اعترافات دفتر - الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تبعته يوما. كان يمشى أمامي. شعر بأني أراقبه فلم يلتفت، لم يكن يهتم لوقع خطواتي التي دنت منه. بهيأته المديدة وشعره الأشعث المغبر لمحته يدلف إلى المقهى فتبعته. رأيته يجمع الأكواب ويسكب بقايا القهوة في إحداها ثم يشرع في التقاط أعقاب السجائر وينزوي في ركن معزول من المقهى الضاج دوما بالزبائن ثم يشرع في إشعال تلك الأعقاب الواحدة تلو الأخرى. كثيرة هي أثار كيِّ نار السجائر على معصميه وظهر كفه. لم يتعلم من الحياة دروسها مهما حاول أن يكون مجدّا في التعلم. ظل يراوح مكانه متأرجحا مثل بندول ساعة معلقة على جدار محطة هجرها المسافرون فلا يتوقف فيها القطار. لم يتقدم ولم يتأخر، حسبه أنه يحيا.
الوجه شاحب والعينان غائرتان والوجنتان بارزتان وعظام الكتفين ناتئة. أرسل شعر لحيته القليل وتركه دون تشذيب فتناثر فوق وجهه وقد غلب بياضه سواده. هدته الأيام وتغضّن جبينه. لم أعرفه عندما وقعت عليه عيناي. لم أره منذ زمن. كبر خلاله عقدين كاملين، وَخَطَ لشيب فوديه. تسمرتُ في مكاني أحدق فيه، أتملى ملامحه وقد فعلت فيها الأيام فعلها. لم يكن يراني، كان يقف قبالتي لكن عينيه كانتا تحدقان بعيدا، تتبعان خطى روحه الهائمة التي لا تعرف الاستقرار في مكان. ما يكاد يجلس حتى ينهض من جديد ويسير ينوء تحت كلكل من الهموم الثقال والخيبات المتعاقبة. أعرضت عنه الدنيا، صفعته بلا شفقة، كالت له الضربات الموجعة، أنشبت أنيابها الحادة في لحمه البض الطري حتى بلغت العظام. لم ترحم غربته ولا ضعفه، تجاهلت يتمه وعذابات السنين التي قاساها.

الإحساس بالفقد رهيب ومرعب والأنكى منه فقد الوالدين عندما نكون في أمس الحاجة إليهما. هكذا استقبلته الحياة يتيما فذًّا. لم يحس يوما بدفء حضن أم ولا حماه جناح أب. ضُرِبت عليه المسكنة منذ صرخ الصرخة الأولى وتدحرج زغلولا بلا ريش إلى هذه الدنيا. مدفوعا على الأبواب شبَّ تتقاذفه الليالي والأيام، تسلمه المواجع للمواجع. أضناه البحث عن مأوى آمن يلجأ إليه. محروما من اللجوء إلى حضن أمه فكواه برد البلاطات في المحطات وعلى عتبات المساجد وعلى أرصفة الطرقات. قشة ذرتها الرياح ولَهَتْ بها فتطايرت في الفضاء ورحلت بها من مكان إلى مكان. مضت به الحياة عبر دروب ملتوية ملغومة لا يدري متى ينفجر عليه أحد الألغام فيفتت جسده النحيل. ولج متاهات وعرة وخاض عباب يم متلاطمة أمواجه. لم يكن مهيأ لخوض كل هذه المعارك، لكنها الأقدار ساقته إلى ما لا يعرف من الدروب، وطوّحت به بين المدائن والمداشر يتنكب لقمة يسكت بها سغبه.

التقيته خلال ذلك المساء في المقهى. جلس حذوي صامتا، سكب فنجان القهوة المرة في جوفه دفعة واحدة، لم تُثِرْه مرارتها، تلمظ وحشر يده بين طيات أثوابه فسحب رزمة من الأوراق، نثرها فوق الطاولة وبدأ يرتبها مستأنسا بحروف وأرقام مكتوبة على الهامش السفلي من كل صفحة. ترك تلك الأوراق جانبا ونظر إليَّ مليا ثم أدخل يده من جديد بين طيات أثوابه فأخرج دفترا تآكلت أطرافه. سلمنيه دون أن ينبس بكلمة، ووقف غير مستأذن. تركني أغالب ارتباكي. ناديته فلم يلتفت. غاب وسط الجموع، وظل أثر رائحة سيجارته يعبق في المكان. احتواه الشارع الطويل الممتد الضاج بالحركة فتلاشت كلماتي وراءه وجرفتها الأصوات الكثيرة المتداخلة.
دفعني الفضول إلى تصفح الدفتر. "عجيب أمر هذه الحياة التي تقودنا إلى دروب ملغومة وتضعنا في مواجهة مصائر مجهولة. تزج بنا في أتونها المتأجج، وترمينا في فوهة براكينها الثائرة دائما. تُلْهب الأوجاع أقدارنا، لكن سياطها لا تزيدنا سوى إيمانا بذواتنا". بهذه الكلمات صدّر أولى صفحات ذلك الدفتر. تجاسرتُ أكثر وتوغلت بين تلك الرسوم والكلمات المتناثرة التي حبّرت الصفحات. نُتف من أبيات شعر، جمل مبتورة، علامات استفهام وتعجب هنا وهناك موضوعة كما اتفق في غير مواضعها، حروف متناثرة في الزوايا وعلى الهوامش وأخرى تتوسط بعض الصفحات...رأيت في كل ذلك نفسا مشتتة وحياة مبعثرة وأياما متناثرة.
شدتني إحدى الصفحات، كانت دموعه مبثوثة في حروفها متلبسة بكلماته، وتداخلت أيامه ولياليه بين سطورها. أربكني أن تصبح الدموع مِدادا وأن تصير المواجع كلمات وأن تتحول صفحة دفتر إلى مراح ضاج بالآهات المكتومة. أردت أن أقرأه، لكنني أعرضت، نهرت رغبتي في التجسس عليه عبر كوة اعترافاته. ليته لم يمض فيحدثني حديث الإلف لإلفه. روائح متداخلة ومختلطة فاحت من تلك الصفحات، رائحة نساء وخمر وعفن وسجون وأقبية وزنازين وملوحة بحار وزنوخة موانئ...سم مبثوث في كل حرف، وأنياب متربصة في كل عبارة. أنّى حولتُ عيني تناثرت أسراره، تحقيقات واتهامات، محاكمات بلا محامين. القضاة وحدهم يصدرون أحكامهم ثم ينسحبون إلى قاعاتهم يرفلون في أزيائهم السوداء الموشاة بياقات بيضاء ناصعة غير مكترثين بصرخات المحكومين.
كل هذا وأكثر عاشه المسكين وحيدا. واجه الموت مرارا وحزّت معصميه الأصفادُ. تيبست أطرافه في ليالي السجون الموحلة. شارك في المظاهرات ورأى زخات الرصاص تتطاير فوق الرؤوس، وشاهد بعضها يخترق الأجساد. أصابته مرة رصاصة مرتدة بعد أن ارتطمت بجدار كان يجري حذوه. تكوم في مكانه حتى شارف على الموت. آلمه الجرح فأطفأ فيه عقب السيجارة ثم سكب فوقه بعض الكحول من قارورة كانت في جيبه. فكر في الذهاب إلى المستشفى. تذكر العيون المتربصة بكل الجرحى الوافدين. كانت سيارات البوليس لهم بالمرصاد، تُقلهم إلى مستشفيات أرحب وأوسع حيث لا تُسمع الصرخات. هناك تعالج الجراح بمزيد من الجراح. صبر على أذاه. تحمل الألم وحرارة الجسم وكوابيس الليل. تماسك حتى شُفيَ الجرح، لكن الشظية تركت ندبة لم تُزلها الأيام. صارت نيشانا يتباهى به، نصّبته قائدا على المتظاهرين. هو يعلم أن لا شيء سيخسره، لا أم ستبكيه ولا أب سيتألم لألمه ولا أخ سيتوه بين مكاتب المحامين ليُنقذوه. وحده كان يواجه مصيره. قطعة حبل جرى بها الماء وحملها من بلد إلى بلد وحين عافها لفظها على ضفة مهجورة غير آهلة.
هكذا مضى به العمر تسلمه متاهة إلى متاهة.
اقتفيت أثره، بين كلمات دفتره، ها هو يتقدم المتظاهرين الثائرين الغاضبين. رأيته عندما لعلع الرصاص يواجهه بصدره العاري. يرفع الشعارات بصوت يتردد صداه في كل مكان، في الشوارع الفسيحة وفي المقاهي وفي الحانات وفي المعاهد وبين أسوار الجامعات، حتى غيابات السجون اخترقها ذلك الصوت الصادح الهادر "خبز حرية كرامة وطنية". وهكذا صار أيقونة.
عندما هدأت الزوبعة أوقفوه في الصفوف الأمامية، علموه كيف يقف بثبات وكيف يتكلم بطلاقة. اعتنوا به، لقّنوه الخطب الرنانة. ألبسوه أثوابا جديدة. أعشت بصره الأضواء وبهرته آلات التصوير. حينها تذكّر أسود الزبد ذاك المدفوع على الأبواب يقتات على نوى التمر وكيف صار بين عشية وضحاها زعيما للعيارين والشطار ببغداد.
لكن لا هو أسود الزبد، ولا بلاده بغداد، ولا شعبه العيارون والشطار. هو اليوم أشبه بدون كيشوط يصارع طواحين الهواء ويخوض بطولات وهمية ويحقق انتصارات مزعومة. يقنع نفسه بأنه بطل حقيقي. هو الآن يجدف وحده في بحار ناضبة، ويرسم أفاقا بلا حدود ويرحل نحوها.
هو اليوم بقايا بشر تفضحه الكلمات. لم يكن الميدان الذي خاض فيه غمار المعارك ميدانه، ولا الزمان كان زمانه، وكانت قوانين اللعبة عسيرة على فهمه فلم يُتقن اللعب. وعندما عنَّ له أن ينسحب ألبسوه التهم، لوّثوا تاريخه المجيد الحافل بندبة شظية رآها نيشانا ذهبيا يوشح كتفيه. طمسوا معالم القصر الذي شيده. نصبوا له المشانق في كل ساحة وصلبوه مسمرا على أخشاب متصالبة. جردوه من يتمه ومن غربته حتى صار الآن بلا هوية.
كانت صفحات الدفتر ضاجة بالاعترافات والدموع. رأيت فيها الخيبات تتالى، وسمعت أصوات أنين ونواح. وأخبرتني عن الجحود والحقد والكره، وأن الحياة تمعن في تعذيب مريديها، فإذا قدمت لهم بيمناها زهرة، فإن يسراها تكون قد أنبتت شوكا.
أغلقت الدفتر. حدقت في الوجوه الواجمة أمامي فرأيت العيون تبحلق في الفراغ راسمة حدود عجزها وضعفها.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟