ثمة تشابهٌ ملحوظ بين مقولات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وطروحات ما عُرف باليسار الإسلامي في بعض البلدان العربية، كما عبّر عنها ثلّة من رموز هذا التيار، وإن متحَ كلّ من الطرحيْن من واقع مغاير واستمدّ كل منهما مقولاته في التغيير الاجتماعي من ميراث ديني آخر. إذ رغم التباعد الجغرافي والتباين الديني بين الطرْحين، فإن عناصر بنيوية أساسية تبقى جامعة بين الرؤيتين، في التطلّع إلى بناء تأويلية في الدين على صلة بالواقع، هادفة إلى بناء إيديولوجيا تحرّر ترنو إلى تغيير واقع الإنسان وتخليصه من بؤسه.

لا يزال الورش المنوغرافي في التاريخ على درجة من الراهنية والأهمية والحاجة،على أساس ما يمكن أن يضيفه هذا النهج للخزانة التاريخية المغربية من نصوص بقيمة مضافة على مستوى البحث والتنقيب والتحليل والجِدَّة. وما أكثر قضايانا التاريخية التي لا تزال بحاجة لمقاربات وفق ما ينبغي من ببليوغرافيا وأرشيف أكثر تأسيساً لمعرفة تاريخية علمية، لعل منها ما يرتبط بزمن المغرب المعاصر ونهاية القرن التاسع عشر وفترة الحماية.

    وفي علاقة بمطلع القرن الماضي يسجل أن من مظاهر علاقة مخزن مغرب نهاية القرن التاسع عشر بالقبائل، ما عرفته البلاد من وضع داخلي صعب استمر لِما بعد فترة حكم الحسن الأول الذي توفي فجأة أثناء رحلة له، وهو ما كان بتخوف شديد من قِبل حاجبه مما قد يحدث. وعليه، أمر بطلي الجثة بمساحيق للتمويه وربطها في محمل لإكمال رحلة عودةٍ بأمان، آخذاً مكانه أمامه مُظهراً لمرافقيه أنه يتلقى أوامر سلطانية إلى حين بيعة مولاي عبد العزيز الذي أثارت خلافته انشقاقات داخل المخزن، عمقها تردي وضع البلاد لِما حصل من أزمات طبيعية استفحلت مع بداية عهده في وقت كان المخزن يواجه صعوبات توطيد سلطته، الوضع الذي يمكن تفسيره بما أفرزه التسرب الأوربي من تفقير وما توفر لمحرومين من رغبة عصيان عمقتها ضريبة الترتيب مثلما حصل مع حركة الزرهوني.

أنت ممن كرسوا جزءاً مهماً من حياتهم العلمية لدراسة الظاهرة الدينية من خلال ترجمة بعض الأعمال، وتأليف مصنفات تصب كلها في تيار نقد الفكر الديني علمياً وموضوعياً.

*هل في نظركم ملأت الدراسات الدينية النقدية اليوم، بعد أن عرفت انتشاراً كبيراً، الفراغ الذي تعرفه الساحة الثقافية، خاصة وأن العلوم الشرعية مازالت تأخذ حصة الأسد؟

يتميز تاريخ الدراسات الدينية النقدية في البلاد العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة، إذا ما سلمنا بأن مؤلف "نقد الفكر الديني" لصادق جلال العظم هو إعلان مولدها، بطابع الانخراط ضمن خط إيديولوجي وأحيانا خط سلطوي. لعل هذا المنحى الذي ميز تلك الدراسات ما جعلها واهنة المنشأ وضئيلة الأثر، وربما مرتهَنة بشكل أدق. لأنه وفق تقديري، الفكر الديني النقدي الفاعل هو الفكر الذي يخرج من عباءة المناورات السياسية إلى حقل المعالجة الفكرية والعلمية، ولعل هذا ما نحتاجه بالأساس، وهو ما لا نزال مقصرين فيه. حيث لم نفرق بعد بين النقد الإيديولوجي والنقد الابستمولوجي وهذه محنة أخرى من محن الحقل الديني في البلدان العربية.

محاولة الكتابة عن عالم كبير من طينة ووزن الدكتور محمد اركون، تجربة مهمة وضرورية  لكنها شاقة .لان فكر محمد اركون يتميز بالغزارة والموسوعية والدقة الكبيرة مما يصعب  على غير المتخصصين مثلي  الادعاء بالاحاطة الشاملة بفكره و مخرجاته النظرية والفكرية. لكن قررت المغامرة وركبت موج التحدي لاكتب اسطرا قليلة لا توفي الرجل ما يستحقه من دراسات ومناقشات ولكن على الاقل للمجتهد المخطئ  اجر الاجتهاد.  لمحمد اركون اسهامات هامة  تأسيسية فيما يتعلق بفهم المنظومة الاسلامية بجميع مكوناتها ، بل انه من الداعين الرئيسيين  لإعمال منتجات الفكر العلمي النقدي لتفكيك واعادة بناء تصوراتنا وتمثلاتنا عن الفكر واللاهوت الاسلاميين خصوصا وان المنهجية الكلاسيكية التي تتكئ على الفكر الدوغمائي انتشرت واستولت على افهام الناس وحصرت تفكيرهم في مسلمات يقينية ايمانية  يصعب التشكيك فيها بالنسبة للمؤمنين بها.

      يعرف العالم في الآونة الأخير جملة من المتغيرات نكاد نقول إن استمراريتها ستغير الخريطة الدولية ، وقد لعبت الهويات دورا مهما في  بروز هذه المتناقضات الجديدة، فبالعودة إلى تاريخ البشرية لاستقصاء أهم أحداثه، سنجد أن الانسان لما حقق كينونته تحققت معه هويته، فهوية الانسان هي الإنسانية، وهي ما يتميز به عن باقي الكائنات التي تشاركه الوجود ولأن الانسان مثله مثل جميع الأشياء والظواهر خاضع لمنطق التطور والتغير والحركة، فعبر تطور سيرورة التاريخ البشري  من المتناقضات ظهرت تشكيلات اجتماعية انطلقت من العشيرة حيث  شعور البدائي بالانتماء الهوياتي، مرورا بالقبيلة ثم الوطن وصولا إلى الأمة،  فالبرديغمات التي عرفها البشر كونت عنده تصورات حول ذاته، ومما لا شك فيه ان المراحل المتقدمة التي عاشتها البشرية افرزت تناقضات جديدة وسط العائلة أولا ثم وسط القبيلة وبعدها وسط الوطن والأمة. غير أن  تعدد الهويات الفردية والجماعية حملت في أحشائها  تجارب مدمرة من الفتنة و الحروب و الاقتتال؛ ففكرة الهوية  فتنت البشرية: ماذا نعني اذن بالهويات الخصوصية؟ كيف ساهم التنظير الخاطئ في السقوط في النزعة الفاشية؟ ماهي نتائج هذه التنظيرات على المستوي العملي ؟ ما السبيل للخروج من دوامة الهويات (المغلقة) وبناء هوية كونية بعيدا عن الهيمنة المعولمة ؟ ماهي الهوية الكونية  وما مقوماتها ؟  

ـ 1 ـ
    لازال لم يهدأ أ ُوَار حرب قذرة ، على اللغة العربية ،  تشنها جهات مجهولة وغير معروفة . جهات تنفذ أجندات على حساب اللغة العربية العريقة ؛ عراقة التاريخ الإنساني . إن الانتصار للدّارجي والعامّي فهيهات ! هيهات !
 إن اللغة العربية ؛ هذه العجائبية ، أكبرُ من ذلك بكثير . فهي ليل لا صبح له ، بل بحر لا ساحل له .
إن الحروب ، التي أرست دعائم العربيّة ، أسست لتقعيد بـُني بالإسمنت المُسلـَّح . فلـُهـْوة هذا الوغى ؛ لغات سابقة عن العربية ؛ كالآشورية والكلدانية و اللغة المصرية القديمة وغيرها... فالانتصار بات حليفا محلفا للغة العربية  . فخوفا ووجلا على سليقة  يعشقها القاصي قبل الداني ، من أن تذهب برمية نرد على طاولة الندماء ، قام المقعدون  ، ولم يقعدوا على وثير الأرائك في مكاتبَ تدمع مكيفاتها .  بل جابوا فيافيَ و فلاة ، بأقدام حافية و بحوزتهم تين يابس ولبن، بحثا عن حفنة من كلام يضيفونه إلى لسانهم ، ويغذي سليقتهم بما يضمن تواصلهم المادي  والمعنوي . فمهما حاولنا أن نبحث عن رواد هذه الفترة ، فإننا سنجد، لا محالة ، حسب المرحوم طه أحمد إبراهيم، في كتابه " تاريخ النقد الأدبي عند العرب" ، ابن سلام الجمحي  الذي كان له الفضل كل الفضل في جمع شعر متناثر شرقا  وغربا من شبه جزيرة العرب . فما كان لكتابه ، " طبقات الشعراء " ، إلا أن تهتز له ، أوائل القرن الثالث الهجري ، الساحة الثقافية العربية  ، وتعتبر حدثا استثنائيا . ومنه كان له كبير الأثر في تعزيز مشهد اللغة العربية ، بكلام موزون و مقفى يدل على معنى . ولا هدف من وراء ذلك ، سوى استبانة أبعادها الإيقاعية و الدلالية  والجمالية أيضا ، تيسيرا للتشبث الجامد ، للناطقين و غير الناطقين ، بأهداب هذا الانتماء الرحب الوفير للغة العربية.

يشكّل مطلب "الأَجُورْنامِنْتو" (التجديد) تحدّياً عويصاً للمسيحية المعاصرة، بوصفه الرهان الملحّ لإخراج اللاهوت من ربقة البراديغم القروسطي وولوج عصر الحداثة، بعد أن باتت الكنائس خاوية والساحات عامرة، كما يتردد في أوساط المراقبين للشأن المسيحي. فمنذ اعتلاء البابا بنديكتوس السادس عشر (جوزيف راتسينغر) كرسي البابوية، وإلى حين تخلّيه المباغت والصادم عن مهامه في الثامن والعشرين من فيفري 2013، تمحورَ هاجسُه في الإلحاح على خوض غمار تحوير مؤسسة الكنيسة. بقصد تحريرها من براثن المؤسساتية الطاغية وجهازها البيروقراطي الجاثم، الذي يوشك أن يخنق روح الدين، كما أوضح راتسينغر في كتابه "نور العالم" (روما، 2010). بعد أن تحوّلت الكنيسة إلى مؤسسة دنيوية متلهفة على الربح والسطوة والجاه. فقد لمس راتسينغر، خلال فترة بابَويته، أزمة الكنيسة، الأمر الذي جرّه إلى أن يعلن أمام الكوريا الرومانية -هيئة كبار الكرادلة- قبل اتخاذ قرار الاستقالة "إن جوهر أزمة الكنيسة هي أزمة لاهوتية. وفي حال تعذّر إيجاد حلول، وعدم استعادة الإيمان حيويته، لِيصبح قناعة عميقة وقوة حقيقية بفضل اللقاء مع يسوع المسيح، فإن مجمل الترقيعات الأخرى لا معنى لها".

أحيانا يتدخل المعطى البشري ليصبح أكثر قسوة على الإنسان من الطبيعة ،لا يمكن لأحد أن يتجاهل دور الحروب والفتن والاضطرابات في تغيير معالم المدن بل واندثارها، وإن كانت كلمة تخريب هي أكثر  استعمالا وتداولا. فتأثير الحروب يفوق أحيانا ما تحدثه الكوارث الطبيعية، اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا. خاصة أن الدولة الوسيطية كانت دولة عسكرية بامتياز،حيث أولت جل اهتمامها لقضايا الجهاد داخليا وخارجيا ضد الخصوم والمتنافسين[1]، وخاصة الفترة المتأخرة ضمن حياة الدول والتي تتميز في الغالب بظهور عصبية منافسة مطالبة بالحكم .

في الواقع كانت الثورات وما تلاها من تحركات للقضاء عليها أزمات حقيقية  بما كان يترتب عنها عادة من قتل وتدمير وإحراق المحاصيل الزراعية، وتخريب للمدن والقرى واختلال التوازن الاجتماعي بالهجرات والخراب، وتعطيل الحركة التجارية ،بانتشار الخوف في الطرق،وقد تزداد آثارها سوءا إذا رافقتها أو تلتها مجاعات و أوبئة  أو هما معا.