علي الوردي : استشراف مدّ العولمة الكاسح ـ د. حسين سرمك حسن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

aventure-de-l-art-abstraitلا يمكن استكمال "الصورة الكلّية" ، لمشروع الوردي في إعادة قراءة التاريخ العربي والفكر العربي الإسلاميين ، إلا إذا تناولنا كتابه المكمل لمشروعه الأصلي وهو كتاب : ( مهزلة العقل البشري ) والذي صدر عام 1955 والذي قد يربك عنوانه المنظومة الإدراكية والتحليلية للقاريء . فالعنوان يوحي بموضوعة فلسفية مجردة تتعلق بتهاوي ( غائية ) العقل البشري ، وخلوه من المنطق ، وأن فعله عبارة عن مهزلة لا ضوابط عقلانية لها . وفي لقائه الموسّع مع الباحث ( حميد المطبعي ) ، راجع الوردي عنوان كتابه هذا مراجعة نقدية أوضحَ من خلالها أن العنوان لم يكن دقيقا . يقول الوردي :
(( أعترف أن هذا العنوان قد اخترته في ساعة حماس وغضب . وذلك على أثر الهجمات الشديدة التي جوبهت بها بعد صدور كتاب ( وعّاظ السلاطين ) . فقد صدرت ضد هذا الكتاب عدة كتب، ومقالات لا تُحصى، بالإضافة إلى خطب المنابر وتهديدات القتل . وقد خصص أحد خطباء التعزية ليالي رمضان كلها في نقد الكتاب وشتم مؤلفه. ولا حاجة بي إلى القول أن كتاب (مهزلة العقل البشري) - بعنوانه وفصوله – إنما هو حصيلة تلك الفترة )) (115) .

ولكن من وجهة نظر تحليلنفسية ، أعتقد أن عنوان كتاب الوردي دقيق جدا ، وهذا ما أثبته معلم التحليل النفسي في ثورته التي سببت شرخا خطيرا في نرجسية النفس البشرية عندما أثبت أن ما يحكم أفعالنا وتصرفاتنا ليس الشعور (عشر جبل الجليد الطافي الظاهر) بل هو اللاشعور (التسعة أعشار الغاطسة من العقل حسب المثال التقليدي في أدبيات التحليل النفسي) وهذا يجعل الإنسان كائنا تبريريا، وليس كائنا منطقيا- rationalized human being and not rational human being  . وهذا ما استدركه الوردي حين سارع إلى القول :
(( إني قد أوافق على رأيك في أن عبارة ( مهزلة العقل البشري ) ليست علمية من بعض الوجوه ، ولكنها قد تكون علمية من وجوه أخرى . يجب أن لا ننسى أن كتاب
( مهزلة العقل البشري ) هو بمثابة صرخة ، أو ثورة ، على التفكير (العقلاني) الذي كان مسيطرا ، ومازال مسيطرا ، على عقول الكثيرين منا . إن العقل ليس هو الذي يسيطر على الطبيعة البشرية ، بل الطبيعة البشرية هي التي تسيطر على العقل وتسيّره . إن الإنسان حين يسلك سلوكا معينا ، أو يعتنق رأيا أو عقيدة ، يتصوّر أنه فعل ذلك باختياره وإرادته الحرة ، ومن جراء تفكيره المجرد . إنه لا يدري أن وراء سلوكه أو رأيه عوامل عديدة ، وأن هذه العوامل تؤثر على تفكيره من حيث لا يشعر بها )) (116) .
إن المراجعة الدقيقة لهذا الكتاب ستكشف لنا أدلة مضاعفة على الدور التنويري الثوري الذي لعبه الوردي في الدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي من ناحية وإعادة قراءة التراث والتاريخ العربي الإسلامي من ناحية أخرى بصورة سبق فيها الكثير من أطروحات المفكرين العرب في هذا المجال والذين جاءوا بعده بعقود .
في الإهداء يعد الوردي هذا الكتاب أخا لكتابه السابق ( وعّاظ السلاطين ) ، ويحذّر من سوء تأويله كما حصل مع الكتاب السابق :
( إهداء وتحذير : أهدي هذا الكتاب إلى القراء الذين يفهمون ما يقرأون . أما أولئك الذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم . إني أخشى أن يفعلوا بهذا الكتاب ما فعلوا بأخيه ( وعّاظ السلاطين ) ، من قبل ، إذ اقتطفوا منه فقرات معينة وفسّروها حسب أهوائهم ثم ساروا بها في الأسواق صارخين .. لقد آن لهم أن يعلموا أن زمان الصراخ قد ولّى ، وحلّ محله زمان التروّي والبحث الدقيق ) (117) .
وفي المقدّمة يشكر الوردي – وبروح ديمقراطية – مؤلفي كتابين كُتبا ضد كتابه ( وعاظ السلاطين ) لانتقاداتهما القيمة . ثم ينطلق في الرد على خصومه من رجال الدين ساحبا إياهم – وقد سحبهم قبل ذلك فعليا في هجمتهم على كتابه السابق – إلى مناقشة موضوعات حساسة جدا في المجتمع العراقي . يبدأ أولا بالردّ على آرائهم في مجال الإنحراف الجنسي ، وخصوصا اللواطة ، مؤكدا على خطل التفسيرات الدينية بشأنها ، وعلى كونها ظاهرة اجتماعية . ويتناول ثانيا مشكلة الحجاب ودعوته إلى السفور معتبرا الحجاب من أسباب الإنحراف الجنسي في المجتمعات الإسلامية ، داعيا إلى تحرّر المرأة وتعليمها وخروجها إلى ساحات العمل لأن شخصيتها المستقلة لن تكون ممكنة إن لم تستقل ماديا وتتخلص من التبعية للرجل ، معتبرا تعليم المرأة وعملها مفتاحا مركزيا في تطور المجتمع العربي والإسلامي . ويؤكد على مفهوم الحركة والتطور الذي يخالف قناعات رجال الدين القائمة على ثبات الظواهر الاجتماعية وقدريتها والقوى الماورائية التي تحكمها .
# استشراف مدّ العولمة الكاسح المُقبل :
--------------------------------------
وفي انتباهة فريدة يتناول موقف المسلمين من الحضارة الغربية ، طارحا وجهة نظر متميزة وريادية وكأنها تتنبأ بموجة العولمة الكاسحة التي ستأتي وليس لواعظ ولا لرجل دين مقاومتها . فالمسلمون سوف يكونون مُجبرين على السير مع تيار الحضارة الغربية وسيقتبسون ما تأتي به حسنا أم سيئا :
 (( ومن غرائب ما ارتآه الواعظون في هذا الأمر أن قالوا : خذوا من الغرب محاسنه واتركوا مساوئه . كأن المسألة أصبحت انتقاء طوع الإرادة كمن يشتري البطيخ . إن الحضارة جهاز مترابط لا يمكن تجزئته أو فصل أعضائه بعضها عن بعض . فالحضارة حين ترد تأتي بحسناتها وسيئاتها . وليس في الإمكان وضع رقيب على الحدود يختار لنا منها الحَسَن ويطرد السيّء ، ومعنى هذا أنها تيار جارف لا يمكن الوقوف في وجهه )) (118) .
إن موقف الوردي المبكر آنذاك والذي يتوقع فيه اكتساح الحضارة الغربية لكل الحدود وتحطيمها كل القيود القومية مهما كان نوعها ، هو رؤيا دقيقة عن مدّ العولمة الكاسح الذي أقبل بعد ذلك ، وحين يؤكد على أن الحضارة الغربية ليست حكرا على الغرب بل هي حضارة عالمية ، وأنها ستجرف كل الحدود لا يتبقى إلا أن يستخدم مصطلح " العولمة – globalization " الذي لم يكن في متناوله آنذاك لأسباب معروفة :
(( إن الحضارة الغربية مغرية وهي جبّارة تسحق من يقف في طريقها . ومما يجدر ذكره أنها ليست خاصة بأهل الغرب وحدهم . هي بالأحرى حضارة عالمية ساهم في إنشائها الشرق والغرب . وهي اليوم تتغلغل في مختلف أنحاء الأرض ، وتصل بأثرها إلى أقصى مكان ... لست أريد بكتابي هذا أن أمجّد الحضارة الغربية أو أدعو إليها . إنما قصدي أن أقول : إنه لا بدّ مما ليس منه بُدّ . فالمفاهيم الحديثة التي تأتي بها الحضارة الغربية آتية لا ريب فيها . وقد آن الأوان لكي نفهم هذه الحقيقة قبل فوات الأوان ))(119) .
وهو – بخلاف النظرة الدينية الحذرة والقلقة والتي تشعر بالتهديد من مد الحضارة الغربية الكاسح – يرى أن في هذا المد سلبيات مثلما فيه إيجابيات ينبغي استثمارها ، وليست موجة سلبية خالصة ينبغي رفضها ومقاومتها كما يدعو الوعّاظ :
(( وإذا دخلت الحضارة في بلد صعب على الفرد فيه أن يمتنع عنها . إنها  تعطي المرء رزقا ورفعة بين قومه ، ولهذا لن يجد الناس بدّاً من الانتثال عليها والتنافس فيها . وإذا وجد الناس واعظا يمنعهم عنها عصوه وسخروا به . لاسيما إذا وجدوه أخيرا يقترف ما كان ينهاهم عنه )) (120) .
والوردي يستشرف الصراع الضاري الذي ستثيره " العولمة " المقبلة في مجتمعاتنا على الصعد كافة ، ومقدار التهديد الذي ستشكله على القيم التي ألفناها، وعلى العلاقات الاجتماعية في العائلة ، وفي المجتمع الأوسع على حد سواء. إنه يتوقع ، بل يؤكد وجود بوادر اضطراب في الحركة الاجتماعية، وتخلخل في ثبات وديمومة القيم التقليدية التي حكمت مجتمعاتنا قرونا طويلة. إنه يعد مرحلة الاكتساح الحضاري عاملا كبيرا في خلق حالة ( مخاض ) في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية . وأعتقد - شخصيا - أنه لو قيظ لهذه المجتمعات ، والمرجعيات الفكرية والدينية والسياسية التي تنظر إلى مدّ الحضارة الغربية الجارف كحالة ( مخاض ) يمكن استثمارها وتعزيزها بالعوامل المطلوبة التي توصلها إلى ولادة خلاقة تقدم المولود العربي الحداثي المنتظر، لتجنبنا خسائر باهظة جدا، ولوضعنا أمتنا على طريق ( الإقلاع )- حسب الوصف الدقيق الذي اجترحه (جورج طرابيشي)- الموفق نحو سماوات الحداثة . لكن الذي حصل هو أن الجهات المرجعية الحاكمة - الدينية خصوصا - التي كان يُنتظر منها أن توظّف حالة المخاض هذه لمصلحة النهوض على طريق الحداثة ، وقفت في وجه التيار وأعادت حركة الأمة إلى الإتجاه المعاكس ، من النهضة إلى الردة حسب وصف طرابيشي أيضا :
(( إننا نمر اليوم بمرحلة انتقال قاسية ، ونعاني منها آلاما تشبه آلام المخاض . فمنذ نصف قرن تقريبا كنا نعيش في القرون الوسطى . ثم جاءتنا الحضارة الجديدة فجأة فأخذت تجرف أمامها معظم ما ألفناه ونشأنا عليه . ولذا نجد في كل بيت عراكا وجدالا بين الجيل القديم والجيل الجديد . ذلك ينظر في الحياة بمنظار القرن العاشر ، وهذا يريد أن ينظر إليها بمنظار القرن العشرين . كنا ننتظر من المفكرين ، رجال الدين وغيرهم، أن يساعدوا قومهم في أزمة المخاض هذه، لكنا وجدناهم على العكس من ذلك يحاولون أن يقفوا في طريق الإصلاح ويضعون على الأبالة ضغثا جديدا )) (121) .
وفي هذه ( المقدمة ) نلاحظ – حين نراجعها بدقة وتأمل متأن – تحولا شديد الأهمية في خطاب الوردي . ففي كتابه السابق ( وعّاظ السلاطين ) استخدم صفة ( الوعّاظ ) لكي يرسم حدا بين مجموعة من رجال الدين جرفهم النزوع الدنيوي وممالأة السلاطين والجلاوزة على حساب العامة المسحوقين حتى لو كلفهم ذلك تحريف القرآن والسنة بـ ( الحيل الشرعية ) ، وبين رجال الدين الأصلاء الذين فهموا روح العقيدة الإسلامية ، كطريق للدفاع عن المعذبين ، والوقوف في وجه الطغاة . وكنا نتوقع أنه بعد الهجمة الشرسة التي شُنت عليه بعد أن أصدر كتابه السابق ( وعاظ السلاطين ) ، والتي تضمنت التكفير ومحاولات القتل والإغتيال ، ستلين إرادة الوردي قليلا ويبدأ بالمهادنة النسبية مع مهاجميه وهم أصحاب نفوذ وسطوة ، وكحد أدنى من باب ( التقية ) إذا جاز التعبير ، خصوصا أن الحلف الذي واجهه شمل سياسيين نفعيين ورجال سلطة و( مفكّرين ) و( أدباء ) و ( مؤرّخين ) ركبوا موجة الإدانة لأسباب نفعية لم يمسك بها الجمهور وقتها . لكن الذي حصل هو العكس تماما . وهذا ما تكشفه لنا المقدمة عمليا وبشكل لا يقبل اللبس حيث لم يذكر الوردي فيها وصف (وعاظ السلاطين) إلا في الإشارة إلى كتابه السابق . لقد ترك وصف الوعّاظ - إلا في مواضع لا دور وظيفي استفزازي لها - وتحوّل بصورة كاملة وناجزة إلى استخدام الوصف الصارخ : (إخواننا رجال الدين) ، وكأنه ينفض يديه من تراب المهادنة ويكمل اندفاعته في طريقه (الإنتحارية) بلا وجل ومن دون تردد. إنه ( يضحّي ) بالقسم القليل المُهادن والمُداهن ، ويقدم الصورة الكلية لهذه المرجعية كأداة تعزّز التخلف وتضع عصا هائلة في عجلة التحديث والحداثة، وهو الأمر الذي يحصل الآن فعليا بعد عقود من (نبوءة) الوردي. إنه قد تحول إلى موضوعة جديدة هي مسألة الحداثة في نهضة الأمة وإن لم يعلنها بمصطلحها الذي نستخدمه الآن . وحين انتقل إلى استخدام تسمية (رجال الدين) فذلك لأنه يؤمن أنهم مرجعية ليس من اختصاصها التصدي للتحديث والنهضة والتعامل مع موجة الحضارة الغربية الهادرة :
(( يحاول بعض المتحذلقين من رجال الدين إدعاء التجديد فيما يكتبون ويخطبون ، وتراهم لذلك يحفظون بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة – وبالمناسبة فإن محمد صالح القزويني هاجم الوردي في كتابه " الموعظة الحسنة " واصفا إياه بمن يتحذلق ويستخدم المصطلحات العلمية لإظهار فضله وعلمه بالعلوم الحديثة – يتلقفونها من المجلات والجرائد المحلية ، ثم يكرّرونها في كلامهم إذ يحسبون أنهم بهذا قد صاروا "مجدّدين". ويحلوا لبعضهم أن يُقال عنه إنه جمع بين القديم والحديث ، ثم يرفع أنفه مغرورا بهذا العلم العجيب الذي وعاه في صدره. ومثله في هذا كمثل ذلك القروي الساذج الذي أراد أن "يتمدن"، في كلامه، فضيع المشيتين مع الأسف)) (122) .
و (( من المؤسف أن نرى إخواننا من رجال الدين لا يفهمون هذه الحقيقة . ولهذا وجدناهم يقاومون كل تيار جديد ، كأن الأمر بيدهم : يقولون فيسمع الناس قولهم )) (123) .
وفي تحدّيه الصارخ الذي يبلغ مستوىً تحرّشيا سافرا ، يموّهه بحماسة التغيير ، نجد الوردي قادرا على تمرير نقمته على وضع متعفن ، شديد التخلف ، يرجو له النهوض بلا رجاء ، ويتمنى له التحول من دون بارقة أمل ، فيعمد إلى التحرّش بالثوابت ، تحرش تغطيه الحماسة بأغطيتها الصارخة فلا تستفز أحدا ، وقد يكون الوردي أول من أسس المنهج التحرشي في الخطاب الثقافي العراقي المعاصر :
(( فإذا احترم الناس التمدن صعب على الأب أن يمنع أولاده من السعي في سبيل هذه المكانة المرموقة ولو جاء يردعه جبريل – عليه السلام ))(124) .   



تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟