التبرّع بالأعضاء البشريّة من وجهة نظر انتروبو- سوسيولوجيّة - د.الحبيب النّهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاستقديم عام: التبرّع بالأعضاء من رهانات العلم إلى رهانات الثقافة
إنجازات علميّة، طبيّة، وتقنيّة تقاوم أسباب الأمراض المميتة، إطار قانوني يضع الشروط الإنسانية والأخلاقيّة للتبرّع بالأعضاء. فتاوى دينيّة تجيز اِستقطاع الأعضاء البشريّة، حملات تحسيسيّة عبر مختلف وسائل الإعلام بضرورة التبرّع ولكن يبقى الإقبال دون المأمول  مما حدا ببعض الباحثين إلى اعتبار أن ’’أزمة زرع الأعضاء هي أزمة معقدّة‘‘  وتظلّ الأسئلة مطروحة: مَنِ المتبرّع؟ لماذا ترفض عائلة الميت التبرّع؟ ما سبب ذلك؟ كيف السبيل لتجاوز العوائق إزاء التبرّع؟
أمام هذه الأسئلة القلقة تصبح المقاربة الانثروبولوجيّة ـ السوسيولوجيّة ملحّة وأكيدة لأنّها ستحاول البحث في الأسباب العميقة للمواقف الاجتماعية وممارساتها تجاه حساسيّة التبرّع بالأعضاء وفق مقاربة شاملة تعطي للثقافة ولتاريخ الذهنيّات أهميّة. ومن المفارقات العجيبة أن العلم تطوّر وغايته الأساسية هي خدمة قوى الحياة ولكنه في نفس الوقت عليه أن يواجه تيارا عارما من المواقف التي تريد أن تتصادم معه بدل أن تتعاون معه. فالتحوّلات التي شهدها العالم اليوم، فجّرت قضايا مستجدة مختلفة الأنواع وفي كلّ المجالات ولم تتناول بصورة مباشرة وأصبحت هذه المشاكل تحتاج من العلوم الاجتماعية أن تضعها في مخبر اِهتماماتها. 
وتهدف هذه المقاربة إلى دراسة مسألة التبرّع بالأعضاء وما يحفّ بها من ردود أفعال المجتمع: بين القبول والرفض. ذلك أنّها تحاول رصد الأسباب العميقة للرفض. وعليه تقترح حلولا تراها مناسبة للحثّ على التبرّع بالأعضاء. كما أنّ دراسة أثر التغيّرات على القيم والطقوس والمعتقدات لا يمكن أن يكون مجديا إلاّ من خلال اِختبار مسألة من المسائل التي تشغل المجتمع مثل موضوع التبرّع بالأعضاء. وبإيجاز تضع هذه الدراسة في اِعتبارها رهانات أساسيّة هي منطلق توجهاتها:
1.رفض التبرّع له أسباب عميقة: فليس من الهيّن الإحاطة بها جملة وتفصيلا بل هي تحتاج إلى دراسات معمّقة تتضافر فيها الاختصاصات وتتعدّد فيها المناهج. كما أنّ تغيير المواقف يتطلب حيزّا زمنيا كافيّا. فضلا عن ذلك لا تكفي الدراسات الكميّة التي تنطلق من أرقام ومتغيّرات وجداول إحصائية لاستطلاع الرأي العام وسبره بل لا بدّ من دراسات كيفيّة تتعمّق في المعاني والمقاصد التي تتناول مواقف المجتمع بما يعطيه للأشياء من رموز ودلالات.
.وضع مسألة التبرّع بالأعضاء ضمن مقاربة شموليّة للتصوّرات الجماعيّة للموت في تونس، من مكوّناتها: تصوّرات المجتمع حول الميت والجثّة والحداد. علاوة على ذلك فالمسألة ذات صلة بما هو حميمي في حياة العائلة والفرد وخصوصيّاتهما فالتأثير إذن يتطلب ما يمكن تسميته بيداغوجية نقل ثقافة زرع الأعضاء البشريّة التي يحتاجها المستحق والمتبرّع حيّا أم ميتا بمعنى آخر التربيّة على قيّم التبرّع.
3.إدراج مسألة التبرّع بالأعضاء في مقاربة تحيط بالأبعاد الرمزيّة من جهة والأبعاد المدنيّة من جهة أخرى ولا تعزلها عن الكلّ الاجتماعي: من صحّة وتنمية وتضامن وحقوق الإنسان والحداثة وفكرة الانتماء والهُويّة.’’إذ لا يمكن وضع الواقع الاجتماعي بين قوسين وكأنما الفرد البيولوجي هو كلّ شئ، والحال أنّه الجزء الذي لا يمكن فصله عن الواقع الاجتماعي. فهو ابن بيئته وما يكتنفها من ظروف وملابسات.‘‘
4.دور التنشئة الاجتماعيّة بمختلف مكوناتها تربوية كانت أم طبية أم قانونيّة أم إعلاميّة في تشكيل الشخصيّة التي تتوازن فيها الأبعاد الروحيّة والعلميّة وتعيد تغيير التصورات والذهنيات بما يمكننا من تجاوز العوائق التي تحول دون تقبل فكرة التبرّع بالأعضاء. ومن المفيد هنا تنظيم ندوات حول رمزيّة القلب والكبد والعين والدم في جوّ احتفالي ومسابقات ثقافيّة حتّى تخاطب أعماق الإنسان ويمكن ـ اِستناد إلى هذه الاحتفالات ـ تناول موضوع التبرّع بالأعضاء كمحور من بين محاور الاهتمام.

إنّ الرهان الحقيقي بالنسبة إلى المجتمعات اليوم ليس رهان العلم ـ في حدّ ذاته ـ فحسب وإنّما كيفية إدماجه حتّى يوافق النظرة الدينية والقانونية والأخلاقية للحياة والموت ‘‘فليس بالعلم وحده يحيى الإنسان، وليس للعلماء وحدهم حق تقرير مصير الإنسانية، إذ لا بد أن تكون هناك ضوابط أخلاقية واجتماعية يتم الاتفاق عليها احتراما للذاتية البشرية وصونا لها من التفسح والتلف في غمرة هذا المدّ العلمي الجارف الذي يوشك أن يكتسح كلّ شيء بلا هوادة ودون رادع’’. وكذلك يجب أن يكون منهج الباحث ‘‘أن يستقصي جوانب الخير والمصلحة، وجوانب الشر والمفسدة في موضوعها، ثمّ يستنبط الحكم بناء على ما عهد في الشرع من طلب لمصالح العباد ودفع للمفاسد عنهم، وجعل العبرة في ذلك للغالب منهما، وإيجاب تحصيل أعظم المصلحتين المتعارضتين، ودفع أعظم المفسدتين عند تعذر الجمع بين تحصيل المصالح كلها ودفع المفاسد كلها’’

I  / أنتروبولوجيا الموت والتبرّع بالأعضاء:

نعني بأنثروبولوجيا الموت  ‘‘الملاحظة والتحليل الاجتماعي والرمزي للطقوس التي ينظمها الأحياء لمرافقة فقيدهم، والاعتناء بتجهيز الجثّة للدفن. كما أنّها تدرس مختلف المفاهيم حول الموت المتخيّل لإعطائه معنى’’. كما أنّها ’’في بعض الأحيان مرتبطة بالنظريات الخصوصية حول الآخرة والروح والأفكار والحلم ومستقبل الأموات (التقمّص، البحث)، كما تدرس العلاقات التي تفرضها مختلف المجتمعات بين الأحياء والأموات‘‘. وما يهمّنا من هذا التعريف أنّ العلاقات بين الأحياء والأموات تستمد معناها من المحيط الثقافي والديني والاجتماعي وما تفرضه الاكتشافات العلمية من تغيّرات أي أن البعد الأنثروبولوجي يبحث في مسألة الموت من خلال دراسة طبيعة الردود الجماعية تجاهه بمعاينة التمثّلات والمعتقدات والممارسات التي أنتجتها المجموعة لمجابهة إشكال الموت. ولعلّ رصد هذه التحوّلات في التمثلات والمواقف يمكّننا من تحديد مميّزات المجتمع وخصائصه الثقافية والدينيّة.
إنّ هذا المبحث الأنثروبولوجي تحتاجه السوسيولوجيا لفهم وظائف الاندماج، وقدرة المجموعة على استئناس الموت وإعطائه بعدا تضامنيا. كما يوّفر مجالا لدراسة الرموز والأساطير التي لها قيمة في البحث عن المخيال الرمزي حول الموت. ولعلّ اختيار مسألة التبرّع  بالأعضاء البشريّة يعتبر أفضل مخبر لفهم هذه المقاربة التي من خصائصها أنّها تعتمد على النظر إلى التبرّع في كليته القانونيّة والثقافية والاقتصادية والدينية والاجتماعية أي بوصفه ’’ظاهرة اجتماعيّة كليّة‘‘ حسب عبارة مارسال موس.
ومن شرط تحقّق هذه المقاربة الأنثروبولوجيّة اِعتبار أنّ تغير القيم المرتبط بالتطوّر العلمي يجب أن يكون موافقا لمقتضيات الدين حتّى لا يكون هناك تناقض بينهما لأنّ العلم جاء لإسعاد الإنسان ولكنه طرح تحدّيات على الاجتهاد الديني نتيجة الاكتشافات التي توصّل إليها ويعتقد البعض تدّخلا في عملية الخلق.
وعادة ما يلتجئ المجتمع ـ لفرض نمط من المواقف والتصرّفات ـ إلى وضع قوانين تؤدي إلى جدل واسع وتتواصل الذهنيات في الاشتغال رغم وجود هذه القوانين. وتطرح العديد من النقاشات في لحظة تاريخية معيّنة حول التغيّرات التي تحدث تأثيرا في الثقافة والممارسات الطقوسية وتستوجب الخيارات السياسية قوانين كانت أم إجراءات الدراسة للوقوف على ما تتيحه المفاهيم والنظريات من قدرة على التفسير والفهم.

II / التبرّع بالأعضاء والمسألة القانونية :

لقد اهتمّت القوانين بما توصّل إليه العلم من اكتشافات جديدة كمسألة زرع الأعضاء وتشخيص الوفاة. ذلك أنّ الثورة البيولوجيّة أثارت العديد من القضايا الأخلاقية والدينية التي تتطلّب تشريعات جديدة تأخذ بعين الاعتبار الشعائر السائدة في المجتمع وقيمه باُعتبار ‘‘أنّ القانون نفسه كثيرا ما يتأسس على حقائق واعتبارات بيولوجية صرفة، والثورات البيولوجية تقدم مسائل جديدة للقانون، وتعطي المسائل القديمة اهتماما جديدا، فالتقدم في زراعة الأعضاء مثلا يعطي معنى جديدا، متى يكون الإنسان ميتا؟ من له الحق في التصرف في جسده كليّا أم جزئيّا؟ هل يسمح للمرأة أن تجهض جنينا ومتى؟ هل يسمح لمريض يتألم وهو في المرحلة النهائية أن يقتل للشفقة والرحمة؟’’.
لهذا يمكن القول إنّ القوانين تكتسي أهميّة في تنظيم حياة المجموعة فقد أشار مارسال موس أنّها ‘‘العمود الفقري للحياة الاجتماعية’’ لأنّها تفرض نمطا من السلوك في مختلف مظاهر الحياة، وما يهمنا في دراستنا هو أنّها تتجه إلى تقنين السلوك تجاه الموت بحيث أنّه بالتوازن مع التطوّر وجد المشرّع نفسه أمام مسائل تثير بعض الإحراج من بينها مسألة زرع الأعضاء والتبرع بها.
ولقد بلغت القوانين القدرة على التدخّل في الشعائر ووضعها في سياق المدنيّة. فيجد المشرّع نفسه متعاملا مع مسألة لها صلة بالدين كانت من اختصاص الفقيه. ففي ‘‘العصور الحديثة لا أحد يجادل فيما طرأ على المجتمعات الإسلامية من مستجدات وما حدث فيها من تغيّرات إذ المجتمعات المعاصرة في جلّ البلدان الإسلامية قد أصبحت تعيش تحوّلات عميقة وجذريّة لا مفرّ من أخذها بعيّن الاعتبار’’
وفي هذا السياق يمكن أن نتساءل: كيف يستطيع المشرّع وضع إطار قانوني للتبرّع وإضفاء صفة المدنية والشرعيّة الدينيّة عليها في نفس الوقت؟ بمعنى آخر هل يمكن التدخّل في ما هو ذو طابع إرادي رغم ارتباطه إلى مدى طويل بالحياة الدينية للأفراد؟ وهنا نطرح ما المقاصد التي يهدف إليها المشرّع؟ وإلى أيّ مدى ساهمت هذه القوانين في تغيّير التصوّرات والممارسات الجنائزيّة؟
هذه الأسئلة تطرح حقلا لا يزال خصبا وبكرا. ورغم حساسية الموت في حياة الناس اليومية فلا بد من وضع هذه المواضيع في دائرة الاهتمام.

 III / بين العلم والتقاليد : في سبيل دراسة تاريخ الذهنيّات:

نريد أن نقيم حفريات معرفيّة لتجلّي الوضعيات التي عرفتها تونس في تاريخها والتي شهدت ردود فعل متباينة حول ما أحدثته الثورة العلميّة والطبيّة عبر التاريخ إذ أن القضيّة تكمن في عدم وجود الاِنسجام بين مقاصد الشريعة وذهنيّات الأفراد. ومن الأمثلة التي نستطيع أن نسوقها هنا هو ما ذكره أحمد بن أبي الضياف أنّه على إثر طاعون عرفته تونس في سنة 1783 -ويسمى ’’عند أهل الحاضرة بالوباء الكبير‘‘ هذا الوباء الذي قد كان سبب موت عدد من أعيان الحاضرة وقد ’’أثّر في عمران البلاد نقصا فادحا. وفي أوّل ظهوره صدر أمر من الباي بحرق ثياب الموتى وكسوة بيوتهم وغلقها وغسل الغرباء بالمقابر وسجن مرضاهم بمخازن القلاّلين وصدرت في ذلك مقالات في أراجيز لبعض الأدباء أحسنها :
وقال أهل الفضل والعـرفان    نفوّض الأمر إلى الرحـمان
الخالق المـــصوّر القدير    ليس لفعل غيره تأثــــير
أمرنا بالذكر والدعـــاء    وهو الذي ينجـي من الوباء

وضجّ الناس من حرق ثيابهم، والباي مجتهد في ذلك، فكلّمه الشيخ المفتي العالم،الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، أبو العباس أحمد البرانسي، والعلماء، بأن لا يجمع على الناس مصيبتي النفس والمال، والواجب الاستسلام لقضاء الله وقدره، ومن ورثة هؤلاء الأموات أيتام وأرامل وإن رأيت ذلك من الطبّ فلورثة الموتى أن يطلبوا ثمن ما حرق لهم. واشتدّ النكير عليه في ذلك، وكرروا مراسلته مع شيخ المدينة المأمور بحرق الثياب، ولما اتسع الخرق رجع أمره، ومن المقدور لا يغني المخدور‘‘
ففي هذا النص التاريخي نتبين كيف طرحت قضية القيّم في علاقتها بالنجاعة العلميّة فمسألة المرض ـ وهي من بين المسائل التي طرحت ـ ارتبطت بممارسة الطقوس والمعتقدات التي تقتضي مواكبة المريض حتّى عند موته وذلك تهيئا لتلقينه الشهادة ولمّا كان مرض الطاعون معدٍ فإنّ الأطباء يحذرون من الاقتراب منه ورغم ذلك فإنّ الناس يقيمون عليه الصلاة بعد غسله. كما أنّ المريض يرفض في أغلب الأحيان أن يعالجه طبيب غير مسلم. ولقد وجدت صعوبة في إقناع المرضى بذلك و’’لعبت مجموع الشعائر الجنائزيّة دورا هامّا في نقل العدوى بين أفراد المجتمع ومن ضمن هذه الشعائر السهرة الجماعيّة حذو الهالك المطعون لتوديعه، وهي مناسبة لنقل المرض إلى مجموع الساهرين وكذلك غسل الميت‘‘. وهذا ما يبرز لنا مدى تأثير التعلّق بالطقوس ورفض تدخّل العلم في ضبط السلوك. فلقد اعتبر المرض من قضاء الله فلا تجوز مقاومته فوجد العلماء صعوبة في إقناع الناس بضرورة الحذر من عدوى الطاعون نظرا إلى أنّهم لم يتخلصوا من مرافقة الميت ودفنه.
كما يمكن أن نشير أيضا في هذا السياق إلى ما يبرهن على تأثير الدين على المواقف الأمر الذي ما يزال له تأثير في يومنا ألاّ و ـ هو نصّ العريضة المقدمة إلى الوزير الأكبر حول تشريح الأموات ـ وهي من القضايا التي أدّت إلى ما يعرف بالنازلة التونسية حيث ’’وردت أخبار بوقوع تشريح أموات المسلمين في بلد الكاف وغيرها. وورد مكتوب من نائب بيت المال بصفاقس إلى آلآغة أحمد ورديان باشا يعلمه بموت غريب وأنه جرى تشريحه وطلب المجلس البلدي مصروف هذا التشريح المذكور فعرضه آلآغة على شيخ الإسلام فأرسله إلى الوزير يطلب إعفاء بيت المال من ذلك المصروف من غير تعرض لأصل وقوع تشريح المسلم. ولما علم المسلمون أن حكم التشريح مضى فيهم زاد هيجانهم ورأوا أنّ الأحكام الدينية صارت عرضة للزوال واجتمعوا مرارا عند شيوخ المدينة والربضين‘‘.
وقد خلقت هذه الأحداث جدلا بين الفقهاء واستحوذت على الاهتمام رغم أنّها طرحت مع قضايا أخرى لا تقلّ خطورة عنها مثل إباحة بيع الأملاك وأشغال الطرقات وقرارات شركة ماء زغوان ولقد صدرت عريضة بعد أن ذكر أموات المسلمين العلماء المدفونين في تونس مثل أبي زمعة البلوي وأبي لبابة وغيرهما من التابعين والذين ’’يراعون تحقق الموت وخوف النبش والرائحة وحرمة الآدمي المكرم حتّى جرى على ذلك عمل المسلمين خلفا عن سلف في ثلاث عشرة ومائة سنة نعده حكما دينيا قرّره جريان العمل وتغيير الأحكام الدينية لا يستسهل به ولا تخرج فتاوى علمائنا عما جرى عليه عمل المسلمين‘‘
كما أن المؤرخ يلاحظ العديد من المواقف التي ميّزت تلك الفترة فهناك رفض لمسألة الإلزام بإدخال طبيب بالإضافة إلى ذلك يشترط أن يكون مسلما وهم أقلاء وبالتالي فإنّ الشهادة الوفاة يمكن أن ’’يعطيها إياه غاسله‘‘ كما نجد ضرورة تعجيل الدفن حسب ما ورد في حديث نبوي ’’عجلوا بموتاكم‘‘.

أما بخصوص التشريح فقد جاء في العريضة ’’شريعتنا جاءت بأن كلّ ما لا يليق بالميت في حال حياته لا يفعل به بعد مماته، وفي الحديث (كسر عظم الميت ككسره حيا) وذلك من احترام الشرع للهيكل البشري، حتّى أن التشريح في الطبّ الإسلامي الذي تلقاه منا غيرنا لم يكن منقولا إلاّ عن جالينوس ومن على شاكلته من المشرحين فكيف يصح لنا أن نعرض شخصا للتشريح وإيقاع هذا المحرّم بين المسلمين من غير نكير يوجب إثم جميعهم. وإذا كانت أعمال المجالس البلدية مسندة إلى الرئيس كما هو نص فصول تراتيبها فلعلّ مسؤولية من وقع عليه التشريح تتوجه على الرئيس من جهة شريعته أو بلاده ومرجو المسلمين صدور أمر عليّ لكافة المجالس البلدية بمنع تعاطي تشريح مسلم ومسلمة‘‘. ومن النتائج التي آلت إليها النازلة التونسية تغيير ’’جميع مهمات أحكام الأموات وصارت إلى ما هو الوجه الشرعي وإبطال مباشرة الطبيب الذي يخشى منه التشريح بالاكتفاء بالغاسلين‘‘

وفي هذا الصدد أشار أحمد بن ميلاد إلى نفس هذا الموضوع وبيّن كيف أنّ العرب ’’غفلوا عن أهميّة التشريح وأعرضوا عنه لسبب تافه: ألا وهو احترام الميت اعتقادا منهم أن ممارسة جثّة الموتى حكمها التحريم. وذهب بعضهم إلى احترام القبور وعدم إزالتها حتى للمصلحة العامة ذات الصبغة الاجتماعية. وفي اعتقادهم أن القبر حبس على صاحبه لا يباع ولا يزال‘‘  ولم يجد الكاتب تبريرا لهذا الاعتقاد الشعبي الذي ’’لا يتماشى مع أصول الدين الإسلامي وناموس الحياة الاجتماعية والرقي البشري. وأنّ الشريعة مبنية على مصلحة العباد. ومن الغريب أن هذه العقيدة التي تدعو إلى احترام الميت والقبور لم تزل راسخة في العقول إلى يومنا.

كما إنّ التلقيح بالدم الذي لم ينكر أحد مزاياه قد استوجب فتوى في العمل به سنة 1952 من قبل شيخ الإسلام عبد العزيز جعيط. أمّا التشريح فلم يزل موكولا إلى موافقة أولياء الميت. وأحيانا يمكث المريض بالمستشفى أياما وشهورا وتنفق عليه أموال ويتعب من أجله رجال من غير جدوى في اكتشاف مرضه ويودع إلى القبر هدية للحشرات والخنفوس من غير أن يعرف العلماء سبب مرضه‘‘
ومن بين الوقائع التي ذكرها الكاتب أنّه في ’’سنة 1904 شرّح طبيب بمستشفى صفاقس ميتا لاكتشاف مرضه فحدث غضب أهالي البلد ولما تقدم وفد من المواطنين برئاسة محمد السنوسي إلى الوزير الأكبر العزيز بوعتور للحصول على رغبات شعبية أثاروا مشكلة التشريح فأجابهم الوزير على رغبتهم بالإلغاء‘‘.

وعلى إثر هذا الجدل صدر قانون مؤرخ في ’’19 جويلية 1951 بإمكان أخذ عضو أو جزء من الميت إذا اقتضت المصلحة لفائدة العلم أو العلاج، ويجب أن يتولى تحقيق الوفاة طبيبان من أطباء المستشفى فيوقعان معا على محضر الوفاة ويسجلان تاريخ النقل وساعته‘‘.

كما أشار الطاهر الحداد متحدّثا عن وضع المرأة الحامل ’’هناك آلام قاسية ومحفوفة بالأخطار أخصت بها المرأة هي الأوجاع الدورية للحوامل عند الوضع فمن فقرنا ونقص أقواتنا ورداءة مساكننا تتحمل المرأة بانحباسها وبطء حركتها آلام الموت دون أن تجد العلاج المخفّف للواقع والميسّر للوضع إلاّ من قابلاتنا المتمرنات على تجاريب الجاهلات من قبلهن. وكثيرا ما تذهب الحوامل مع حملهن ضحية هذا الجهل بعد عناء عذاب الموت على يد هؤلاء القابلات اللاتي لا يعرفن جدا لعملهن. ومع ذلك فهن يستنجدن عند الشدّة مع نسوة البيت ببركات الأولياء والصالحين يهتفن بأسمائهم في أفواه الصهاريج والآبار تيسيرا لوضع الحمل بسلام. لا يمرّ اليوم والليلة حتّى نسمع بفاجعة من هذا القبيل تنضم لفواجعنا الأخرى لتقطع من أوصالنا وتبيد منا الحياة وقد كنا قبلا نفضل أن تموت نساؤنا في البيوت بين يدي قابلاتنا غير المثقفات على أن نأتي لهن بطبيب أو نذهب بهن إلى المستشفيات. وهذا عين ما تتمسك به النساء أيضا حتّى من تكون منهن بين آلام الوضع وفي أقصاه‘‘.

فمن هنا تبرز أهمية حضور القيّم والدين في تحديد المواقف تجاه الموت والموتى وأن الأمر اتخذ بعدا سياسيا وأدى إلى الدفاع عن اختيارات المجتمع في خصوص نظرته للجثّة وأن الأمر لم يكن مجرد قضية طبية وبيولوجية وإنّما هي بالأساس قضيّة أخلاقية.

كلّ هذه الأحداث لها من الدلالة ما يشير إلى المقاومة التي تجدها الاجتهادات العلميّة إذ أن المجتمع يجد نفسه أمام متخيّل حيّ وموروث نفسي يدفع به نحو حماية طقوسه ومعتقداته حتّى إن كانت خاطئة. فلا شكّ أنّ هذا يحدث تراكما من الأفكار والتصورات تشكلّ المخيال الجماعي حول الموت.
ولم تتوقف التشريعات التي تقتضيها المصلحة، إذ عرفت تونس قوانين في مرحلتها المعاصرة من أبرزها ’’مجلة الأحوال الشخصية‘‘ التي كان هدفها إحداث تغيير في الممارسات المتصلة بالأسرة، وهذه المجلة ’’تتجاوز كونها مجرّد مجلة قانونية لأنّها تصوّر سياسي للعائلة والمرأة وتجذير لقيم جديدة تلغي القيم التقليديّة‘‘ لأنّ المجتمع ’’يملي التغيرات التشريعية لحاجته العميقة والمباشرة إليها‘‘.

والمتصفح للمجلة يجد أن أكبر قسم خصّص للرابطة الزوجية، ولكن الموت لم يخصّص له إلاّ حيّز يتمثّل في القانون المدني للوفاة أو قضيّة الإرث والزواج بعد موت أحد الزوجين. ولقد ترك المشرّع المجال واسعا لتبقى العائلة تمارس عاداتها في علاقتها بالميت، لكن سَيُفْرَدُ في ما بعد قانون خاص لمسألة الدفن وقانون خاص بزرع الأعضاء البشريّة والتبرّع بها (قانون عدد 22 لسنة 1991 مؤرخ في 25 مارس 1991) وكذلك (قانون عدد 18 لسنة 1999 مؤرخ في 1 مارس 1999 بخصوص بطاقة التعريف الوطنية ) (قانون عدد 19 لسنة 1999 مؤرخ في 1 مارس 1999 بخصوص التعريف بالإمضاء). فوجدت العائلة نفسها مقيّدة قانونيا بعلاقات جديدة في الأسرة وكذلك في قطيعة تامة مع الإرث الذي كان يضبط تصرّفاتها. إلاّ أنّ القوانين التي ستمسّ الطقوس الجنائزيّة ظلت هي الأخرى في تطوّر.

ولئن مسّ التحديث الروابط الأسريّة وفرض نمطا من السلوك فإنّه وجد نفسه أمام قضايا مدنية وأخرى حضرية تفرض تطوير القوانين حتّى يحترم قوانين الدفن ولا يكون ذلك مخلاّ بنظام البيئة، وأصبحت المقابر ليست ملكا للعرش أو للقبيلة أو الوليّ بالمعنى الديني للكلمة وإنّما هي تابعة إداريا للبلدية. كما أنّ حمل الجثّة في الطريق العام أمر يخضع للترخيص المسبق كما أنّه محجر إذا كان مخلاّ بالأمن العام. وقد جعلت لذلك حافلة للدفن أو سيارة خاصة لنقل الأموات.

كان القانون التونسي ينصّ على أنّ الإنسان هو الذي له الحقّ في التصرف في جسده، ولا يحقّ لغيره التصرّف فيه حيّا أو ميتا، وهو يخصّ أيضا وارثيه بينما يحدّد القانون الجديد ـ نتيجة لتنقيحه ـ رغبة المتوفي في التبرع بأعضائه إثر الوفاة، مما يؤدي إلى تجاوز الصعوبات المتمثلة رفض ذوي المتوّفي أخذ أعضاء ميتهم إلاّ إذا قضت المحكمة بتشريح الجثّة عند الوفاة غير الطبيعية لكشف خطإ طبّي أو حادث أو جريمة معروضة أمام القضاء ومن هنا تطرح مسألة زرع الأعضاء قضايا متصلة بالبعد الاجتماعي وهي مندمجة ضمن الرؤى حول الموت والحياة وحرمة الجسد. وتوجد إلى ’’جانب ذلك مشكلات جوهريّة تتعلق بالتساؤل عن مدى ما يجب على الحكومة أن تتدخل فيه من أجل التنظيم والتخطيط لبحوث بيولوجية لها تأثير على مصير التراث الوراثي Patrimoine génétique للبشرية بأسرها‘‘.

فهل يمكن للعلم أن يجد مبرره في بيئة اجتماعية قد لا تكون بعد مؤهلة لذلك؟ وهو ما يدعو علم الاجتماع إلى الانكباب على هذه القضية والبحث في الأسباب الكامنة وراء ذلك. فالمسألة لها جذورها التاريخيّة من جهة إذ يأتي القانون ليغيّر السلوك نحو ما يهدف إليه المشرع. ويتدخل الإطار الطبّي من جهة أخرى لإقناع عائلة المتوفّى بالقيام بهذه العملية أو بعدم القيام بها.

IV / المواقف الاجتماعيّة تجاه التبرّع بالأعضاء:

إنّ التأثيرات التي مسّت تمثلات المجتمع التونسي وتصرفاته وممارساته الجنائزيّة  لم تقلّص من مستويات تدخل الدين في الحياة المدنية والتي أخذت بنتائج العلم ومفاهيم الحداثة بعين الاعتبار بل هي التي تحكمت في المواقف والممارسات.
ولكن من الضروري الإشارة هنا إلى بعض نتائج هذا التأثير: فمن مظاهره بداية حدوث  تفكّك في العلاقات الاجتماعية التقليدية تجاه الموت والموتى، ممّا أدى إلى إحداث فراغ في البنى الاجتماعية التقليدية مما سمح بوجود العديد من الظواهر الأخرى منها التعزيّة عبر الصحف التي توحي باللامبالاة. فتغيّر طرق ممارسة الطقوس يستدعي انتباه الباحث السوسيولوجي ويجعله يتساءل عن الثقافة التي يعبّر بها المجتمع عن تصرّفاته تجاه الموت. ويعتبر هذا التغيّر في دلالات الطقوس ومفاهيمها إحدى العلامات الدالة على تغيّر قيمي في المجتمع يتجسم في تفكيك الروابط الاجتماعية التقليدية وتضمينها بعدا مدنيا وهو ما يجعلها ذات بعد منفعي يصبغ السلوك الاجتماعي نحو الموت والموتى.
وانطلاقا من هذا المؤشر على التغيّر الذي نحاول اختباره من خلال دراسة أثر التغيّرات على القيم والطقوس والمعتقدات والذي لا يمكن أن يكون مجديا إلاّ من خلال اختيار مسألة من المسائل التي تشغل المجتمع مثل موضوع التبرّع بالأعضاء الذي هو موضوع مثير. نتساءل فكيف يمكن أن نفهم مدى التغيّر انطلاقا من دراسة الموت؟
وما تدلّ عليه من مواكبة التطوّرات التي بلغتها العلوم إنّ زرع الأعضاء والتبرّع بها وتشخيص علامات الموت وما تطرحها من قضايا القيم والأخلاق والمعايير الشرعية والدينية لتحفز على الاعتماد على نتائج الثورة البيولوجية العلميّة. ذلك أنّ علم الأخلاق l'Ethique يعتبر دراسة ’’علاقة النفس بالمحيط‘‘ لقد مكّنت الثورة البيولوجية الإنسان من القدرة على التحكّم في ثلاثة أشياء هي ’’التحكم في التناسل، والتحكم في الوراثة، والتحكم في النسق العصبي‘‘ ولهذا ساهم العلم في تغيير نظرة الإنسان للمرض وللموت رغم الصعوبات التي وجدها في بدايته نظرا لمشكلة العلاقة القائمة بين المسألة الأخلاقية والعلم  ’’نتيجة نزاع القيم الناجم عن تصادم وضعتين متعارضتين، أو على الأقل ظهور أهداف متناقضة‘‘ مما جعل نشأة علم الأخلاق بمثابة حارس للقيّم.

1 ـ المواقف من الموت والميت:

لئن كانت جنائز الدفن وطقوسها يعود فيها النظر إلى باب الجنائز بالمدونة الفقهيّة فإنّها أصبحت مرتبطة بالقوانين ذات الصبغة الطبيّة التي تشير إلى أنّ من يخالفها يعرض نفسه للعقوبة المالية والسجن. ويقرّ العلم الحديث بأن تعريف الموت يتمثّل في توقف الدماغ وهو الموت السريري الفعلي. كما أنّ تشخيص علامات الموت لا يعود إلى شيخ له خبرة في معرفته وإنّما وُكِّل الأمر إلى الطبيب الذي له ـ وحده ـ الحقّ في تسليم شهادته التي تعتبر ذات صلاحية قانونية. فلا يتمّ إثبات الوفاة النهائية إلاّ بقرار طبّي. كما أن الموت أصبح يتمّ في المستشفى تحت العناية المركّزة أكثر مما يتمّ في المنزل الذي كان يعتبر المكان المفضّل.

 ومقابل ذلك، ما تزال بعض الذهنيّات متواصلة الاشتغال حيث كان يقتصر تعريف الموت وتشخيصه على توقف القلب وانقطاع التنفس وانتهاء أجل الشخص بقدرة الله. كما نجد البعض يترك العنان لمخيلته للحديث عن الذين دفنوا رغم أنّهم أحياء وعن الذين ماتوا نتيجة خطإ طبّي وهذا يدلّ على عدم نضج المجتمع وعلى عدم تمثّل المعنى العلمي للموت وممّا يفسر لنا تواصل هذا الخوف من التعريف الاجتماعي للموت وكذلك فكرة المسارعة بالدفن من غير تشخيص الموت وهو ما يؤدي إلى رفض العائلة للتبرّع بالأعضاء بشكل يتم في اللاوعي الجماعي متغذّيا بالرموز والأفكار والمفاهيم التقليديّة  ويرتكز هذا الرفض على :

عدم قبول الموت الدماغي خاصة عند حادث المرور لتواصل هذه الذهنيّة وهذه التصوّرات التي أشرنا إليها سابقا.
ما هو ملاحظ من نقص المعلومات حول التقاليد في التعامل مع المحتضر أو المريض أو عائلته قد يؤدي في عدم معرفتها من الأطباء والممرضين وممّا يمكن أن ’’يجرح إحساس عائلة الميت‘‘. فالميت عليه أن يموت في المنزل بين أحضان أهله وما عدا ذلك فهو مثير للحيرة والقلق ومن هنا فإنّ علاقة الموت والمرض مثلت أكثر العلاقات أهميّة في المجتمع. ففي حالة الموت إثر مرض فإنّ الأفراد المحيطين بالمريض لا يجب أن يشعروا بتقصير أو إهمال من شأنهما أن يتسببا في موته. فهم لا يقتنعون بتشخيص الطبيب لأنّه يتناقض مع مكوّنات مخيالهم الاجتماعي حول معنى الموت.
يلاحظ أن بعض العائلات تسارع بإخراج مريضها الذي هو على مشارف الموت من المستشفى والعودة به إلى المنزل ليلفظ أنفاسه الأخيرة بين عائلته وأهله. وإذا ما نجحت العائلة في إخراجه فإنّها ستعتز وتفتخر فيقال ’’مات بين أهله‘‘ ولم يمت في عزلة في قسم الإنعاش. وإذا ما حدث موت شخص في المستشفى فإنّ أفراد العائلة يشعرون بالذنب لأنّها لم يعتنوا بمريضهم وتركوه مهملا.
حتّى وإن تمّ قبول تشخيص الموت فإنّنا نجد في المجتمع موقفين تجاه الميت : موقفا الخوف والخشية بحيث يسارع إلى دفنه، وموقفا يحاول دمجه في الحياة وتذكّره بحسب القيمة التي كانت له، ويشترط المجتمع في الغالب ذكر الأموات بخير في ذلك تنزيه عن الأحياء وتخليدا لصورتهم المثلى. وقد ظلّت هذه الظاهرة الاجتماعية ـ بما فيها من إلزام وضبط للسلوك تجاه الأموات ـ تُبقى للميت احترما أكثر مما كان له في حياته. ويتمّ التركيز خاصة على آخر اللحظات قبل موته: بم أوصى؟ كيف تنبّأ بموته؟ وما هي آخر أعماله؟ لهذا فإنّ الثقل المعنوي لا يسمح للعائلة أن تحدّد موقفا أثناء موت أحد أفرادها بالسماح بأخذ أعضائه وعادة ما نجد المحيطين بالعائلة هم الذين يضغطون عليها لاتخاذ هذا الموقف.
 
عدم تسليم عضو الفقيد العزيز عليهم. فلا يتحدّث المجتمع عن الموت بتجريد وإنّما يقوم بتحويل دلالته فيقال ’’الفقيد العزيز‘‘ ولا يذكر الميت بسوء. فالفرد الذي يموت لا يمكن استبداله بآخر. فإنّ الحزن لخسارته يكون بليغا، فالميت لا يمكن أن يعوضه أحد. ومما أدى إلى الوعي بالموت في بعده الاجتماعي. ذلك أن موت الذات الفردية لا تخلف مشكلا إلاّ عند موت الآخر المحبوب الذي تربطنا به علاقة مما يعني أن الموت هو موت شخص ينتمي إلى علاقات اجتماعية  ومن الصعب أن نجد اللامبالاة أو عدم الاكتراث من موت الآخر.
كما أن العائلة في ـ لحظة وفاة أحد أفرادها ـ تعيش لحظة الألم الأخلاقي Douleur morale  فعند الحالة العادية يتقلّص في بعض أسابيع أو أشهر وعندما ’’يكون عمل الحداد طبيعيا قد انتهى‘‘ أما في حالة التأثر فيكون هناك ’’اكتئاب حقيقي سوداوي‘‘ فيصعب ’’التمييز في بداية الردود العادية بين الحالة السويّة والحالة المرضية‘‘

لهذا يمكن القول إنّ الموت يظلّ مندمجا في ما يعيشه التونسي في مختلف مظاهر حياته وأنّ الطقوس الجنائزية لها دور خلافا لما يراه البعض من سلبية فوضوية وعبثية للموت كما نلاحظ أن هناك إقرارا بالتجدّد الذي يتصوّره المجتمع للموت. فالحبّ الذي يربط الأحياء بالميت لا يجعل موته مجرد عملية حسابية يمكن أن يعوّض بأي شخص آخر وهو ما يؤكد أن الميت ـ بوصفه شخصا يُمكّن لنفسه حضورا بعد موته ـ لأنّه الوحيد في فرادته ويستحيل تعويضه ويصبح تصوّر المجتمع عن أنّ الموت نفسه ’’ما هو إلاّ إنسان ميت‘‘

2 ـ المواقف من التبرّع من الأعضاء البشريّة:

إن الموقف السائد في تونس من مسألة ’’التبرّع بالأعضاء‘‘ يظلّ رهين طريقة تمثّل المجتمع للموت ذلك أنّه اُعتيد أن يتهيأ المريض المشرف على الموت فيجتمع الأهل والأقرباء والأصدقاء حوله لتوديعه الوداع الأخير وتذكيره بالشهادة فيكون الموت في البيت وليس في المستشفى ثمّ يكفّن ويدفن على أمل البعث والخلود مما يعني تعويضا له عما فاته في الحياة. فكان ’’الموت درسا في كيفية تذوّق الحياة والأمل ومثالا عن الرحيل‘‘ لهذا فإن مسألة الموت لم تُطرح إلاّ بوصفها شأنا إلاهيّا لا يمكن التدّخل فيه. لكن نتيجة التغيّر الاجتماعي والاقتصادي والعلمي لم يعد الموت درسا أخلاقيا فحسب  ’’ففي أفضل الظروف يمكن للموت أن يخدم غرضا ذا نفع بتوفير الأعضاء أو أجزاء منها بدءا من قرينة العين إلى القلب، ومن الكليّ إلى الكبد لعمليات نقل الأعضاء متيحا لأولئك الذي حكم عليهم بالموت فرصة جديدة للحياة‘‘ لذلك يمكن القول إنّ الجثّة هي حدث اجتماعي يُضمّن من خلاله حقّ الفرد والجماعة كما أنّه يمكّن حياة المجموعة من تجاوز الخطر إذا عرف كيف يستفاد منه في عمليّة زرع الأعضاء.

فالحساسيّة تجاه الجثّة والخوف من تأخير حضورها من المستشفى والحيرة والقلق من سلامتها ومصيرها هو الذي يثير فزع العائلة وانشغالاتها مما يضع مواقفها في القبول أو عدم القبول موضع إحراج وتردّد ولبس. فعادة رؤية الجثّة وتوديعها الوداع الأخير طقس اجتماعي لتثبيت شرعية الموت والتأكّد من الموت الطبيعي. أمّا عند ملاحظة آثار على الجثّة فإنّ ذلك يخلق الفزع لدى العائلة والحاضرين ولعلّ ما يفسّر ذلك هو أن العائلة لا تقبل أن يكون الموت مجانيّا إذ لا بدّ من القصاص ممن تسبب في ذلك نتيجة أحقاد كانت أو عداوة أو اعتداء وبالتالي تتحوّل الوفاة إلى قضية. والملاحظ أن أغلبيّة الذين يتجمعون للتعزيّة يكثرون من الحديث عن اللحظات الأخيرة التي عاشها الميت بصفة مبالغ فيها ولافتة للنظر، ويرتكز الحديث عن مصير الجثّة كما تعاد على الحاضرين آخر أعماله ووصاياه وكلامه والتنبؤ بموته. فالجثّة هنا ما هي إلاّ ’’حضور لمن هو غائب رمز لموجود يمكن أن يكون محبوبا بعمق و أنّه غادرنا‘‘

وهذا يعكس الإحساس اللاّشعوري الجماعي لمعرفة أسباب الموت وإعادة التوازن الاجتماعي حتّى وإن كان الموت نتيجة حادث سير عادي. فكلّما كان الموت غير عادي فإنّه يترك تأويلات عديدة وشكوكا مهما كانت المكانة الاجتماعيّة للميّت. فيكون الحديث أكثر حماسا وحبّ اطلاع فتتهاطل الأسئلة على أهل الميت وتصبح القضية لا قضية اجتماعية بل قضيّة عائلة. وما يدخل الإرباك هو التدخّل المجاني للمعزّين الذين يوتّرون الجوّ بتعليقاتهم ومما يشجع على عدم التبرع بالأعضاء خصوصا في حالة الصدمة على نفسيّة أفراد العائلة. ومن المخيال الجماعي تنبجس المواقف التي عادة ما ترد في شكلّ أمثال وأقوال مثل ’’روحي روحي، ولا يرحم اللي مات‘‘ و’’الدقّ في الجيفة حرام‘‘ و’’أهل الميت صبروا، والمعزين كفروا‘‘ و ’’الميت طوالوا ساقيه‘‘.

ونظرا لدور وسائل الإعلام فإنّها قد تنشر معلومات تفهم في غير مقاصدها وسياقها، كما أنّ بعض المواقف الهزليّة التي تبث في التلفاز عن موضوع بيع الأعضاء. تؤدي إلى إثارة الفزع والهلع في قلوب الناس وتكون مناسبات الاجتماع للتعزيّة مجالا لتخييل هذه المعلومات وحبّ الفضول ومن بينها المواضيع المتعلقة ببيع الأعضاء والمتاجرة بها كقطع غيار.

لقد تفجّر المفهوم التقليدي للموت، فبعد أن كان الإنسان يجد عزاءه في تسليم أمره لله أملا في طلب الخلود للميت في الآخرة نجده اليوم يعيش اضطرابا مرضيا في تعامله مع الموت والميت فلم يعد يراه بنفس الروح والنظرة بل إنّ الفراغ الذي تركته الطقوس جعل العائلة تتشبث بأتفه ما يكون وفي حفاظها على الجثّة كاملة دون السماح بالتبرع ببعض أعضائها وكأنّ ذلك إقرار بحسن النية والإيمان.  فالموت بهذا المعنى نزعت منه الإنسانية وأصبح كأنّه ’’سلسلة مسترسلة من اللامبالاة والنسيان والفناء والعدم ‘‘ هذا التحوّل في مستوى سلوك العائلي عرقل إنقاذ النفس البشرية من الموت وكأنّ نتائج العلم لا تسير وفق قدر الله وقضائه. فكيف يتمّ حرمان حيّ من أعضاء الميت؟، أليس ذلك أشدّ ضررا من مسّ حرمة الميت؟ ولكن هل الميت هو ملك لعائلته فقط أم هو ملك المصلحة العامة ومقاصد العلم والطبّ؟.

V / نحو نشر ثقافة التبرع بالأعضاء البشريّة:

إن العلوم ما انفكت تسعى إلى مسايرة الأحلام البشريّة في الخلود وطلب التمديد في أمل الحياة ومن بين وسائلها في ذلك زرع الأعضاء البشريّة، ولكن هذا المسعى يصطدم بمشكل التبرّع بالأعضاء من الأحياء والأموات. وهذه الظاهرة لا تخصّ البلاد التونسيّة فحسب بل تكاد تشمل كلّ بلدان العالم مما جعلها تمثل ’’قلقا في الحضارة‘‘ يبرز ذلك خاصة في التباعد بين قانون العرض والطلب مما يترجم أزمة تطرح السؤال عن الظروف التي تكون فيها هذه العملية شرعيّة وأخلاقية. كما أن التبرع بالأعضاء هو وسيلة من خلالها نهب الحياة للغير كما يمكن أن نعتبر التضامن هو الحلّ الذي يقينا من هذا القلق الحضاري. هكذا يتجه العلم والأخلاق نحو ذات الهدف والسؤال الأخلاقي لا يتمثل فحسب في ما يتأسس عليه عمل المؤسسة من ممارسات أخلاقية أصبحت مقننة وإنّما هو يتمثل في المعاني التي تمنحها هذه المؤسسة، فلم يعد الرهان كما هو سائد في السنوات الأخيرة رهان العلم وإنّما هو رهان الثقافة الذي علينا أن نضعه نصب الاهتمام.
ومهما كانت ردود الفعل تجاه هذه الأبحاث فلا يجب أن يثني ذلك العلماء من مواصلة اكتشافاتهم وعليهم تطوير وسائلهم للبحث عن حلول لتطوير أساليب زرع الأعضاء البشريّة والعمل على تقوية جهاز المناعة حتّى لا يرفض الجسم العضو المزروع، ولكن يجب أن يكتمل المجهود بتقوية المناعة النفسيّة أيضا لدى العائلة حتّى تقبّل بمبدأ التبرع من خلال تقوية آليات تصريف الألم النفسي والحزن من خلال الطقوس وثقافة مشجعة للتبرع ترسّخ قيم التضامن وتعطي مفهوما للموت يتماشى مع الشرع. وذلك يعني الملاءمة بين ما هو بيولوجي وما هو ثقافي. وانطلاقا من هذه المقاربة يمكن أن نقترح ما يلي:

· إن تحسّن الصّحة وزيادة أمل الحياة لمن أبرز الخصائص وأكثرها إثارة للإعجاب في عصرنا. فإنّ العلاقة بين العلم والطقوس والقيّم لا زالت توّفر للمجتمعات مجالا من التوازن النفسي. ذلك أنّ الموت هو المحور الذي تدار حوله الحياة ومهما تقدّم العلم فلن يقدر على القضاء عليه. وتظلّ الأبعاد الدينية من الطرق التي تفرض نفسها في رؤية الإنسان للموت.
· لا بدّ من ’’تعميق ثقافة زرع الأعضاء‘‘. وقد تكون أنجع وسيلة لبلوغ هذه الغاية إذ اعتمدنا تجميع أكثر عدد ممكن من السير الذاتيّة حول متبرعين أو مستفيدين من التبرّع، وهي عينات واقعيّة تمثّل حالة أو وضعيّة دالة تساهم في تحسيس الناس بطريقة غير مباشرة مع ضرورة ’’تضافر جهود مختلف الأطراف من هياكل معنية بزرع الأعضاء وأطباء وحقوقيين وأيمّة وعلماء النفس والاجتماع في إطار ورشة مختصّة من شأنها أن توفّر أرضيّة جديّة لعمل اتّصالي موفق‘‘.
· تدعيم الثقة بين المجتمع والإطار الصحّي والطبّي والوقوف بالمرصاد إلى كلّ  المعلومات التي تروج عن سوء فهم أو تشيع أخبارا زائفة عن التبرّع بالأعضاء أو عن بيعها ويعني ذلك بالعمل على التحسيس بضرورة الإقدام على ما يخدم قوى الحياة لإنقاذ نفس بشرية من الموت. فالإطار الطبي وخاصة التقنيين والممرضين مطالبون بتطوير مواقفهم في عملهم من التبرّع بالأعضاء ليكونوا قدوة للمجتمع.
· كما لا يجب أن نركز على عدم التبرّع بالأعضاء عند القيام بحملات التحسس بل وجب أن نضع الحالات التي تمّ فيها التبرّع في دائرة الضوء لأنّها قد تقدم نموذجا للتضامن الذي هو رهان حقيقي لمجتمعنا باعتباره أهمّ قيمة إنسانية في الدستور التونسي من شأنّها أن تخلق تأثيرا جماعيا لأنّ القول بالفشل فيه عزوف من قبل المجتمع على التبرّع بالأعضاء.
·وإنّ العمل على التوعية والوقاية مما من شأنه أن يقلص نسبة المرض الذي تطلب زرع الأعضاء البشريّة أي وضع خطة لمقاومة أسباب التي تؤدي إلى أمراض العيون أو القصر الكلوي أو أمراض القلب والرئتين أي دعم السلوك الصحي بالاعتماد على السلامة البدنية والنفسية مما قد يصيب الإنسان مستقبلا. كلّ هذا يعتبر سببا من أسباب إنجاح قبول التبرّع بالأعضاء من قبل الشرائح الاجتماعيّة. كما يمكن الحديث عن الفائدة الاقتصاديّة من التبّرع إذ سيمكننا من تقليص استعمال طريقة تصفية الدم لأنّها مكلفة ماليا للفرد وللدولة معا خصوصا إذا كان المريض بعيدا عن مراكز تصفيّة الدم بالإضافة إلى الأتعاب التي يتكبدها المريض وأهله.
· من المفيد البحث عن الأقوال والأمثال العاميّة ودراستها حتّى نلامس مكوّنات المخيال الجماعي المشجع للتبرّع بالأعضاء مثل ’’هل يضر سلخ الشاة بعد ذبها‘‘ أو عند القول ’’الإنسان مآلوا الدود والتراب‘‘ أو ’’أصبح جثّة هامدة‘‘ كما يجيز المجتمع في بعض الحالات الخطيرة بعض الممارسات مثل شق بطن الحامل لاستخراج جنين ترجى حياته أو ميت ابتلع جوهرة فيمكن شق بطنه لإرجاعها. أو طرح قضايا الجثث المفقودة في البحر أو التي لم يبق منها إلاّ أجزاء فموقف الشرع من دفنها.
· فعلينا أن نفهم المسألة القانونيّة للتبرّع بأنّها ليست في تعارض مع المسألة الاجتماعية فهي تأخذ بمبدإ الحرمة الجسديّة التي أقرّها الدستور وتلتزم بالشروط الأخلاقية ولا تدع طموحات العلماء والأطباء تنحرف لتخترق المقدّس والخصوصي في المجتمع فهي إذن تبحث عن ’’توازن منسجم بين الفرد والعلم والمجتمع‘‘ إذ بإمكان إنسان اليوم أن ’’يغيّر الإنسان نفسه‘‘ ولكن يجب العمل على إبراز أن العلم يعمل في إطار إرادة الله وقدرته فإنقاذ نفس بشرية ليس معناه أن العلم تدخل في أجل الميت وإنّ الله هو الذي قدر إنقاذه بتلك الطريقة العلميّة فالكلّ يحدث في علم الله وقدرته وقضائه
· إن قبول الأحياء بمبدإ التبرّع من شأنه أن يمثل أكبر ضمانا للمستقبل بتطوير أساليب العلاج والتخفيف من اْلآلام وتحقيق السعادة فالأخذ من أعضاء الميت هو أفضل بكثير من الالتجاء إلى الأحياء فالرحمة أولى بالأحياء منها بالأموات.
خاتــمــــة :
إنّ هذه الدراسة لا تدعي الإحاطة بكل جوانب الموضوع بقدر ما هي محاولة واجتهاد لفهم مواقف المجتمع وتفسيرها ضمن مقاربة سوسيولوجية مفتوحة لقضية التبرّع بالأعضاء، كما أنّنا ننبه إلى أن المعلومات التي نوردها لم ترد من مختص في العلوم الطبيّة وإنّما هي نتيجة اِطلاع مكثّف حول الموضوع من زوايا نظر مختلفة، وبالتالي فإنّها تحتاج ككلّ دراسة إلى الجدل والنقد، وهما الكفيلان بتطوير نتائجها وتجاوز نقائصها.

الحبيب النّهدي
دكتور في علم الاجتماع

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟