شعرية الذبول اللحظي “ لا شيء أخافُ سوى الخريف” للعربي الحميدي - أحمد الشيخاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

بداية، لا بد من الإشادة بما راكمه، ولم يزل، الشاعر المغربي المجدِّد، العربي الحميدي، فهو صاحب مشروع شعري، يؤمن بثقافة المحو، أي جبّ السابق، وعيش هواجس المستقبل، بذاكرة حية، ترعى أدقّ التفاصيل، وتصون نثار الكامن، بوعي جمالي متوهِّج.
إنه شاعر البلاغة الجديدة، ما ننفكّ نستقي مثل هذا النزوع في جديده الذي يحاول جبّ كل ما هو قديم، ضمن حدود ما يمكن أن نصطلح عليه” نيوكلاسيكية النسخ”، أو بعث الكامن.
بتسليط الضوء على عتبة هذا المنجز الجديد، يتبيَّنُ حجم تغليف أسلوبية المغامرة الشعرية لدى الحميدي، ودائما على المنوال الذي يكرّس لمفاهيم بلاغية جديدة، تثري لغة الضاد، مثلما تخضّب وتخصِّب مدلولاتها.
فبوادر الاستثناء، ليس تنبت سوى في مِخيال الشخصية المتردّدة، أو الذات الشّكَّاكة القلقة، بمعزل عن الاضطراب بالطبع، أو الطّبعْ المرضي، الذي ليس هذا سياقه.
فالشّك” الشعري”، هنا، هو بمثابة النار الهادئة التي تُنْضج حمولات بلاغة التجاوز، وتتماهى مع عوالمها المغرقة في الوهم الذاتي، فينقل الذات، بالتالي من خندق العذابات والمكابدات، إلى ربيع الإبداع، المعطّل لصيرورة الزمن، والمجمِّل للعبور الحالم في كل الأمكنة.
الذات الشاعرة، من خلال هذه الأضمومة، تحصر خوفها في خريف العمر، وأشواط انقطاعه المذيَّلة بفَناء حتمي ومؤكد، وقد تمّ الاستهلالُ بما يفيدُ هذا، وفي ذلك مدعاة للتّمني، بل إنه أشبه بالتجديف الجواني، قصد خلق مخرج، أو منعطف إلى قناعة واهمة أيضا، بالتوحّد مع الموت كلغز وجودي كبير، ضاجّ بكل ما هو فلسفي وعميق.
يقول:

"فِي اِتِّسَاعِ الْكَوْنِ وَتَمَدُّدِ اللَّوْن، فِي كُلِّ طَيْف تَمَنَّيْتُ أنْ أَكُونَ الْمَوْتَ لِأَحْيَا كُلّ لَحْظَة فِي كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنْ جَديد.."
وإجمالا، يمكننا معالجة المجموعة، من خلال ثلاثة محاور، تعكس روح الحداثة الشعرية، في قاموس مبدع من طينة العربي الحميدي، لغزارة نتاجه الشعري، المحكوم بالنوعية والترتيب والصقل والتشذيب.
أولا: سؤال الموت
من الملاحظ أننا تحاشينا خطاب الجمع، واكتفينا بإيراد السؤال المفرد، في قصي لحمته مع تيمة الموت، باعتبار هذه التيمة تُحمل على دال واحد أوحد، في شعرية صاحبنا، كلغز فلسفي ووجودي موغل ومتجذّر.
إفراد الموت منوط بإفراد السؤال، فردانية الذات الواهمة، وهي تنشد آفاق التوحّد مع الموت، وفهم واستيعاب لغته.
يقول:
{أَنَا الْفَارُّ مِنْ دُنْيَاي إليك
الْعُمْر يَمْضِي..
رَبِيع كُلّ سَنَة
جُبَّة طويلة تَزْحَف بِي إلى دنيا الخفاء
إِلَى أَيْن؟
أَيَا ذَاكَ الْآَتِي مِنَ الْمَنَافِي
تَبْحَثُ عَنِّي بَعْد كل سَنَة مِنَ الْغِيَاب
تَحْمِل لَوْحِي بِأَبْيَض حِجَاب.}(1).
سمّاها صاحب العمل، قطوفا، وفي هذا إحالة على الموازي، أو المحاكي والمجاور، أي الحياة، فأسلوبيته، غالبا ما تنبني على التقابلات والإثنية المغذية لتجليات الخطاب البلاغي التحديثي.
فمفردات: الفرار، الخفاء، المنفى، الغياب، الحجاب، كلّها كناية على المجابهة الدّامية والموجعة، مع موت من نوع آخر، ينغّص على الحياة الجميلة والحالمة والواهية أيضا، في بعد مثالي، مصطبغ بالأيديولوجي، فوق الحضور العقَدي، وهو البعد ذاته الذي تُغرقه تمثلات الهوياتي، المندورة له كتابات العربي الحميدي المُسترسلة.
إن الآخر الذي يختزل معاني الاستقلالية والنموذجية والرمزية، ليُحافظ على مسافة معيَّنة، من مركزية الذات القلقة، في جوهرية صراعها مع إرهاصات الموت.
فقد تكون خليلة، أو وطنا، أو حياة موازية، المهمّ أننا بصدد أيقونة مفاهيمية، تحاول تفسير، حتّى لا أقول تعليل، هذا الهروب الهوياتي المُشبع بأضرب الوهم، ولنتأمل، هنا كيف أنها رسالة تَشاكُل للعرفاني والفني، تقفز فوق سياق الحِلمية، كي تثبت قوة الكائن المعادلة لهشاشة الشِّعْر.
نقتطف له، أيضا:
{مَاسِكٌ بِذُيُولِ الرَّذَاذِ
يَبْحَثُ عَنْهَا فِي الْمَوْجِ
بَيْنَ حَبَّاتِ الرَّمْلِ
فِي فَاقِعَ لَوْن كُلّ شَيْءِ جَنَّ
عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ
بَنَى ضَرِيحَا منْ صخْرِ صلد
عَلَّهُ يَجِدُهَا فِي ظِلِّهِ
يَوْمَ يَشْتَدُّ بهِ شَوْق حرّ
بَيْنَ عَقَارِبِ السَّاعَةِ
لَيْل / نَهَار}(2).
فإمّا تمظهرات الحياة، أو إبراز ما يفيد ألوانها، ويرفد في رحمها.
الحياة ومشتقاتها كمغازل كوقود ومصدر وخلفية كذلك للإبداعي، المناهض لحقيقة الموت المرّة.
الحياة لعبة لا يمكن تغييبها في معجم انثيالات وأقنعة ووهمية واقع التوحّد مع الموت، ربما لقهر سؤاله، وتبريد هواجسه.
الزمن هنا، على ذبوله وقحولته وشحّ أعياده، يذوب في نسْغ مثل هذه المعادلات، التي تعطّل الموت بحياة مشابهة له.

ثانيا: الهاجس الهوياتي

يرتكز الخطاب الشعري، لدى العربي، على فصول مساءلة الانتماء، واستفزاز ماهيته، وهو في المجمل، توجُّه طاغ، يترجم زخم أحاسيس الغبن الهوياتي، في خضمّ المكابرة الإبداعية، وتساوقا مع إملاءات لغة الرفض.
فالتمرّد خصيصة هذه الشعرية، يقول في موضع:
{لَسْتِ بَدْرَا
لَنْ أَبْحَث عَنْكِ
الْوَحْدَة
مَا كَانَتْ عَمَى اللَّيْلِ
تَهْتَدِي
بِعُكَّازَةِ الْقَمَرِ.
ثَلَاثَة
أَقساط خَسْفٍ
قَبْلَ اِكْتِمَالِ الْبَدْرِ.
وَأَنَا أَتَفَحَّصُ
الْمَسْكُونَةَ بِالنِّيَرَانِ
يَقُولُ الْبُعْدُ
الرُّقْعَةَ الْمَسْكُونَةَ بِالْجُنُونِ
اِكْتَمَلَتْ
اِفْتَحْ لَهَا نَوَافِذَ الرَّحِيلِ}(3).
ففضاء اكتمال المغامرة الإبداعية، في عبورها البلاغي المفخخ بأوهام التوحّد مع الموت، هو ما يسوق إلى محطّات الذبول الخاطف.
بحيث تتناغم استنطاقات الهوياتي والوجودي والفلسفي، لتمنح مثل هذا الفسيفساء المُغرية بثقافة الهروب، وجمالية التورط بتلكم الثورة الخفيضة، المحققة لتوازن كلي، من مركز الذات وإلى دوحتها.
رفض مشروع جدا، يولّد شروط التصالح مع الذات.
يثير هذا مسألة تداخل مجموعة من النظم، نور| ظلام.. رحيل| سكن.. إلخ…
وفي موضع آخر، نطالع للشاعر قوله:
{سَأَلْتُ الْحَظَّ
وَأَنَا
فِي دُرج الْخَيْبَاتِ
فِي بَرْزَخِ الْحَيْرَةِ مَنْسِيًّا..
لِمَ
كُلّ شَيْء جَمِيل
يَطْلعُ نُورَهُ
مُتَأَخِّرًا عَالِيًا مُتَعَالِيًا؟
قَالَ:
لَا تَسْأَلْ
كُنْتَ دَائِمًا
وَلَنْ تَكُونَ
إِلَّا نَسْيًا مَنْسِيّا.
قُلْتُ:
وَقَوْلِي يَجْرِي حَافِيَا
أَمَا كَانَ لِهَذَا الْحَظِّ
أَنْ يَخْتَارَ طَرِيقَا ثَانِيَا؟
أَمَا لَهُ أَعْيُنٌ غَامِزَة وَبَسْمَة تَصْعَدُ عَاليا
تَعِدُ بِمِيلَاَدِ حُلْمٍ
وَلَوْ خَاوِيا؟}(4).
أرى أن هذا، يشكّل الروح الفلسفية لشاعر إشكالي، يرشق بمفاهيم صوفية الموت.
فعيش الحياة الشبيه بالموت، من زاوية السعي خلف الجمال المؤجل، يبصم ملامح إبداعية محايثة، تؤجج هواجس الهوية والرفض، وتسري مع أفلاك الحِلْمية الواهمة، كي تصنع الشاعر الإنسان، المتشبث بموته، نكاية في الحياة الميْتة، والميّتة، الخالية من أي نبض قد تفيض له أمومة الصوفي كضرب من سلوان الموت، واستساغة مرارته.
الخيبة| النسيان| قمع الأسئلة| القول الحافي| وغيرها من مفردات النأي عن مركز الذات، فلا أوبة إلّا من نوافذ الشعر الملهمة بحياة موازية تغالب هاجس الموت الحقيقي، في تربّصه الوحشي، بالكائن الهارب والحائر والخائب والمتهالك من الأصل.
نقتبس له كذلك قوله:
{أَرْكُضُ عَكْسَ الظل…
أَيْنَ أَبْوَابُ الْخُرُوجِ؟
بَرَاقِع تَحْجُبُ الضياء

بُرْقُعَ الْخَرِيفِ
مِرْآةَ اِمْرَأَةٍ
عَلَيْهَا الْمَشَاهِد تَتَغَيَّرُ
تَخْبُو
فِيهَا الْأَشِعَّةُ مِنْ غُبَارِ ذَرّ

بُرْقُعَ الشِّتَاء
الْمَرْأَةَ / أَفْلَاكْ
أَهْوَاء رياحهَا لَيْسَ كَبَاقِي الْفُصُولِ
مَوْجٌ يَلْهُو بِالْمَحَارِ وَالرَّمْلِ
مَدّ جَزْر
أَهْوَاء قِلَاَعهَا لَيْسَ لَهَا اِتِّجَاه.}(5).
إنه ركض عكسي، يُحرج أبواب الخلاص، ويقود إلى مرابع ذبول لحظي، سرعان ما توقظه حقيقة الفناء الحتمي.
فقافلة الشاعر المُدمى -روحيا- بسؤال الموت، تتقاذفها ضدِّية الشهواني والمقدّس، فتفسدها، بمختصر العبارة، حين تقنعها بعقيدة التوحّد مع الموت.
قافلة تخبط خبط عشواء، لا تقصد جهة معينة، كون شاعرها مخمور الروح، بحلمية التّوحد مع الموت، الواشي بدنوّه، خريف العمر.

ثالثا: شعرية الذبول اللَّحظي

ما الذي يُمكن اقتطافه من قول شعري، يغوص في الرمزية، ويُباهي بإبدالات الغموض المقبول؟ غير صور الصوفي المسكونة بإيقاعات الذبول اللحظي، وكيف أن هاجس الموت، يشكّله، ويعاود ترتيب فصوله.
فكلها نوافذ مُشرعة على آماد من سراب، أي منتهى الأوهام القادرة على صناعة الشاعر المتسلّح بإنسانيته.
يقول:
{كَأَنّي أتسلى بِهَا لِتَرْتِيبِ الْأَفْكَارِ
أَنَا مَنْ أَكُونُ
لَمْ يَعُدْ يَهُمّ مَنْ يَطْرَحُ السُّؤَالَ
أَدْرَكْتُ أن الشُّهُبَ
تُضِيءُ وَتَمُوتُ تَخَافُ الْحَيَاة
تَسْقُطُ فِي الصحاري مُرْتَديَة الضياء

 

عُذْرَا قُرْطُبَة يَا أُمَّ الْحِكَايَات
أَنت أَمَامَ الْأَطْلَال
لَا تَسْأَلِي مَاذَا عَليّ
أَنْ أَطْلَبَ أَنْ أفْعَل
أعْرف أَني لَا أُتْقِنُ فَنَّ الْحَيَاةِ
وَلَا كَيْفَ تُنْحَتُ الْكَلَمَات
حِينَ يَضِيقُ الصَّدْرُ
أَبْحَثُ عَنْ نَفْسِي فِي صور الذكريات}(6).
فالذاكرة تحرّض أيضا، بل إنها تخوّل للذات التنفّس داخل عنق الزجاجة، وفي غمرة الاختناق.
فهذه قرطبة تهيمن على الذاكرة، وتنثر الذات القلقة والمُهدّدة بموت وشيك، تدغدغها بورد الأمجاد.
وداخل هذه الذات، يجري البحث عن الذات المتقنة لفن الحياة، والتغلّب على صروف الزمن، وجور المكان.
فكما أن أهمية السؤال، تلغي نفعية طارحه، تُلِحُّ الكينونة بغوايتها، وترخي النرجسية بظلالها، كل هذا يتمّ من أجل قلب المعادلة.
فمن رحم المعاناة يولد الإبداع الحقيقي، والتجديف ضد تيار الحياة، ومن قلب الهلاك، يعدّ جسرا إلى الحياة المُشتهاة.
كما يقول:
{ هُنَاكَ بَيْنَ ثَنَايَا شَوَاطِئِ النِّسْيَانِ
حِينَ السّرَاب يَعْبُرُ الصَّمْت
تَذَكَّرت كَمْ وَكَمْ مِنْ
كَمْ مِنْ أَعْيَادِ الْمِيلَاَدِ كَانَتِ الْأفْضَل!
عَجَبا
لَا شَيْء يَظَلّ عَلَى حَالِهِ سِوَى الْمَوْتِ
مِنْ زَمَانِ وَأَنَا أَمْتَحِنُ هَذَا السُّؤَال.
هَل الْعُمُر لَا يُنْبِتُ إِلَّا الْفَرَاغ؟}(7).
قد يجيبُ هذا المقطعُ على فضول المتلقّي، فمشتلُ سؤال الموت، إنّما يُجسده الفراغ الذي لا يترعهُ سوى الشِّعر، بكل تأكيد، ولكن الشعر، حين ينتفض ويثور، وتبصم تجلياته فورة الجنون.
الجنون الإبداعي الذي يرتقي بالشعر، كي يضعه بالنهاية، فوق طعم وحلاوة الحياة.
بهذا فقط يُجترح الذبول اللَّحظي، فاسحا للذات المقموعة، زمكانيا، فرصة الذوبان في مرارة الموت، وغواية التوحّد الواهم مع هذا اللغز الكبير والحتمي والمُحيِّر.
الأكيد أن العربي الحميدي، استطاع أن يصوّر بذهنية بالغة، هذا السؤال، في تقاطعاته مع موضوعات وازنة أخرى، تأبى الانفصال، وتتعزز لحمتها، بموسوعية شاعر حداثي مجدّد، وبلاغي تليد، طالما استحضر في متون مشروعه الشعري ثيمة الموت، مستشرفًا أحلام جيل تبدّل بالمُطلق، عرّت مراياه زيف الحياة التي بتنا نحابي اختباراتها المريرة.

الهوامش

1. مقتطف من نص “٢٠ مَارِس”.
2. مقتطف من نص “مِنْ مَصْدَرِ مَوْثُوقِ ـ الْحَيَاةُ-”.
3. مقتطف من نص “اِرْتَدَيْتُ لِبَاسَ الرَّفْضِ”.
4. مقتطف من نص “لِم كُلُّ جَمِيل يَأْتِي مُتَأَخِّرًا”.
5. مقتطف من نص “أَعْمَى فِي غُرَفِ السَّرَابِ”.
6. مقتطف من نص “نَوَافِذُ الْفَرَاغِ”.
7. مقتطف من نص “لَا شَيْء يَظَلّ عَلَى حَالِهِ سِوَى الْمَوْتِ

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟