المحاضرة والمناظرة، في تأسيس البلاغة العامة: تَنْبيهات - البشير النحلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"وَلوْ قيل: هاتوا حَقِّقوا لم يُحقِّق"[1]

فاتحة:

   أُخصِّص الفقرات التالية للنَّظر في قراءة محمد العمري للبلاغة العربية القديمة في كتابه «المحاضرة والمناظرة، في تأسيس البلاغة العامة». وسأسعى ما وسعني الجهد ألّا أنساق إلى التّأويل لاعتبارات تصوّريّة ومنهاجيّة ليس هذا مقام تفصيلها. [2] والفرض الأساسي الذي أنطلق منه وأنظر إلى مسائل الخطاب في ضوئه أن سيرورة الدّليل مفتوحةٌ وغير محدودة لكنها مراقبة بقواعد يضفي"عليها التّاريخ الثّقافي نوعا من الشرعيّة"،[3]مما يعني أن الخطابات والنّصوص إنْ كانت مفتوحة وقابلة لأن تُسعف القراء والمؤولين وتتيح لهم إمكانيات تأويلية غير متناهية فإنها – مع ذلك –تُقيّدهم وتفرض على قراءاتهم أن تراعي أنساقها وسياقاتها.

تزداد قيمة إيراد هذا الاحتراز إذا علم القارئ أن المسعى في الفقر القابلة لا يتعلّق بِفَحْص قراءة تنشغل بتأويل نصٍ ذي بنية منفتحة على نحو قصدي؛ بل يتعلّق بالنّظر في قراءة بلاغيٍّ حديث هو محمد العمري للبلاغة العربية القديمة بِقَصْدِ "مناجزة النّكوص والتّزييف المتناميين في مجال البحث البلاغي".[4]المتوقّع أنْ يحفظ خطاب محمد العمري الفرق بينه وبين خطابات البلاغيين القدامى الذين يلجأ للاستعانة بآرائهم وأن يتجنّب الإسقاط ويستعمل الضبط. إلا أنّ تَتبّع كلامه يُبيِّن أنّه ينزلق من قراءة أقوالهم إلى استعمالها، ويقع في تَخْليطٍ يُلْحِقُ قَوْلَهُ بِقَوْلِ مَنْ يُناجِزه؛ وهو ما لا يُمْكِن أنْ يكونَ"لصالح الطّالب الباحث"[5] وفقا للقصد المعلن عنه في تقديمه للقسم الأول من كتابه.

1.    السياق:

   ألّفَ محمد العمري"المحاضرة والمناظرة" ليناقش دعاوى رشيد يحياوي في كتابه "التّبالغ والتّبالغية" وردودَه على النّقد الّذي وجهه إليه. يقول إنّ دراسته:«مرصودة لشيء واحد، لولاه لم تكن، وهو محاولة بيان موقع البلاغة في هذا الكتاب، والتوتّر الذي أحدثه الجوارُ الذي وضعها الباحث فيه. وذلك بعد الذي لاحظتُه من تعامل المتلقين(من أدنى السلم إلى أعلاه) مع الكتاب على أنه كتاب في البلاغة، وكتاب في الدراسات الأدبية بالتبعية، وكتاب في النقد الأدبي بالسماع ومتابعة الأتباع في «حَلْب السِّباع!». نحاول رفع هذا اللبس لأن السكوتَ عليه يُحَوِّل الكتاب عن مغزاه، من جهة، ويهدد الجهود التي بُذلت، على مدى أربعة عقود، من أجل إعادة الاعتبار للبلاغة، بتنسيقها وتدليلها في حوار بين التراث العربي الغني تنوعا وعمقا، وبين المعطيات المنهاجية التي يتيحها البحث الحديث في الموضوع. نحن نحاور مشروعَ المؤلف كمغامرة علمية مشروعة ومحبذة ولا نُقَوِّمُه، وندافع عن حمى البلاغة ولن نُسْلِمها للمُتوهمين»؛[6] وهو يضع  دراسته بين أعماله الموزّعة بين الكتابة الأكاديميّة الّتي يهيمن فيها الموضوع والمنهج والكتابة التّطبيقية الحوارية البيداغوجية الّتي تكون فيها الهيمنة للمتلقي[7] في منحى ثالث:«يدمج المنحيين السّابقين ويدعِّمهما كلا من جهته: يخوض في القضايا الابّستملوجية المؤسّسة للعلم عامّة، ولتخصّصه حصرا (أي البلاغة التي صارت إمبراطوريّة، واسترجعت صفة العلم الكلي لعلوم الإنسان واللسان)، ويخوض في المعرفة النّسقيّة الدّقيقة للبلاغة العربيّة(وهي تقتضي التّفكيك والتّركيب، وضبط المحيط).

يخوض في كلّ ذلك في سياق إنكارٍ مصحوبٍ بعُنْفٍ خَطابي من مُخاطب يفترض انتماؤُه إلى التّخصّص. فالأمر لا يتعلّق بمخاطبٍ خالي الذّهن يلقى إليه الكلام ابتداءً، ولا بمنخرطٍ في البحث البلاغي متعاونٍ، يأخذ ويعطي، بل بمنازع نرى أنه غير منضبط لقواعد الاختصاص، ولا حتى للأسس الإبِّستمُلوجية للبحث العلمي. يتجلى الإنكار في أساليب العنف السيكولوجي المتمثل في الشخصنة(ترك الفكرة ومهاجمة صاحبها، وقد عقدنا للشّخصنة والعنف السيكولوجي «محاكمة» خاصة)، وفي أساليب المغالطة التي سنكشفها في هذه المناظرة.»[8]

قُلتُ: إلى هذه الْمُناجَزَة يُقادُ الأمواتُ بالْحيازِم ليكونوا، رغماً عَنْهُمْ، نُفْرَةَ محمد العمري.

2.      استعمال عبد القاهر الجرجاني:

   أبتدئ بِفَحْصِ المسلك الذي اتّبعه محمد العمري في توضيحه لما ورد في مقتطفٍ للجرجاني اجتزأه من كتاب "الدّلائل"؛ فأَتعَهُّدُ عبارة ذلك المقتطف بتقديم التّفسير الذي أراه ملائما، وأُثَنّي بإيراد توضيح العمري لها حتّى يكونَ بمقدور القرّاء متابعة المناقشة التي أُريدها بعيدة عن أَيّ نوعٍ من المنافرات الّتي صارت أثيرةً عند البعض لاعتبارات ليسَ هذا مجال بسطها.

2-1. تَعَهّد "عبارة" عبد القاهر الجرجاني:

   يقول حازم القرطاجني في إضاءته التّفسيرَ بعد أن عدّد بعض أنواعه:«ويجب أنْ يُتَحرّى في التّفسير مطابقة المفسِّر المفسَّر وأن يُتَحرَّز في ذلك من نقص المفسِّر عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى المفسَّر، أو أن تكون في ذلك زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسِّر زيغ عن سنن المعنى المفسَّر وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له ولو في بعض أنحائه، بل يجهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء.» [9] الأمثلة التي يقدّمها حازم لأنواع التفسير قبل هذه الإضاءة وللتفسيرات غير الموفّقة بعدها التي يدعونا إلى أن نتحرّز منها وألا نتسامح في مثلها كلّها أمثلةٌ شعريّة؛ فيكون الأخذ بما تشترطه هذه الإضاءة بخصوص الكلام المفسِّر غير الشِّعري وبالأخص في خطاب العلم من باب الأَوْلى. لذا سَنَتَعَهَّدُ في ضوئها عبارة الجرجاني حتّى نعرف الخطأ من الصواب في توضيحات محمد العمري.

كلام الجرجاني:

«وجملةُ ما أردتُ أن أبيّنه لك: أنْ لا بدّ لكلّ كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أنْ يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومةٌ، وعلةٌ معقولةٌ، وأنْ يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيلٌ، وعلى صحّة ما ادّعيناه على ذلك دليل"[10]

تفسيره:

   يقول الجرجاني إنّ ما سعى لتوضيحه يُلخَّص في ما يلي: إن أحكام استحسان الكلام ينبغي أنْ تُؤسَّس تأسيسا علميّا ببنائها على خصائص قابلة للرّصد والضّبط، ذلك أنّ القول بأنّ هذا الكلامَ حسنٌ يستلزمُ أنْ يكونَ له منَ الخصائص ما يجعله كذلك، وتلك الخصائص هي نفسُ ما يُطلق عليه الجرجاني جهات الاستحسان. وبما أن تلك الخصائص هي التي تُراعى في الاستجادة، أوْ قُلْ هي التي يُبنى عليها الحكم بالحسن اعْتُبِرتْ علّةَ ذلك الحكم. فيتوجّب على من يَسْتَحْسِن  (1) أنْ يحدِّد بالضّبط علّة الاستحسان، أي أنْ يَقولَ بناءً على أيٍّ من الخصائص استحسنَ ما استحسن، (2) وأنْ يملك القدرة على توضيح ذلك بكلام مبين.

2-2.توضيحات محمد العمري لكلام الجرجاني:

»يسجل هذا النص حاجة العلم إلى الانتقال من مرحلة الانطباع/ الملاحظة، وهي طبيعية في كل العلوم مهما اختلفت طبيعتها أو الأدوات المستعملة فيها، إلى تعيين جهة الأثر، أو مصدره وتعليله تعليلا معقولا. ولا يتسنى ذلك إلا بإنشاء لغة قادرة على التعبير عنه في استقلال عن اللغة الطبيعية، أي الانتقال من الإشارة إلى العبارة، ثم البرهنة على صحة التعليل. وهذا الشرط الأخير، شرط الاطراد، هو الذي سيتعب الجرجاني في آخر الدلائل، ويجعله يحس بأن إدخال النظم النحوي في بنية البلاغة لم يحل المشكل. وبذلك عاد إلى نقطة البداية مستنجدا "الذوق والقريحة"«[11]

2-3..التّشويش بإسقاطات زائغة:

   أقصد بالإسقاط في هذا السياق أن يُنْسَبَ للقول ما ليس منه وما لا يمكن أن يقع في الحيّز الدلالي الّذي يرسُمهُ ويتيحه نسقُه وسياقه الضّيّق والموسّع؛ ويكون الإسقاطُ قبيحا جدّا حينما يكونُ تَقْويلا لما لا يصحّ لأَحَدٍ أن يقوله أصلا. فهل يصحُّ أن نفهم من كلام الجرجاني ما قاله العمري من أنّ مسعى تبيين جهة الاستحسان وتعليله «لا يتسنى إلا بإنشاء لغة قادرة على التعبير عنه في استقلال عن اللغة الطبيعية، أي الانتقال من الإشارة إلى العبارة، ثم البرهنة على صحة التعليل..»؟

لا، بدون تردّد. والكلام بدون تروٍّ يوقع في ضلالات بعيدة.

أولا:"العبارة" في كلام الجرجاني لم تستعمل بمعناها المنطقي الضّيق، وهو ما قاله العمري نفسه قبل المقتطف المستشهد به حين فسّر قول الجرجاني المتعلِّق بمن يتكلم في البلاغة بـ"الرمز ولإيماء، والإشارة في خفاء" قائلا بأنّه يقصد أن كلامهم «يفتقر إلى الوصف الدّقيق والتّفسير المقنع»؛[12] وإذا جاز لأحدٍ أنْ يقول بأن "العبارة" في كلام الجرجاني تطابق القول المنطقي، فما الذي يمنع غيره بأن يقول إنّها بالمعنى الّذي يُسنده إليها صاحب حفريات المعرفة في زمننا مثلا؟ إنّ العبارة في "أسرار" الجرجاني وفي "دلائلــ"ـه تَرِد (1) إمّا بمعنى اللفظ[13] (2) وإما بمعنى الإعراب عمّا في الضّمير وتبيينه وإفهامه على نحو ما هو ظاهر في المقتطف المستشهد به من قِبَل محمد العمري والّذي يمكن أن نجد ما يماثله في مواطن أخرى  كثيرة في "الأسرار" و"الدّلائل"[14]

مِنَ البيِّن أنّ الجرجاني، شأنه شأن غيره من بلاغيّين وأصوليّين ومنطقيّين، يُسْنِد إلى "العبارة" سواء كانت اسم ذات أو اسم معنى من الخصائص ما يجعلها في استعمالها الخاص تقابل الإشارة،[15] ويبني على أنّ العبارة من كيفيّات دلالة اللفظ على المعنى وبأنّها القولُ يُساق ليستفادَ من لفظه معنى أو حكم يظهر فيه على نحو أوليّ صريح، ففي المقتطف الأخير الّذي أوردناه له بالهامش (14) يربط بين العبارة والتّبيين بإبراز المعاني من غير حجاب من ناحية ويربطها بالتّعليل والحجاج والبرهان من ناحية أخرى؛ ويضع، شأن غيره أيضاً، مقابل العبارة"الإشارة"التي لا يُساق لها اللّفظ ولا يظهر معناها فيه على نحو مباشر فــ" كما أنّ المتكلّم قد يُفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدلّ عليه نفس اللّفظ، فيسمّى إشارة، فكذلك قد يَتبع اللفظَ ما لم يُقصد به ويُبنى عليه"؛[16] إلّا أنّ هذا وغيره لا يمكن أن يتيح لنا المطابقة بين العبارة عند عبد القاهر -وعند سواه من البلاغيين- والعبارة بمعناها المنطقي الضّيق. فالجرجاني يتحدّث عن العبارة بمعناها العام في الشّعر مثلا، والأقاويل الشعرية تتألّفُ من "قضايا" مخيّلة يكون الغَرضُ منها انفعال النّفس إذا جاز لنا أن نستعمل وصف المنطقيّين ومن يتقيّلهم من البلاغيّين؛ ويستعملها بمعناها الخاص  الدال على القول الدقيق والمضبوط أو قل العلمي، ويرفض موقف من يَسْتصعب مطلب الكشف عن المزيّة في الكلام ومن يعتقد أن العبارة لا تقوى عليه فَيُعلن عزمه على بيان جهات مزايا الكلام وعللها ويقدِّم عليها الحجج والبراهين ويُنزِّل القولَ في ذلك ويدرِّجه شيئاً شيئاً وبلغة طبيعيّة لم يدّع مطلقا قابليتها للصياغة الرمزيّة والحساب المنطقي.

ثانيا:ما قلناه بخصوص العبارة يُقال مثلُه في ما يتعلق بالدّليل. فالدّليل عند الجرجاني لا يمكن أن يُختصر في القياس المؤلّف من اليقينيّات. لهذا لا بدّ أن يشمل بالإضافة إلى  البرهان الحجة والعلة والشاهد والمثال والتمثيل والاستعارة وغير ذلك. وهو ما يعني أنّه لا سبيل إلى حشره في الخانة الضيّقة للدّليل المنطقي القابل للصّورنة والكتابة الرّمزيّة، لأنّه يرتبط باللّغة الطّبيعيّة الّتي يَتألّفُ منها خطابه كما تتألّفُ منها الخطابات التي يضعها موضع النّظر.

ثالثا:وكيف يُعقل أن ندّعيَ أن الجرجاني يأخذ العبارة والدّليل بالمعنى الضّيّق الذي يُسْنَد إليهما في المنطق؟ الجرجاني بلاغيٌّ يَسْتَفْرِغُ الوُسْع لأجل فهم الخطاب وتفسيره ولا يسعه إلا أن يُعنى بالتّداول إلى جانب الدّلالة والتّركيب، في حين يُسقِط المنطقُ من حُسْبانه حقلَ التّداول ويُفَقِّر الدّلالة باختزالها في قيمتي الصّدق والكذب ولا يحتفظ من التّركيب إلّا بما هو قابلٌ للتّجريد والبناء الصّوري.

   بهذه الاعتبارات يكون الرّأيُ  القائل بأن الانتقال من الإشارة إلى العبارة مُحوِجٌ إلى "إنشاء لغة قادرة على التّعبير في استقلال عن اللّغة الطّبيعية" رأيا فاسداً، ويكون ربطه بالجرجاني بنسبته إليه أو حمل كلامه عليه داخلا في الرِّكّة والتخبط والتّخليط؛ وأتعجّب مِنْ ورود هذا في كلام مَن قال في سياق آخر:"ويمكن القول بأن إخراج بيان الجاحظ من السلميّة القيميّة، التي جعلته أقل قيمة من البرهانيّة، إلى سلم التّواصل، الّذي لا يمكن أن يكون إلا بلاغيّا، كان سيكون من باب إرجاع الأمور إلى نصابها.."؛[17]!

5.2. التّشويش بالزّيادة:

   وليس هذا كلّ ما في تعليق محمد العمري على هذا المقتطف القصير من كلام عبد القاهر الجرجاني، بل إنّ فيه إطلاقاً للكلام من غير أنْ تكون هناك حاجة إليه،فتكونُ الزّيادة تشويشاً لا إِفادة.لِنلاحظ:

يقول «يسجل هذا النص حاجة العلم إلى الانتقال من مرحلة الانطباع/ الملاحظة» إلى مرحلة أخرى. ويوضّح بأنّ مرحلة الانطباع/الملاحظة التي يحتاج العلم إلى أن ينتقل منها «طبيعيّة في كل العلوم مهما اختلفت طبيعتها أو الأدوات المستعملة فيها».

أَوّلُ ما يُثير في هذا القول هو استعماله للرّابط "أوْ" الّذي يجعل الحكم بطبيعيّة المرحلة الانطباعيّة في العلوم متعلِّقا إمّا بطبيعتها مهما كانت وإمّا بالأدوات المستعملة فيها أيّا كانتْ. ومعلومٌ أنّ هذا الحرف في الكلام الخبري يفيد الشّك أو الإبهام أو التّقسيم. نعم يستعمل بمعنى واو النّسَق أيضاً عند أمن اللّبْس؛[18] ولكن هل نحن في منجاة من اللّبس؟

وحتّى إذا قلنا إنّ رابط الفصل هنا استعمل مكان رابط الوصل وأنْ لا مجال لأيِّ لَبْس لأنّ المعنى هو "..مهما اختلفت طبيعتها والأدوات المستعملة فيه"، فإنّنا لا نملك إلا أن نسأل: لماذا خصّ الأدوات بالعطف على الطّبيعة؟  ما الذي تضيفه تلك "الأدوات" التي اضطرّته إلى استعمال حرفٍ قد يَشْتَبِه مكان آخر؟ ثم لماذا لم يقل مثلا:مهما اختلفت موضوعاتها ومناهجها..؟ أيكون تَرَك ذلك لأنّ طبيعة العلوم هي مِزاجها وما هي عليه من موضوعات وحدود وأشكال وأنظمة ومناهج وتقنيّات وغير ذلك ؟ إذا كان الجواب بنعم فَلِمَ يخصّ الأدوات بالذّكر؟

ثمّ ما الإفادة التي نحصِّلها من هذه الجملة أصلاً:"وهي[مرحلة الانطباع/الملاحظة]طبيعيّة في كلّ العلوم مهما اختلفت طبيعتها أو الأدوات المستعملة فيها"؟ أيكون الجرجاني انتقل إلى مرحلة الضّبط والبناء الاستدلالي لعلم البلاغة  بمجرّد "تسجيله" لحاجة البلاغة إلى الانتقال إلى ذلك؟ هل يكفي التّصريح بالحاجة لتجاوز الانطباع ليتحقّق التّجاوز؟ مشروعيّة السّؤال مستمدّةٌ من حكم محمد العمري بعدم توفّق الجرجاني في مسعاه حين يقول في نفس الكلام الّذي علّق به على المقتطف: «ولا يتسنّى ذلك إلا بإنشاء لغة قادرة على التّعبير عنه في استقلال عن اللّغة الطّبيعيّة، أيْ الانتقال من الإشارة إلى العبارة، ثم البرهنة على صحّة التّعليل. وهذا الشّرط الأخير، شرط الاطّراد، هو الّذي سيتعب الجرجاني في آخر الدّلائل، ويجعله يحسّ بأن إدخال النظم النحوي في بنية البلاغة لم يحلّ المشكل. وبذلك عاد إلى نقطة البداية مستنجدا "الذوق والقريحة».[19]

   إذا كان الجرجاني قد عاد في آخر الدّلائل إلى نقطة البداية كما ادّعى محمد العمري فما الدّاعي لمقارنة مرحلةٍ للبلاغة ستحاول تخطّيها دون أن تتمكّن من ذلك بالمرحلة الأولى لعلومٍ تركت تلك المرحلة إلى أُخرى موسومة بالعلميّة. فكأنّك تقول: قرّرت شأني شأن غيري الانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب، فخرجت وضربت في الأرض حتّى تركت نعالي في كلّ أرض مُضِلّة، ولكنّي وجدت نفسي في النّهاية في النّقطة أذاتها،في الوقت الذي صار الكُلّ إلى النّقطة ب. فأنا مثلي مثل غيري!

6.2. التّشويش بالظّنونِ الرّديئة:

   يبتدئ محمد العمري توضيحه لكلام الجرجاني بما يلي :«يسجل هذا النص حاجة العلم إلى الانتقال من مرحلة الانطباع/ الملاحظة، وهي طبيعية في كل العلوم مهما اختلفت طبيعتها أو الأدوات المستعملة فيها، إلى تعيين جهة الأثر، أو مصدره وتعليله تعليلا معقولا»؛ فيضع كما هو واضح شَرْطَةً مائلة (/)بين الانطباع والملاحظة،[20] مما يجعل مخاطَبه يتردّد بين اختيار واحدةٍ من الكلمتين على اعتبار أن المتكلم يترك له أن يربط بتلك المرحلة "البلاغية" الكلمة التي يراها مناسبة، وبين أن يجمع بينهما ويربطهما بها معا. وهو ما يجعل هذه الشّرْطَة القصيرة المائلة تَشْتَبِهُ وتُشَوّشُ عِوَضَ أنْ تُوَضّح.

   فإِذا اخترنا أن نعتبر المرحلة مرحلة انطباع بدون شَرْطَةٍ ومُلاحَظَة وهو أفضلُ الوجوه، فإنّ كلام محمد العمري يبقى مَدْخولاً: إِذْ لم يَعُدْ بالإمكان الأخذ بمثل هذا التّصور التّقليدي الّذي يُلقي بالانطباعات والإدراكات الأوليّة والحدسيّة وبكلّ الأبعاد التاريخيّة والتّداوليّة إلى خارج مطلق، إلى ما قبل العلم؛ويَجعل للعلم"مرحلة" موسومة بالتّجانس والصّرامة والضّبط في كلِّ مستويات الفعل العلمي المنهجيّة والبنائيّة.

أمّا إذا اخترنا أن نعتبر المرحلة مرحلة "ملاحظة"، فإننا نكون بين أمرين: (1)أن نفهم الملاحظة بمعناها اللّغوي وخارج السياق العلمي فتصير مشاهدةً ومراقبة أوّليّة وغير منهجيّة، فيكون ربطها بالانطباع بِشَرْطَةٍ مائلة واصلة أو بغيرها عملا مناسبا، فلا نحتاج حينها إلى أكثر ممّا قلناه في ملاحظتنا السابقة،(2)أو نفهمها باعتبارها مراقبةً مُتيقّظة ومنهجيّة لا غنى عنها في كل خطوات النّشاط العلمي من الظّاهرات التي يضعها العالم موضع النّظر إلى أنشطة البناء الاستدلالي الّذي يسعى إلى أنْ تتوافر له شروط الاتّساق والأناقة. وليس بخافٍ أنّ ترك استعمال لفظ الملاحظة بهذا المعنى-أو بمعنى أَدَقَّ منه-وتفضيل تقريبه من الانطباع في سياق الحديث عن العلم وادّعاء إمكان الانتقال إلى مرحلة بناء استدلالي لا يحتاج مراقبة لظاهراته المفسَّرة ولاتِّساق بنائه لَمِمّا يدخل في الظنون المخْتَلِطَةِ المشَوِّشَة.

   وَهل يَقِف الأمرُ عندَ حدّ؟

   يَقول الجرجاني إِنّ استحسانَكَ الكلام يجبُ أن يُبنى على علمٍ بالجهة التي تَستحسنُه باعتبارها، أيْ بالجانب الّذي يجعله حسناً في تقديرك، أوْ إنْ شئتَ قُل: موضع حسنه ومكمنه. فيوضّح محمد العمري بأنّ الجرجاني يقول بواجب تعيين "جهة الأثر".ونحن إنّما نَسأل: ما العبارة الأوضح في السيّاق الذي نحن فيه: أَنْ يُقال إنّنا عندما نستحسن كلاماً فإنّنا نفعل اعتبارا لجهات فيه هي الّتي ينبغي أن نسعى إلى إبرازها بعبارة مضبوطة، وهذا ما قاله الجرجاني؛ أم أَنْ يقال -وفي خطاب شارح- إن "نص" الجرجاني يسجّل حاجة العلم إلى الانتقال إلى "تعيين جهة الأثر"؟ لفظ الأثر قد ينقل المعنى من اعتبار جهات الحسن في الكلام إلى تتبّع وَقْعِهِ عند متلقيه خاصّة بعد أن صار التّلقي من موضوعات المدارسة والبحث، وهذا يوقع في الخلط.بين التّوكيد على واجب إبراز الجهة التي من أجلها استحسنّا الكلام، والتوّكيد على واجب إبراز جهة الأثر نُسجّل، في ما يخصنا، الفرق بين القولين، ونُشَدّدُ أن ترك الرويّة مُضِرٌ من كلّ وجه.

   وماذا عَنْ "إِدخال النظم النحوي في بنية البلاغة"؟ هل علينا أنْ نسلِّم بوجود بنية للموضوع باعتباره الإطار الفارغ الذي نرتب فيه القول ونبتنيه، فنقول على سبيل المثال وقياسا على بنية البلاغة هذه بنية الفلسفة وبنية النحو وبنية الرياضيات وهكذا..؟ إذا كان ذلك كذلك، فإنّ من الجائز فعلا أن نتحدث عن إدخال غير موفق للنحو في البلاغة! وهذه مسألة أتمنى أن يتاح لي العودة إليها في قابل.

6.2. التّشويش بالأحكام المُتَسرِّعة:

   يقول محمد العمري في نفس تعليقه السّابق بأن عبد القاهر الجرجاني عاد في نهاية الدّلائل إلى نقطة البداية مستنجدا الذّوق والقريحة، ذلك أنّ النّظم النّحوي الذي أدخله في بنية البلاغة لم يسعفه في سعيه للبرهنة على "صحّة التّعليل". وبِقَطْعِ النّظر عن الصّياغة غير الموفّقة للرّأي الذي يُعْلِن عنه محمد العمري في هذا الكلام، فإنّ فيه ما يدفعُ للعجب. ذلك أنّ دفاعه عن الجرجاني لم يمنعه من أن يُقَوِّله ما لم يَقُل، بل ويَجعلهُ يُصرّحُ، رغما عن أنْفه، بِفشله: فَشرطُ الاطِّراد "سَيُتْعِبُ" الجرجاني وَ"يـجْعَله يُحسّ" أنّ «إدخال النّظم النّحوي في بنية البلاغة لم يحل المشكل، وبذلك عاد إلى نقطة البداية»؛ بل إنّه يؤكّد ذلك في سياق آخر يَرُدّ فيه على تهمة "الوثوقية" الّتي أُلْصِقت بالجرجاني فيقول إنّ الجرجاني ختم "الدّلائل" بالاعتراف « بما يشبه الفشل». وهي عبارة لا تقل غرابة عما قاله في تعليقه أعلاه الذي يصطنع فيه – إذا استعنا بالمصطلحات السّرديّة- التّبئيير في درجة الصفر فينقل للقارئ ما أصاب الجرجاني من تعب وما كان يخالجه من إحْساس وكيف عاد في النّهاية إلى نقطة البداية. لنقرأ كلامه الذي يقول فيه إن الجرجاني "يعترف بما يشبه الفشل" في سياق الدّفاع عنه:

«الحديث عن الوثوقيّة عند الجرجاني يحتاج إلى حجج تدحض ممارسة التعديل على مدى الأسرار والدلائل؟ غير ممكن. أستغفر الله، لقد ظلمته.الجرجاني ظل يعدل مشروعه بذكاء وإخلاص من الأسرار إلى الدلائل،ثم ختمه بالاعتراف بما يشبه الفشل، لأنه لاحظ أن شرط الاطراد والتعميم غير متوفر في النظم»[21]

نَتْرُكُ مسألةَ الاعْتِراف "بما يشبه الفشل" فليس فيها ما يُعَوَّلُ عليه، ونبدأ من مناقشة  قول العمري إن الجرجاني عاد إلى نقطة البداية مستنجدا الذوق والقريحة.يَفْتَرِضُ هذا الحُكم أنّ الجرجاني (1) كان في "نقطة البداية" يعتمد الذّوق والقريحة، فحاول أن ينتقل إلى بناء أحكامه على أساس علمي فلم تسعفه قوانين النّظم النّحوي، ثم عاد إلى الاحتكام إلى الذّوق والقريحة؛ (2) أو أنّ المهتمين بشأن البلاغة السّابقين عليه كانوا يحتكمون إلى الذّوق، فعمل، من جهته، على تجاوز ذلك بـ"إدخال" النّظم النحوي في "بنية" البلاغة، لكنّه لم يَتوَفّق، فعاد، هو نفسه، إلى الأخذ بالذّوق والاحتكام إليه.

ما يخرج من حيِّز الرّؤية لدى محمد العمري هو أنّ عبد القاهر الجرجاني لا يرى الذّوق أمراً معيباً ينبغي التخلّصُ منه وإبعادُه. ولستُ أدري كيف يُمكنُ السَّهْو عن هذا  مع  أنّ الجرجاني واضحٌ وضوحاً لا مزيد عليه فيه. عَمَلُ الجرجاني محاولةٌ في تفسير أحكام الاستحسان التي تنبني على الذّوق وهو ما يقوله المقتطف القصير الذي يورده له العمري نفسه، و يقوله عمله كلّه، وهذا مثال، من فاتحة مُصَنّفه:  "وجملةُ الأمر أنّه لا يرى النّقص يدخل على صاحبه في ذلك، إلّا من جهة نقصه في علم اللّغة، لا يعلم أنّ ها هنا دقائقَ وأسراراً طريقُ العلم بها الرّويّة والفكرُ، ولطائفَ مستقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هُدوا إليها، ودُلّوا عليها، وكُشِفَ لهم عنها، ورُفِعَت الحجب بينهم وبينها"[22]هذا ما يقوله الجرجاني في فاتحة كتابه قبل آخره وقبل الرّسائل والتّعليقات الملحقة به. ومعلوم أن الجرجاني يرى أن الذوق يُنَمّى ويُرَقّى بالتّهذيب والصّقل وأن هناك مرتبة فيه لا يبلغها إلا من طالت خدمتُه للبلاغة وتوِّجَتْ تلك الخدمة بهبة ربانيّة تكشف له الدّقائق والأسرار؛ وإلا فـ«لسنا نستطيع في كَشْفِ الشّبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو الحقُّ عندهم، ما استطعنا في نفس النّظم، لأنا ملكنا أن نضطرّهم إلى أن يعلموا صحّة ما نقول. وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهيِّن، ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكانَ فيه مع كلِّ أَحَدٍ مسعفاً، والسّعي منجحا، لأنّ المزايا التي تحتاج أن تُعْلِمَهم مكانها وتصور لهم شأنها، أمور خفيّة، ومعان روحانيّة، أنت لا تستطيع أن تنبِّه السامع لها، وتحدث له علما بها، حتى يكون مُهَيئاً لإدراكها، وتكون فيه طبيعةٌ قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة=ومن إذا تصفّح الكلام وتدبّر الشّعر، فرّق بين موقع شيء منها وشيء»،[23] ولستَ – كلام للجرجاني من نفس الفصل نورده للتأكيد- «تملك إذاً من أمرك شيئاً حتى تظفر بمن له طبعٌ إذا قَدَحْتَه وَرِي، وقلب إذا أريته رأى، فأَمّا وصاحبك من لا يرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تَهديه، فأنت رامٍ في غير مرمى، ومُعَنٍّ نفسك في غير جدوى، وكما لا تُقيم الشِّعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا تُفْهِم هذا الشّأن من لم يُؤْتَ الآلة التي بها يفهم»[24].

فيظهر أنّ الذّوقَ عند الجرجاني فضيلةٌ، خُلُوُّ طَبْعِ أحدٍ منها يَجعله ممن لا يُخاطب في صناعة البلاغة؛ وأنّ وجودَ من ليس له من الذّوق، المتفاوَت فيه من حيث الزِّيادة والنَّقص والقوّة والضّعف،  ما يؤهِّله لرؤية ما يُريه وفهم ما يُفسِّره له وتتبُّع حججه عليه هو ما كان يحمله على التّوكيد على عدم جدوى التّبيين له ولكلِّ من على حاله. فكيف يصحّ القول بعودة الجرجاني إلى ما هو أساسي عنده منذ البداية، وما التّصريح بما يشبه الفشل الذي يمكن أن ننسبه إليه. نأخذ خاتمة الدّلائل كاملة، فهي كافية -وزيادة-لنفي "تعب" الجرجاني و"إحساسه" أنّه "لم يحلّ المشكل". نوردها لِيُقْرَأَ في ضوئها قول محمد العمري الذي يبدو متسرِّعاً لا حَصاة فيه؛ ذلك أنّ الجرجاني يُؤكِّد فيها أنه انتهى إلى كلِّ غاية في ما قصد إليه:

«وقد بلغنا في مُداواةِ الناس من دائهم، وعلاج الفَساد الذي عَرَض في آرائهم كُلَّ مَبْلَغٍ، وانتهينا إلى كُلّ غايةٍ، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسَّفون فيها إلى السَّنَنِ اللّاحِب، ونقلناهم عن الآجِن المطروق إلى النّميرِ الّذي يَشْفي غليلَ الشّارب، ولم ندعْ لباطلهم عِرْقاً يَنْبِض إلّا كويناه، ولا للخلاف لساناً ينطقُ إلا أخْرَسْناه، ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عَقْلٍ إلا حَسَرناه، فيا أيها السامع لما قُلْناه، والنّاظرُ في ما كتبناه،  والمتصفِّحُ لما دوَّنّاه، إن كُنْتَ سَمعتَ سماعَ صادقِ الرَّغْبة في أن تكون في أمْرِك على بصيرة، وَنظَرْتَ نَظَرَ تامِّ العناية في أن يورِدَ ويُصْدِرَ عن معرفة، وتصفَّحْ تَتَصَفُّح من إذا مارس باباً من العلم لم يُقْنِعهُ إلّا أن يكون على ذروة السّنام، ويضرب بالمعَلّى من السّهام، فقد هُدِيت لِضالَّتك، وفتح لك الطريقُ إلى بُغْيَتِك، وهُيِّئ لك الأداة التي بها تبلُغ، وأوتيت الآلةَ التي معها تصلُ. فخذ لنفسك بالتي هي أمْلَأُ ليديك، وأَعْوَدُ بالحظِّ عليك، ووازِن بين حالك الآن وقد تنبّهت من رَقْدتِك،  وأفقت من غَفْلَتك، وصرت تعلم إذا أنت خُضْتَ في أمر «اللفظ» و«النظم» = معنى ما تَذكُرُ، وتَعْلمُ كيف تورِد وَتُصْدِر، وبينها وأنت من أمرها في عمياء، وخابط خبط عشواء، قصاراك أن تكرّر ألفاظا لا تعرف لشيء منها تفسيرا، وضروب كلام للبلغاء إن سُئلتَ عن أغراضهم فيها لم تستطع لها تبينا، فإنّك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدّتك. ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده وننتحيه، لوجهه خالصا، وإلى رضاه عزّ وجلّ مؤدِّيا، وللزّلفى عنده موجبا، بمنِّه وفضله ورحمته."[25]

على سبيل الختم:

   أقْطَعُ القوْلَ عند هذا الحدّ في ما يتعلّق بمناقشة توضيح محمد العمري لمقتطف من "دلائل" الجرجاني، وقد بيّنت فيها لمن كان له قلب حيّ قدر التّشويش الّذي اعتراه بفعل الإسقاطات والزّيادات والظّنون الفاسدة والأحكام المتسرّعة. وسأعمل في قابل على تقديم المزيد من التّوضيح حول سوء استعمال أقوال القدامى في منافراتٍ مُريبَةٍ وغريبة.

الهوامش:

[1]- عجز بيت شعري يورده عبد القاهر الجرجاني  في الصفحة 40 من كتاب "الدلائل" وكلامه الذي يقتطفه محمد العمري وارد في الصفحة التالية لها مباشرة، أي الصفحة 41. والبيت  بصدره وعجزه هو:

يَقولون أقوالا ولا يَعلمونها    وَلوْ قيل: هاتوا حَقِّقوا لم يُحقِّقوا

أنظر:  عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص. 40.

[2]- الإعلان عن هذا المسعى في فاتحة هذه الفقرات لا يستتبع بأي وجه الزعم بأنّ ما أقوله لا يقوم على أطر ذهنيّة وخطاطات معرفيّة تُشْرِبُ المنظور الذي أتبناه وتعطيه طابعا خاصّاً.

[3]-Umberto Eco˸ Les limites de l’interprétation,Tad.MryemBouzaher , CRASSET , 1992 , P. 129-130.

[4]- محمد العمري: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017، ص. 5.

[5]-نفسه، ص. 11.

[6]- نفسه، ص. 95-96.

[7]- نفسه، ص. 90.

[8]- نفسه، ص. 91.

[9]- حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3،  1986، ص.58.

[10]- أورد محمد العمري هذا المقتطف من كلام الجرجاني في المرجع السابق، ص. 14-15.

[11]- نفسه، ص.15.

[12]- نفسه، ص.14.

[13]- في مثل قوله: «اعلم أنّ الحكم على الشّاعر بأنه أخذ من غيره وسرق، واقتدى بمن تقدّم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحا، أو في صيغة تتعلّق  بالعبارة. ويجب أن نتكلّم أولاً على المعاني.»أنظر: عبد القاهر الجرجاني:دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص. 34. وفي مثل قوله: «ولم أزل منذ خدمتُ العلم أنظر فيما قاله العلماء من معنى "الفصاحة" و"البلاغة"، و""البيان"، و"البراعة"، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، ..». نفس المرجع، ص. 34.

[14]- من قبيل: «وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزِيَّة، وبيان الجهات التي منها تعْرِض. وإنّه لمرامٌ صعبٌ ومطلبٌ عَسير، ولولا أنّه على ذلك، لما وجدتَ النّاسَ بين مُنْكِرٍ له من أصله، ومُتَحَيِّلٍ له على غير وجهه، ومعتقدٍ أنه بابٌ لا تقوى عليه العبارة، ولا يُملَك فيه إلّا الإشارة، وأن طريق التّعليم إليه مسدودٌ، وباب التّفهيم دونه مغلق، وأن معانيَك فيه معانٍ تأبى أن تبرُز من الضمير، وأن تدين للتّبيين والتّصوير، وأن تُرى سافرةً  لا نِقاب عليها، وباديةً لا حجاب دونها، وأنْ ليس للواصف لها إلا أن يلوِّح ويُشير، أو يضرب مثلاً ينبئ عن حُسْنٍ قد عرفه على الجُملة، وفضيلةٍ قد أحسَّها، من غير أن يُتبع ذلك بيانا، ويقيمَ عليه برهاناً، ويذكُرَ له علّةً، ويورد فيه حُجّة. وأنا أُنزِّل لك القول في ذلك وأدرِّجه شيئاً شيئاً، وأستعين بالله تعالى عليه، وأسأله التّوفيق.». المرجع السابق، ص. 64-65.

[15]- يتناول طه عبد الرحمان العلاقة بين العبارة والإشارة تناولا فيه الكثير من التفصيل والتحصيل. أنظر: الفصل الأول (القول الفلسفي بين العبارة والإشارة) من كتابه: فقه الفلسفة، القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص. 67 وما بعدها. ويتوجب الإشارة إلى أن المقابلة النافعة التي أقامها بين القول العباري والقول الإشاري مبتناة على ما تأدت إليه أنظار القدامى بهذا الخصوص، والجرجاني واحد ممن قابل في كلامه بين العبارة والإشارة على نحو صريح وفي أكثر من مكان. يقول، وهذا مثال أعزز به ما ورد بالهامش 14 بخصوص هذه المسألة: «واعلم ..أنك لا ترى نوعا من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذين علَّموا الناس، وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريح أغلب على التلويح. والأمر في «علم الفصاحة» بالضد من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه، وجدت جله أو كله رمزا ووحيا، وكناية وتعريضا، وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطُن له إلا من غلغل الفكر وأَدَقَّ النّظر، ومن يرجع مِنْ طبعه إلى ألمعيّة يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأن بَسْلاً حراما أن تتجلى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها، وحتى كأن الإفصاح بها حرام، وذكرها إلا على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ». أنظر: دلائل الإعجاز، مرجع سابق، ص. 455.

[16]- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي:المستصفى من علم الأصول، اعتنى به عبد الله محمود محمد عمر،دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 1، 2008، ص. 411.

[17]- نفسه، ص. 125.

[18] تناول محمد العمري بالتوضيح استعماله للحرف "أو" في كلام له لم يفهم من قبل رشيد يحياوي، وأعتبر هناك أن هذا الحرف يدل على "التفصيل والتفريق والتقسيم" مع إيراد آراء ترادف بين هذه الكلمات بالهامش 1، ص. 353-354 منالمرجع السابق.

[19]- يعود محمد العمريفي الصفحة294، إلى القول بأن عبد القاهر الجرجاني انتهى في "الدلائل" إلى "الاعتراف بما يشبه الفشل".سياق كلام العمري هو نفي وصف "الوثوقية" الذي أطلقه رشيد يحياوي على عبد القاهر الجرجاني.

[20]- تُستعمل الشَّرطة المائلة في وحدات القياس وللدلالة على القسمة وفي بعض الاختصارات وفي ترقيم الصفحات، وتستعمل أيضا بدل الشَّرطة الواصلة عند البعض للجمع والتخيير وأحيانا للتقريب بين كلمتين أو للمضادة بينهما. وليس بخاف أن التعسف في استعمالها حاصل وهو يشملها ويشمل غيرها عند من لا ضبط عنده ولا تمييز.

[21]- محمد العمري: مرجع سابق ، ص. 293-294.

[22]- دلائل الإعجاز، مرجع سابق، ص. 7.

[23]-عبد القاهر الجرجاني:دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص. 547.

[24]-عبد القاهر الجرجاني:دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص. 549.

[25]- عبد القاهر الجرجاني:دلائل الإعجاز، مرجع سابق ص.477-478.

المراجع:

◘  حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3،  1986،

◘  محمد العمري: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.

◘   عبد القاهر الجرجاني:دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

◘   عبد القاهر الجرجاني:أسرارالبلاغة، تحقيق محمد الفاضلي. المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، ط.2،1999.

◘  أبو حامد محمد بن محمد الغزالي:المستصفى من علم الأصول، اعتنى به عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 1،2008.

◘   Umberto Eco˸ Les limites de l’interprétation,Tad.MryemBouzaher , CRASSET , 1992.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟