علم الاجتماع وظاهرة الطوائف الدينية، التراث النظري - د.عبد الحكيم أبواللوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيرمي هذا الفصل إلى القيام بمسح للمساهمات العلمية التي توفرت بصدد الطوائف الدينية، ويحاول في الوقت نفسه، أن يقرأ، نقديا، مختلف محاولات علماء الاجتماع في السنوات الأخيرة لفهم هذه الظاهرة، وتشمل هذه القراءة مستويين: المستوى النظري والمنهجي، والمستوى الميداني. كل ذلك في أفق توظيف هذا التراث لمقاربة موضوع هذه الدراسة .
1- الاتجاهات التقليدية.
ظهر الاهتمام بالحركات الدينية ذات الطابع الطائفي منذ الفترة الذهبية لعلم الاجتماع الديني حيث ظهرت أعمال الأباء المؤسسين لهذ ا الفرع من علم الاجتماع العام، وعلى الخصوص   في أعمال ترولتش  (Troeltsch) وفيير(Weber).
ففي إطار تصنيفه للكنائس والفرق الدينية السائدة  في  العالم المسيحي، رآى ترولتش  أن الطبقات الدنيا هي التي تكون منبع الاستقطاب بالنسبة للفرق الدينية، فالظلم الاجتماعي وعدم المساواة من الجوانب الأساسية في خلق الظروف السيئة للإنسان. لذلك فإن التوتر بين الكنيسة والفرق الدينية سوف يستمر طالما استمرت المسيحية في الوجود1.
أما فيبر، فركز ، تماما كما كان الشأن بالنسبة لترولتش، على الفروق التي أصبحت تميز بين الكنيسة والطائفة، فقد تحولت الكنيسة من مؤسسة تعمل في سبيل النعمة والخلاص، إلى مرفق للاستئمان يتلقى مساهمات أعضائه الإلزامية من حيث المبدأ، بدون أن يكون في وسعه إثبات شيء في ما يتعلق بفضائل أتباعه كما كان الأمر من قبل. وفي مقابل هذا التحول، تأسست الطوائف الدينية لتقوم مقام الكنيسة في تأدية واجباتها، بما هي تجمع طوعي وحصري معزول عن العالم يضم المنتسبين إليه دينيا في نظام أخلاقي شديد الصرامة2.
انطلاقا من هذا النموذج الإرشادي الذي يقابل بين الكنيسة والطائفة، تناسلت الأبحاث هادفة إلى بيان أثر هذا التقابل في الحياة الاجتماعية. وكانت النتيجة، السريان بهذا التقابل  إلى حدود قصوى وقع التمييز فيها، هذه المرة، بين الطائف والبينة الاجتماعية ككل، إذ غالبا ما نظر علماء الاجتماع إلى الطوائف الدينية على أنها مشكلة اجتماعية، من خلال مقابلتها مع البنية والحركة الاجتماعيتين، بحيث اعتبرت الطوائف الدينية بعيدة عن طرق العمل الديني المألوفة، وتمثل التوجه الذي يواجه البنية الاجتماعية . علاوة على ذلك، فإن الطوائف الدينية لا تتمتع بصفة الديمومة والاستقرار التي تتميز الهياكل المكونة للمجتمع. إنها ليست مجرد مظاهر موازية لأنماط التدين المألوفة، وإنما مؤشرات غير عادية على أوضاع اجتماعية غير عادية3.
كان لهذا المدخل في التحليل كبير الأثر في صياغة الإشكاليات التي طرحها علماء الاجتماع آنذاك حول الطوائف الدينية، فقد كانوا يريدون في مستوى أول، اختبار فرضية الطابع الاستثنائي لهذه الطوائف، من خلال اكتشاف مصدر ما يشاع من عدم تلائم البنى الدينية التي كان يعتقد أنها تحتاج إلى حركة تصحيحية أو إصلاحية. ثم كانوا يريدون، في مستوى ثان، أن يعرفوا لماذا يساند البعض هذه الحركات. ثم التوصل في مستوى ثالث، إلى إدراك في أية ظروف تستطيع هذه الطوائف أن تتخلص من طابعها العابر. فالواضح إذن، أنها خطط بحث مؤسسة على اعتبار الطوائف مشكلة من وجهة النظر السوسيولوجية. ومما له دلالة على تقليدية هذه النظرة، أنها لا تختلف في شيء عن الآراء التي يتداولها مناضلو الأديان حول المجموعات التي ينتمون إليها، فالمقابلة بين البنية الاجتماعية والحركة الدينية هي السمة المميزة لوجهات النظر الشخصية عند الأعضاء حول معنى مجموعاتهم الدينية وتطورها4.
إن توصيف هذا الاتجاه بالتقليدي، ليس دلالة على سبقه الزمني فحسب، بل كذلك، لإمداداته في الأبحاث المعاصرة، فقد بقيت هذه الأخيرة محتفظة بالفرضيات السابقة، محاولة تأكيدها بالانصراف إلى دراسة جوانب أخرى من الظاهرة، وأهم هذه الجوانب، تتبع ظروف الملتحقين حديثا بالطوائف، وتفسير ما يلاقيه هؤلاء من حرمان وإحباط قبل انخراطهم فيها. )الحرمان النفسي، الخوف من الانحدار الاجتماعي،  تفكك الظروف الاجتماعية، والنشاز المعرفي(5 .
وفي بعض الحالات، ينطوي الاتجاه التقليدي على مسلمات ضمنية قابلة للنقاش فيما يتعلق بمنطقها، من ذلك مثلا أنها تنزع إلى اعتبار تلك الطوائف مجرد ظواهر ناتجة عن التحولات العميقة التي يشيعها المجتمع.  إنها مثل تلك الدمى التي توجد يد خفية وراء كل حركة من حركاتها، ولفهم حركة الدمى، يكفي أن نفهم ما يحركها من قوى6.
 نتيجة أخرى للطريقة التقليدية في دراسة الطوائف الدينية سوسيولوجيا، وهي أن هذه الطوائف  تفقد أهميتها أو طابعها الاستثنائي بمجرد اكتسابها استقرارا عضويا وبنية مؤسسية قائمة، أي عندما تتحول إلى حركة دينية ذات مكانة معترف بها ومشروعة اجتماعيا.و هو تصور يتقاطع مع آخر سائد في حقل الفلسفة وعند علماء اللاهوت الكنسيين ومؤرخي المسيحية عندما يدفعون بمقولة الحيرة الماوررائية، حيث يرى بعضهم أن التعبير الاجتماعي للمسيحي واقع في حلقة لا نهاية لها من تحول الحركات الجذرية إلى تجمعات محافظة أو العكس.
إن الفكرة العامة التي تتجلى من هذه النظريات، هي أن الدراسات السوسيولوجية للطوائف الدينية كانت تستعين تقليديا بجملة من الافتراضات النظرية المسبقة ومن العلاقات ذات الطبيعة الارتباطية التي تساهم كلها في تحديد موضوع الدراسة بكيفية متميزة لا محالة، ولكنها حصرية. وثمة في كل هذا التأويل، بطبيعة الحال، ترابط منطقي يضفي على كل ما كتب جانب من الوجاهة العلمية. لكن بعض الاتجاهات وخطط البحث الجديدة قد أخذت تتبلور لتنقل النقاش السوسيولوجي حول هذا الموضوع إلى مسالك جديدة ومستويات أرحب كانت غائبة عن الاتجاهات التقليدية7.
2- الاتجاهات الحديثة.
بفعل التحولات  التي طرأت على أشكال التعبير الديني في الغرب، خصوصا في فترة الستينيات في الولايات المتحدة والسبعينيات في أوربا، بدأت الحركات الدينية تتخذ أشكالا جديدة وتعبر عن طموحات مغايرة8.
كانت النتيجة الأولى للظروف التي أصبحت تعمل فيها الطوائف الدينية، استبعاد النظر إلى  التعبيرات الدينية كمؤشرات أحادية على وضع اجتماعي عام، بل كمؤشر من بين عديد المؤشرات الأخرى، بمعنى أن التعبير الديني، في عمومه، لا يتمتع بأية خصوصية تميزه عن غيره من المؤشرات السياسية والاجتماعية والثقافية في سياق الدالة على وضع معيشي محدد . وفي ذلك، بداية لانهيار الفرضية الحادة التي أقامت تمييزا جذريا بين الطوائف الدينية والبنية الاجتماعية9.
بدأت النظرة الجديدة في الظهور، في الأبحاث السوسيولوجية الأمريكية أولا، ثم الأوربية بشكل متأخر نسبيا، من خلال النقاش حول أهمية ما أصبح يطلق عليه الحركات الدينية الجديدة ، ويدل التعبير الجديد على ظواهر غاية في التنوع، لا تعدو الطوائف الدينية أن تكون سوى أحد مظاهره، ففيها العبادات الجديدة، أو الطرق الجديدة المنافسة للديانات المعترف بها، وكذلك الجماعات ذات الإلهام المشرقي، والحركات الموجهة للرفع من الطاقة الإنسانية على المستوى الفردي والسيكولوجي10.
في البداية، كانت الانشغالات الأساسية لهذه النقاشات تتمحور حول إشكالية حدود الظاهرة الدينية في المجتمعات الغربية، من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، فذهب اتجاه  إلى اعتبار الحركات الدينية الجديدة بمثابة العامل المعبر عن إعادة تركيب الحقل الديني، والمؤشر الكاشف عن ظهور شكل من التدين الجديد الذي أصبح يعوض المسيحية في المجتمعات الغربية  (لوكمان)11 ، بينما هدف الاتجاه الثاني إلى إنقاذ الأشكال الكلاسيكية لدنيوية الدين، بعد أن طرح طفور هذه الحركات  استفهامات كثيرة حول نظريات علماء الاجتماع بصدد سيرورة العلمنة التي يتجه نحوها العالم (بريان ويلسون)12.
وفي مواجهة هذه الطفرة التي أصبح يشهدها النقاش السوسيولوجي العام حول الحركات الدينية الجديدة، بدأت الأطر النظرية السائدة في علم الاجتماع تتحول في اتجاه اكتشاف أبعاد جديدة في الظاهرة مركز اهتمام هذا البحث وهي الحركات الدينية ذات الطابع الطائفي.
ورغم أن التوجه الأساسي لأعمال البحث التي أنجزت في هذه الفترة إلى اليوم بقي ثابتا أي مستندا إلى التمييز) طائفة/ كنيسة (، لكنه  لم يعد يستند إلى المقولات التقليدية التي تتعلق بالتوتر الماهوي النابع من التعاليم المسيحية بين "البنية" و"الحركة"، أو على اعتقاد أن التجديد الديني  يجب أن ينظر إليه على أنه رد فعل جماعي على ما يشعر به الأفراد من ألوان الحرمان13. بل إن الجديد في الأبحاث المعاصرة هو التخلص من  صرامة التنميط  المبني على ثنائية صارمة صنفت أساسها الطوائف الدينية فيها على أساس معايير: الامتثالية/ المعارضة، تجميع/ تفريق ، قبول العالم/رفض العالم. والتي تستمد مرجعيتها من التاريخ المسيحي. وعلى الأرجح، فإن الإشكاليات الجديدة إنما تستلهم اعتبارات نابعة من نظريات سوسيولوجية أعم بدأت تؤتي أكلها في الدراسات المعاصرة.
كما بدأت الأبحاث تنتبه إلى التعدد في تجارب الطوائف الدينية المختلفة، وكان للدراسات الميدانية المقارنة كبير الأثر في السير بالبحث نحو هذه الوجهة، إذ أنها بينت ما للدين السائد في المجتمع الذي تنشط فيه الحركات الطائفية من تأثير على هذه الأخيرة في ما يتصل بمعتقداتها وأنماط عملها وطرق تنظيمها حتى لو كانت تعمل في إطار ديانة واحدة.  كان من نتائج هذا التناول، التخفيف من إطلاقية التصنيفات التقليدية. فعلى سبيل المثال، أعيد النظر في التحليل الذي يعتمد السلوك الانعزالي كمعيار لتمييز الطوائف عن الحركات الدينية الأخرى، على خلفية إن هذا السلوك، وإن كان خاصية للطوائف الدينية في ما مضى، فإن المناخ الاجتماعي السائد اليوم أصبح لا يرجح هذا النزوع، ذلك أن أشكال التضامن العضوية السائدة في المجتمعات الحديثة، و الضبط الاجتماعي الممارس من طرف المؤسسات الرسمية  لم يعد يرجح إمكانية الانعزال التام للجماعات الدينية.
تتمثل الطفرة الأخرى التي حققتها بها الأبحاث الحديثة، حول موضوع الحركات الدينية الجديدة في تناول هذه الأخيرة من زاوية علم النفس الاجتماعي، بحيث تم استغلال مباحث عديدة ضمن هذا التخصص لتوضيح عديد القضايا المرتبطة بالطوائف الدينية، كمقترب دينامية المجموعات La dynamique des groupes) (، فكان الانتباه إلى ما للروابط الأحايسيسة Les liens affectifs) )  في تقوية التماهي بين التابعين للطائفة وبين هؤلاء وزعمائهم. ودور ذلك في عملية التنشئة Socialisation) (، بناء على مذهبية الطائفة وتوجهاتها العقدية 14.
ويمكن، باختصار شديد، تحديد المحاور الأخرى التي اهتمت بها الأبحاث الحديثة في أربعة:
-تحليل أنماط الإشتغال الداخلي.
-دراسة الأبعاد الدولية للظاهرة.
-قياس المشروعية الاجتماعية عن طريق استطلاع الرأي العام.
- الاهتمام بما تثيره من مشاكل متصلة بالحريات الدينية والنظام القانوني العام في البلدان الأوربية15.
وفي تقديري، لم تتوصل الأبحاث الحديثة بعد إلى نظرية عامة بهذا الخصوص، بل ظل أغلبها ينطلق من النموذج الإرشادي )كنيسة –طائفة( مع تطعيمه بفروض، تسمح باستمرار استعماله. فرغم المؤشرات العديدة التي توضح الإضافات التي حققها علماء الاجتماع  في دراستهم للطوائف الدينية، فإن التنقيح لم تشمل بنفس القوة النظرة التقليدية في تفسير نشأة ونمو الطوائف الدينية، رغم التجديد الذي لحق بالنتائج المترتبة عن توظيف هذه النظرية، بل ظل التنميط الفيبيري صامدا ولم يفقد بعد نجاعته التفسيرية.
وبالجملة، يمكن القول إن الأبحاث الحديثة حققت هدفين في : توضيح النقائص الكبيرة التي احتواها المنظور التقليدي كنيسة- طائفة وإعادة توظيفه في حلل جديدة، ثم الانفتاح على النظريات السوسيولوجية العامة16، فكانت بمسائل الدلالات الرمزية، تنظيم الحركات، طرق التلقين، التنشئة، النخب، وأنماط السلطة. لقد كانت المداخل بمثابة محاور بحثية جديدة أصبح بفضلها،  الاشتغال على ظاهرة الحركات الدينية ذات الطابع الطائفي مسالة معقدة حقا، لكنها أضحت، في مقابل ذلك، أكثر متعة.
 
الهوامش :
 
1- للاستزادة راجع الفصل المخصص لترولتش في المؤلف:
  Hervieu-Léger (D) et  Willaime (JP), Sociologies et religion : Approches classiques. Collection : Sociologie d'aujourd'hui, (Paris : PUF , 2001).
2 - للاستزادة راجع الفصل الأخير من كتاب:
 Weber (M), L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme. Traduction inédite et présentation de Isabelle Kalinowski. (Paris : Flammarion. 3éme  édition. 2002). p 305- 342.
3 - جيمس أ بكفورد، تأويل الحركات الدينية، ضمن المؤلف الجماعي: أبعاد الدين الاجتماعية، تعريب صالح البكاري، إشراف، عبد الوهاب بوحديبة ( بيروت: الدار العربية للكتاب، 1985)، ص 50
4 - المرجع نفسه، ص 52
5 - المرجع نفسه، ص 51
6 - المرجع نفسه، ص 51
7 - المرجع نفسه، ص 53
8 - Vernette (J), Les sectes. Collection que sais je ? (Paris, PUF, 1990), p 5
9 - لم تبدأ المدرسة الفرنسية في الاهتمام بظاهرة الطوائف الدينية إلا في السبعينيات ومن مظاهر عدم اهتمام الفرنسيين والأوربيين عموما بظاهرة الطوائف الدينية عدم وجود مركز بحث متخصص في دراسة الظاهرة، اللهم ما كان من اهتمام مراكز البحث في الظاهرة الدينية عموما ك the Center for Studies on New Religions  (CESNUR) في إيطاليا وInformation Network Focus on Religious Movements (INFORM)   في انكلترا. الذين أصبحا يخصصان  جزءا من أبحاثهما للموضوع في الأعوام الأخيرة للاستزادة زر المواقع التالية:
www.cesenur.org – www.inform.ac
10 - حول مختلف هذه الظواهر راجع:
Vernette (J), Dictionnaire des groupes religieux aujourd’hui. Collection politique d’aujourd’hui, (Paris, PUF, 2éme édition), 1996
11 - للاستزادة راجع:
Luckman (T), The invisible religion : The problem of religion in modern society ( New York : Mcmillan, 1967)
12 - للاستزادة راجع:
Wilson (B), The contemporary transformation of religion ( London : Oxford university press, 1976)
13 - جيمس أ بكفورد، تأويل الحركات..م.س، ص 53
14 - كمثال على هذا المقترب في دراسة الطوائف الدينية راجع:
Abgrall ( JM), La mécanique des sectes. ( Paris : Payot, 2002).
15 - Champion (F) et Cohen (M), Les sociologues..op.cit, p 7
16 - جيمس أ بكفورد، تأويل الحركات..م.س، ص  69.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟