالة المجالية"[9].

* التحدي الرابع : الذي يطرحه مفهوم العدالة المجالية : مرتبط بتعدد نظريات العدالة، حيث تتأرجح الأبحاث الحديثة بين قطبين هما : حيث يركز القطب الأول على الإشكالات المطروحة حول إعادة توزيع الثروات والخدمات والفرص الممنوحة للأفراد، في حين يركز القطب الثاني على اشكالية الإجراءات المتعلقة باتخاذ القرار ضمن سياسة إعداد التراب... والملاحظ أن هناك العديد من النظريات الفلسفية التي عملت على مقاربة مفهوم العدالة ومنها التصور الذي طرحته الباحثة الأمريكية "ماريون إيريس يونغ" (Marion-Iris Young) والمركزة على خمس مبادئ وهي : الاستغلال – التهميش – غياب السلطة – التعبية الثقافية – العنف[10]... لكن النظرية الفلسفية التي صاغها "جون راولز"، عرفت انتشارا واسعا في العالم الأنكلوسكسوني ثم الفضاء الفرنكوفوني فيما بعد، حيث ارتبطت بها العديد من الأبحاث الجغرافي لعل أهمها التي عالجه الجغرافي الفرنسي برنار بريت (Bernard Bret) من خلال تطبيقها على المجال البرازيلي[11].

*التحدي الخامس الذي يطرحه مفهوم العدالة المجالية : يتمثل اختلاف الجغرافيين حول دلالات وأبعاد مفهوم "العدالة المجالية" باعتبارها موضوعا رئيسا يمكن حول جمع شتات العديد من الأبحاث المختلفة، أو باعتبارها مقاربة نقدية تستحضر البعد المجالي للعدالة، أو باعتبارها أداة علمية إجرائية، أو باعتبارها نظرية للعدالة ضمن المجال الترابي/الجغرافي...

*التحدي السادس الذي يطرحه مفهوم العدالة المجالية : يكمن في ضرورة تجاوز المعنى الاختزالي والبسيط لمفهوم العدالة المجالية، كمفهوم يرتبط بالتوزيع العادل للموارد ضمن المجال وللإمكانات المتاحة لاستثمارها، إلى اعتباره مفهوما حربائيا يتحول من وضعية السبب/السيرورة، إلى وضعية النتيجة/الحصيلة، وخاصة عند دراسة مظاهر التخلف/النمو، وخصوصيات التنظيم السياسي للمجال...

*التحدي السابع الذي يطرحه مفهوم العدالة المجالية : باعتباره مفهوما عابرا لكل المجالات الجغرافية، ويتلائم /يتناسب مع دراسة كل المجالات الجغرافية حسب مقاييسها، انطلاقا من المجال المحلي مرورا بالمجال الوطني والجهوي وصولا إلى المجال العالمي (التفاوت بين الشمال والجنوب).

     هذه التحديات المطروحة أمام الأبحاث الجغرافية أساسا، تزيد من تعقيد وصعوبة تحديد محتوى دقيق لمفهوم "العدالة المجالية". فلا يمكن اختزال هذا المفهوم في العدالة بين الأمكنة، بل إن الأمر يتعلق ببعد مجالي للعدالة بين الأفراد، باعتبار أن المجتمعات البشرية هي المسؤولة عن محتوى التنظيم المجالي التي تشغله، وأن شكل تنظيم المجالات الترابية هو انعكاس مباشر للعلاقات الاجتماعية. وبالتالي فإن الحديث عن العدالة المجالية هو حديث عن البعد السوسيو مجالي للعدالة : أي التأثير المتبادل للحركة الاجتماعية على المجال، وتأثير المجال على التنظيمات الاجتماعية.

    إن ارتقاء التصور الجغرافي من المستوى الوصفي للتباينات المجالية (disparités) نحو تفسير التفاوتات المجالية (المستوى المعياري) (inégalités) هو ما يختزل باللاعدالة (injustices)، أي تشخيص الفوارق بالمقارنة مع الأشكال السوسيو مجالية محكومة كوضعية مأمولة، وتعيد تعريف مهمة الجغرافي الذي يتجه نحو طرق المعرفة الوظيفية. والقادر على صياغة الاقتراحات بهدف تقليص هذه التفاوتات (مثلا كيفية التوزيع المتفاوت للخدمات العمومية فوق مجال معين)، ولكي يأخذ التحليل مصداقيته يجب أن ينبني على دلالة فكرة التوزيع العادل للخدمات. وما دام أن هناك نظريات للعدالة يجب أن يختار هذا التحليل نظرية معينة بإمكانها البرهنة/تبرير المبادئ التي بإمكانها تعريف العدالة المجالية. التوجيه المعياري هو عمل صعب ولكنه ضروري، والعديد من الباحثين يحذون من حدود المقاربات النقدية ومنهم الجغرافي الفرنسي برنارد بريت...

    لقد وجد العديد من الجغرافيين صعوبة في تدقيق مفهوم "العدالة المجالية"، حيث يكتفون باستخدام التعبير السلبي/المعاكس، وذلك بالاكتفاء بالحديث عن "اللاعدالة المجالية" (l’injustice spatiale)، أو "مجالية اللاعدالة" (spatialité de l’injustice). فالحديث عن "اللاعدالة المجالية" يختزل منحى عام للبحث : من خلال تدقيق محتوى الوضعيات المحددة للاعدالة أكثر من اقتراح المحتوى المعياري، في أفق اقتحام الجغرافيا ضمن هذا المنحى الاخلاقي/القيمي للتركز لاحقا على الصيرورات...

    سأقف عند هذه المداخلة حول بعض التعاريف التي حولت مقاربة و ضبط مفهوم "العدالة المجالية" :

*فالجغرافي الفرنسي الأن رينو (Alain Reynaud) يعتبر أن "العدالة السوسيو مجالية هي مجموع الآليات المستعملة من طرف السلطة العمومية من أجل تقليص التفاوتات ما بين الطبقات السوسيو مجالية"[12].         

*ومن جهتهما حاول كل من "جاك ليفي وميشيل ليسو (Jacques Lévy, et Michel Lussault)"، في معجمهما الجغرافي تقديم تعريف شامل لمفهوم العدالة المجالية : "إن ارتباط مفهوم العدالة بالمجال هي فكرة حديثة. تفترض، من جهة أولى، أن المجال يمنح مادة للتعريف وهو ما يعتبر صحيحا، ومن جهة أخرى، تمكن المهارات الفعلية المهيكلة للمجال من الاقتراب من تنظيمه بشكل صحيح. لهذا، فحول هاتين النقطتين، لا يظهر المجال كحقل جيد لتطبيق فكرة العدالة. أولا، لأن هناك أهدافا أخرى لها الأسبقية من أجل إعداد المجال، أكثر من العدالة التي تشكل فقط الواجهة أو الشاشة. وثانيا لأن مهارات تعديل المجال من أجل جعله أكثر عدالة تظهر غير كافية..."[13].

*ونختم هذه المداخلة بآخر التعريفات التي تشير إلى أن : "العدالة المجالية تعني إذن كل وضعية من خلالها تمكن كل أشكال تنظيم المجال المحسوسة، من بناء العلاقات الاجتماعية المتوافقة مع التصورات العقلية. والتي تظهر في شكل مجموعة من النماذج المعيارية، الشيء الذي يمنح للحقيقة الجغرافية دلالية أخلاقية/قيمية والتي تنفتح على تشكيل أحكام التأييد أو الإدانة، وبتخصيص الواقع لما يجب أن يكون عليه، تسمح العدالة المجالية للتفكير في المجال بأبعاد قيمية والارتقاء بالجغرافيا كعلم ذو خصائص أخلاقية وسياسية..."[14].       

رغم تعدد وتشعب هذه التعاريف وعدم تدقيق مؤشراتها، يجعلنا أمام مفهوم جديد وشائك المناولة والدراسة والأجرأة، فإذا كان هذا المفهوم يستمد جذوره من الجغرافية النقدية/الراديكالية عموما، ومن الجغرافية الحضرية أساسا. فإنه اليوم يقدم موضوع العدالة المجالية أمام أعيننا أهمية مزدوجة وجديدة للجغرافيا. فهو موضوع يكشف عن التساؤلات الملحة حول الوظيفة الاجتماعية للجغرافيا، من خلال طرح التساؤلات حول طبيعة التوزيعات المجالية للخيرات والخدمات والأفراد، وحول هوية المجال الترابي... لأننا اخترنا التفكير حول البعد الاجرائي للعدالة. بمعنى آخر نجد أنفسنا مهيئين باستمرار للتشارك في المقاربات المستمدة من التحليل المجالي ومن جغرافية التمثلات أو الجغرافية الثقافية. هذا التقاطع يتم عبر التفكير حول أشكال اتخاد القرار السياسي وحول السياسات الهادفة إلى ضمان التوزيع المجالي الجيد...

    فكيف تم توظيف هذا المفهوم القيمي المجالي (العدالة المجالية) ضمن منهاج مادة الجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي؟ وإلى أي حد يمكن منهاج مادة الجغرافيا المتعلمين من اكتساب هذا المفهوم القيمي/المجالي والتشبع به في أفق تدبير الممارسة المجالية المسؤولة؟    

 

[1] - Arnaud Brennetot,2011, les géographes et la justice spatiale : généalogie d’une relation compliquée, Annales de géographie N°678, p :116.

[2] - جون رولز، 1971، نظرية في العدالة، ترجمة ليلى الطويل، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2011

[3]

[4] - Bret Bernard,2015, pour une géographie de juste, lire les territoires à la lumière de la philosophie morale de John Rawls, PUF, coll espace et justice.

[5] -www.jssj.org.

[6] - عبد الكريم داود، 2014، العدالة المجالية والتنمية في تونس : قراءة جغرافية في مفهوم العدالة، ورد ضمن كتاب "ما العدالة؟  معالجات في السياق العربي"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت،  ص ص : 480-481

[7] - Frédiric Déjean, 2013, Etat de littérature. La justice spatiale : revue des savoirs francophones et anglophones, critique internationale N°61, p : 175

[8] - Edward W Soja, 2010, seeking spatial justice, , Minneapolis, University of Minnesota Press, p :5

[9]-Frédiric Déjean, 2013, Etat de littérature. La justice spatiale : revue des savoirs francophones et anglophones, critique internationale N°61, p : 176

[10] - Philippe Gervais et Frédéric Dufaux, 2009, « justice…spatiale » », Annales de géographie, N° 665 – 666, pp : 5-6.  

[11] - Bernard Bret, 2016, Découvrir la géoéthique à travers le territoire brésilien : justice et injustice spatiales, www.les cafés géo.

[12] - Frédiric Déjean, 2013, Etat de littérature. La justice spatiale : revue des savoirs francophones et anglophones, critique internationale N°61, p : 173.

[13] - Sous la direction de Jacques Lévy, et Michel Lussault, Dictionnaire de la géographie et de l’éspace des sociétés,2003, édition belin, p :531.

[14] - Arnaud brenetot,2014, « justice spatiale une notion morale et politique »www.academia.edu.