عندما نتأمل مطولا تلك العبارة الشهيرة التي حفظناها عن ظهر قلب ونحن لا نزال صغارا في الصف الابتدائي : "خير جليس الكتاب." أو النسخة الموازية لها "الكتاب خير صديق وأنيس" نرى أنفسنا مجبرين على وضع الصداقة كطرف في مقابل الكتاب، إذ الكتاب صداقة والصداقة كتاب، من ثمة وبكثير من الحرص اللغوي والفلسفي توجب علينا تمحيص هذا الحكم الغيبي، ولم لا طلب استئنافه لعل المراجعة تنفع ما اعتقدناه حكما ثابتا قبل اليوم.
إن من بين المواضيع الشيقة التي أبدعت فيها الفلسفة نجد موضوع الصداقة، هكذا لن نتعجب أبدا عندما نرى أن كبار الفلاسفة وفي منطقتهم الحميمة قد أعطوا كبير نصيب لهذا المفهوم، والحال أن أبرزهم لن يكون إلا أفلاطون وأرسطو وشيشرون وأبي حيان التوحيدي وجلال الدين الرومي وجون جاك روسو وديدرو ودوبرويار وجيل دولوز... بيد أن الصداقة عند هؤلاء الأهرام لم تقتصر إلا على الجانب الذي يربط الإنسان بالإنسان، وليس الإنسان بالأشياء، هكذا ألفيت نفسي وأنا أتأمل مكتبتي ذات يوم رفقة سؤال طالما حيرني: كيف يكون الكتاب صديقا؟
علاقتي بالكتب لا تقتصر أبدا على وضع نفسي سجينا بين سياج سطورها، كما لا تتعدى ذلك إلى فعل الإعجاب وانتهى الأمر، بقدر ما أنها تتجاوز ما تم ذكره لتغوص في طقوس ربما لست أول من يقوم بها ولن أكون الأخير لا محالة، في مقابل ذلك أجزم شخصيا أن الكتاب صديق بيد أن صداقته لا تتأسس على تربة الإخلاص بقدر ما تنبني على منطق الخيانة.
تربطني أيضا بعض الخيوط التي لا أعرف لها تفسيرا والكتب، عندما أبتاع كتابا كنت قد سمعت عنه من قبل، أو دعاني إلى اطلاعه صديق ما، أو أثارني عنوانه... فإن أول ما أقوم به هو الحديث معه، أرحب به كصديق خائن ومحبوب في نفس الآن، أشتم رائحة صفحاته الواحدة تلو الأخرى، أفتح الصفحة الأولى وأدون عليه تاريخ شرائي له والمدينة التي اشتريته منها أيضا، كأني أحاول أن أؤرخ لعلاقتي الأولى به مكانيا وزمانيا، بعدها أكتب عبارة Zarathoustra ـ التي أحتفظ بسرها لنفسي ـ تحت التاريخ، ثم أُمضي فيه مسارعا الزمن كأني أُمضي على عقد قابل للفسخ في أي حين، أتناول قلمي وأبدأ في خربشة صفحاته رابطا حوارا غير مباشر معه وليس مع كاتبه الذي توفي بانتهائه من الكتاب، ربما لهذا السبب بالذات أعتبر أن الكتب أصدقاء خائنون، إنهم يخونون الكاتب عندما يتنصلون منه، كما يخونون القارئ عندما يلعبون به كيفما شاءوا، تحت ذريعة التأويل اللامتناهي للنص، أو بقوة تغير المعنى بتغير مرجعية القارئ الفكرية والنفسية والاختيارية، الكتاب يقرأنا وليس نحن من نقرأه.
تتأسس الصداقة أيضا على المواعيد، للأصدقاء مواعيد يضربونها إما عند نهاية يوم شاق من العمل من أجل الترفيه قليلا، أو في العطل طلبا للراحة وتغيير الأجواء الروتينية، وبما أن الكتاب صديق هو الآخر، فإنه تربطنا به مواعيد غير معلن عنها، إذا أخلفت موعدك مثلا مع كتابك فإنه لن يلومك مهما كانت درجة استهتارك ومهما كانت عبثيتك كبيرة، إنه يتحين الفرصة التي ستعود فيها إليك كي يتغير معناه منطلقا إلى تأويل جديد حسب حمولتك النفسية.
تختلف صداقة الكتاب من نوع لآخر، فقراءتي لرواية ما تغير نظرتي للصداقة، الرواية تلعب بك زمنيا ومكانيا، إنها جدة طاعنة في السن وخالدة أيضا، لكن العلاقة معها تبقى عابرة في الزمان أبدية في المعنى، في حالة تَرَكَتْ فيك أثرا على غرار كتابات ألبير كامي وكونديرا وكافكا، تروي لك حدثا ما، ليس من أجل أن تنام، ولكن من أجل أن تستيقظ، هكذا تخون الرواية ككتاب إحساسك نحو الذكريات لتصبح أنت أيضا شخصية من شخصياتها، لكنك شخصية خارجية لم يصنعك الكاتب وإنما صنعك الكتاب، فتتعاطف مع البطل وتكون غير متفق معه في بعض الاختيارات، أما عندما تتحول نفس الرواية إلى عمل سينمائي فإنها تقذفك إلى شعور آخر تجعلك بين الأدب والسينما، أي شخصا معلقا بين السماء والأرض، وأخيرا وبانتهائك من القراءة تتمنى لو لم تنته الرواية، بيد أنك تُصَدِّرُ لعنتها إلى صديق آخر عندما تحثه على قراءتها كي يتقاسم معك تلك المعاناة وتلك الخيانة الجميلة.
كتب الفلسفة هي الأخرى تكاد تصنع لنفسها عالمها الخاص بها، والحال أن العلاقة معها تشبه علاقة البحار مع عشيقته، إذ أن قراءة الفلسفة تختلف تمام الاختلاف وقراءة الراوية ـ وإن كانت الفلسفة والأدب وجهان لعملة واحدة ـ حيث تتأسس قراءة كتب الفلسفة على منطق الصراع الصريح بين الكتاب وكاتبه ثم القارئ، والحق أنه بانغماسي في ربط صداقة مع كتاب فلسفي تجعلني أخونه عندما أقف على الثقوب التي وجب أن أمر منها وعبرها بحثا عن المعنى الضائع، فنصبح عبارة عن قضاة تصدر الأحكام على من تشاء، وتحكم بالبراءة على هذا، وتؤجل الحكم على ذاك، والحال أن هاته القراءة لا تنتهي إلا كي تبدأ من جديد سواء مع صاحب الكتاب أو مع صديق يشاركك نفس الفعل، أي فعل الصداقة من أجل الخيانة.
صداقتنا مع الأشخاص تتوجس من الخيانات بشتى أصنافها، لكن الصداقة مع الكتب تتقوى كلما تقوى فعل الخيانة، فالكتب تخوننا عندما تتعدد معانيها وعندما نكتشف فيها شيئا ما كلما أعدنا قراءتها، أما نحن فنخون الكتب عندما نغير تأثرنا بها، ثم تصل هاته الخيانة إلى درجة الإفراط عند النقد، من ثمة أجدني دوما من حيث لا أدري أتأمل صمت كتبي المصفوفة في رفوف المكتبة، وكيف أن صمتها ليس يدل على وداعتها وإنما على مكرها الجميل الذي كلما زاد في ذلك، كلما زاد تعلقنا بالكتاب كصديق.