ثمرة شجرة الذاكرة النسيان – قصة: الحبيب النهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إلى جذعيّ النوراني بقريتي أصله ثابتا وفرعه في السماء.

استهلال

''أحيانا الجنون قناع يخفي مقدرة معرفيّة، أكثر يقينا'' نيتشه
أحمد وتلحق باسمه غالبا كلمة بذيئة مسيئة يُكَنَّى بها، يُطْلقها الأنذال الذين لا يكتفون بالتنابز بالألقاب بل يتمادون في إلقاء الكلام على عنانه في سبّك حكايات عنه. مثل هؤلاء لا يدركون أو هم يتجاهلون بأن ذلك نميمة ممقوتة. أليس من حقّ أي كائن أن يتمتع بحرمة وكرامة حاضرا كان أم غائبا؟.

عرفته، غريب الأطوار، محملا بالأسرار، أرى على وجهه ترتسم علامات هموم توحي بمعاني أعظم من الفصاحة نفسها وقد تفهم منها حكمة ضائعة عن كدحه. هو لا يفصح عنها لأنّ الوجود أبهته ويراها الساذج كأنها هي أقصى بلاهته.

رأيتُ شعره اشتعل بياضا وثيابه بالية رثة لا يبالي بالمارين ولا بهذه الحركة العقلانية في ظاهرها والتي في باطنها خداع. تتربص لفعل الشرّ. لكنه لا يبالي بحركة صخب الحياة وضجيجها ولم يغيّر من وضعه كأنّما هو وفيّ لمبدأ تحقير الوجود والموجودات. بحيث أنّه لا يتوانى بأنّ يجعل الذين من حواليه يقولون عنه أنّه مختل العقل تنتابه حالات من الهوس فكان يخيل لهم أنّه يتلوى كالأفعى ويراقص السراب. وتضعه المقادير دوما في مأزق.

أمّا بالنسبة إليّ فإنّه كُلما وقف أمامي برهة صامتا أعطيه إن كان بحوزتي ما يكفي لاقتناء سقائره المفضلة، وكم حاولت في كلّ مرّة أن استبدل الصورة التي كونتها من أقوال الناس بالصورة التي أراها فيه.

الأمر ليس هيّنا في مجتمع يتفق على تقليد بعضه في الضلال لهذا كلفت أن أكشف عن خفايا حياته وعن أسرار صمته الدائم وانطوائه، فعلمت ما جهله الناس. عنه

سأحاول أن أُوكّد لكم دون ريب ولا تردّد أنّه لم يكن مجرد كتلة هامدة فارغة من معانى وإنّما هو مثل كلّ شخص مهما صغر فإنّه يحمل ما به يكون، وله ككل كائن قصّة تفسّره .ولكن يحصل كما يحصل لكلّ كائن أن يجنّ لأنه يئس من وجود الحلّ ويرى حينها بأن الحياة لا تستحق إلاّ أن يعيشها بالخيبة والمرارة. وهذا ما اعتقده جازما فما حصل لأحمد كان كمن انتهى فعله واستقال للراحة وأنهى إنجازه لحياته وهو يتأهب للرحيل في صمت ودون ضجّة فكان المطلق فيه أقاصي التعالي.هربا من بغي الناس وجبروتهم. وفي الوضع الذي هو فيه هل يقدر أي إنسان مثله أن يموت مرتين وأن يكون مبدعا مرتين؟ أليس في ذلك إلاّ استحالة الفعل وضمور القول؟

هكذا بدأت قصتي مع أحمد قصة جَمْعت فيها قواي لأرصده وهو يعيش كما هو يريد لا كما يريد له غيره أنها قصة تعبر عن حالة بائسة تنطوي على ألم دفين رجل لا يريد أن يكون إلا رجلا أو الغياب أفضل. قصّة قد بدأت بأن كلفت نفسي أن أفهمه دون أن أواجهه لأنّي أفضل أن يبقى كما هو فلعلّ سعادته في صمته المطلق وان كلّ شيء خارج تخيلاته تعكير لصفوة حياته أوليست السعادة إلا ما يتصورها الشخص نفسه والبقايا جحيم؟

جئت القرية مسلحا بجرأة السؤال وخرق الصمت دخلت أسواقها بمجهر يكبّر لي كلّ بذور مدفونة  أن تأملتها وجدت باطنها ألما وظاهرها عبثيّة وفوضى وكان أحمد القصّة المنسّية في تاريخ الحيّ سأحدثكم عن فرحي وأنا أتلقف معلومات عنه إذ قد بدأت الحديث معه إثر حدث بسيط لم يقل فيه كلمة ولكني فهمت منه الكثير كان منشدّا إلى المجهول، تائها وهائما لا يقوى على شيء، ولا إلى ما يوحي بأنّه يفكر ولكني كنت ألاحظ في كلّ ذلك عكس ما كان يراه الناس كنت أحدس معانى تجبرني على التمعن والتفكير والتركيز عم يخفيه.

صادف في اليوم من الأيام ولهيب الشمس تكسر الفخار أن صبت عليه نقطة عرق واحدة أن رأيته يتمشى كالعادة مكبوب الراس ورأيت في كفي يداه وكأنّه ماسكا بظلال يستبرد بها.

في بدء اللقاء قلت في قرارة نفسي سيكون أمري معه مختلفا ناديته:

-"أحمد"

 لأنّه كان ينفعل ويتجلّى جنونه عندما نقول له ''ع'' فكأنّما هذه الكلمة كالرصاصة تفتت هدوءه

-" أحمد تسمح أن أخذ لك صورة" تبسم كأنّما استعاد ثقته في نفسه وقال

-"لا تنس أن تسلمني إيّاها" ثمّ وقف معتدلا في وضعه استقامة فيها عزم ولما انتهيت من أخذ الصورة تردّد في قول شيء ما أحسست كأنّه يريد أن يحادثني تقدم وتأخر حرّك شفتيه ثمّ غادرني وكأنه كان يرفض أن أرى دموعا في عينيه ولم أكن اعرف ما حلّ به ولماذا فرّ منّي ولكن سأحاول لأختبر فراستي في فهم أمره.

ألست كما كنت أريد أن أكون محلّلا نفسيا بالتالي كنت أتصيد أي فرصة لأتدربّ على قراءة أفكار الناس عن بعد من خلال ملامحهم؟ أليست هذه الحالة قابلة للفحص؟ من أدراكم أنّي عشت بحلم كبير في واقع اكبر في التخريب أن أصبح مبريء الجراح النفسية أفتح فيها عيادة ماجنية للذين يعانون آلام الروح.

في مساء ذلك اليوم شاهدت حمرة مغيب وذهلت من قصّة أحمد التي قد تفجر معادن هذا الليل الذي سيجثم علينا بعد برهة.فلقد أحسست حينها أنّ مجرد الحديث معه كان اعترافا به، وأن هذا الحدث أيقظ روحه وأعاد له الثقة في النفس ففي ابتسامته التي فاجأني بها أكثر من معنى. وإنّي انطلاقا من ذلك اليوم أصبح يضبط معي موعدا لأسلمه الصورة وفهمت لماذا اراد أن يعتدل في وقفته لأنّه يريد استقامة القامة ويريد نفسه جميلا محترما لتوثقه الصورة على أحسن وجه.

تأكّدوا أيّها الناس كم هو مفيد الاعتراف وكم هو ضروري التواصل والاندماج مع الناس وكم من حركة بسيطة تحرّك نفسا متعبة والاعتراف بالبشر علاج للأمراض النفسية ودفع معنوي لليائسين من حياة أجبر عليها وليست الحياة في ذاتها. فبعد ان اخذت له الصورة كنت قد تابعته وهو يتثاقل إلى الأرض حتّى إذا وصل إلى المقهى اتخذ مكانا قصيّا وتصوّرت أنّه تاه في حلم يقظة يتلذّذ ويستمع به وسنقل لكم ما يمكن أن يتقوله وما حدسه في تلك اللحظة:

-"صورة لي! ألهذا الحدّ أصبحت أثير الانتباه... لا ......الأمر فيه حسابات .....من قال .......أنّه يريد أن يبيع صورتي لوسائل الإعلام بثمن باهظ.... خبر قد انتشر يسري سيلان الدم في الشرايين.. ولكن هل أنا رجل خطير أو هل أنا رجل مهمّ؟ هل لديّ بطولات؟ ولكن هل أنا الآن تحت الأنظار؟ ماذا سأقول للصحافة أن سألوني ماذا قدمت للبشريّة؟ سأحدثهم عن حكمة الصمت والسخريّة من الحياة وتعطل كلّ فعل. ولكن هذه فلسفة إنسان مهزوم تتمثلها كائنات بشريّة؟ لا سأصارحهم بالحقيقة سأروي قصتي المنسيّة للعالم وستداولها الصحف ووكالات الأنباء. هل لهذه الدرجة أنا رجل مهم؟ ولكن لن أقول كلّ شيء لأظلّ في غموضي ويظلّوا في حيرتهم من أمري. وهم سبب انكساري وسبب جحيمي."

وبعد أن تفرست صمته وتجلّى هذا القول ايحاء إليه سمعته يضحك ضحكات متتاليّة ثمّ انكب على نفسه وعاد إلى الانطواء ورددت في نفسي حينئذ وقد تمالكت أن أمسك به وقد فرّ منّي وعندما نظرت رأيته بأنّه قد أسرع الخطوات لعلّ اعترافي به سيأخذه للحنين إلى حبّ الحياة من جديد. وسأجني منه كنزا ثمينا.

  • "ستظل أيّها الإنسان تخفي أسرار معانيك حتّى اعتقدها البعض في أوهاما''

هكذا انشددت للمشهد محاولا تفكيك دلالاته وإذا احبي بحذوي أيقظني من حلم في حلم أحرجني فيها وأصر معرفة سبب ذهولي ولا مبالاتي به حتى أني لم أسلم عليه كعادتي وقال :

-"مالك تائه"؟

واستغليت المناسبة وأردت أن اصارحه حقيقة بأمري لأني أثق في أقوله وهو ذلك "الجربي" المهاجر الذي يخفي أهلنا أسرارهم عنده لأنه غريب من مصلحته أن يحافظ عن ود الناس له :

-"أريد أن أعرف قصّة هذا الرجل".

تبسم ثمّ قال :

-"...إنّه غريب الأطوار أتذكّر ما قصّه عليّ رجال ثقاة عاشوا معه: لقد كان شابا وسيما فخورا بنفسه قويّا يعمل في شركة السكك الحديديّة. كان ناجحا في عمله طموحا مثقفا أحبّ فتاة ابنة معمر فرنسي كانت تجاورهم وكانت جميلة إلى حدّ الفتنة وقد فتنته أحبّها إلى حدّ الموت وكان يكتب رسائل إليها بالعربية ثم يطلب من صديق ترجمتها بالفرنسيّة كان يضمنها إعجابه وحبّه لها وكان كلّ يوم يمرّ إلاّ وازداد عشقا حتّى أصبح يعتقد أنّها الحياة كلّها وعميت بصيرته فلا يرى إلاّ إيّاها.

ومن سوء حظه لما يلعب لعب الحريق أن عائلتها قررت مغادرة البلاد بعد اقرار اجلاء الفرنسيين وانقطعت أخبار الفتاة إلى الأبد. وهنا تحوّل حبّه إلى خيبة ثمّ غياب عن الحضور ثمّ جنون وأصبح يهذي لنفسه والناس لم يتركوه في راحة بل وضعوه محور اهتمامهم وأطلقوا عليه تسميّات كثيرة فتلحقه الشتيمة والقذف أينما حلّ ففضل الانعزال عن العمل وها هو كما ترى لا نقص ولا زاد عن الصمت والانطواء ولا يعرفون الناس عنه قصته المنسيّة والتي لن يقدر أن يعبر إلاّ هو عنها وهكذا اختار الحلّ فقذائف الناس لا ترحم ولكن كان يمكن لهم أن يتفهمونه ويرحمونه عوض أن يدمرونه فالصدمة كانت أقوى منه

وسكت صاحبي عند هذا الحدّ ولكني لن أسكت. بعد أن عرفت بعدها من صاحبي بعضا من حقيقة أحمد وتأكدّت أن كلّ إنسان قد نظلمه إذا حكمنا عليه بغير ما يصرّح هو بنفسه

  • أحمد وصدمة الصورة

"مدينة خرّبتني معانيها وفتحت سجل طفولتي، هنا نبتتي أينعت ولكن لم تكن ثمرتها إلاّ الصمت الذي هو لغة الحنين والذكريات"

هكذا بدأ أحمد حديثه، وأنهاه.

هو كتوم حتّى تخاله أبكم أو فقد الحسّ لا هو بالوديع ولا العنيف ورغم ذلك صبرت على صمته ولم آته إلاّ بما وعدته به وهي الصورة التي أخذتها له. ولقد قلت لكم إنّه سكت ولكني لم أسكت سأحاول أن أحرّك ذاكرته وأجعله يسرّح خياله فكما حاولت أن أحوّل صمته إلى رضى عن النفس وانبساط وابتسامة سأحوّل جنونه إلى عقل يستعيد به مجده وأهمّ ما جعلني أظفر منه بصيد وفير هو ما مدّني به من ورقات مكتوبة بخطّ يده وكم كنت متلهفا لمعرفة أسرارها. أمّا هو فقد انشدّ بصره إلى الصورة وتبسّم فخلته سيكتفي بذلك لكي أردف قائلا بصوت منخفض كأنّما يقول لي لا يذهب في ظنك أنّي لا يتكلم :

-"أهذا الوجه ليس لي."

كأنّها صدمته الصورة فظلّ ينظر إلى لباسه وشعره وعيناه وإلى تقاسيم الوجه ماذا عساه الآن يردّد في قرارة نفسه. هل أعادت هذه الصورة تاريخ ذاته وجسده ففرح بها؟ ما أجمل انعكاس الذات على مرآة الذات؟ أليس ذلك استعادة لنرجسيّة مفقودة؟ الأكيد وحسب ما فهمت أن له سنوات لم ينظر إلى نفسه في المرآة ورأيته يمسح بيده على لحيته الكثيفة وهنا نطق كأنّما صدمة الصورة أيقظت فيه قوّة الكلام وحرّرت صوته، وهكذا هي العودة إلى الذات وعي بما فيها وتأمّل في تبدلاتها.

آه أيّتها الأيام! كم أنت قاسية إلى هذا الحدّ فلا أستطيع أن أتحمل هذا التبدل في الجسد! فماذا أنجزت في حياتي ليتجعد وجهي؟ ولكن نظري مازال بصيرا ثاقبا. لقد انتهيت وأنهيت وجودي ثمّ سلمني كومة من أوراق قديمة ورثة ومبعثرة وقال:

-"في هذه الورقات والمدونات التي كتبتها من فوهة بركان ذاتي وانفجاراتها الليلية الطويلة".

وما إن سكت حتّى رأيته يفرّ من أمامي ويدخل الغياب ولكني لم أسكت ولن أسكت سأحدّث عن أحمد وأرجّكم.

هل لهذه الدرجة كانت صدمة الصورة عنيفة؟ ألم ير في الصمت قوّته؟

لقد عكرت عليه حياته بهذه الصورة اللعينة ما أفظع مكاشفة النفس! كان يتصوّر أنّه مازال شابا في روحه وفي أحلامه وكان في استغناء على أن ير تجعّدات الوجه وبياض الشعر بحيث يمر الزمن بلا ثقل ولا حيرة.

وهكذا في كلّ مرة أثير فيه ألما. واقتنع أن الصمت أفضل له. فالصورة فتحت جروحا في ذاكرته وأثارت فيه شجنا يحزّ في نفسه، كما لو كانت انفعالاته ضدّ شخص آخر كان يريد أن يواجهه. شخص غريب عنه وهذه ازدواجيّة خطيرة في روحه انشطار الوعي والوهم، صدمة الصورة، صدمة حقيقة الزمن، وجع الروح، ماض يخرج من ترسبات الزمن.

وهنا سارعت في معرفة ما تحتويه هذه الورقات وما تحمله من أسرار كانت رزم من المخطوطات المكتوبة بخط اليدّ ملفوفة في ما ظهر منها في الملف كتب عليه ‘‘قسم أول من مذكرات أحمد’’ وتحت هذه العبارة كتب بخطّ أعمق وأوضح قصة حبكت أطوارها في مدينة يعود تاريخها إلى ‘‘أواسط القرن الخامس قبل الميلاد عندما شرعت قرطاج في استغلال المناطق الداخلية بإفريقية في مشروعات فلاحية اسمها الحقيقي فينيقي الأصل ‘‘أرادي Aradi" وخلافا لهذه الحقيقة التاريخيّة تعجبني الأسطورة المتداولة أنّها اسم غادة جميلة أو اسم عين صافية أو ليس تاريخيا سوى بحثي عن أنثى جميلة.

وما كلّ هذا إلاّ محاولة للغوص في عمق الحياة. لهذا يهمني أن أضيف أن الأحداث التي عشتها في هذه المدينة هي استحضار لتاريخ موغل في القدم أليس ذلك يمثل اللاوعي الجماعي الذي يتمثله كلّ شخص ينتمي إلى مدينة ما؟

هذا الكرّاس تجدون فيه كلّ اعترافاتي وربما ما سكتت عنه يفسرني أكثر ممّا كتبته.

لكنني عندما عاينت الورقات وجدتها مبعثرة ولا رابط بينها. لقد كانت غير منظمة وفضلت أن أقدمها لكم كما هي فنظامها لا يستقيم إلاّ بما نظمه أحمد بجنونه وحيرته وألمه الدفين لعلّ كلمة منه تكشف لنا عن سرّ من أسراره والحياة أو ربما تتضمن رموزا في حاجة للتأويل.

سأدع أحمد يتحدّث سيروي لكم قصته مع العصفور الذي هرب من الحياة إلى الموت وكنت أعتقد أنّه سيروي قصّة حبّه لعلّ ذلك في القسم الثاني أو لعلّ الورقات تبعثرت كحياته فاختل النظام كما هو داخل عقله. المهمّ سأترك كلماته تقوله عوضا أن أقوله، كان ممّا كتبه:

-"كنت أنوي العودة إلى البيت ولكن الظلّ امتصنّي. كانت ظلال أشجار الزيتون مغريّة فكلما ابتعدت عنها خطوة أحسست بلهيب الشمس يشقّ جلدي حتّى العظم. كنت أنوي العودة ولكن ما بنفسي قوّة أقنعت نفسي بضرورة البقاء ففي الطبيعة نزداد هدوء وقد امتد نظري إلى الأفق وإذا بروج السماء قد انشقت على بقايا سحب كابدت حرارة الشمس وتشبثت بقرارها على الرسوخ لعله خيّل إليّ أنّها السحب والمهم هو ما علمتني إياه. أن أثبت على ما يحقق ذاتي فلقد تعودنا أن تصنع منا الأساطير والأوهام أبطالا أقوياء وأن المغامرة تصنع سعادة الروح وفيها لذّة الاكتشاف والبحث عن االأسرار.

سكون عميق طوقني فلا طير ولا مارّة ولا حركة فالكلّ انشد للظل. ولقد وجدت متسعا من الوقت لأبحث بين أغصان الأشجار عن طير أخذه الإعياء وأتعبه العطش أو أدهشه الحرّ ففرّ إلى الشجرة ولكن لماذا أترصّد العصافير؟ ألتمضية الوقت؟ فقد نجد من الناس من يروم أن يعبث بالأشياء ويتلهى ولكن هذه النزعة لم تكن عندي ولكن كنت أعرف في الوادي عينا أحمل لها كل عصفور أعثر عليه يتخبط من الموت عطشا واحتراقا.

كنت أريد أن أرى العصافير تسبح في الماء تطير تشبعني بحريتها أريد أن أملأ السماء عصافير وبرقا ورعودا وما أن قربت من الشجرة وأخذت العصفور ارتدت ذاتي وارتعشت والعصفور كالميت وضعته أرضا وأسرعت الحجارة أقذفها على الحيّة التي ترصدت به. فما زلت ألقى عليها غضبي حتّى نفذ مني العزم وتوانى وأيقنت أنّها اختفت ثمّ أخذت العصفور وأنا به مستعجل لعلّي أبلغ إلى العين ولما بلغتها بللت الطير بالماء فاسترخى كالطين وتركته بحريّة ليشرب فاستنهض ثمّ طار قليلا فبقيت أترصده فإذا هو جمرة من نار لم أجد تفسيرا لذلك ربما مجرد خداع بصر. وامتدّ نظري إلى أفلاك السماء وأدراجها فإذا السحب كأنّما وحي كلمات ''من يقبض على حريته كأنّما يقبض على الجمر'' وهكذا أفقت على رذاذ مطر خفيف كان عصارة حرارة هذا اليوم ولم أعلم هل كان ذلك حلما أم حقيقة أم استعارة لجرح في الروح ويح عصفوري الضائع كانت حبيبتي ".

هكذا فتحت فيّ كتابات أحمد أسرار صمته وتشوقت أكثر لأتصفح بقية ورقات الروح وذكريات موغلة في كيان اللغة والصمت.

  • أحمد وفيض الذكريّات

مولعا بمتابعة أحمد أترصد حضوره  عن قرب أو عن بعد.في الليل أو في نهار

علمتُ في ليلة من الليالي أن أحمد تسلل دون استئذان لحفلة زفاف فذهبت لأستطلع الأمر.

كان أحمد قمر تلك الليلة فلقد أدخل البهجة على الحاضرين فلم يتوقف عن الرقص إلاّ إذا توقف الطبل. كنت ألحظه وهو يتلوى ويدور ويقوم بحركات تثير الضحك وتسمع صرخات الإعجاب. فأثار الانتباه وكان مركزا عليه رغم أن الساحة امتلأت بالراقصين والراقصات.

رأيت رقصات أحمد كانت حركة نفس قويّة تسعى أن تتخلص مما أثقلها من أتعاب اكتشفت سرّ قوّته وقد تملكني إحساس غريب، فذهب في خيالي وكأنّ النّجوم تراقصه، هكذا رأيته، وكان للزّغاريد أن أيقظت فيه طفولته البريئة، فهو ربما كان يشتهي أن يكون عرسه أو يشتهي أن يموت واقفا شهيدا على قصته.

آه أيّها الرجل لقد قذفت نواياهم بالعبثية.فقمت بعملية تمويهية ولا تتهم بأنّك كنت معارضا للنظام القمعي.

وعندما هفت النغم هتف الحاضرون باسم ‘‘ع’’ ولم يلحقوها هذه المرة بالكلمة القذرة المحطة لكرامته مثلما تعودوا فما كان من أحمد إلاّ أن قام بحركة غريبة ردّا على هذا الاسم الذي يثيره ويحطمه إذ لوّح بيده بما يخلّ بالحياء متجها إلى مصدر الأصوات ورأيت صاحب الحفل يهدئ من غضبه ولم يلمه ولام الهاتفين بكنيته وهل يلام المجنون على فعله؟ وسمعت أقوالا ردّدها الحضور حذوي.

-"ع" رغم جنونه أمتع الحاضرين بالفرحة لقد كان في عقله.

-حركاته كلها مثيرة ومخلّة بالحياء والحشمة ألم تر ذلك؟

-ولكن هذا ما أطربنا أنّه يعبر عن حاجيات نخجل أن نعبّر عنها وعبّر عنها فرأينا ذواتنا فيه.

وهنا رددت في قرارة نفسي

‘‘أيّها الناس أعلموا أنّ المناسبات لم يضعها المجتمع إلاّ ليجد فيها الإنسان متنفسا؟ وأهمّها الاحتفال ففيه تغني الأغنيات بما فيها من تلقائيّة وما يجوز في هذه المناسبة لا يجوز في الأيام العاديّة

فأحمد لم يأت غريبا كلنا في الأعراس ننحلّ في النشوة في الرقص والمشاكسة لا شيء يدعو للغرابة، هذه مناسبات للتفريج عن النفس راقبوا الأغنيات إنّها وسائل للخروج عن ضوابط المجموعة بما ترتضيه لأنّ ذلك ينتهي بانتهاء الحفل وإلى حدّ الآن لا أدري من فينا المجنون؟"

كان أحمد قمر الليلة فقد أضاء الجانب المخفيّ من وعينا الجرأة الرغبة في التخمّر بأغاني العشق.

رقصات أحمد قد محت صمته. كنت أرى فيها جرأة الجسد على إبراز حاجته للطرب وتماوجه على أنغام الطبل والمزمار.

هنا تأكدّت أنّه خرج من عزلته.

لقد قلت لكم إنّه الصمت ولكن أليس كتاباته لغة؟ أليست رقصاته أيضا لغة؟ أليست حركاته أبلغ من اللغة؟

لذلك عندما انتهى الحفل وبدأ الناس يتفرقون سارعت أتوّحد مع أحمد حتّى لا يأخذه الليل. استقبلني وقد أحسّ بأنّي رأيته يرقص فحوّل نظره إلى الأرض وكانت لحظة صمت ورأيت العرق يتصبب من جبينه ثمّ تكلم كأنّه يبرر فعله :

-"أنّي لم أصمد أمام قوّة الإيقاع على روحي فوقعه كالواقعة عليّ، أردت أن أنكلّ بالذين يعتقدون أنّي عدوهم لأنّي لا أفرح كما يفرحون....."

قلت له :

-لا بل عبرت عما عجزت عن فعله كنت أرغب أن أرقص بجنونك.

وما أن سمع كلمة ''جنون'' حتّى قطّب جبينه وارتخى وفتر وحسبت أنّه تجمّد ولم يكن يفهم ماذا كنت أقصد بهذه الكلمة؟ إنّ الجنون هنا بمعنى الجرأة على التخلص من الضغوطات والانطلاق نحو التحرّر تحرّر العقل والجسد ولم يعلم أن الجنون تجلّ للعقل في لحظة تحقيق الوجود أمام ترسانة من القيود الموهومة وتساءلت لماذا لم يقاوم ما يتخبّط في ذاكرته؟

إن هذه الكلمة قد أرعبته وجعلته يسحب كرسيّا بالقرب منه ويجلس كأنّما هوى ولفّه الصمت وهنا عدت إلى فراستي استخبرها لماذا صرع وخمد وبهت؟

إنّه عاد إلى نفق ماضيه البعيد لنستمع إلى ذاكرته وهي تروي عنه :

‘‘بطحاء الحيّ الحرمان المتجسّد في عروقه بحالة الأمل وضخامة الألم كان الوقت مساء وقد أشرفت الشمس على المغيب. وأعداد من الرجال عائدون بسرعة من عملهم كان ينظر إليهم في حيرة ويتساءل كيف يكتسب قوّة الحبّ والحياة؟ وهنا بدأت نبتة جنونه وجذورها؟’’

ما كانت الصورة واضحة في تخميناتي. وبعد أن هدأ قليلا قلت له :

-أحمد لقد قرأت بعض ما كتبت وخاصة قصتك مع العصفور

هنا استقيظ وقال :

-تقصد مذكراتي

قلت

-نعم إنّها مكتنزة بالمعاني والرموز

قال :

-لا يكفي ما قرأت قصتي لا تنتهي أريدك أن تأتي لأسلمك ما تبقى من مخطوطاتي وأحذرك أن تعلم الناس بحقيقتي فيفسدوا عليّ راحتي ولذّة صمتي ولو علموا ذلك لتأكدّوا من جنوني بعدما كانوا ربما يهزؤون باتهامي بالجنون.سكت وقد أطلق زفرة مليئة بالوجع.

هنا طلبت منه أن أرافقه إلى بيته فهممنا نتمشى وقلت له :

-من المؤسف جدّا أن تتحوّل طاقة الإنسان من الإبداع إلى الفناء نحن في حاجة إلى فلسفة جديدة تعيد الاعتبار للكلمة بما هي خلاص للروح من الغربة والاغتراب.

وهنا ولأول مرة سمعته يتكلم بثقة :

-لماذا أيقظت فيّ أهوالي وجعلتني أنظم فوضاي؟ كنت أتصوّر أنّي أنهيت وانتهت ولكن عندما عدت إلى ما كتبته منذ سنوات عدت إلى ذاتي ورأيت عبر كلّ حرف تفاصيل حياتي فالمذكرات مرآة ذاتي؟ وأنت السبب في العودة إلى معين وجودي ولكن أقول لك أن الصمت يبقى هو الأقوى ولست أريد إلاّ المكابدة وكما رأيت المدينة لم تتسع لجنوني ولا لخيبتي وأنيني ولكن الورقات البيضاء اتسعت لأحلامي وسيرتي الوجوديّة."

لم استغرب كلامه لأنّي كنت أعتقد أن تحرير الجسد هو محاولة لترك العنان للمخيلة والعقل خاصة في عمق الليل وكان أحمد كالقمر وضح نفسه واستضاء برغم العتمة

علمت أن الإنسان لا يستطيع أن يفسّر كلّ شيء ولكنه يكبر بالألم من أجل الأمل عندما عدت سارعت إلى ورقات أحمد أقلبها، أتراه سيحدّثكم ويرجّكم :

‘‘تصوّرت نفسي أعدو في عمق عاصفة. بللتني الدموع. اختفي وأتجلّى وقصتي عجيبة وغريبة. هذا رماد احتراقي أذروه للورود. وأنا كلّ ليلة أبيت أدفن النور في الظلمة حتّى يرسّخ جذوره. فواجع الروح تتفاقم وقلبي مدسوس في تربة الغربة لا جديد يطلع من العدم. لا تدوسوا على عبقريتي هذه ورقات روح تخرج من فيض الذكريات بدأت الكتابة لتأصيل الحياة ولن أضيع العبارة.

وكان هذا من بين ما كتبه أحمد فلم أواصل القراءة لقد اشتقت إلى الحلم وها هو النوم قد أخذني والصور تتراقص في ذهني رقاصات أحمد، دقّات الطبل وصوت المزمار، صرخات الناس، تتماوج الأحداث في نفسي وجفوني مرهقة، أغلقت ملف القصة وأنا بي رغبة مشتهاة لأواصل بقيّة الورقات لعلها تكتمل شجرة أحمد وتينع ثمار الرموز فيها. وأردت معرفة قصته مع الحيّة التي تفاجئه دوما.

  • أحمد والحيّة

غاب أحمد ولم اسأل عن خبره ولا سأل عنّي ولكن بقيت ورقاته التي دوّن فيها شيئا من نفسه وها أنّي أريد أن أشارككم الوقوف على رمزيّة قصته مع الحيّة هي أشبه ما تكون بالحلم ولا أدري ما الذي يرومه من خلال ذلك لنقرأ ونرى :

كتب أحمد:

"لم أغادر البيت لجأت إلى مذكراتي أقلب البعض منها وأمزق البعض الآخر. كنت في غرفة ضيقة يضيق فيها تنفسي أطلّ على نافذة موصودة بالبلّور العاكس لنور خافت وكنت كلّ مرة أركّز عليه النظر أحسّ غرابة تنزّ من نفق اللّامعنى، فألمح أغصان شجرة متدليّة كأنّها تدنو مني وتنجذب ومتشابكة حتّى تقوى على قوّة الفراغ.

هكذا ضرب عليّ الحصار ولولا الضوء المنبعث من النافذة لعدمت، لكن بتركيزي على مصدر النور أصابتني غفوة فإذا غصن بدا لي كأنّما هو جذع وجعي ورأيت ما رأيت : أنا في مكان خال وإذا بصديق لم أتبين ملامحه يقود عربة يجرها حصان تبدل إلى فراشة ثمّ بدا كأنّه دخان، سلمت عليه وأنا أرتعش سألته: أين هو ذاهب؟ قال لي : لو كنت أدري أين أنا ذاهب لما مررت من طريق سأجد فيه كائنا واحدا يفسد عليّ سفري بأسئلته. ضحكت وقلت : إنّي أريد الذهاب معك قال :مرحبا بك تفضل بشرط أن تصبر على ما لم تحط به علما. وانطلقنا كأنّما دخلنا عبر طريق العين حذو طريق الرماد. فكان السفر منذ بدايته غير مريح واتجهنا بسرعة غير متوقعة فاصطدمنا بحاجز، ولولا مهارة مازالت فينا لسقطنا، قلت: ما بال الحاجز لم يفتح أو لا تعرف أسهل مكان للعبور؟ قال: ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا؟ ألم أقل لك لا تسأل عن شيء حتّى أحدث لك منه أمرا؟ قلت : أتسعى لهلاكي؟ قال : ومن أين لي ذلك؟ عليك أن تأخذ حذرك فالحيّة سنراها في كلّ مسرب وما إن ذكرنا اسم الحيّة حتّى أحسست أنّي أقفز حاجزا آخر لكن هذا الحاجز يفتح على قرية كان أناسها يسرعون ولا أدري إلى أين يذهبون؟ سألت صاحبي عن سر سرعتهم، فقال: ألم أقل لك أنّك لا تستطيع معي صبرا ألاّ تشعر أنّك تحمل في ذاتك سرعة أعظم من سرعتهم؟ ألاّ تدرك ذلك؟ قلت: هل نحن مدينون لما لا يفسرنا أم نحن خلقنا للحيرة؟ قال: أوتريد جوابا؟ ذلك أمر لا أقدر عليه، وغاب عنّي، وإذا شخص آخر حلّ مكانه وغابت العربة، وهو شاب معه كلبه، في البداية لم أعرفه، ولكن عندما تكلم أيقنت أنّه صديق، لا أدري أن عرفته حديثا أم في الأزل سألته من يكون؟ فبكى وذبل ثمّ قال :مازالت الحيّة ترهب راحتي، وكنا في حشد من الناس يضحكون والكلب صار صخرة، وأيقنت بمتاهة الحياة وسخافة أحداثها.

أن ندرك صدق ذواتنا لحظة غربتنا في الناس ذلك ما لم أتصوّره وأوصلت صديقي وبعدها عثرت على جوهرة ثمينة في نفس الوقت مع إنسان آخر، وقد تشاجرنا على من يظفر بها فتحوّلت إلى حيّة ففررت ولكن صبت في الآخر سمها. حاولت أن تلحق بي، فاحتميت بمكان هو عبارة عن بناية قديمة، وما أن مشيت في أروقتها حتّى كان هناك خلق عظيم كأنّما هم أموات استفاقوا اثر دخولي، وقد صاح أحدهم قائلا: الحيّة الحيّة هنا تتلوى. نظرت إلى نفسي فلم أر شيئا بل هو ما يشبه الطوفان، الحيّة تسربت إلى الماء، أما أنا فقد بقيت ألمح الناس وهم صرعى من رعب الحيّة، ثمّ رأيتني أقبض على كلبين وأكممهما، ولا أعرف أكان ذلك وهما أم حقيقة.

وكما تلاحظون لا شيء واضح فيما كتبه. وما أبعد عن الحلم إلّا وهم الحلم، فماذا يمكن أن يضيف إليّ في هذه الورقات؟ أليست الغربة تشق طريقها في الوجود؟ هذا حلم ليس كالأحلام يفتّت لبّ الوضوح، ويمتلك الروح، وحتّى كتب تفاسير الأحلام، تعجز أمامه. هذه صفحة أليمة من جرحه ... من جروحنا.

ولكن نسيت أن أقول لكم أنّه تذمّر من اهتمامي به، فآخر مرة قابلته فيها قال: ما هذه اللغة الوعظيّة والأخلاقيّة التي تتحدّث بها عنّي، أنا لا أريد العطف من أحد، ولا الشفقة من أحد. دع الأسلوب يتحدّث عني، الأشياء والكلمات. هذا إذا أردت أن تحوّل مذكراتي إلى قصّة أو رواية. فإن تقنيات الكتابة يمكن أن تقولني فهي شيء آخر غير ما كتبت وهكذا علمت أنّه أطلع على محاولتي حوله. أمّا إجابتي فكانت مدعمة لرأيه، ولكن أضفت أن المهم توضيح مقاصدي، حتّى لا تتعدّد التأويلات، والكتابة عن أغوار الروح هي من أصعب الأساليب. ومازلت أتدرّب على التعبير الموحي بالرموز.

استحوذت عليّ هذه القصة ولم أقدر مواصلة بقية الورقات. أردت أن أكتشف ما وراء هذا الاضطراب في الكتابة. فهي تعبر عن مشاعر الغربة والغرابة وانفعاليّة روح أحمد تخرج عن الحياة العاديّة. يحاول صياغة اللّامعنى بالغموض. ولا يحتاج إلى قواعد محدّدة لأسلوب في العيش. ففي عصرنا الحالي، تحيل الكتابة دوما إلى شيء أخر غير الكلمات، إلى قوّة مجهولة تبعث على الإمكان في التحقيق.

غاب أحمد وانقطعت أخباره ولم تبق إلاّ ورقاته ولكن هل سأجد تفسيرا لمواقفه في الحياة ولماذا يرفض الجديّة والعزم في أن يكون عاديا؟ ولماذا ظلّ مشرّدا يرفض ملكيّة منزل. ويرفض الزواج. ويرفض أن يعرف الناس ما كتب؟ ولماذا اقتنع بجنونه؟ ولكن ماذا ستكون نظرتهم لو عرفت شيئا مما كتبه عن المال والعمل والعلم والحبّ؟

وهذه الورقات التي أمامي لم تقنعني فأنا لا أرى الإنسان إلاّ ضمن علاقاته الاجتماعيّة. كيف يحدّد دوره ويفتكّ الاعتراف. هنا قد رجّته الأسئلة فهل هذا هو ما كتبه أحمد؟ ومن يثبت لي ذلك؟ لو كان ذلك ما كتبه فلماذا استسلم إلى الفشل وما كان محلّ سخريّة الغير وبذلك صرت أشكّ في أن تكون هذه الكتابة كتابته وما هذه إلاّ محاولات مضادة. فأحمد لم يقدر أن يختار مسلك حياته ولهذا السبب يلقي بالمسئولية على الحيّة، بما هي رمز للعدوّ، أو الآخر، ذلك الذي يتصوره كالجحيم. كانت كلّ هذه الأفكار تجول بخاطري أمواج متلاطمة، تهزّ يقيني. ثمّ أعود للقول: ولكن ما هي غايته ليكذب عليّ.

في حقيقة الأمر لا شيء يمكن إثباته وتأكيده أو نفيه كلّ ما أستطيع قوله أن كلّ ما قرأته لا يعدو أن يكون إلاّ نقلا لبعض الأحلام، ربما كان يجد فيها حقيقته، واتجهت بعيدا لطرح سؤال الإبداع، هل هو إفراز لحالة مرضية؟ هل كان يهتم بحلمه ويدونه صبحا، لذلك كان الغموض في قصته مع العصفور، وقصته مع الحيّة، وما هذه الورقات إلاّ تصريف لمكبوتات ذات مدمرة، ولا شيء يجعلني ارتاح. بدأت أفتّش عن حدث استند عليه في صحة ما كتبه وهل هو صاحبه؟ هنا تذكرت ما قالته لي أخته ذات مساء من العام الماضي، عندما سألتها عن غياب أحمد: ‘‘لمّا تثقل الأحلام عليه، وتتكرّر في نمط واحد. كان يسافر لزيارة شيخ متصوّف، له معرفة بتفسير الأحلام. انتظره سيعود’’. قلت: ما الغاية من ذلك؟ قالت : ‘‘كنت أراه عندما يعود كالتّائه، يدوّن شيئا في ورقات’’.

هنا عرفت أنّ واقعه انقلب إلى حلم. فمتى ينقلب حلمك إلى واقع؟ وكان أحمد حاضرا في غيابه رمزا في ورقاته.

  • أحمد و "للّاالطويلة"

علمت أن أحمد لازم شيخ يحرس ضريح"للاّ الطويلة" وهي بمثابة "حوطة" كومة من أحجار مبعثرة، وكثافة أشجار علقت على أغصانها أقمشة مختلفة الألوان. وفي مغاور بعض شموع. وضعها من يعقدون"النيّة في هذه الوليّة"، غابة كثيفة تغطّي المكان، فتجعله محميّا من الرياح العاتية.

فهذا المكان ساحر كأنّما فيه شدّت الجبل للسماء والصعود إليه صعب ومرير ومنه بإمكاننا أن نطلّع على مدينة "أردي".

ها قد جئت هذا المكان. وأتذكّر جيّدا أنّي قد زرته سابقا مع أبي عندما طلب منّي رفقته لأنّ أمّه الراحلة أتته في المنام ورجته أن يلبي نداءها ويشعل شمعة في مقام "للاّ الطويلة"، أتذكّر ذلك جيّدا. عندما كان يستهويني المقدس في طفولتي ذلك أنّ له جاذبية المغنطيس خاصة وقد ارتبط بأنثى، تخترق المعهود وتتجاوز السلطة الذكورية.في مخيلة الشعبي البدوي الريفي إنّ كلّ ما شدّني هنا ليس الخرافات ولا الطقوس، وإنّما هذه الأنثى التي استوت على عرش التصوّف والزهد رغم المدوّنات الفقهيّة التي انغلقت حدّ الانغلاق. ويقولون أن "للاّ الطويلة" مرأة زاهدة وهبت نفسها لله، وظلت تطلب العزلة للعبادة، وقد تقوّى عزمها حتّى أتت بالعجيب. وأصبح حتّى الثرى الذي وارى جثّتها يحمل شحنة مقدّسة، فكان يروي عنها أنّها كانت قطب جذب، يصعد لها سكان المدينة، عوضا أن تنزل لهم. فهي تشفي الأمراض وتهب الخصب وتفسّر الأحلام وقد تواصل هذا الاعتقاد حتّى بعد موتها.

الآن عرفت أن أحمد هاجسه الأنثى مهما كان مستقرها، وكلما نشد المثالية إلاّ وانشد لما يعتقده ماء. ولكن عندما يأتيه لا يجده سوى سراب، أو ليست المرأة هي التي كلمت الحيّة، وأكلت من ثمرة الشجرة، وأعطت لآدم منها، فأنزلا من الجنّة إلى الأرض. وظلّت الدنيا جنتها المرأة، إذ كانت بقوّة الكلمة المقدّسة التي تجعل الرجل معها نفسا واحدة.

جئت وفي نفسي ملل من تصرفي، فلماذا كلّ هذا الشّغف بأحمد والتّرصد لأفعاله؟ بماذا سيفيد الناس؟ وهل بقصته ما يهمنا؟

فوجئت وأنا أتبع خطوات أحمد بعالم آخر على قمّة الجبل حيث أشتاق أن ألقي بنفسي في أبعاد الفضاء. أن أرى دمي راية ترفرف على مملكة العلم الذي يرجع مجد الإنسان. إلى المعرفة التي تخلصنا من الأوهام. أمّا ما أتاه أحمد بزيارته لللاّ الطويلة فهو تمزّق الروح الذي يعبّر عن حالة انفصال، وتلك حكاية أخرى تستحق كتابا خاصا.

ما أن وصلت حتّى أصابني التعب وأثقلتني الأسئلة. فكنت أجرّ رجلي جرّا فأحدثت صوتا فما كان من الشيخ إلاّ أن فزع وأطلّ عليّ. لقد كان في نفس الوقت حارس غابة الجبل وقد استغل وظيفته لينصّب نفسه شيخ الزاويّة فهو يتقبل هدايا الزوّار ويطلع فيها على أسرارهم شخصيّة، يجمعها، ويستعملها من جديد مع آخرين، فيفاجئهم بما يعرفه عنهم، كأنّما يطلع على الغيب. لقد عرف هذا الشيخ كيف يوظّف المكان ويجعل من الرمزي سوق اقتصاد. قال لي :

-أهلا وسهلا ما يحصل الأجر إلاّ بالمكابدة

استغربت فأنا لم آت إلاّ بحثا عن أحمد. فقلت :

-جئت، وسبقت إليّ "للاّطويلة". هي في ذاكرة الذاكرة. وأنا الآن لست في حاجة إليها.

نظر إلي كأنّما لم يفهم شيئا مما قلت، فقال :

-احذر أن تتكلم بما لا يليق بمقامها. الويل الويل لمن يتخطّاها قلت له :

-كلما رأيت نفسي أوسع من السماء، كفرت بالأوهام، وأعطيت كلّ ذي حقّ حقّه. هذه الوليّة أنثى عندما توارى جسدها توارت معها أسرارها، ولا نعرف أبدا ما هي تمثّلاتها وتصوّراتها، وما هي فاعليّتها في الحياة، وأنا لم آت إلاّ فهما للأحياء، هؤلاء الذين تفضحهم أسرارهم لأنّها لم تعد أسرارا. كلّ شيء أستبيح، وانكشف. وما عاد الإنسان يتميزّ عن الآخر ،إلاّ بقدر ما يثرثر، ويجترّ الكلام حتّى وأن فرغ من المعنى ضحك وقال :

-لا تحدّثني بما لا أفهم ثمّ أشار بإصبعه وقال :

-انظر الشمس هي أقوى حقيقة من الكلام

ولما استبطأ أحمد الشيخ، قام فرآني، فاندهش، ودعانا للجلوس بقربه، وعاملني كأنّه يعرفني لأوّل مرة قال :

-أراك آتيت من المدينة. هل مازالت هنا حركة كالرحى تدور ولا طحين؟

قلت :

-أحمد أراك لم تجد تفسيرا لأحلامك، ومازلت على هذيانك القديم وتجنبت كلمة ‘‘جنونك’’

هنا نهض وأطلق تنهيدة ونظر إلى الآفاق ثمّ قال :

-أنت تلاحقني كظلّي. لماذا مازلت حيّا؟ ألم يقتلوا ظلّي وهربت بجلدي؟ ألم تمت أنت أيضا؟

هنا تكلّم الشيخ متجهّا إلى أحمد: أظنك تعرف هذا الشخص ولديك معه قصّة

قال،

-سلمته أمانة فأذاعها في الناس، فعرفوا أنّي أتعمد الجنون، لأكسب ودّ الناس، ووضع أسراري في نصوص تحتاج أكثر لجمالية الأسلوب.

فرأيت الدنيا مقلوبة كأنّي ثمل ثم اردف الشيخ قائلا:

-هذا الكلام لا أفهمه.

قال أحمد :

-كيف لا تفهم أبسط المعاني؟ وتعلمت تأويل الأحلام؟

قال له :

-كنت أحتاجك كلّ هذا الوقت لترافقني في وحدتي. لقد أردت أن أجتهد في تفسير أحلامك، لأشدّك إليّ وقتا طويلا.

قال أحمد بصوت منخفض :

-كل واحد له غايته ومكره، أما أنا فبسذاجتي، تحوّلت إلى لعبة في أيادي الناس.

ثمّ كان الصمت.

وبعد برهة من الزمن، رأيت أحمد، يتهلّل وجهه ويتجه إلى ضريح ‘‘للاّ طويلة’’ مخاطبا لها دون مبالاة بحضوري:

"أيتها الوليّة، كم هو الموت جميل، ولكن الحياة أجمل، وكم هو الجنون ممتع، ولكن العقل أمتع، أيتها الأنثى المقدسة، حتّى أنت سأفضي لك بقصتي، أيها القبر، يا رميم الجسد، اطلعي من هنا يا حوريّة الحبّ’’.

كنت أتابع أحمد وهو يمارس طقوس غريبة، كأنّما يسقط مشاعره ومخاوفه وأحلامه وطموحاته هنا. لعلّ ذلك دلالة أنّه يحاول أن يواري انكساراته، والشيخ يتململ فهو لم يتعوّد على مثل هذه الأفعال، ولم يجد ما يقوله.

وكان أحمد يواصل صلواته: ‘‘أيتها الأنثى لو تبعثين سأراك أجمل النساء، سأوحد المدينة عندما أجعلك رمزا للمحبة. ‘‘للاّ طويلة’’ من يأتي بخبرك اليقين. هذا رجل على بابك يندب حظه، ويعترف أن الأقطاب الذين يجب أن نفيض إليهم بآلامنا قد ماتوا’’.

ثم في لمح البصر، بصرت أحمد يرتفع ويرتعش، وتكثف عنده الخيال والوهم حتّى كأنّما هناك بالفعل امرأة يوجه لها خطابه، ويبث لها حزنه :

‘‘خذيني برفق أيتها المرأة المقدّسة، سأشعل لك جسدي شموعا، وأعطيك من روحي الدفء. إن كان الثرى باردا فبرد الحقيقة أقسى، أو كان باطن الأرض حمما، فالحمم تمور في داخلي، حدثيني عن الموت والنسيان، أريدك حوريّة زمني الذي أبحث عنه.وكنت فقده عندما عشقت وكانت من عشقتها شريدة ’’

ثمّ رأيته قد ازداد تحرّقا، وهوى على القبر وهو يردّد :

‘‘ما أجمل صلاتي ها إنّي أعرج من خلالك إلى الله’’

وهنا قام كأنّه استفاق من نوم عميق، واتجه إليّ قائلا:

‘‘أرأيت أحلامي، لم تأت إلاّ من حبّ الأموات، ها أنّي أدفن أحلامي لعلّني أحبّ الأحياء أريت ما أجملني. في النديب’’

بقيت أتردّد ماذا سأقول له، وأمّا الشيخ فقد بهت، ورأيته قام وفرّ، وكان يقول :

-آخر غرائب الزمان أحياء يعشقون الأموات، ويقيمون لهم الأفراح، ويدفنون أحزانهم وهكذا الأموات يحكمون الأحياء.’’

وقد بدا إليّ حكيما في ذلك، ووجدته هذه المرة أغرب من الغرابة، وأحمد المنسيّ في قمّة جبل يسامق السّماء، ويستمر يهذي في كلامه: ‘‘للاّ طويلة’’ لا تذهبي عن خيالي، فمن مات، تجعل منه الأساطير رمزا، وأنا أرغب أن أخلقك حقيقة في حياتي.وأوحد بك كلذ المدينة’’

هنا اتجهت إلى أحمد وقلت :

-هل أنت أحمد؟ أنت الغرابة ذاتها؟

مسكته من يده، وصعدنا المدينة،

بعدها كنت قد سارعت إلى مذكراته، وقرأت في قسم ثان مخصص لقطع من الأقوال والتأملات، فوقع بصري على هذه الفقرة :

"هناك شيء غامض يدفعني، لكن إلى أين؟ تلك هي خطورة الغموض، والروح تبقى سرّا غامضا ومحيّرا. سأجعل لضياعي معانى."

وعادت بي ذاكرتي إلى ما حدث اليوم على قمّة جبل "للاّ طويلة". ما أغرب أحمد، وما أدهش الأحداث. وغدا لا أدري كيف ستكون أحواله ؟

  • من بشائر أحمد

كلفت نفسي أن أبحر فيما كنت بدأت قراءته من مذكرات احمد. فاتخذت منذ الصباح الباكر في نهج الحي مكانا أمام منزلنا، تحت جدار ناتئة أحجاره، وتكثر فيه الحفر من جميع الاشكال والأحجام، تعشش فيها الخفافيش، وفيها تدسّ بعض النسوة نتفا من شعرهن، أو نجد لفافة ورق وضعت هناك، لأنّها كتبت بحروف عربيّة،  وحرام في المعتقد السّائد أن يداس العلم. وفي بعض الأحيان قد تجد رسالة غراميّة ممزقة ومحشوة بين الأحجار ، أو نرى فتات خبز مدسوس، وقد تلمح قطا يترصّد خروج فأر.

.لهذا يكتسي هذا الجدار بالذات أهميّة خاصة لديّ، لما ذكرته، واهم ذلك ما يودع فيه من أسرار وأيضا لظلّه الممتد في الصباح، أيام الصّيف القائظ، وليس الجدار سوى سور بناية بالقرميد، كانت لأحد المعمرين، ويقولون أنّه كان منزل الفتاة الفرنسيّة التي أحبّها أحمد، وكانت قد رحلت عنه إلى الأبد.

في هذا الجو أردت ان اطلع على ما اودعني إياه أحمد من مخطوطات وأقول لكم أن القسم الثاني كان قد خصصه لقطع من الأقوال، كانت شذرات متفرقة. وما أبلغ الجمل البسيطة القويّة الدلالة الناطقة بالمعنى تلميحا لا تصريحا. هي عبارة عن بشارة مدوّنة بشرارة الروح. ها إنّي اليوم كلفت نفسي أن أبحر فيما كنت بدأت قراءته من مذكراته.

أضاءني نور الصباح، فأضأت على الظلمات فيضا بعزيمتي. كم أشتهي جماليّة نصوص هي زاد يومي من غذاء العقل والإرادة.

كم أشتهي قراءة ما كتبته أسماء لا تستهوينا شهرتها، وإنّما عباراتها تحبّبنا في الحياة والطبيعة والحبّ.

 كم اشتهي أن أطيل النظر والتمحيص في كتابات أحمد. أن أولّد المعنى الحي من نصوص أكفانها الورقات وكلماتها ماتت بالنسيان. ازداد واشتدّ بالقراءة، فالمعاني لا تحدّ، منك الجمال والحق، فمن لا يفرط الحب للدنيا، روته غدران الحبر.

وأحمد ما زال يحضر ليغيب، ويكون في غيابه أكثر حضورا. تعالوا الآن أنصتوا لهدير الأمواج في ذاكرتي، وأنا أقرأ كلماته.

كنت أثبت المقعد وأسندت ظهري للجدار، وأنا أقلب الورقات، وأقرأ ما كتب أحمد. كانت شذرات مختصرة:" هذه حبّة خردل من تجاربي ". هكذا عنونها، أو ليس المعرفة سوى عصارة تجارب الروح في التاريخ؟ لنقرأ ما كان قد كتبه :

  • "لم تخلق الأرض إلاّ لدفن ما سيبعث. ولم تخلق السماء إلاّ لكي لا تضيق علينا حياتنا في الأرض. ولم يخلق الإنسان إلاّ لتجذبه الأرض وتطيّره السماء. والحقّ الحقّ ما أقول: أنا شجرة جذورها تضرب في الأرض، وفروعها في السماء، أوتي أكلي كلّ حين"
  • "لم تخلق الأنثى إلاّ لمّا خلق الحبّ، ولم تخلق الرغبة واللذة، إلاّ لمّا أفاضت المرأة بأنوثتها. ولم يخلق الرجل، إلاّ لمّا اشتهته الأنثى، فأغوته، ودفعته للبحث عن إرادة الحياة والخلود. والحقّ الحقّ ما أقول: أنا آدم في لاوعيي، أنثى تعطي معنى لرجولتي، وأتجلّى في لاوعي حواء رجلا أعطى معنى لأنوثتها. وأعظم مصيبة كان سيعرفها الإنسان لو لم ينزل آدم مع حواء."
  • "الولادة هي بذور تحمل فناءنا في ذاتها، عندما يولد الإنسان، يمتحن بالخير والشر، وعندما يكتسب اللغة والكلام، يراوح بين فعل الخير أو فعل الشر، أمّا إذا تجاوز ما وراء اللغة، طمح لما وراء الخير والشر. الحقّ الحقّ ما أقول: الولادة بذرة في البلد، تعيش في مكابدة، تنمو وتتجلى فيها الحياة. ثمّ تقوم لولادة متجددة خالدة"
  • "كلّ إنسان يولد، سيوّلده المجتمع من جديد، ففي الولادة الأولى : فطرة وبياض وفي الولادة الثانية جدليّة بين التقليد والتجديد. الحقّ الحق ما أقول: الولادة طين بيد المجتمع، يشكلها كما يريد، والمفيد أن نعلّمه كيف يشكّل نفسه، ونعلّمه مملكة النقد واحترام الرأي المخالف.’’
  • "القراءة والكتابة قوّة الإنسان في الوجود، ولو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله. الحقّ الحقّ ما أقول: العقل واليدّ قوّة الإنسان في تسخير الطبيعة لتحقيق تحرره في التاريخ، وليس الإنسان إلاّ ما يعقل ويفعل."
  • "الزمن ليس إلاّ سيّال الروح، فيه أوقات مقت وأوقات خلق وإنّ نسيان الزمن، هو الزمن الذي أبغي الوصول إليه. الحقّ الحقّ ما أقول: الزمن أزمنة، تؤرخ بها المكان. كلّ زمن يملأ المكان، هو زمن المريد."

هكذا رأيتني أقرأ هذه الشذرات، وأنا مندهش لتعقيدا فهي ضرب من فلسفة خاصة بهع، كأنّما هنا ارتحلت نصوص أحمد في نصوصي، وتداخلت. وكنت كالغائب عن الوجود، وما أن هممت بمواصلة التلذّذ ببقية القطع التي كأنّها قُطعت من روح، تريد أن تعيد تفاصيل الحلول في العالم، حتّى رأيت أحمد أمامي، فأسرعت بلّم الورقات، ودس الملف في دفة كتاب كبير الحجم، وقلت :

-أحمد أنت هنا ما الذي جاء بك؟

قال :

-أنت دوما منشدا للقراءة. يا أخي روّح عن نفسك فالحياة تدعونا لبهجتها

قلت :

-لم تجب عن سؤالي. لماذا تتردّد دوما على هذا المكان؟

هنا تبدّل لون وجهه، وصار يقطر أسى، وحينما تكلّم اضطرب اللسان، وارتعش البدن، وقال :

-كنت من هنا أترصد حبّي الأوحد. هذا الظلّ يشهد على عشقي. هنا أقف على أطلال الحنين. المكان شحنة الذاكرة.

ثمّ رأيت الرجل يهوي إلى الأرض. ثمّ قام فخفت عليه. فقلت :

-دع عنك هذا الموضوع

قال :

-لن تفهم وجعي، إلاّ إذا قرأت مذكراتي ورسائلها، سأسلمك إياها بعد أن ترجع ورقاتي الأولى. عندما كنت أكتب، كانت الكتابة تخيفني لأنّها وثيقة تؤرخ لجراحي. كنت أكتب وما بين ضلوعي يهتزّ هيامي بالجمال، ولّد لدي الحكمة، ولكن حرمني من لذتها المشتهاة حتّى هي تحدّثت عن الجمال والبرق وفحولة الرجل العربي والمطر وسرّ اطمئناني. كانت تعجب من سحر كلامي وتقول :‘‘زدني من فيضك". فأقول : سأرى فيك العالم.

ثمّ يسكت، من غير أن يوجد داع لذلك. هول الذكرى أخرسه. ثمّ اتجه إليّ وقال :

أريد أن أنسى. هل تأتي معي للقيام بجولة في بستان زوج أختي؟ أراك قد تعبت من التركيز في القراءة.

فقبلت الأمر، ولم أمانع، وانطلقنا، وإذا بي لا أدري ما الحياة؟ فإذا هي السؤال مني. وأذكر ذلك الإحساس العميق بذاتي وعظمتها وأنا أدخل البستان. أمّا أحمد فقد كان الصمت. كنت أردّد في أدغال نفسي: ‘‘أو خلقنا لنكشف هذا العالم. ثمّ نحاول فكّ أسراره، ونموت من غير معرفة؟ ألست الذي يريد أن يبرر وجوده بوعي ذات الآخر ،وأن نتأكدّ من صدق قوله ومعاناته وبأس حياته وذاكرته وماضيه؟ فما لي، إذا كان الوجود لا يفهم إلاّ بالمعرفة الصارمة اليقينية المنطقية؟ قد يبدو تداخل الأسئلة أمرا غريبا، ولكنني لا أجد مبررا لذلك، فالحياة ونحن لا ندري والحياة ونحن، نتعلّم الموت.’’

جمال البستان أعجبني: ماء يتدفق من بئر عميقة، وغلال وخضر، وأحمد يغني كلمات لم أتبين معانيها، ولا أدري كيف همّ أحمد بالبئر ليطلع عليه فناديته : أحمد أحمد أو تريد الموت؟ قال وما الموت؟ قلت : أن تهوي في البئر، فتموت غرقا مهشم الرأس. قال : وما بعد الموت؟ ثمّ أضاف ‘‘أنا لا أريد الموت، إن كان هو الألم أما أن نشعر بنشوة الانتصار على الموت، لأنّنا بلغنا عتبة الخلود، فالموت حينئذ لي. فالموت حياة، حياة أخرى غير الحياة، فمن لا حياة له، فالموت في حياته راحة له من الهموم’’.

هنا جذبت أحمد، وصددته على فعله، وأمرته أن يلتزم بالحياة، ويمكّن نصوصه من أن تهبه الخلود والعزّة بأفكاره وتجاربه.

قال أحمد :

- "حرمتني التأمّل ، في عمق الكون والكيان، وعمق الموت والتاريخ، وعمق إحساسي بالحياة، عمق الخيبة، عمق الحبّ. أن ألقي الجسد، واجعل له في بأن يختار اللذة أو الألم. أليس تاريخ الإنسان سوى هروب من الألم وبحثا عن معنى ؟

قررنا العودة، وخفت على أحمد من موت ثان، وعندما افترقنا قلت له :

-أعط من حياتك لما كتبت. حاول أن تستعيد مجدك بحبات الخردل التي دونها من تجاربك.

ورأيت الشمس في كبد السماء، كعقلي الهائم في ورقات أحمد. وعلمت لماذا تكون له قدرة النسيان في البستان، لأنّه يتذكّر الموت هادم الملذات. ونسي أن إرادة الحياة هدامة لقلق الموت.

تشوفت لما تبقى من مذكرات أحمد. وها أنّي أسارع في الإطلاع عليها، قبل ارجعاعها لأتسلم الجديد في أقرب الأوقات ممكن هي كما قلت لكم قطع من الأقوال وهي حسب عبارته: "حبّة خردل من تجاربي" مرقّمة، وكنت قد أطلعتكم على ست منها. وها هي البقية، أقدمها كما هي، سأدع أحمد تقوله كلماته بعد أن قالها. هي بشائر بشرارة روح. اقرؤوا، وتأمّلوا. ستعرفون إنسانا آخر خلقته اللغة، وليس اللغة هو، ركّزوا على هذه الأقوال:

7."أول ما أفيض على الإنسان العقل، بوصفه طاقة خلاقة فيّاضة فعالة، وهو مبدأ كلّ ضروب التفكير في الحياة وكلّ ما يفيض عنه من مشروع، يتقدّم فيه الإدراك على المشاعر. وهذا ما أسميه ب‘‘إرادة العقل’’. منها يتولد الذكاء والقدرة على تحديد الأهداف والوسائل، وبه تصبح الحياة مستطاعا. والعقل هو عقّال لما تناثر في الأكوان. وما القوّة إلاّ فيما يعقله الإنسان. والعجيب في العقل أنّه يخلق نفسه وضده وعدمه، وكلّ دواخل الإرادة، مبعثها العقل المحرك الذي يحرّك ولا يتحرك، يتكوّن بما كوّن، فيكون ما يكون وما سيكون. هو يتجلّد ويتحنّط، يموت أن لم يتكثف فيه وعي بالعالم والذات."

8. أمّا "إرادة القلب"، فهي حقل اللّذة والحبّ والثّقة والمعتقد والإيمان والرغبة. هي مدفع عواطف بين ضلوع الكائن، مضغة إن صلحت، صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، وما هو خطير على القلب، هو التقلّب وقلب حقائق المشاعر. والقلب حقيقته في القبل، يغطي وبأخذ، يجذب ويدفع، يخفق ولا يخفق. وأفضل ما فيه ما يحدثه من موسيقى لإنعاش رغبات الجسد إذا مات قلب الإنسان معنويا، مات فيه حبّ الخير، وكلّما فزع الإنسان أو شعر بخطر وضع يده على موقع القلب. إنّ القلب هو قلب العقل لإرادة الحبّ، وإنّ العقل عقل القلب لإرادة الفكر".

9."من إرادتي العقل والقلب تنبثق إرادة الحياة، وكلما قوى العزم، حدث فعل الخلق في ما لم يتعيّن فيتعين، وتتخذ المادة الصورة، وتكون الغاية بما في وعي الفاعل، فإرادة الحياة هي إعطاء معنى للأشياء. وهي لمّ شتات الفوضى والعراقيل والمخاوف. هي التحدّي والقدرة على التجاوز. هي أن يكون الإنسان صانعا لتاريخه ووجوده، وكلما تمكن الإنسان من إرادة المعرفة، تمكن من إرادة القوّة. والإرادة إن حلّت في الروح، استماتت في بلوغ الأهداف، بتكرار التجربة بعد كلّ فشل."

‍10."نأتي الآن إلى الحواس، السمع والبصر والشم واللمس والتذوّق، هي في حقيقة الأمر لا تصبح طاقة إبداع إلاّ بالتربية والتدريب، وأعظم ما أطمح له هي الحاسة السادسة، هذه التي تفوق العقل والقلب، وتخترق ما وراء الوجود. إنّها جذب واختزال للعالم. فينكشف للروح بما يشبه الحدس. وهو كالنور ينقذف في القلب، فيرتقي إلى ما هو عجائبي. قوّة الحواس استنهاض ويقظة للإنسان، أمّا الحاسة ما فوق الطبيعة، فهي إمساك بسر الأسرار، وتجليّة لخفايا لا تخرقها سوى إرادة الإلهام والفراسة."

11.أمّا إرادة الجسد، وما هو إلاّ عصارة العقل والقلب ويقظة الحواس وما هو إلاّ إرادة الحياة، إرادة اللذة والجمال وفلسفة الاحتفال به. فما علم الطب إلاّ لشفاء الجسد، وما الفن إلاّ لتجميل الحياة ليطرب الجسد. فالجسد حقّ على الإنسان وماذا يمكن أن نتوقع لو خلق الإنسان من غير جسد؟ أرى أنّنا لا نستطيع أن نميّز بين جسد الأنثى وجسد الذكر .وتظلّ الروح هائمة مطرودة من النعيم إلى الأبد، فتخيّر أيّها الإنسان في جسدك ففيه نجاتك.’’

12.الطفولة هي القدحة الأولى لامساك سر الحياة، فيها ينكشف لنا ما ينتظرنا لهؤلاء الذين لا يجهزون الأطفال بطاقات الفهم. ويوّلد الإرادة. فليس كلّ طفل مبدعا، ولكن كلّ مبدع لا بدّ أنّه كان طفلا. علّموا أطفالكم مسالك العبور، ولكن أنّى لفاقد الشيء أن يعطيه. هذا ما يجب أن نفهمه. فالطفولة هي مرحلة الإرهاصات الأولى لإعلان فرادة الذات وفرديتها. لا تتعسفوا واعلموا أن ‘‘مصيبة الإنسان أنّه كان طفلا’’. واذهبوا للطفل بطفولتكم. وكلموه ببراءته. وجهزوه بسلاح مضاد لفظاعتكم."

13."أمّا حديثي عن الطبيعة فهي أم الإنسان ويجب أن يبقى ذلك الفهم الاحيائي لها للطبيعة. قوى تحركها قوانين تنظمها، لها لغة خاصة، يتمثّلها الإنسان يتكيف مع أحداثها، يحدثها وتحدثه. علاقة تكامل وحبّ، ولكن انظروا مصيرنا عندما ظلّ الصراع بين جشع الإنسان وتزيف الطبيعة. أليس من المفيد أن تظلّ الطبيعة محتفلة بما يزينها؟ ولا نسخرها إلاّ لما نحتاجه، ونحافظ على ديمومتها. وما العمل إلاّ ما يقوم به الإنسان من نشاط في الطبيعة، ليحوّل نفسه ولا يحوّل الطبيعة."

14.يستأنس الإنسان المحيط الذي يعيش فيه بإبداع فيصهر فيه شيئا من روحه، وليس العلم إلاّ تجاوب العقل مع قوانين الطبيعة. فنحن نولد من الأرض لنعود إليها. وأن جمال الكون ما هو إلاّ فيض للعقل، لتقدروا على استلهام الأفكار التي تمكنكم من تذوّق أسرار الكائنات. لا أعرف كيف أفسّر أن كل ما أراه ما هو إلاّ ترديد لما في قوى الطّبيعة. إنّه التّماهي يرتقي إلى وحدة الربط بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة."

15."والأساطير هي قصة أولى، واجه بها العقل ما صعب عليه فهمه في الطبيعة. وكلّ ما يراه الإنسان، يعيد له ذاكرته الموغلة في الأزل. وما نحن عليه الآن إلاّ تراكم لتجارب مضت ماذا حدث؟ عندما انقطع وعي الإنسان بالمطلق نسي المعارف، انحازت البشرية إلى قوى الشرّ، ودمرت طبيعتها ونظام الطبيعة. أمّا أنا فأقول تواصلوا أيّها الناس مع أول إحساس كان للإنسان مع الكون. خوف ورجاء موت وبعث ولا مستقبل للعالم إلاّ بالعودة إلى المعنى الذي تضمنه الأسطورة تجاه الطبيعة ليطبع الإنسان الطبيعة بإنسانيته."

16."هل أستطيع أن أعيد تاريخ الحكمة ومنطق تحققها؟ ولماذا أرى أن كلّ الأفكار العظيمة هي التي بلغت لها الذات نفسها بنفسها، متسلحة بإرادة المعرفة والحياة؟ وهذا ما يحرك الإنسان لعدم الارتواء والرغبة دوما في التطلع، إنّه التساؤل وعدم إثبات ما لا يمكن إثباته، وتثبيت ما لا يجب إثباته. وهذه قطع من روحي. هي أقوال الفكر جمعتها من قراءات لا أدري أين تكمن أهميتها؟ ولكن لم أشعر بالراحة إلاّ لما صرفتها في كلمات ومعان. هي منى كما نفسي، كتبتها وأردتها حبة خردل من تجاربي، وإن لم أبلغ أعظمها بوضوح، فذلك أن المعاني تنفلت عن كلّ تحديد وما أحس به هو الأكثر الذي لم أكتبه. هو الذي يعاش ولا يكتب. هي ليس بالمقدّس، فربما فيها ما يدحض نفسه بنفسه. أنهيت ولكن أرجو أن أتواصل عند غيري معنى آخر يؤسسه النقد أو التذوّق."

هذا ما وجدته في مذكراته نقلتها لكم بأمانة. أمّا في أسفل الورقة الأخيرة وجدت هذه العبارة : ‘‘هذه الورقات، من كتاب العمر الذي لا ينته.ي كتب في أول يوم تساءلت فيه عن ما هو السبيل، لتبشير بإنسان جديد"

ها إنّي نقلت لكم ذلك، ولا يهمني أن نجح أحمد في تبليغ مقاصده أم لا، ولكن حاولت أن أبيّن ما خفيّ من غرابته، وسيظلّ أحمد كتابا يبوح لكم كلّ مرّة بأسراره.

ملاحظة: نشرت هذه القصّة في ورقات ثقافية: الملحق الثقافي لجريدة الصحافة يصدر كلّ يوم جمعة وكان ذلك في عام 1998 أدخلت عليها تعديلات

الحبيب النهدي

تونس

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟