مفهوم الغيرية في الفكر العربي والإسلامي - ذ. مراد زوين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.orgمدخل:
إن مفهوم الآنا والآخر هو في حقيقة الأمر علاقة تربط بين الذات والغير أوالعالم الداخلي و  العالم الخارجي، إن بشكل مباشر وواع أو غير ذلك.
هذه العلاقة طرحت كإشكالية منذ أن وعى الإنسان بأناه  (Le moi) ووجودها في استقلال عن العالم حسب الكوجيطو الديكارتي، حيث أصبح هذا الوعي عند هوسرل فتحة أو بابا نحو الغيرية، وعن طريق اللغة يضيف هوسرل نكون مع هذا الغير في تفاهم و انسجام متبادل حيث يقول : " عندما أتكلم لغة، فأنا لست وحيدا، فعندما أتكلم لغة، فهذا معناه أنتمي إلى مجموعة".
فإذا تأملنا جيدا قول كل من ديكارت وهوسرل، سنقف على التحول العميق الذي أصاب الوعي الأوروبي، من الوعي بالذات كفرد إلى الوعي بالذات كجماعة، من لحظة تأسيس الوعي الفرداني الذي تأسس عليه الفكر اللبيرالي في القرن 18 إلى الوعي بالجماعة الذي تأسس عليه الفكر القومي وخاصة الألماني في القرن 19.
وما يهمنا من هذه النتيجة هو أن الأنا أو الآخر قد يجسد الفرد كما قد يجسد الجماعة، والنتيجة واحدة وهو ذلك التباعد أو التمايز بين الأنا والآخر.
فإذا كانت الأنا مفهوما شبه محدد في الذات فإن الآخر يبقى تطرح حوله مجموعة من الأسئلة، هل يمثل أنا / الآخر un autre- moi-même أي مثلي ومختلف عني كالتعريف الأرسطي للجوهر: " هو الشيء القائم بذاته، والمتميز عن غيره". فإذا تجاوزنا البعد الذي يميز الإنسان عن غيره، فبماذا يتميز الإنسان عن أخيه الإنسان، يجعل منه آخرا يختلف معه في الحضارة والثقافة والسياسة والعقيدة ...الخ. 
إن الحديث عن الآخر سنتعامل معه في هذه المقالة كجماعة قد تنتمي لنفس   الثقافة ونفس الهوية لكن قد تختلف مرجعياتها وأصولها النظرية، أو تختلف في إانتمائها العقدي الديني. وفي نفس الوقت قد ت نتعامل معه ( أي الآخر) كجماعة لها هوية وثقافة تنتمي إلى حضارة مغايرة لحضارة الآنا. ومن خلال هذه النظرة سنحاول استخراج الأسس النظرية لمفهوم آخر جدير بالاهتمام، وهو مفهوم الاختلاف، الذي تأسست واننبنت عليه مجموعة مفاهيم آخرى كمفهوم الديمقراطية – والحرية – والتعدد. وحق الآخر في الوجود كحق من حقوق الإنسان الأساسية.


II- مفهوم الغير في الثرات العربي الإسلامي:
إن الحديث عن الآنا والآخر في الثقافة العربية الإسلامية منذ علماء الكلام إلى الفلاسفة والفقهاء، سيجعلنا نقف على أهم لحظات الصراع الذي ميز الفكر الإسلامي وداخل المجتمع العربي الإسلامي حول السلطة الثقافية بين فقيه النص وفقيه العقل.
إن نشأة الفكر الإسلامي في حد ذاتها أشرت على صراع الأنا والآخر، أي بين المسلم وغير المسلم دفاعا عن العقيدة الإسلامية في مواجهتها للعقائد الأخرى إما "كتابية "
أو غير " كتابية "، كما هو الشأن مع المعتزلة في مواجهتهم لأتباع العقائد الفارسية القديمة وخاصة المانوية، رغم أن في المجتمع الإسلامي: " أعطى الدين السائد لأديان دون غيرها شرعية وحدود التواجد معه، وهي " الأديان الكتابية "وما عداها من عقائد فلا شرعية له"1.
    ففي المجتمع الإسلامي وكباقي المجتمعات التقليدية، يظل جوهر الاختلاف يمثله الاختلاف الديني ومع ذلك يضيف علي أومليل فإن " الفلاسفة المسلمين كانوا غالبا ما يتحاشون الخوض في المسألة الدينية. بعضهم تعالى عليها معتبرا أن الدين هو عقيدة العوام، وأنه ضروري لكبح " شرورهم" وملائم لمستوى أفهامهم، في حين أن الفلسفة هي عقيدة العقل، وبعضهم حاول توفيقا مصطنعا بين الدين والفلسفة، قصد إدخال الدين – تحت رداء الفلسفة، وبعضهم ترك المسألة الدينية جانبا، معتبرا أن للدين مجاله وللفلسفة مجالها. فكما أنه لابد من الدين للجمهور، فإن للفلسفة صفوتها المختصة بها، وهو في الواقع موقف غايته أن يترك الفيلسوف وشأنه، هو يعترف للدين بمجاله، فليعترف له الدين هو أيضا بمجاله الفلسفي الخاص. هو إذن يطالب بالاعتراف المتبادل، وهذا كان مثلا موقف السجستاني وابن رشد" 2.
    وقد نجد الآخر داخل الثرات العربي الإسلامي ليس فقط من يمثل الثقافة الغيرية، فقد نجده كذلك متجسدا في تصورات الرحالة المسلمين عند احتكاكهم بمجتمعات وحضارات مختلفة ومتناقضة مع حضارتهم، كما هو الحال عند ابن بطوطة أو رحالة جغرافيين مثل المسعودي، وإبن فضلان وإبن حوقل وغيرهم.
    إن الحديث عن الآخر في الثقافة العربية الإسلامية قد يجرنا إلى الحديث عن الثقافة اليونانية بتأثيراتها على الفكر العربي الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية بصفة عامة. فقد نكتفي بهذا القول " أن العرب هم ورثة الفكر اليوناني"، لترك الفرصة للحديث عن الآنا والآخر داخل الثقافة العربية الإسلامية من خلال صراع فقيه النص وفقيه العقل الذي يمثل كل واحد منهما الآنا والآخر في نفس الوقت. وسنعتمد في ذلك قراءة سريعة ومفتضبة لرواية " حي ابن يقظان " لإبن طفيل.
    فمن بين أهم شخصيات الرواية، هناك حي وأبسال، وهما رمزان يمثلان موقف ابن طفيل من علاقة الفلسفة بالدين. فإذا كان حي يجسد العقل الفعال البشري والمستنير في سعيه وراء الحق، فإن أبسال يلتمس الحق عن طريق تقص المقصود بالنص الموحى، وتأويل ما لا يتفق ظاهرا مع الدليل العقلي3.
فحي يمثل جماعة الفلاسفة أو فقهاء العقل في حين يمثل الثاني فقهاء النص الذين يميلون نحو التأويل الذي يميزهم عن سلامان كشخصية ثالثه في الرواية، الذي يمثل جمهور الناس أو العامة التي تعتمد وتكتفي بظاهر النص في إدراك الحقيقة.
    فحي يمثل الآخر على المستوى المعرفي بالنسبة لأبسال وسلمان. فالحقيقة عند حي -وهو الذي عاش وحيدا في جزيرة منعزلة- لا يمكن أن نصل إليها إلا عن طريق العقل، أي الارتقاء من المحسوس إلى المعقول، وبواسطته نصل إلى معرفة حقيقة وجود العالم ومن ثم حقيقة وجود الله دون وساطة.
    فعندما التقى أبسال حي في جزيرته علم من حي أنه ترقى بالمعرفة حتى وصل إلى حقيقة وجود الله عن طريق العقل فقط، فاقتنع أبسال بأهمية العقل في إدراك الحقيقة فتطابق عنده المعقول والمنقول. فجسد بذلك حي وأبسال تلك الوحدة التي كان يهدف إليها ابن طفيل في توفيقه بين الفلسفة والدين أو بين العقل والنقل.
    فمن خلال هذه الوحدة يتضح لنا أن الآنا انصهرت في الآخر فأعطت حقيقة أخرى، وهي أن العقل والوحي يؤديان إلى نفس الحقيقة، بل إن ابسال عندما عاد إلى الجزيرة مع حي منعزلين عن العامة، اتخذ حيا إماما ثم عبدا الله إلى أن أثاهما الموت.
    فالآخر هنا بعد وحدة حي وأبسال أصبح يجسدها الجمهور أو العامة كما يصفها الغزالي التي يمثلها سلمان في الرواية. فعزلة حي وأبسال في هذه الرواية ترمز إلى عزلة وغربة العقل واستعمال التأويل في الفكر العربي الإسلامي.
III- الآنا والآخر في الفكر العربي المعاصر:
    في هذا المحور سنحاول الوقوف على مسألة الآنا والآخر كمكونين ثقافيين موجودين داخل الثقافة العربية المعاصرة، مختلفين في العقيدة الدينية.
    وسنعتمد في ذلك على حوار فكري دار حول مفهوم التسامح بين مفكرين طبعا الفكر العربي أواخر القرن 19، يدينان بديانتين مختلفتين: الإسلام بالنسبة لمحمد عبده والمسيحية لفرح أنطون، ولكنهما ينتميان إلى نفس الحضارة والتربة - الحضارة العربية الإسلامية- وذلك لنقف على الغنى والتنوع الذي عرفته وتعرفه هذه الحضارة، وفي نفس الآن لإبراز مسألة التعدد والاختلاف في إطار الوحدة.
    فحوار هذين الرجلين سينطلق من إشكالية على صيغة سؤال: " أي كان أكثر تسامحا وأقل تعصبا فيما يختص بالعلم والعلماء: الدين المسيحي أم الدين الإسلامي؟
    وقبل أن نصل إلى الخلاصة العامة التي طبعت أجوبة كل من عبده وأنطون، نعرج على بعض الآراء التي جاءت في تقديم الجامعة حول مفهوم التسامح في المسيحية والإسلام. يحاول كل رأي حسب انتمائه العقدي إتهام العقيدة الأخرى بالتعصــــب واللا تسامح اتجاه العلم والعلماء، بالرجوع إلى تاريخ تلك الديانة لإعطاء أمثلة ونماذج تتبت عدم التسامح.
    فهناك من رأى أن المسيحية أكثر تسامحا من الإسلام: " لأن بعض علماء النصرانية وكتابها قالوا فيها أقوالا في منتهى التطرف والغلو والتحامل، ومع ذلك لم يضرهم شيئا " 4. بينما في الإسلام كما يرون حصل العكس بإعطاء مثال ابن رشد وما عاناه من الفقهاء " أما ابن رشد الذي أهين كل تلك الإهانة، فإنه لم ينكر شيئا من أصول الدين كما  تقدم، ولكنه نظر بعقله في الكائنات وشرح فلسفته لسواه فقامت قيامتهم عليه. فكيف به لو قال في المذهب الإسلامي عشر معشار ما قاله فولتير وديدرو وروسو ورنان في المذهب المسيحي "5.
    وهناك الرأي الآخر الذي حاول الدفاع عن أناه بإثبات سماحه الديانة الإسلامية بالرد على الرأي الآخر بالقول : " إن الدين الإسلامي كان أكثر تسامحا من الدين المسيحي، فإنكم هل رأيتم في تاريخ الدين الإسلامي علماء يحرقون وهم على قيد الحياة لأنهم أنكروا وما أنكروه كما جاء في ديوان التفتيش في إسبانيا ؟ كلا "6.
    ولتجاوز هذين الموقفين المتطرفين، لم يرد فرح أنطون حصر مسألة التسامح في دائرة ضيقة تنحصر في علاقة العلم بالدين. بل أراد أن يوسع دائرة النقاش من خلال طرحه مسألة أعم وأشمل من مسألة التسامح ألا وهي إشكالية فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية، فالتسامح لا يمكن أن يتحقق في رأي أنطون إلا بتحقيق فصل السلطتين في المقام الأول، حتى يتمكن العلم والفلسفة من التغلب  على الاضطهاد الديني في المقام الثاني.
    لهذا دعا أنطون إلى التصالح بين الأديان والتساهل بينهما، فالتساهل يعني حسبه : " أن الإنسان لا يجب أن يدين أخاه الإنسان، لأن الدين علاقة خصوصية بين الخالق والمخلوق (...) فليس إذن على الإنسان أن يهتم بدين أخيه الإنسان أيا كان لأن هـــذا لا يعنيه"7.
    فالتسامح الحقيقي إذن حسب أنطون هو النظر إلى الإنسان من حيث هو كذلك فقط، بقطع النظر عن دينه ومذهبه، فالقيمة الحقيقية للإنسان لا تكمن في انتمائه لهذا الدين أو ذاك أو في تدينه أو عدمه، فقيمته تكمن في إنسانيته التي هي :" الإخاء العام الذي يجب أن يشمل جميع البشر".
    أما محمد عبد فسيكون رده بدوره أكثر تسامحا من خلال قوله : " لا يخفى على صحيح النظر أن تقرير التسامح على هذا الوجه في نشأة الدين مما يعود القلوب على الشعور بان الدين معاملة بين العبد وربه، والعقيدة طور من اطوار القلوب. يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب. فهو الذي يحاسب عليها، وأما المخلوق فلا تطول يده إليها، وغايته ما يكون من المعارف بالحق أن ينبه الغافل، ويعلم الجاهل، وينصح الغاوي، ويرشد الضال، لا يكفر في ذلك نعمة العشير، ولا يسلك به مسالك التعسير، ولا يقطع أمل النصير، ولا يخالف سنة الوفاء، ولا يحيد عن شرائع الصدق في الولاء"8.
    بهذين الموقفين إذن يمكن أن نقف على إشكالية الأنا والآخر من خلال مفهوم التسامح عند مفكرين عربيين ينتميان لنفس الحضارة ولكنهما يختلفان في العقيدة الدينية.
IV- نحن والغرب:
    نجد أنفسنا في هذا الجزء أمام إحدى الإشكاليات الرئيسية التي أصلت وأسست  للفكر العربي المعاصر في بداية القرن 19، من خلال طرح السؤال / الإشكالية، " لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن ؟ ".
    فالمضمر في هذا السؤال هو أنه لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين، يعترفون بتأخرهم ودونيتهم تجاه الآخر. فتاريخ العرب والمسلمين هو تاريخ الإحساس بالتفوق وخير أمة أخرجت للناس.
    طرح هذا السؤال بعد تفكك الدولة العثمانية وإلغاء دور الخلافة بعد دخول الاستعمار الغربي بدءا باجتياح جيوش نابوليون لمصر. مما أدى إلى خلخلة البنيات التقليدية، جعلت العرب والمسلمين يعيشون لأول مرة ما يسمى " بصدمة الحداثة "، الشيء الذي دفعهم إلى طرح مفهوم الإصلاح الذي حددوه في إصلاح الدولة وتحديث الجيش وإصلاح نظام التعليم وخلق ميزانية قارة من خلال إحداث نظام ضريبي ( إصلاحات محمد علي في مصر).
    لكن ما يهمنا في هذا المحور هو رد فعل العربي اتجاه تفوق الآخر / الكافر / دار الحرب... الخ المتمثل في الغرب، وكيفية تحديد التعامل معه. إن الأجوبة كثيرة، والنماذج التي يمكن الوقوف عندها كثيرة هي أيضا، لكن سنختار بعض النماذج تنتمي لنفس المدرسة السلفية و تختلف في النظرة إلى الغرب ومبررات تقدمه وتفوقه وبالتالي كيفية التعامل معه على الأقل على المستوى الثقافي الفكري. هذه النظرة سنحاول استخراجها من خلال نصوص أنور الجندي وراشد الغنوشي، وعلال الفاسي.
    إن مواقف الجندي من الغرب والفكر الحديث عامة، تعطي عند العديد من المهتمين انطباعا بكونها أكثر انغلاقا ولا تتماشى ومواقف الفكر السلفي عند الرواد كمحمد عبده والأفغاني وغيرهما.
    يرى الجندي أن نهضة الغرب تأسست على : " تيقظ الحركة اليهودية في أوروبا وانبعاث مفاهيمها من التلمود والثوراة المحرفة "9 .في شكل حركة – يضيف الجندي – تسمى بالماسونية، وما ارتبط بها من حركات تغيير، كانت الثورة الفرنسية في مقدمتها بتأطير نظري فكري يتمثل في نموذج الفكر الأنواري الذي جاء في نظره : " معارضا معارضة كاملة للفكر الغربي المسيحي، عاملا على هدم الحكومات الأوروبية المسيحية، وإقامة أنظمة جديدة يتاح في ظلها لليهود الخروج من الجيتو والحصول على حـق المواطن ".
    فحتى يسيطر اليهود على العالم في نظر الجندي، سلكوا في ذلك " طريق الدعوة إلى العلمانية أي فصل الدين عن الدولة وإعطاء كل مواطن نفس الحق الذي سيحصل عليه الآخرون دون نظر إلى دينه "10. وقد تحقق لهم ذلك عن طريق الثورة الفرنسية وثورات مماثلة عمت أوروبا بكاملها، بل يرى الجندي في سبيل السيطرة على العالم كانت " الثورة الفرنسية خطوتهم الأولى، وأن الخطوتين التاليتين كانتا في إسقاط الدولة العثمانية، وإقامة النظام الشيوعي في روسيا".
    فنهضة الآخر / الغرب إذن عند الجندي لم تكن نتيجة للتحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الغربية من ثورة صناعية، واكتشافات جغرافية، وظهور الطباعة ونشر الفكر المتحرر من هيمنة رجال الدين، والإصلاح الديني، وفصل السلط ... الخ الذي أدى إلى بروز فكر جديد، فكر الأتوار كمقدمة نحو تجسيد فكرة الحرية والديموقراطيه بعد ثورة 1789.
    بل إن الجندي يرى في أسباب هذه النهضة خدعة يهودية للسيطرة على العالم: " نتاج يهودي تلموذي أصيل كان له أبعد الأثر في الفكر الغربي"، فقد سادته في نظره أربعة عوامل هامة :
نظام الاقتصاد القائم على الربا.
 التعليم اللاديني المتحرر من نفوذ الكنسية.
القانون الوضعي المنفصل على شرائع الله.
الديمقراطية التي  تحل الإيمان بالدولة محل الإيمان بالعقيدة.
ويتضح من خلال هذه العوامل الأربع أنه في نظر الجندي ليس فقط العقلانية هي وحدها نتاج يهودي، بل كذلك الاقتصاد الليبرالي، والفكر الأنواري والديمقراطية الغربية.
وكل هذا التطور الذي حصل عند الآخر هو مقدمة في نظره لضرب الأمة العربية والإسلامية. فالدعوة إلى الديمقراطية وإنشاء برلمان وسن دستور، وإقامة تعددية في الأحزاب بالتركيز على الإقليمية تهدف في نظره إلى : " الفصل بين الوطنية، وبين مفهوم الأمة العربية من ناحية، وبينها وبين وحدة العالم الإسلامي من ناحية أخرى، كما عملت على فصل هذه الأقطار ثقافيا، وبين الفكر العربي الإسلامي"11.
وبجانب مفهوم الديمقراطية يرى الجندي المفاهيم الأخرى، كالحرية والليبرالية، شأنها شأن العقلانية تهدف إلى النبش والحفر في التاريخ ما قبل الإسلام بهدف الإعلاء من شأنه وفي هذا إشارة واضحة إلى كتاب طه حسين : " في الشعر الجاهلي " كل هذا في نظر الجندي محاولة لطمس الهوية العربية الإسلامية وعزل العرب والمسلمين عن جوهر فكرهم الأصيل.
ونفس النظرة نجدها تحكم مواقف الجندي من القانون الوضعي والتربية والتعليم والاقتصاد، والعلم والفلسفة والعقل ومفهوم التطور.. الخ. إن الموقف من الآخر بالنسبة للجندي تلخصها هذه الجملة :" إن البيئة العربية الإسلامية اليوم – في نظره – تقف من التجربة الغربية كلها موقف الحذر والشك والمعارضة "12.
وبهذا فموقف الجندي من الآخر موقف تضاد وتناقض ورفض، فالمسلمون في نظره قبل ظهور مفاهيم الغرب وقبل ظهور الحداثة، كانوا أفضل مما صاروا عليه. وما يمكن استخراجه من هذا الموقف هو أنه لم يكن الجندي يدافع إلا على واقع التخلف والانحطاط في ظل الدولة العثمانية، والذي رفضه وعمل على تجاوزه أغلب مفكري النهضة من مصلحين إسلاميين وليبراليين. بهذا يكون الجندي قد خرج عن القاعدة التي وجهت الفكر العربي منذ بداية القرن 19، ألا وهي إشكالية الخروج من التخلف، وأصبحت قاعدته الرئيسية هي رفض كل ما هو جديد ومتنور باسم الدفاع عن الإسلام وحضارته.
فإذا كانت هذه نظرة الجندي للآخر، فإن نظرة الغنوشي أو علال الفاسي مثلا ستكون مغايرة يمكننا استخراجها من بعض نصوصيهما.
فبالنسبة للغنوش يمكن استنتاجها من إحدى مداخلاته في " ندوة الحوار القومي الديني. حيث يقول: " وكل الذي نريده هو تطوير نموذج أصيل للحكم يستوعب تجربة التحديث الغربي ويتجاوزها على أسس وغايات. لئن التقت في بعض المحطات مع فلسفة الغرب وأدواته التنظيمية خاصة. فهي تنهل بالتأكيد من معين آخر، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء (...) وذلك من خلال اعتبار إنجازات التحديث في تحرير العقل من كل هيمنة، وإحلال الإنسان غاية للتمدن وتحرير إرادة الشعوب وتمكينها من القوامة والسيادة على حكامها عبر مؤسسات شهية منتخبة، وأولوية المجتمع المدني على الدولة، مثل مطالب الحركة الوطنية والقومية والاشتراكية والليبرالية والتجزئة والاستغلال...الخ. هذه المطالب ليست مشروعة فحسب بل هي أركان أساسية معتمدة في المشروع الحضاري الإسلامي والنهضة، دونما حاجة إلى تقليد للغرب وتدليل له وانبهار بانجازاته.  أو تعبئة مشاعر العداء والاستنكاف الطفولى .تحت الاخد بما اكتشف ونهم من حكمه، أو العمى عما  يتردى فيه من مهالك وأزمات ومظالم"13.
إن الإطار الذي يتحرك فيه الغنوشي وغيره من المسلمين هو الإسلام، لكن لا يرفضون التعامل مع الآخر/ الغرب، بل يدعون إلى الاستفادة من منجزاته من أجل تحقيق الحداثة السياسية والثقافية متاثرين بفكره الليبيرالي .ونفس الموقف من الآخر والدعوة نحو التحرر والانعتاق من التخلف والجهل نجدها عند علال الفاسي: " إن حياة بغير حرية لهي الموت المحض، وأن وجودا من غير فكر حر لهو العدم، وأن مدنية لا تقوم على التحرر والتبصر لهي الوحشية الأولى، ولو كانت في أحدث طراز"14.
لهذا يرى علال الفاسي أن "الاسلام بصفة خاصة لا يمكنه إلا أن يحبذ كل ثورة على التحكم في العقول والأشخاص باسم الدين أو تمنح طائفة من البشر مكان التشريع الديني والقداسة الروحية التي تجعلهم آلهة أو أنصاف آلهة. لأن أول ما صنعه الإسلام هو تعبيد النفوس و الأرواح لأي طغيان من طغيانات الإنس والجن. ولذلك لا يمكننا إلا أن نكون في مقدمة  الثائرين  على كل نظام كهنوتي من شأنه أن يتدخل بين الأفراد وبين الله "15.
وواضح من هذا القول التأثير الكبير للفكر الليبرالي- كعلامة من علامات التعامل مع الاخر- على التوجهات النظرية والفكرية عند علال الفاسي رغم سلفيته وهذا موضوع آخر.




المراجع والمصادر:
علي أومليل: - شرعية الاختلاف – منشورات المجلس القومي للثقافة العربية
الطبعة الأولى 1991.
الإصلاحية العربية والدولة الوطنية- المركز الثقافي العربي
 لطبعة 1- 1985.
مجلة الفكر العربي المعاصر: العدد 80/81  ايلول       1990.
يوسف زيدان : حي بن يقظان : دار الآمين – الطبعة الثانية 1998.
فرح  انطون: " ابن رشد وفلسفته: دار الطليعة بيروت-  الطبعة الأولى 1981.
محمد عبـده: الإسلام دين العلم والمدنية، منشورات دار مكتبة الحيــــاة،
بيروت 1989.
أنور الجندي : سقوط العلمانية : دار الكتاب اللبناني الطبعة الأولى 1973.
مجلة آفاق : العدد 3/2. 1993.
علال الفاسي : النقد الذاتي. مطبعة الرسالة 1979 .
عبد الله العروي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، دار الحقيقة بيروت
الطبعة الثالثة 1983.
العرب والفكر التاريخي: المركز الثقافي العربي – البيضاء
    الطبعة الأولى 1983.
برتراند بادي : الدولتان – السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام.
ت. لطيف فرج، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع.
محمد عابد الجابري: إشكالية الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي
الطبعة 1. 1989.
 - الخطاب العربي المعاصر. المركز الثقافي العربي ، دار الطليعة بيروت
 الطبعة 1, 1982.

1- علي أومليل: - شرعية الاختلاف  ص 7– منشورات المجلس القومي للثقافة العربية
الطبعة الأولى 1991.
 2- نفس المرجع السابق، ص 8.
3- مجلة الفكر العربي المعاصر: العدد 80/81  ايلول 1990.
 4- فرح انطون" ابن رشد وفلسفته: ص 125.دار الطليعة بيروت- الطبعة الأولى 1981.
5 – نفس المرجع السابق، ص 125.
6 – نفس المرجع ، ص 125.

 7- نفس المرجع ، ص 141.
8 – محمد عبده: الإسلام دين العلم والمدنية، ص 124.
 9- أنور الجندي : سقوط العلمانية : ص 16، دار الكتاب اللبناني الطبعة الأولى 1973.مجلة آفاق : العدد 3/2. 1993.
10- نفس المرجع ، ص 17.
 11- نفس المرجع ص، 27.
12 – نفس المرجع ص 135.
 13- مجلة آفاق : العدد 3/2. 1993.
 14- علال الفاسي : النقد الذاتي.ص 99، مطبعة الرسالة 1979 .
15 – نفس المرجع ص 115.   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟