".. وإنما يستبدع ذلك ممّن زجّى عمره راتعاً في مائدتهم تلك ثمّ لم يقْوَ أنْ يتنبّه."[1]

فاتحة

   قُلنا في بداية هذه السّلسلة من المقالات أنّها مُخصّصة لاستعمال محمد العمري للبلاغيّين العرب القدامى في كتاب "المحاضرة والمناظرة"، الّذي ألّفه للدّفاع عن البلاغة ومناقشة كتاب "التبالغ والتبالغية" لرشيد يحياوي، وقد دفعنا اختلاط ما قاله فيه عن السّكاكي إلى مراجعة كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" علّنا نعثر فيه على بعض ما يساعد على فكّ ذلك الاختلاط وإظهار مبرّرات الأحكام المرسلة. لكنّنا وجدنا فيه، عكس ما توخّيناه، إسقاطا وتعسّفا وتزويرا لا يمكن أنْ يبرّر بالاختيار القرائي غير التّوثيقي[2]: صنّف السّكاكي "مختصراً"[3] لقّبه بـ"مفتاح العلوم"، وحدّد في مقدّمته مقاصده وفسّرها، وعيّن أنواع العلم الواجب الاعتماد عليها والاستمداد منها، وبيّن الْكَيْفيّة الّتي ينبغي أن تتراتب بها تلك الأنواع وتترابط بما يجعلها نسقا نافعا لعموم المهتمّين بالأدب في زمانه، وبرّر كلّ ذلك تبريرا علميّا كافيّا لا يخفى على المنصف، واحتاط بأنْ خاطب قارئه قائلا له إنّ "الاستعمال بيدك"[4]؛ بيد أنّ العمري يَكْفُر كلَّ ذلك، ويتورّط  في الإتيان بآراء غريبة وأحكام متعسّفة وتَقوّلات غاية في الفحاشة، بدا معها صاحب المفتاح متهافتا، ومختزلا، ومحكّماً للنّحو والمنطق في البلاغة!. وقد ناقشنا بعض ذلك، وظهر لنا أنّ العمري ساقه بدون تحقيق، وحشر في كلامه آراء متفاوتة ينفي بعضها بعضا ويقع جلّها بعيداً عن بنية المفتاح ومقاصده.. لهذا نعود إلى كتاب "المحاضرة والمناظرة " الّذي نخصّص له هذه السّلسة من المقالات لمناقشة "محاضرته" الّتي يجعل من طوائف مخاطَبيه فيها الطلبة والتّلاميذ[5]!  

  • الجرجاني والسّكاكي مؤسّسان ومختزلان:

   يقول العمري: «بدأت عملية اختزال البلاغة العربية مع الجرجاني نفسه، ثم خَطتْ خطوةً واسعةً مع السكاكي، وبلغت نهايتها مع القزويني وباقي الشراح والملخصين. ولا لوم على أحد منهم، فقد استجابوا جميعا لحاجيات عصرهم وأسئلته، واستثمروا إمكانياته. بل يمكن شكر المتأخرين منهم على إيواء البلاغة في لحظات احتضارها كما آوتها الكنيسة في أوروبا بعد ذهاب شبابها اليوناني واللاتيني. سنبدأ من البداية ونسير مع عملية الاختزال خطوة خطوة إلى العصر الحاضر[6] «.

   قلتُ: يكفي أن تعرف أنّ العمري يرى، مثل آخرين كثيرين، أنّ عبد القاهر الجرجاني " هو المؤسّس الحقيقي للبلاغة العربية"[7]، وتعرف أنّه يرى، وحدَه هذه المرّة، وكما هو واضحٌ في هذا المقتطف، أنّ عبد القاهر الجرجاني  نفسه هو أوّل من اختزل تلك البلاغة لتتأكّد من تنكّبه عن سبل الضّبط والتّحقيق في "المحاضرة والمناظرة". ففي الرّأي الّذي لا يقيم للمعرفة – بلهَ العلم- وزنا يمكنك دائما أن تقول إنّ الجرجاني أسّس البلاغة واختزلها، وتبرّر التّنافي بالقول إنّ ذلك الاختزال إنّما هو اختزالٌ منهاجي يمكن أن يؤيّد أو يعارض، دون أن تكلِّف نفسك بأن تسأل: إذا كان هو المؤسّس، فبالقياس إلى ماذا يمكن اعتبار عمله مختزلا؟ ومادام اختزاله اختزالا منهاجيّا، فكيف يمكن أنْ يُؤيّد أو يُعارض؟ لا يجب أن نكلّف أنفسنا السّؤال لأنّ كلّ ذلك سائغ في المحادثات التي يتحكّم فيها الهوى والرّأي بعيدا عن واجب التّفكير في تحقيق القول والتّدليل عليه: يتحدّث بعض المهتمين بالبلاغة من المعاصرين عن "البلاغة العامّة"، وفي مرحلة ما قبل الجرجاني كان هناك الكثير ممّن تناولوا،  من زوايا مختلفة، جوانب ومسائل أدخلها الباحثون في مرحلة ما بعد السّكاكي في التّخصص الّذي لقّبه بعضُ المتأخّرين بالبلاغة، لذا، فإنّ الجرجاني حتّى وإنْ كان هو "المؤسّس الحقيقي للبلاغة" بالنّسبة للعمري، فإنّه مع ذلك هو الّذي اختزلها- ولا تستغرب!- لأنّه لم يجعلها عامّة بجمع كل ما كان منتشرا قبله!. نعم تجمّعت عنده كلّ الرّوافد، ولكنّه قلّل من قيمة الموازنات!! طيّب، ماذا لو جعلتَ "بلاغة" الجرجاني تتوسّع لتشمل "فصاحة" ابن سنان وغير ابن سنان أكانت البلاغة ستصير عامّة تماثل ريطوريقا أرسطو التي كانت نصب عين جيرار جنيت وغيره ممّن اقتفوا أثره وتحدّثوا عن البلاغة العامة والبلاغة المختزلة من الغربيّين؟ وعلى فرض أنّها ماثلتها أو فاقتها من حيث "المساحة" أكانت تسدّ مسدّ هذا النّموذج الكلّي الّذي يطمح إليه المختصّون زمننا هذا دون أن يقدر أحد على ادّعاء أنّه بناه على الوجه الّذي ينشد؟ وهل هناك إمكانية أصلا لإنشاء ذلك النّموذج الكلّي؟ وماذا لو كان ما يتحدّث عنه العمري بهذه الطّريقة الّتي تجمع الإسقاط والتّخبّط والوثوقيّة لا يوجد إلا في وهمه؟ كلّ ذلك لا يعني شيئا لصاحب "المحاضرة والمناظرة"؛ والمنطلق عنده متهافت: البلاغة العربية كانت عامّة قبل أن تتأسّس، وقد اختزلها المؤسِّس.  ما هو علم البلاغة الّذي اختزله الجرجاني؟ الجرجاني اختزل علم البلاغة الّذي لم يكن! أو كانت ظواهره ومباحثه تتبلور تدريجيّا في النّحو والتّفسير وعلم أصول الدّين وأصول الفقه والنّقد الأدبي والإعجاز!

تعرف تايسون الأيديولوجية الاستعمارية، أو الخطاب الاستعماري، على أنه اصطدام بين ثقافتين، ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر.  وترى أن ثقافة المستعمر تتميز بالفوقية، الهيمنة، التنوير والسيطرة؛ وتنظر إلى ثقافة الآخر كثقافة خاضعة ومنبوذة ومكروهة، فتصفها بالدونية، الخضوع والاستسلام، الجهل والضعف.

 فالثقافة المهيمنة هي المعقدة وغالبا ما تمتلك الإرث الثقافي العالمي، من وجهة نظر المستعمِر. أما عن المستعمرات، فهم يعرفون كوحوش مسلوبين من إنسانيتهم، بحاجة إلى مساعدة المستعمِر ليخلصهم من عاداتهم السيئة والمشينة. فالمعايير الأنجلو-أوروبية فقط هي الصحيحة، وكل ما تبقى من الحضارات، هو إما اتباع النهج العالمي الذي فرضه المستعمر، أو البقاء على هامش الحياة. بهذا، غالبا ما تمحى ثقافة الدول المستعمرة سابقا حتى بعد زوال الاستعمار، مما يؤدي إلى تزعزع القرار وفقدان الاتصال بالماضي والإرث الثقافي لهذه الحضارات المقهورة (419). وهنا تنشأ النزعة بين "الذات المتحضرة" و"الآخر المتخلف والمتوحش". هنا يجب أن نتطرق إلى مصطلح مهم وهو ال "E.U.R.O.C.E.N.T.R.I.S.M" الذي يقتضي تفوق المقاييس الأوروبية على سائر الثقافات. واحدة من مفرزات ال "eurocentrism"، والتي طبقت في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، هو ال"O.R.I.E.N.T.A.L.I.S.M" أو ما يسمى الاستشراق، مصطلح وطده إدوارد سعيد، حيث ينسب الغرب الصفات الحسنة إلى نفسه ويرمي بالسيئات على الآخر(420). إذا أنا "متحضر" فأنت حتما "متخلف".

 وكما ذكرت تايسون، رعايا الاستعمار تعلموا منذ الطفولة أن الأخلاقيات الصحيحة تتمثل بالمستعمر؛ بهذا، فهو ينال السلطة العليا، ويجعل المستعمر يفقد الثقة بنفسه ويؤمن بدونيته (421). يعاني المستعمر من ضياع وتشتت الذات، فهو يشعر بالغربة حتى في وطنه، لأنه، ببساطة، ضائع بين حضارة تشعره بالدونية وأخرى أيضا تشعره بالقهر والدونية.

يورد الناقد أوكافورفي قراءته في رواية ((أشياء تتداعى)) للكاتب الإفريقي تشنوا أتشيبي: ((تدور أحداث ((أشياء تتداعى)) في إغبولاند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا في طور الاستعمار. وليس فقط مدينة إيغبولاند وكذلك الأراضي الإفريقية الأخرى المخصصة لها في مؤتمر برلين 1884-1885)) (67 – 68).  ولفهم تصرفات "أوكونكوو"(الشخصية الرئيسية)، علينا أولا فهم كوزمولوجيا مدينة إيغبولاند وعاداتها وتقاليدها، حتى نعرف كيفية تفاعل "أوكونكوو" مع البيئة المحيطة وكيف تؤثر بدورها فيه. على عكس ما ينص عليه الخطاب الاستعماري، فإن مجتمع الإيغبو قائم على ((المساواة)) وضد أي شيء يقترب من ((القوى الاستبدادية))، ويوجد مثل شعبي يدل على هذا: ((الإيغبو ليس لديهم ملوك)) (أوكافور، 68). فهم ليسوا مجتمعات بربرية، قائمة على القتل والسلب، بل لديهم ديمقراطية. مثل أي مجتمع آخر، لديهم آلهة وكهنة، والأهم من هذا كله، هو أنه يجب على البشر السير وفق القواعد والقوانين، ويجب على الفرد، إذا قام باختراق الأطر والمحرمات الاجتماعية، أن يكفر عن ذنوبه  )أوكافور، 69).

"والنّظر العدلُ المُنزِّل للأشياء منازلَها، والمُوَفّيها حقوقَها، موجِبٌ ألّا يُشاحّ في التّغيير والأسامي أصلًا ولا بِوَجهٍ من الوجوه مع قيام المعاني وتصوّر جوهريّاتِها وطبائعِها، فقِدْماً جرت العادة في الصّناعة النّظرية: الوصيّةُ للناظر وتحذيرُه أن يلهجَ بالألفاظ ويقفَ تصورَه عليها ويجعلَها نفسَ الأمرِ المنظور فيه.."[1].

فاتحة:

   قبلَ مناقشة ما كتبه محمد العمري عن "مفتاح العلوم" في كتابه "المحاضرة والمناظرة"، أدعو القارئ إلى وقفة وجيزة عند ما قاله عنه في كتابه" البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها " لعلّ ذلك يُقرّبنا من الأساس الّذي بنى عليه أحكامه في كتاب "المحاضرة" الّذي خصّصه، كما لا يخفى، لمناجزة زميله في التّخصّص. ومعلومٌ أنّ العمري يعلن في كتاب "البلاغة العربية.." أنّه ينطلق، من بين شعارات أخرى، من همّ شمولي نسقيّ[2]. ونحن وإنْ كنّا لا نقصد إلى تتبّع مدى وفائه لهذا المنطلق، فإنّ الواجب يفرض أن ننظر في ضوئه لما قاله عن المفتاح. وسنلتزم في ما سنناقشه من ذلك بالاحتكام إلى ما يرتبط بمنطلقاته التّصوّريّة وبمبادئه ومقاصده نفسها؛ وسنعمل على تحرير المفتاح من قبضة الأحكام غير المبرّرة علميّا، بمنهج يقوم على الاختلاف ولا يسعى إلى حشر المفتاح وغيره في تصوّر ضيّق بمنطق التّوحيد القسري الّذي يضاد العلم ويصادمه. وليس بخافٍ، على مَنْ لهُ فضل تمييز، أن التّصوّرات الضّيّقة  إنّما تنتج، في الغالب، عن قبليّات تَفْلت من حيّز الرّؤية والنّظر.

1 . تغيير انتماء الكتاب:

   وَأوّل ما يَجْبَه به العمري القارئ في المبحث الأوّل من الفصل الرّابع من القسم الثّاني هذا العنوان: "من علم الأدب إلى البلاغة". وهو عنوان يُعْلِن بوضوح ما ستدور عليه الفقرات المسطّرة تحته ممّا يمكن أنْ نختصره في كون المفتاح انطلق من البحث عن علم للأدب وانتهى إلى أنّ ذلك العلم هو البلاغة. وفي هذه الدّعوى المغسولة من الحقّ تنصّل مما قرّره هو نفسه في مكان آخر:  ففي سياق الدّفاع عن انتماء "منهاج" حازم إلى البلاغة يقول العمري إنّ  «صاحبه أصر على الاسم، وعرف البلاغة تعريفا يعطيها القيمة التي يريدها لعمله: العلم الكلي؛ أي أنها ليست بلاغة جزئية مما هو معروف، فلا يحق لغيره أن يغير انتماء الكتاب[3]«. أمّا في ما يتعلّق به هو، فإنّه لا يكتفي بتغيير انتماء المفتاح فحسب، بل إنّه يتصرّف في مقدّمته وفي بنيته ويعتبر العنوان نفسه أوّل شاهد على أنّ صاحبه لم يقصد، في البداية، إلى التّأليف في البلاغة؛ ويبتدع قصّة تكوُّن المفتاح، مشدّدا على ما يزعم أنّه تردّد وعدم احتراز وانتباه متأخّر إلى أنّ العلم الّذي كان يبحث عنه إنّما هو البلاغة بعينها. ونحن لا نقول إنّ العمري بدّل انتماء المفتاح لأنّ صاحبه ألّفه في "علم الأدب" وأصرّ على ذلك وأنّ العمري اعتبر "علم الأدب" مساويا للبلاغة -وهو ما يفهم من بعض السيّاقات كما سنظهره في حينه- فلا مشاحّة في الأسماء؛ بل نقوله لأنّ العمري يدّعي أنّ السّكاكي قام برحلة بحث عن علمٍ للأدب، فجاس خلال علوم كثيرة ولم يصل إلى أرض البلاغة إلّا في النّهاية! وهذا قولٌ لا صلةَ له ببنية كتاب المفتاح وبمقاصد صاحبه وبسيّاق تأليفه.

إضاءة :
كان هنا الى وقت قريب، يؤنس وحشتنا برهافة حسه الفكاهي، وسخريته اللاذعة أحيانا. وهو حين يحدثك، يجذبك بطرافة ما كان يرويه من ذكرياته المعتقة، هو الذي بارك الله في عمره الزمني، وباعد بينه وبين ثلة من أصفيائه ورفقائه الذين طواهم الزمن وعبروا الى الضفة الأخرى.
وبمجرد ما يستهويه الحديث عنهم تراه يستل من جيبه علبة ذاك المسحوق الأخضر الذي يسويه على طول إبهامه مستنشقا ما يحبل به من رائحة تزكم أنوفنا نحن المتحلقين حوله، متلهفين سماع أحاديثه ومستملحاته ورواياته العابقة بالأمثال والدروس والسير للذين ساروا بأرجلهم الحافية على الطرق المسنونة، يكتشفون أسرار الخلق وغياهب المشيئة.
نسيت دمي عندهم بوح شعري لعصارة نفس تواقة للانغماس في الهموم القومية الذبيحة، الممزوجة بالأوجاع الذاتية الناشدة لمن تحررها مما يطوقها من أحزان ومكابدة في الزمن العربي العاقر الموشوم بالخيبات والأزمات والهزائم. وفيما يلي قراءة لما تحبل به القصائد المبثوثة في هذا الديوان.
1- الهم القومي الذابح :
يبدو الشاعر مهووسا بزرع بذور الانتساب الى الهوية العربية. هو الذي ينتمي الى الرعيل الأول ممن خاض غمار استنبات البراعم التي ستتفتق في تربة مغرب ما بعد الاستقلال بحكم انتمائه إلى الأسرة التربوية. وهو بانغماسه المتواصل هذا في أداء وظيفته، لم يتسنى له أن يعكف على ما كانت تمور به نفسه الإبداعية من قصائد كان يحلو له أن يبوح بها لمن تحلق حوله من أصدقائه ورفاقه المقربين، وينشرها لعامة القراء. أما ديوانه هذا، فكان سيعرف نفس المصير لولا تكفل اتحاد كتاب العرب بطبعه في عمان لما كان الشاعر منغمسا في أداء دوره في هذا الاتحاد، وذلك بالمساهمة في أنشطته ومشاركته في اللقاءات والندوات الفكرية والأدبية بحكم عضويته التي كانت مستمرة كأحد ممثلي اتحاد كتاب المغرب بفرع العاصمة الاسماعيلية، مدينة : مكناس.
وقد جثم الهم القومي على كيان الشاعر لزمن ليس باليسير. وقد احتلت القضية الفلسطينية مركز هذا الاهتمام كمعادل لهذا الهم القومي الذي قض مضجع الشاعر. يقول في قصيدته: " تعاويذ" :

الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط بالبُنيةِ الأخلاقية الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة ، ولُغَةُ العملِ الأدبي تَرتبط بِنَبْضِ الواقعِ اليَوْمِي ، والمشاعرُ الإنسانية نابعةٌ مِن تفاصيل الحياة ظاهريًّا وباطنيًّا ، والتَّعَمُّقُ في الطاقةِ الرمزية اللغوية إنَّما هو _ في الحقيقة _ تَعَمُّقٌ في مَكنوناتِ النَّفْسِ البشرية ، لأنَّ اللغةَ والإنسانَ هُمَا الحاملان للأدبِ والفَنِّ والفِكْرِ والمَعرفةِ ، ورُوحُ اللغةِ ورُوحُ الإنسانِ هُمَا القاعدتان اللتان تَقُوم عليهما العمليةُ الإبداعيةُ نَصًّا ومَعْنى .
والأدبُ هُوَ الابنُ الشَّرْعِيُّ للأخلاقِ ، واللغةُ هي الوريثةُ الشرعيةُ للحُلْمِ الإنساني . وإذا حَصَلَ صِرَاعٌ بَين الأدبِ والأخلاقِ ، فإنَّ الإبداعَ سَيُصبحُ شَبَحًا باهتًا بِلا سُلطةٍ ولا هُوِيَّة ، وإذا حَدَثَ صِدَامٌ بَيْن الفَنِّ والشُّعُورِ فَإنَّ اللغة سَتُصبحُ صَدى مَبحوحًا لا صَوْتًا هادرًا .
ولا يَخفَى أنَّ الشِّعْرَ هُوَ الفَنُّ الأكثرُ التصاقًا باللغةِ ، لأنَّه قائمٌ على التَّكثيفِ والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ والصُّوَرِ الجَمَالِيَّةِ المُدْهِشَةِ ، والشُّعُورِ الإنساني النَّبيل ، وإعادةِ تَشكيلِ الأشياءِ العاديَّة لِتُصبح مُبْهِرَةً ، وتَكثيرِ زَوايا الرُّؤية لتفاصيل الحياة لِتُصبح عوالم سِحْرِيَّة مِن الأحلامِ المُحَلِّقَةِ والذكرياتِ المُلَوَّنَةِ . وإذا خَسِرَ الشاعرُ لُغَتَه خَسِرَ هُوِيَّتَه ، وإذا فَقَدَ الشاعرُ شُعُورَه فَقَدَ إنسانيته .
ومِن أسوأ التناقضات بَين الحَالةِ الإبداعيَّةِ والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ ، التناقضُ الصارخُ في حياة الشاعر الأمريكي عِزرا باوند( 1885_1972)الذي يُعْتَبَر أحد أهَمِّ شخصيات حركة شِعْر الحداثة في الأدب العالمي في النِّصْفِ الأوَّلِ مِن القَرْنِ العِشرين، حتى إنَّ الشاعر الإنجليزي مِن أصلِ أمريكي تي إس إليوت أهدى إلَيه قصيدته " الأرض الخراب" ( أشهر قصيدة في القرن العِشرين ) باعتباره مُعَلِّمًا له ، وأبًا للحداثة الشِّعْرية الغربية، حيث قال : (( إلى عِزرا باوند الصانع الأمهر )) .

إنَّ النقد الثقافي لا يَعْني تحليلَ الأنساقِ الثقافيةِ الكامنةِ في النُّصُوصِ الأدبية فَحَسْب ، بَلْ يَعْني أيضًا تَفكيكَ الأفكارِ الفلسفية الراسخة في الصُّوَرِ الإبداعية الفَنِّية ، وإعادتها إلى أشكالها الأوَّلِيَّة في الواقعِ اليَوْمِي ، وإرجاعها إلى جُذورها الاجتماعية في الأحداث الحياتية . والثقافةُ لَيْسَتْ تَجميعًا للكَلِمَاتِ وتَنميقًا للعِبَاراتِ وتَزويقًا للدَّلالاتِ ، وإنَّما هي تَجسيدٌ للوَعْي الاجتماعي بَين مَا هُوَ كائن وَمَا يَنبغي أن يَكُون.وكُلُّ حالةٍ إبداعيةٍ تُمَثِّل اندماجًا بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ، مِمَّا يُسَاهِم في كَشْفِ جَوهرِ التاريخ شخصيًّا وجَمَاعِيًّا ، وإظهارِ تَحَوُّلاتِ الفِعْل الاجتماعي تاريخيًّا وحَضاريًّا ، وإبرازِ امتداداتِ سُلطةِ العملِ الأدبي أُفقيًّا وعَمُوديًّا .
والنقدُ الثقافي لَيْسَ مُوضةً عابرةً ، ولَمْ يَجِئْ مِن العَدَمِ ، ولا يَتَحَرَّك في الفراغ ، بَلْ هُوَ تَجربةٌ إنسانية مُتكاملة لها جُذور اجتماعية عميقة ، ومَصْدَرٌ أساسي للمَعرفةِ المُسْتَتِرَةِ في تفاصيل المُجتمع ، وإعادةُ إنتاج للعلاقات الاجتماعية كأدواتٍ لُغَوية لتفسيرِ المفاهيم المُسيطرة على الواقع اليَوْمِي ، وإعادةُ تَشكيل للتَّرَاتُبِيَّةِ الهَرَمِيَّة كَآلِيَّاتٍ ثقافية لتأويلِ الخِطَاب المُهيمِن على الأحداث الحياتية .
وإذا كانَ المُجتمع يَستمد سُلطته الاعتبارية مِن مَصادرِ المعرفة ، فَإنَّ النقد الثقافي يَستمد طاقته الرمزيةَ مِن جُذوره الاجتماعية . وإذا اندمجت السُّلطةُ الاعتباريةُ معَ الطاقةِ الرَّمزية ، فإنَّ مَرجعية اللغةِ سَوْفَ تَتَكَرَّس في الإبداعِ الأدبي وَالوَعْيِ الاجتماعي معًا ، ويُصبح جَسَدُ اللغةِ بَحْثًا دائمًا عَن المَعْنَى ، وتَجسيدًا مُستمرًّا للأنساقِ الثقافية القادرةِ على الجَمْعِ بَيْن المَركزي والهامشيِّ.

قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى' تنبض بعمق المشاعر الإنسانية، معبرةً عن رحلة الشاعر الداخلية وكفاحه مع الاغتراب والبحث عن الذات. في طياتها، تكشف القصيدة عن تجارب شخصية مليئة بالأحاسيس المعقدة التي تلامس جوهر الوجود الإنساني، معكسةً تساؤلات الشاعر حول الهوية والانتماء. الشاعر، في هذه القصيدة، لا يعيش الغربة في معناها المادي فحسب، بل يخوض غمار الاغتراب الوجودي، متأملاً ومتجولاً بين الأمكنة والأفكار بحثاً عن معنى أعمق للحياة ومكانته فيها. حتى وسط الزحام، يشعر بوحدة مؤثرة تدفعه للتفكير بعمق حول ماهية الذات والهوية الشخصية. يستخدم الشعر كأداة لاستكشاف أغوار نفسه، محاولاً فهم وتفسير أسئلته الوجودية من خلال قوة الكلمات والإيقاعات. وبهذه الرحلة، يتقاسم الشاعر معنا شعوره بالاغتراب، ليس فقط كمنفى جغرافي، بل كحالة ذاتية تتجسد في تجربته الشخصية. القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الوجود، الحب، الموت والفقد، داعية القارئ للتأمل في هذه المواضيع الجوهرية. استخدام الرموز والصور البيانية يضفي على النص غنى وتعقيداً، مانحاً القارئ فرصة لاستكشاف وتأويل العديد من الطبقات المعنوية. النهود في القصيدة تعدو أكثر من مجرد رمز للحياة والخصوبة؛ إنها تمثل الشوق للعيش والأمان. وبالمثل، ترمز الكتب إلى البحث عن المعرفة والحقيقة، معبرةً عن رغبة الشاعر في تعميق فهمه للعالم من حوله. في جوهرها، تعد هذه القصيدة دعوة للقراء للانخراط في رحلة تأملية حول معنى الحياة والوجود الإنساني، مشاركةً إياهم في استكشاف الأسئلة التي تراود النفس البشرية وتمس جوهرها.

في قلب قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى'، تنبض شوارع الحياة بكل تقلباتها وتعرجاتها، راسمة خارطة لرحلة الشاعر الشخصية في محاولة لفهم ذاته والعالم من حوله. هذه الشوارع ليست مجرد ممرات مادية، بل هي مسارات روحية تقود الشاعر في استكشافه الدائم لمعنى الوجود وهدفه في هذه الحياة. عبر الأبيات، ينسج الشاعر حكاية استكشافه للذات والعالم، مستخدمًا الرموز البليغة من نهود تمثل الحياة والكتب التي تعبر عن البحث عن المعرفة، إلى الشوارع التي تجسد رحلته المعقدة والمليئة بالتحديات. هذه الرموز تعكس صراع الشاعر الداخلي بين رغبته في الاستقرار وشغفه بالتجوال والاكتشاف، مقدمةً للقارئ تجربة غنية تثري الروح وتحرك العقل. في قلب القصيدة، يبرز الاحتجاج والتمرد كموضوعات رئيسية، حيث يعكسان التزام الشاعر بالتعبير عن رفضه للوضع الاجتماعي والسياسي الحالي. يتضح هذا الالتزام في دفاعه عن الطبقات المهمشة وتضامنه مع قضاياهم، مستنكرًا الفوارق الطبقية الصارخة التي تشق المجتمع. الشاعر لا يكتفي بمجرد عرض اعتراضاته، بل يدعو إلى الوعي والتفكير النقدي حول العدالة والمساواة، موجهًا انتقاداته للأنظمة التي تعزز الفجوات وتدعم الاستغلال. من خلال قصيدته، يرسم الشاعر مسارًا للتغيير، مؤكدًا على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن الرفض والمقاومة، ومشددًا على أهمية النضال من أجل مستقبل أفضل. في النهاية، تتجاوز القصيدة مجرد كونها عملاً أدبيًا لتصبح منبرًا للشاعر يعبر فيه عن رؤيته وأحلامه لعالم يسوده العدل والإنصاف، مقدمةً لنا جميعًا تأملات عميقة حول الإنسانية وتحدياتها.

رواية "صياد الغروب" هي رواية للكاتبة أم الزين بن شيخة المسكيني، وهي صادرة عن دار الأمينة للنشر والتوزيع، وتحتوي على 227 صفحة مقسمة على 33 لوحة، حيث تبدأ الرواية بترتيلة الوداع قبل أن يشرع السرد في إفراز إمكاناته، وممكناته السحرية، والشعرية، والغرائبية. ومن ثمة تنطلق الكتابة في التحرّر من سلطة الحكي والتخريف ليتم بذلك تفجير المعاني والدلالات، في غابة من السرد المكثف، الممزوج بالفلسفة، والشعر، والأدب. فالرواية هنا هي مادة متعددة الأصوات، كثيرة المناخات والعوالم، وهي عجينة سردية ولفت فيها الكاتبة كل إمكاناتها السحرية والشعرية، مقرة من خلال ذلك أن كل فرد بإمكانه كتابة سرديته وسيرته وقصته وأن أهميته تنبع من تلك القصص التي تشكل جسده.

لم يكن السرد في رواية "صياد الغروب" مجرد تقنية ذات وظيفة إخبارية وقصصية، فهو لا يأتي فقط لإخبارنا بالحكاية والقصة بقدر ما دفعته الكاتبة أم الزين بن شيخة إلى تجاوز الممكن فيه من أجل الإطلالة على مدرات الرعب، التي لا يوجد فيها غير العوالم والمناخات المتعددة وهي تتحرك بين مسطحات متنوعة اختلط فيها الفلسفي بالشعري والخيالي بالواقعي. تنزل علينا رواية "صياد الغروب" بوصفها مشروعا أدبيا يميز جسده ذاك التحول المستمر في طريقة سرد الخطاب، ففي كل مرة تباغتنا الكاتبة لتطل علينا من مكان وفضاء وموقع ما، فهي تترحل بنا بين الأمكنة والأفضية متتبعة شخصياتها وحكاياتهم، فتأخذنا تارة إلى رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" وذلك باستحضارها لشخصية "كوشمار" و"خازوق" قبل أن تعود بنا لجسد رواية "صياد الغروب".

تتجول بنا أم الزين بن شيخة في جو من الفنتازيا الحرّة التي يكون فيها الخيال هو تعبير بشكل ما عن الواقع، فنحن لسنا في عوالم واقعية بشخصياتها وأمكنتها وأحداثها، بقدر ما نحن إزاء مناخات ميتافيزيقية لا ترتبط بالواقع إلا عبر حكايات الشخصيات في الرواية، فالأشباح "هناك" لها قصتها "هنا" وقرينة ذلك وجود شخصية "فرح" بوصفها شبحا يلتقي شخصية أيوب كل يوم عند الشاطئ عندما يهم بالتقاط صور الغروب. معنى ذلك أن الكاتبة أرادت من خلال رواية "صياد الغروب" أن تخبرنا أنه بإمكاننا أن نتخيل ما لا يمكن تخيله، وما لا يمكن تجسيده أو كتابته، وأن الخيال هو سلاحنا الأوحد ضد قسوة الواقع ومأساته. فالرواية هي لحظة من لحظات انعتاق الخيال إلي حدوده القصوى. فالسرد يبدأ من حيث يبدأ الخيال في مباشرة تشكيل الصور، فالرواية تستدعي كل الأشياء الخارقة والماورائية من أجل تحريك لعبة السرد.