كعادته كان منبهرا بكل مختلف،ولو كان يحمل في سجلاته ما تحمله المستنقعات مما لا تأنس له النفس .
نظر الى الخلف ،رأى شبح اسمه بعيدا هناك .
حاول أن يسطر بقلمه بضع كلمات ،تبوح بما خفي حينا، وبما أعلن حينا آخر .
كان ما استجد مثيرا باختلافه ،بعناده ، يقرر ولو كان للحقيقة منحى آخر في علم العلماء .
بدا الاختلاف والخلاف بسيطا، ثم زادت الجرأة بطشها بذلك العالم ،انشغل بالتفاهات من الأمور، وكثرت الحركات العابثة ،استراق سمع ،استراق نظر ،حب استطلاع يرمي بالأفكار و التهيؤات إلى حيث المتاهات ،التي يحتار فيها المرء، وتغيب عنه الحواجز والموانع ،ولا يبقى إلا أن يفعل القدر فعلته الدنيئة، في أن يجمع ويفرق، بلا منطق و لا شريعة .
كان يحاول أن يعرف ما يفعل ذلك السيد في مكتب الخرائط المنسية ،فراح يختلق قصة لذهابه إلى هناك .
بين الماضي والحاضر ،ماض ينصت إليه ،وحاضر جعله يتناهى في الصغر ويؤول إلى العبث .
الماضي لم يكن إلا أيقونة على سطح مكتب حاسبه الشخصي،ينفث فيها سمَّه وغيظه المستمر،أيقونة صارت مدعاة إلى كل شكوى ،وكل ضجر.
الوقت الذي كان يبسط أزمنته له ، أصبح كالهارب في سلسلة تلفزيونية ،أراد كاتب قصتها أن يجعل منه بطلا منافيا لما تقتضيه الحياة.
خفتت الكلمات وصداها ،ضاعت أصداء البطل الوهمي، الذي يزعج صمت الأمكنة ،ضاع من القصة بطلها المزعج،الذي يشق عالم الخرائط الوهمية ،لم يعد أحد يسمع شيئا عنه ، الأيام بصيغتها الحالية العصرية، تخفي الأبطال الحقيقيين ،وتصمت عن ذكرهم ،وتذكر ما كان خارجا عن الحوار، الذي يتعاظم يوما عن يوم ،يتزاحم فيه شيء مختلط أخذ من مداخل العبث كل سوادها.
لم يكن ثمة من شيء غير باب أغلِق في وجهه ،وباب آخر أوصدوه في وجه الماضي،حتى إذا ما رنَّت ذكراه - كما يرن الهاتف فجأة - تظاهروا بالانشغال الدائم .
صمَت صمْتا وصل إلى مدى أوسع ،في متاهات التريث والسكينة والانتظار، ثم ......
التقى الطيفان في سماء المكان يتحدثان ويتجادلان ،وعمت الأحياز المكانية والزمانية،اسفهامات لا تجد في نص حديثهما إجابة شافية لما يستدعي التقاء طيفيهما، في أمكنة وأزمنة ،لا تخضع للمعالم المعروفة ،التي تضبط مواقع الأشياء و الموجودات.
ابتدأ كلامه بأسئلة ملفوفة في كلمات غير مألوفة ،عند كل من سولت له نفسه أن يسترق السمع ، ويستدعي ما يختفي وراء الصورة والحركة :
أليس في الماضي ما يبعث على التذكر ؟
لا تذكرني بالماضي ،الماضي كتلة من شعاع آفل ،ضاع كل منا بين سراديبه ،بلا خرائط ،كالحاضر الذي نستعد له بكل ما أوتينا من تفاؤل ، وأمل ،وابتهاج ،حيث ننطلق بلا بداية ولانهاية ،صوب عالم يختزن الممنوعات ،ويعرضها بغرض الإغراء ،و يرسم سبل كل ما يتضاد مع كل شرائع الدنيا .
أنت تزعجني بالحديث عن الماضي ككل مرة أتحدث فيها إليك ،حتى تكاد تضيع مني نفسي ،وعقلنني لشتى الأمور .
يرد الآخر:
ابق إلى جانبي !
لا تتركني وأنت تعبر إلى حاضرك !...
سأكون كما تريد !
كما تشاء ! ،...
ابق ... !
ابق إلى جانبي !
ينقطع الحديث إلى موعد لاحق ،كأنه تائه متنكر لسماء الماضي، ومخلص لنداء حاضر غير محدد المعالم .
لابد أنه يستجدي داخل خرائط الزمن الخرافــــــيزمنا لا تحده المسافات، ولا تطيقه الساعات اليدوية ولا الحائطية .
قال في تردد :
هل لي بموعد آخر ؟
لا يمكنني تحديد أي موعد،فلا أدري إن كان بإمكاني، أن أجد متسعا ضمن أزمنة انشغالي للحديث إليك ثانية،فالوقت ليس ملك يدي ،ومن هم حولي ،لا يرحمون زمان تواجدي في حاضرهم وماضيك .
كل شيء تغير، ولم يبق منه إلا ذلك الحيز الضئيل ،الذي بالكاد استرِقُه على مضض .
شاح بوجهه عنه
وضع قطنا في أذنيه
ترك المكان .
اليوم يبدأ بتعلم لغة الإشارة ،حتى ليعتقد الناظر إليه وهو يتحدث بها ،أنه يحاول أن يرسو على ما تعنيه تلك الخرائط الصامتة ،التي تعلن غموضا يعتلي الماضي والحاضر .