لا يمكن أن نخوض اليوم في مسألة المقدّس دون أن نشخّص السيرورة التاريخية التي جعلت من هذا المفهوم دون غيره محلّ سؤالنا.فمنذ الثورة الفرنسية و فلسفات العقد الاجتماعي ففلسفة التنوير،عرف العالم ما يسميه مارسال غوشي "حركة نزع السحر عن العالم" و هي حركة تميّزت بانتقال الديني إلى مجال المفارق و استقلالية المحايث الاجتماعي و السياسي عن كل تفسير ديني غيبي ممّا جعل من الإنسان فردا مستقّلا قادرا على تأسيس الحياة العامّة دون الاستناد إلى المرجعيات اللاهوتية بما أنّه لم يعد للمؤسسة الدينية من مبرر لتنظيم و تفسير حياة الإنسان.تجد هذه الحركة جذورها الأولى في الثورة العلمية الحديثة التي تجاوز من خلالها العلم التفسيرات الأنتروبومورفية الأرسطية ليحطم بذلك الكوسموس و يستند إلى الرياضيات وحدها لتفسير ظواهر الطبيعة من خلال الترييض و التكميم و هندسة المكان و إن كانت هذه الثورة علمية فإنها غيّرت من موقع الإنسان في الطبيعة و جعلته بعبارات ديكارت "سيّدا و مالكا لها" كما أنّها غيّرت من معنى العالم بالنسبة للإنسان فأصبح فضاء للتجربة و التحرّر و انقلبت حالة العجز السابقة إلى حالة قدرة فاعلة.وعلى إثر هذه الثورة،أصبح الإنسان قادرا على نقد الأفكار الدينية خاصّة تلك التي تنزع عن الإنسان دور الفعل و تمنعه عن الحريّة و المعرفة العقلية و نجد هذا خاصّة في الثورة الإصلاحية البروتستانتية التي قام بها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضدّ منح صكوك الغفران و الشفاعة التي يوهم بها القديسون المؤمنين و حالة الوهم التي تنشرها الكنيسة في صفوف المؤمنين من أجل ضمان طاعتهم العمياء دون تفكير أو إعمال للعقل.
إنّ كل هذه المراحل التاريخية التي عرفها الإنسان الأوروبي أدّت إلى رفض تأسيس الحياة الاجتماعية و الثقافية وفق مرجعيات لاهوتية ذات طابع غيبي في حين كانت تسعى الحداثة إلى بناء شكل جديد للعالم يكون فيه الإنسان بعقله الفاعل الوحيد في هذا التأسيس و يكون التنظيم الاجتماعي و السياسي نابعا عن الوضع الإنساني الراهن ،الإنسان الذي لم يعد يقبل بالعبودية و السلطة بحق إلاهي و لم يعد يقنع بتعال لا تفسير له ممّا جعل المقدس الديني مستبعدا عن الفضاء العام في دولة الحداثة التي أقامت جدارا عازلا بين المقدّس و الدنيوي أي بين المجال الخاص للفرد الذي تكفل فيه حرّية الاعتقاد و بين المجال العام السياسي الذي يكون فيه القانون محايثا ووضعيا.لقد انتقل البحث في المقدّس إلى مجال العلوم الإنسانية من تاريخ الأديان و علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا إلى علم النفس التحليلي و ذلك من أجل تحليل ظاهرة التقديس و تفسيرها،إلاّ أنّ هذه المقاربات و على ثرائها فإنها بقيت دائما في مستوى دلالة الظاهرة أي في مستوى ما تستطيع العلوم الإنسانية بمناهجها تحليله.بقي المقدّس إذا تلك التجربة الغير قابلة للحوز و التملّك،تلك التي تتميّز حسب رودولف أوتو ب"فائض دلالي" لا يمكننا إدراكه إستنادا لمنهج تحليل الظواهر و بهذا يظلّ المقدسّ فضاء مجهولا،إنه ما يشاركنا عالمنا دون أن نستطيع مشاركته عالمه بشكل تّام لذلك فنحن نتساءل اليوم عن المقدّس بصفته تجربة تخوضها الذات داخل عالمها .يفترض بحثنا علاقة التعارض و التقارب بين المقدّس من جهة و الحلال من جهة أخرى بما هو فضاء الحلول المتاح على عكس المقدّس الذي يكون دائما محاطا و محصّنا بالموانع و الحلول إنفتاح على اليومي و على المحايث الإنساني و للمقدّس في هذا الحلول زمانية و مكانية و اضطلاع بعالم تعيشه الذات عقلا ووجدانا.
-I تجربة المقدس كغيرية جذرية و الحلول المنقوص:
يحدد رودولف أوتو المقدّس بما هو تجربة "الآخر المغاير تماما" أي تحربة اللامتاح بشكل مباشر ممّا يفصح عن هذه القوّة الخفيّة التي يتصّف بها المقدس.إنها التجربة التي تتصّف باللاعقلانية حيث يشعر فيها الفرد بهذه الفتنة السريّة و الغامضة حتّى أنّ إحساسه بكونه كائنا من لحم و دم ينعدم و يغدو بذلك ماهية محضة.إنّ هذا النومينو [1]بما هو خاصيّة من خاصيات المقدّس يعبّر عن لحظة الوعي بالمقدّس بما هي تلاش للذات أمام المغاير الجذري و التّام و يعبّر هذا النومينو عن كون المقدّس لا متاحا للوعي، إنّه ما لا يمكن حوزه بموجب غيرية طبيعته المفارقة للوعي.يتيح لنا الوصف الفينومينولوجي لتجربة الوعي بالمقدّس عند رودولف أوتو من تبيّن العلاقة الرابطة بين المقدّس و الحلول.يشير المقدّس في هذه المقاربة إلى تجربة وجدانية خالصة ،يشعر فيها الفرد بالخشية و الفزع أمام الفتنة السرية و الغامضة للمقدّس.تحيل غيرية المقدّس إلى طابعه الأسراري،إنّه سرّ مغلق غير متاح يشعر حياله الفرد بالإجلال فهو يجلّه من دون أن يستطيع إجلائه و لعلّه يجلّه بموجب إمتناعه عن فعل الإجلاء.يتعارض المقدّس في هذه التجربة مع الحلول بما هو إزالة للحدود الفاصلة بين عالم الخفاء و عالم التجلّي،إن الحلول هو فتح لدائرة المنع التي تحيط بالمقدّس و يتجّلى هذا المنع في مقاربة أوتو في عدم قابلية المقدّس للتعريف بحكم ارتباط المقدّس بما هو منفصل عن العقلاني.إنّ تجربة المقدّس لا تخاطب فينا ملكة التعقّل بل ملكة الإحساس و لهذا فإنّ تجربة الشعور بالمقدّس تبقى عصيّة عن العبارة.إنها التجربة التي "تفلت إفلاتا تامّا من الإحاطة بها بواسطة المفاهيم" بحيث لا يمكن أن نترجم هذه التجربة المغايرة لطبيعة تعقلنا إلى مفاهيم عقلية واضحة و جليّة.يؤكد رودولف أوتو على هذه الخاصية اللاعقلانية لتجربة المقدّس من خلال اختبار مفهوم القداسة في مجالات أخرى كالأخلاق : فالقدسي يؤخذ عادة على أنّه" الكلّ الصالح" و يشير أوتو في الفصل الثاني من كتابه " فكرة القدسي " إلى مثال الإرادة الطيبة الكانطية بما هي تجلّ للقدسي داخل المجال الأخلاقي حيث تعبّر قدسية الإرادة على ما هو تامّ الخيرية و تتمثّل قدسية هذه الإرادة في كونها لا تخضع لأي شكل من أشكال النوازع عندما تمتثل للواجب الأخلاقي أي أنها لا تمتثل لما هو خارج عنها بل لقدسية متأصلة داخل الإرادة الطيبة.يكشف أوتو من خلال هذا المثال على خاصية الأصلانية التي تميّز طبيعة المقدس،لكن هذه القدسية التي تميّز الإرادة الطيبة في المجال الأخلاقي تكشف في آن الوقت على أنها قدسية مشتقّة من قدسية أصلانية يسميها أوتو "فائض المعنى".إنّ هذه القدسية الأصلانية هي ما يميّز المقدّس "كآخر مغاير تماما"،كتجربة تجعلنا قبالة اللاعقلاني فينا و اللاعقلاني هنا هو تعطّش للمعنى،ضرورة تنبع منّا و تدفعنا نحو الشعور بالمقدّس.يتجاوز أوتو إذا القدسية الأخلاقية المشتقّة منتهجا العزل الفينومينولوجي الذي يفصل القدسي عن مضمونه الأخلاقي العقلي للولوج إلى عنصره اللاعقلي الذي يمكن أن يفصح المقدّس من خلاله عن خاصية الأصلانية فيه.ما يثير إنتباهنا هو أنّ تجربة النومينو التي يتوّصل إليها أوتو من خلال عزل المقدّس عن المجال العملي تكشف عن طبيعة علاقتنا بالمقدّس،فهذا النومينو بقدر ما هو "مغاير تماما" بقدر ما يوجد فينا بشكل ما من جهة كوننا محل الشعور به.يحيلنا رودولف أوتو إلى تبدّل في شكل تساؤلنا حول المقدّس : من التساؤل عن المقدّس كجوهر و بنية ثابتة إلى التساؤل عن فهمنا الخاص لتجربتنا عنه.يبقى المقدّس كشيء في ذاته متمتعا بغيرية جذرية و يبقى حلوله فينا حلولا منقوصا بحكم اتصالنا به عبر بنية روحية وجدانية لا يمكنها أن تظفر بمعناه كاملا،لكن ما يمكننا أن نبحث فيه هو بنية فهمنا للمقدّس و بينة الفهم هذه تعبر عن انتقالنا من التساؤل عن المقدّس كجوهر ثابت إلى التساؤل عن القداسي بما هو وعي يتفاعل مع العالم ليشكله.
-II من خفاء المقدّس إلى جلاء القداسي :
إنّ القداسي هو ما نجده متكررا في كل التاريخ الإنساني،أي "أن نشهد بوجود اللاوراء في مواضع و في أشياء أو كائنات هي من عالمنا هذا [2]" يتحدد القداسي إذا بما هو شهادة الإنسان بتجلّي رمزية ما تتجاوز الواقع المتشيء لكل ما يحيط به،إنه الطريقة التي يتفكّر بها الإنسان عالمه بدفع الطبيعي إلى ما فوق طبيعي و يتميّز فعل التقديس بتحويل العالم المادي و بالأخص الزمان و المكان- بما هما شروط كل تجربة ممكنة بعبارة كانط-،إلى فضاء لقاء بين طبيعتين مختلفتين و يشير مرسيا إلياد في كتابه "المقدّس و الدنيوي" إلى تمظهر المقدس على هذا النحو بقوله: "يتمظهر المقدس دائما كواقع من طبيعة مختلفة اختلافا تاما عن الوقائع الطبيعة" [3] و تعبر فكرة التمظهر هذه عن حلول المقدّس في ما يظهر أو بالأحرى حلوله كطبيعة مغايرة لطبيعة الحلال.إننا نقف هنا عند معنيين للحلال حيث يجدر بنا التمييز بين الحلول بمعنى التجلّي و الظهور كتجربة قابلة للإدراك و هذا هو الحلول الذي يتميّز به القداسي من حيث هو يحلّ فينا و بين الحلول بمعنى الانكشاف و قابلية القداسي للمعرفة التامّة و المطلقة أي أن يصير القداسي كأي شيء من أشياء العالم : موضوعا قابلا للمعرفة و متاحا و هذا هو الحلول الذي لا يتمتع به القداسي في نظر مرسيا إلياد.إنّ مقاربة المقدس على جهة النفي و ذلك بإقامة كل الفوارق بين طبيعته و طبيعة الأشياء اللاّمقدسة قد جعل من المقدّس فكرة متعالية مفارقة ،نكون بحكم غيريتها الجذرية منفصلين عنها و هذا ما ذهب إليه أوتو في بحثه عن اللاعقلاني في تجربة المقدس لكن مرسيا إلياد يمر نحو فكرة التمظهر و الجلاء بما هي السمّة المميّزة للقداسي و بالرغم من أن القداسي ينبع عن طبيعة مختلفة و مغايرة إلاّ أنه يظهر لنا و يشدّد مرسيا إلياد هنا على أهمية العلاقة بين الزوج المفهومي مقدّس و حلال.إنّ العلاقات المتقاطعة بين هذا الزوج المفهومي هي الركيزة الأساسية التي ينطلق منها مرسيا إلياد مبيّنا التمظهرات المختلفة للقداسي في علاقته بالحلول.إذا ما عدنا إلى التقابل التقليدي اللاتيني بين المقدس و الحلال نجد أنّ المقدّس هو ما يوجد داخل حرم ما أي ما يوضع جانبا و يحاط بدائرة من المنع،أمّا الحلال فهو ما يوجد خارج حرم العبادة كفضاء متاح يصبح الناس مخوّلين للحلول به لكن جملة العلاقات الرابطة بين هاذين المفهومين تجعلنا نتجاوز التعارض المحض بينهما باحثين عن القداسي كشكل من الوجود في العالم.يتخّذ مرسيا إلياد من تجربة الفضاء تجربة تحيلنا على ما يربط القداسي بالحلال،فإذا كان الإنسان الحديث يعتبر العالم فضاءا هندسيا متجانسا خاليا من الإحالات الدينية فإنّ القداسة تجد محلاّ لها في الذاكرة الفردية باعتبار الإنسان كونا يجد داخله أمكنة مرتبطة بتاريخه الشخصي يطلق نحوها مشاعر الإجلال و التقدير ممّا يجعلها تتميّز عن بقية أمكنة العالم بكونها حاملة لكثافة وجدانية مميّزة.أمّا الإنسان الديني فإنه يختبر العالم كفضاء اللاتجانس الكيفي حيث يميّز بين الفضاء المقدّس و الفضاء العادي أو الدنيوي اليومي و يعتبر هذا الفضاء المقدّس حركة الإنتقال من اللاعالم إلى العالم أي من عالم التجانس إلى عالم التمايز.يعتبر إلياد أنّ تجلّي القداسة داخل المكان هو بمثابة التأسيس الأنتولوجي الأوّل للعالم بما هو بنية و تشكّل ممّا يذكرنا بأسطورة الخلق اليونانية بما هي انتقال من العالم المادي الغير متشكلّ أي الكاووس (الفوضى) إلى عالم ذي هيئة و بنية و نظام أي للكوسموس (النظام).تكشف تجربة الفضاء المقدّس إذا عن هذا التداخل بين ما هو قداسي و ما هو حلال حيث يضطلع الإنسان بتنظيم العالم و تأسيسه وفق كيفيتين من الوجود يميّز بين طبيعتيهما : كيفية الوجود القداسية و كيفية الوجود الدنيوية ممّا يجعلنا نقّر مع مرسيا إلياد بأنّ الإنسان يتمثّل العالم كنسق من الإحالات،تكون فيه هذه الإحالات منقسمة بين الأشياء العادية المتاحة التي لا تحيل إلاّ على نفسها و بالتالي لا يتعامل معها الإنسان إلاّ تعاملا شيئيا نفعيا لا يمكن إستجلاء معنى منه و أشياء تنتمي للعالم المادّي (الزمان و المكان) و تكون حوامل رمزية بحكم استبعاد قيمتها الإستعمالية ممّا يجعلها قادرة على استيعاب المعنى.إنّ القداسي بما هو بناء للعالم و تأسيس له يكشف لنا عن الكيفية القداسية التي يوجد بها الإنسان في العالم عن طريق إسناد العلامات و الرموز لأشياء الكون و التوجّه إليها عبر طقوس تذكرّية تعيد إحياء قصة الخلق التي يمكن أن تنسب للآلهة كما يمكن أن تنسب إلى الإنسان و يرتبط القداسي ببنية الذاكرة التي تمكّن الإنسان من إجلاء القداسي كاستحضار أي كعملية تذّكر طقسية تجعل ممّا ليس حاضرا في اللحظة حاضرا و يمكن أن نستجلي فعل الاستحضار عبر مثال عيد الإضحى الذي يمثّل فيه الكبش رمزا لما وجدته رؤيا سيدنا إبراهيم من تصديق حيث أطاع إسماعيل أمر ربّه و قبل بأن يذبح تطبيقا لما جاء في الرؤيا و يعتبر هذا العيد تذكيرا و استحضارا للنعمة الإلهية التي منعت عن الإنسان الشقاء و الألم عن طريق استبدال ذبح الابن بذبح الحيوان.يحتّل القداسي إذا فضاء زمانيا و مكانيا داخل تجربة الإنسان للعالم بموجب اضطلاعنا بالعالم عبر وضعية وجدانية تمكننا في كل مرّة من الانتقال من مستوى الدلالة إلى مستوى المعنى الذي يأتلف من نسق من الإحالات و الرموز يسميها آلان كاييه "الرموز المؤسسة أو الرموز الكبرى".يدّل الحلول إذا في هذا المعنى للقداسي على الحلول بما هو ربط و ارتباط، أي أن الحلول يتجاوز معناه المادّي المحايث بصفة مطلقة ليصبح فعالية ربط تأسيسية ووجدانية يقوم الإنسان من خلالها بتشكيل و بناء العالم من خلال إقامة حدود رابطة و فاصلة بين القداسي و الدنيوي : تكون رابطة بموجب الانتماء المزدوج للأشياء المقدّسة إلى عالم المادية و إلى عالم القدسية و بموجب كوننا نحن محلّ الشعور بهذا المقدّس المغاير و تكون فاصلة أيضا بموجب هذا التغاير فالدنيوي يحيل على ما هو عادي و متاح بشكل مباشر لكن القداسي هو الكيفية التي تمكننا من العلو على الوجود الظاهري العادي إلى الاضطلاع الوجداني بالعالم.إنّ صوت الآذان الذي يعبر الواقع المادي خمسة مرّات في اليوم هو تذكير بما يفوق اليومية المبتذلة من قداسة بقدر ما تحلّ عبر رمز الآذان في واقعنا بقدر ما ترفعنا بحكم غيرية طبيعتها إلى المعنى الذي لا يمكن الولوج إليه بشكل مباشر.يعود مرسيا إلياد إذا في بحثه إلى الثوابت الإنسانية في تجربة المقدّس،حيث ننتقل معه من النظر إلى المقدّس كآخر منفصل عنّا تماما إلى القداسي بما هو تجلّ و ظهور للغيرية في حوامل هي من عالمنا هذا،فالقداسي يختفي و يظهر في حركة لا نهائية لعلّها الأبدية التي يرغب فيها الإنسان بموجب حقيقة فناءه و حركة القداسي هذه، تحلّ فينا وجدانيا عبر الذاكرة و الاستحضار و التمثّل و نحلّ فيها عبر فعالية التنظيم و التأسيس و الترميز و مختلف الطقوس التي نبتدعها للتواصل مع القداسي كبديل عن اللغة الدلالية العادية.
-III راهـــنيـــة القداســـي الـــيـــوم :
إن تجربة القداسي التي نجد معالمها مرسومة في كتاب مرسيا إلياد تبدو هذه التجربة المبتورة في عالم اليوم.إنّ فكرة القدسية لم تعد تقيم في عالمنا ككيفية وجود بل ك"شهادة" و هذه الشهادة تحيل على تراجع الرموز إلى مستوى الدلالات التي تمّ إفراغها من المعنى بنزع السحرية عن العالم حيث لم نعد نتوّجه إلى هذه الأشياء القداسية توجها وجدانيا بقدر ما فرضت علينا العقلانية الحديثة التوّجه إليها توجها علميا منطقيا محضا.لقد تمكّن الإنسان من خلال العلوم الاجتماعية و الإنسانية من تحليل ظاهرة التقديس بما هي تجربة تنتمي لعالم الظواهر و لا ننكر الإفادة العظيمة التي قدّمتها هذه العلوم التي مكنتنا من إيجاد جذر إنساني مشترك لتجربة المقدّس لكنها في مقابل ذلك ألغت ذلك الترابط الذي يميّز علاقة القداسي بالدنيوي بإلغاء تلك الطبيعة الفارقة التي يتمتّع بها القداسي و تحويل صفة التعالي التي يتمتع بها القداسي إلى صفة يقع تفكيكها عقليا.إنّ انسحاب القداسي من حياتنا اليومية هو ليس انسحاب الدين كمرجعية تأسيسية فحسب بل إنه نكران للوضعية الوجدانية التي نوجد من خلالها في العالم و هذا يمكن تجلّيه إذا ما ألقينا نظرة على عالم اليوم: زوال الطابع المتعالي الجليل للعمل الفني الذي يصير هامشيا أو تجاريا أو ذا غايات سياسية ممّا نزع عن الفنّ ميزته الوجدانية الخيالية التي تتيح للإنسان حرية الخلق و الإبداع ناهيك عن زوال تجربة الحب بما هي تجربة ملغزة،خفيّة لا يمكن تعليلها عقليا وفق المنطق السببي و تحوّل هذه التجربة إلى صفقة تبرم بموجب مواصفات مطلوبة بشكل مسبق من أجل غايات محدّدة لا تنحصر إلاّ في البيولوجي البحت (الجنس) أو البيولوحي-الاجتماعي (الزواج).لم يعد ينتمي الإنسان للعالم إلاّ عبر وضعية عقلانية مفرغة من المعنى،لا تنشد إلاّ إعلان التفوّق البيولوجي و التكنولوجي و السياسي للنوع الإنساني.كأنّما أصبح الإنسان في حرب شرسة ضدّ الكون لأنه لم يستطع أن يكون آلهة و لم يستطع إفراغ الكون نهائيا من تدخّل الآلهة (الطبيعة،الإلاه) فهو يحاول بكل شدّة أن يخرج من كل ضرورة و حتمية إلى مجال التحرر الكامل.هذه هي إذا الرؤية المعاصرة للعالم التي تريد أن تدفع بالحداثة إلى أبعد نقطة ممكنة بأن تزيل في كل مرّة حاجزا جديدا عن دائرة الممكن الإنساني.أدّت حركة السير إلى الأمام التي انتهجتها الإنسانية إلى وضع حدّ فاصل و فارقي بين العالم القديم و تمثلاته و العالم الجديد الذي يؤسسه الإنسان بانفصاله الراديكالي عن تجربته الأولى للعالم ممّا أحدث انشطارا في تجربة العيش الإنسانية التي أصبحت تحاول في كل مرّة الاستغناء عن كيفية وجودها الوجدانية لتعوّضها بكيفية وجود علمية تكنولوجية لا ترى في الكون مادّة ثرية تشكلّ من خلالها حياتها بل ترى في تمثلاتها ذلك "المغاير الجذري" الذي يجب أن تتجاوزه.إنّ حركة الحلول التام بما هو نزع لكل "سحرية عن العالم" جعلت من إنسان اليوم يعيش أزمة معنى و قد أدّت هذه الأزمة إلى نتيجتين : الإنسان المادي المابعد ديني،ذلك الذي تحركه رغبة العقلنة المطلقة فيفهم العالم و يعيشه وفق منطق التكميم و تكديس الثروة و العيش الآني أو ذلك الإنسان الديني المتعصّب،المستعّد استعدادا تامّا لتوظيف كل الوسائل خاصّة العنيفة منها لإعادة القداسة المطلقة للدين.من جهة أولى،يسعى الإنسان المادي المابعد ديني إلى نفي و إلغاء كل ما هو مقدس و ذلك باعتبار التقديس في حدّ ذاته وهما إنسانيا يجب التخلي النهائي عنه في مقابل إسناد سلطة مطلقة للعقل الإنساني على العالم،سلطة لا تجدّ حدّا لها حيث تسعى إلى السيطرة على شكل الحياة الإنسانية و البحث الدائم عن سبل لسيادة الكون و من جهة ثانية،يسعى الإنسان الديني المتعصّب إلى العودة إلى الزمن الأوّل أي إلى استرجاع المتعالي المفارق و إرجاع السيادة المطلقة له، معتبرا أنّ الوجود الإنساني هو وجود عبوري من اللاحقيقة إلى الحقيقة التي يمثّلها عالم الآخرة و أنّ المستقبل الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يفكّر فيه اليوم هو إعادة تنشيط جهاز الآخرة أخلاقيا و سياسيا و اجتماعيا من أجل ضمان الآخرة السعيدة باعتبار عالم الشهادة هو عالم الشقاء و العجز عن اللقاء بالإلهي الذي يجسّد الكمال.إن هذان النموذجان اللذان أفرزتهما الحداثة و تداعياتها يسقطان عن افتراضات موضوعنا كل معنى : فما يبقى بعد أن يحلّ لنا كل شيء هو المقدّس فعلا و لكنه المقدّس المفارق بصفته غيرية جذرية لا يمكن الولوج إليها و لا تشكيل خطاب بشأنها و هذا المقدّس هو المقدّس الذي يتّم تنشيطه اليوم كردّ فعل على حركة عقلنة العالم و هو المقدّس الذي بموجب إطلاقيته و تعاليه يجد استجابات إنسانية تصل إلى حدّ الذبح و التنكيل بالبشر و إهانة حياتهم التي يحكم عليها بانعدام القيمة.أمّا الإفتراض الثاني الذي ينضوي تحت نص الموضوع فهو اعتبار أنّ حركة الحلول بما هي نزع لتعالي المقدّس يمكن أن تجعلنا نظفر بالمقدّس و لكن حركة الحلول التاّمة هذه "يحلّ لنا كل شيء" ترفع عن المقدّس ميزته الخاصّة و تسقط عن الإنسان البنية الوجدانية التي يوجد من خلالها في العالم.إنّ هاتان القراءتان يجدان جذورهما في سردية التنوير بما حركة سير إلى أمام و بما هي وعد التقدّم الدائم و سردية الآخرة بما هي حركة العودة إلى الزمن الذي كان للحياة فيه غاية واضحة تتجاوزها : الفعل في الدنيا من أجل ضمان الآخرة.ما يجب تجاوزه اليوم هو أولا: البحث عن المقدّس المتعالي المنفصل تمّاما عن الحياة الإنسانية لأنّنا لا نحتاجه بموجب إعلانه الدائم عن نقصان الحياة و عن لا إبداعية الإنسان.يجب استبدال المقدّس بالقداسي أي البحث في القداسي بما هو اضطلاع وجداني بالعالم يتجلّى في أشياء عالمنا و البحث في القداسي يتجاوز المعنى الديني للتقديس ليسبر أغوار فعالية التقديس في كل التجارب الإنسانية سوى الدينية أو الجمالية أو البينذاتية أو غيرها.إنّ البحث في القداسي و استجلاءه يتجاوز التفكير في التاريخ الإنساني بمعطيات فضائية كالسير إلى الأمام أو العودة إلى الوراء،كما يلغي هذا الانشطار القائم بين عالم القداسة و عالم الظهور.إنّ البحث عن القداسي اليوم هو إقرار بكون الوجود تجربة مفتوحة يتقاطع فيها المادي بالروحاني و الظاهري بالخفّي و يكون فيها العالم نسقا من الإحالات التي و إنّ انفصلت بطبيعتها المغايرة عن التعاطي المادي مع أشياء العالم فإنها تتأصّل فينا بما هي الفاعلية التي نخاطب بها العالم فيشكلّنا و نشكّله.
من الواضح أنّ طرح مسألة المقدّس اليوم هي ذات راهنية قصوى حيث تدفع بنا إلى التساؤل عن شكل الوجود الإنساني اليوم بعدما وصل مشروع الحداثة في العالم الغربي إلى أقصاه بتسليم مقاليد الكون إلى الإنسان ليكون سيّدا لا نفسه فحسب بل لكل الموجودات و ليتحكم بذلك في شكل الحياة مسلّطا أقسى أشكال التعذيب العلمي على الطبيعة و على الجسد الإنساني و الحيواني.كان العالم في التصوّرات الدينية القديمة مقدّسا بحكم وجود الآلهة المحايث،فكانت الممنوعات تحيط بأشياء العالم ممّا جعل الإنسان غير قادر على الاستقلال بنفسه و تأسيس نظام خاص به لحياته الفردية و الجماعية لكن هذا الكوسموس التراتبي الذي يتجلى فيه نظام الحياة الإنسانية بما هي انعكاس لنظام حياة الآلهة قد حطم تماما مع ظهور الأديان التوحيدية التي كفلت للمقدّس الإلاهي طبيعة مفارقة و موقعا متعاليا يسعى إليه الإنسان لكنه لا يطاله.ينبغي إذا أن نسأل اليوم في ظلّ هذا الانشطار الإنساني بين مقدّس مفارق يمثّل الحقيقة المطلقة و بين مقدّس ملغى و هامشي بالنسبة إلى عقل إنساني يسير نحو تأكيد قدرته على بلوغ حقيقة مطلقة و ثابتة حول وجود الحياة و الإنسان بل يسعى سعيا حثيثا إلى مجاوزة كل الضرورات حتى و إن كانت شكل الحياة التي عرفها الإنسان منذ الأزل،ينبغي أنّ نوجّه سؤالنا نحو حاجتنا اليوم للمقدّس.إنّ هذا السؤال هو الذي يمكننا من تبيّن فعالية التقديس كفعالية تطلعنا على جوانب خفيّة من اضطلاعنا بالعالم لعلّنا أهملناها و نحن نحاول نزع كل تقديس عن الوجود الإنساني أو نسعى إلى التعلّق بعالم لم نخض تجربته أبدا(العالم الغيبي المفارق)
[1] Numineux : Le concept du « numineux » apparaît pour la première fois chez Rudolf Otto dans son livre 'Le Sacré, publié en 1917 sous le titre allemand 'Das Heilige - Über das Irrationale in der Idee des Göttlichen und sein Verhältnis zum Rationalen (Du sacré - Sur l'irrationnel des idées du divin et de leur relation au rationnel'3. L'expérience numineuse est pour lui l'expérience affective du sacré
[2] Luc Ferry et Marcel Gauchet , Le Religieux après la Religion ,Grasset et Fasquelle, octobre 2004
[3] مرسيا إلياد،المقدّس و الدنيوي، المقدمّة صفحة 12