عولمة التربية بين سلطة الواحد والتعدد كأفق - جمال ضاهر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاستوطئة:
إنّ العولمة، كفكرة، ليست جديدة، بل هي قديمة قدم المُثل اليونانيّة، مروراً بسيادة الفصحى لهجة قُريش، انتهاءً بالحداثة الغربيّة... أيضاً بما يتعلّق بالعلوم من اجتماعيّة وطبيعّية ودقيقة.
أدرك ضرورة التّوضيح.
بداية التّوضيح؛ إنّ العولمة لا تحمل من الوضوح، كفكرة يرغب من يرغب بتحقيقها في عالم الاقتصاد1، سوى خط واحد: دستور اقتصاديّ عالمي واحد (Constitution of a single global economy) كما صاغها (رينيت روجيرو) من كان المُدير العام لمُنظّمة التجارة العالمّية (WTO).
المُفرد الواحد هو الكلِمّة وهو المُمارَسَة.
الواحد، سُلطة وأشياء أخرى.
ما سأفعله في بضعة سطور مُقبلة، هو الإشارة إلى حدّة التّناقض بين العولمة، بوصفها لا تتميّز إلا بالواحد، وبين الفردانيّة والجمع... مُبيّناً إسقاطاتها على شخصنا وعلى حياتنا.
بين فردانية بين مفرد:
بينما الواحد، من حيث تعريفه، لا يقبل سوى نفسه وسُلطته، تحمل الفردانيّة داخلها، من حيث تعريفها، ضدّها.
أبدأ بتعريف الفردانيّة لأنتقل من بعدها إلى تعريف المُفرد، مُظهراً كيف أنّ الإنسان، في تاريخه المغرور به، على الرغم من أنّ الفردانية هي ما يولد معه الإنسان2، كان دائم المُحاولة لخلق الواحد والالتصاق بالمُفرد فكراً ومُمارسة 3. الفردانية، الهو الفاعل، لا نهائيّة الحدود من ناحية، وبشكل تناقضيّ، مُحدّدة، تنبع لا نهائيّة الفردانيّة من كونها أبداً غير تامّة التّبلور أبداً دائمة التغير تراكمياً، أي أنها أبداً في صيرورة تراكمّية مُتحوّلة 4. وبكونها مُتحوّلة, ثانياً، فهي تتضمّن المُمكن. والمُمكن، من حيثُ تعريفه، غير حتمي الحدوث غير مُحدّد المعالم، وبكونها تتضمّن المُمكن اللاحتمي الحدوث غير مُحدّد المعالم، ثالثاً، فهي تحمل بُعدي الحضور والغياب في آن: ما هو موجود في حيّز الواقع وقد يكون ظاهراً، وما هو موجود في حيّز المُمكن وقد يأخذ تجسّده وقد يظهر. وهنا، عليّ الإشارة إلى أنّ الغياب، في سياق الحديث عن المُمكن ضمن لا نهائية حدود الفردانيّة، يحمل من المعاني أكثر من واحد، يعنيني في هذه اللحظة:
حضور المُمكن؛ المُمْكن أن يأخذ تجسّده وقد يظهر.
فليس كلّ ما هو موجود في حيز الممكن يدخل إلى حيز الواقع ويأخذ تجسّده 5. وليست العلاقة حتمية، بل مُمكنة... تماماً كما أنّ العلاقة بين التّجسّد والظّهور ليست علاقة حتمية، بل هي أيضاً مُمكنة.
أمّا محدوديتها، فتنبع من كونها تاريخية، ومن عدم إمكانية الإشارة إليها إلا هناك، في ماضيها. هناك، في ماضيها، هي لا تتضمن كل ما هو ممكن، فحركتها تغيرها فيه نفي وعدم مستمر لإمكانية ممكنات تماماً، كما فيه فتح مستمر لإمكانية ممكنات... حركة التراكم التحول، حركة التغير هي حركة إغلاق وفتح في آن. وهكذا بعدا الحضور والغياب فيها ينفتحان ينغلقان، أو بالأحرى ينغلقان مفتوحين. وهنا أيضاً، يأخذ الغياب من المعاني أكثر من واحد، يعنيني في هذه اللحظة ما يتصل بحركة الإغلاق فيها:

حضور ما ليس ظاهراً وكان من الممكن أن يتجسد وأن يظهر.
بكون الفردانّية فردانّية تراكميّة مُتحوّلة فهي مفتوحة من أربع جهاتها على أوسعها، أي أنّها تتحرّك تُجسّد لاإغلاق، وبهذا فإنّ حركتها كونيّة لا مكانيّة لا زمانّية. لا زمانيّتها لا مكانيتها، هنا، لا تعني لا تاريخيّتها، بل تعني لا حدودّية جغرافيتها لا حدودية لحظتها. لا زمانيّة لا مكانية حركة الفردانية تتضمّن الغياب بمعنى إضافيّ:

حضور ما ليس من الممكن أن يظهر.
لتوضيح الفكرة أقول، على الرغم من لا نهائية الممكنات الموجودة في فضاء الفردانية، من حيث كمها ونوعها، فهي لا تشمل ما ليس ممكناً نسبة لتراكمية الفرد في نقطة تحولية معينة. بهذا المعنى، اللانهائية، هنا، هي نهائية. الخط الفاصل ما بين الممكن وما ليس ممكناً هو خط الحدود المُؤطرة للفردانيّة في تلك النقطة التّراكميّة التّحوّليّة.
ولكنّ الفردانّية، من النّاحية الأخرى، تتراكم تتحوّل ضمن تفاعلاتها أيضاً مع اللامُمكن الحاضر خارج حدودها، أي أنّ اللامُمكن هو أحد العوامل الفاعلة في صيرورتها. وبوصفه كذلك، فهو حاضر في حيّز الفردانيّة (كانعكاس)6 لتأثر7، الأمر الذي يعني أنّ الفردانية تتضمّن داخلها شيئاً من ضدّها، شيئاً يُهدّد وجودها حدّ نفيها: ليس أن الفردانية فقط لا تعيش بمفردها، وليس أنها فقط لا تأخذ مسار تراكمها وتحولها إلا بوجودها مع المختلف عنها، بل إنها لا وجود لها إلا بوجود ما يتناقض معها حدّ نفيها... داخلها وخارجها.
فهي الفردانّية، تحمل الغياب بكلّ معانية، تحمل المُمكن الذي يمكن، وتحمل انعكاس اللاممكن داخلها.

أما الواحد المفرد، فهو منفرد بذاته منفرد بصفاته، فلا شيء مثله سواه، لا شيء يشبهه لا مثيل، وبوصفه كذلك فحدوده واضحة المعالم محددة:

ما ليس يُشبهه ليس هو.
حدود الواحد، على هذا، تماثله مع نفسه، وجداره من نوع الصلب يحيطه من أربع جهاته، يرتفع يمنع تسلل ضده أو حتى اختلافه، يحافظ على انسجام داخله بين مركباته:

ما ليس هو، ليس مُتضمّناً داخله.
وقد تكون ملامحه تامة الوضوح ومعروفة، وقد لا تكون، ولكنّها كلها داخلة، أي أنه يحمل كله داخله ولا يحمل سواه... بين ممكن كامن فيه بين تحاضر في حيز الواقع، وبهذا فهو يحمل من الغياب معنيين اثنين:

حضور المُمكن الكامن فيه وقد يأخذ تجسّده وقد يظهر.
الحاضر في حيّزه ولم يظهر بتمامه بعد، وقد لا يظهر.
المُمكن الكامن في الواحد هو أيضاً محدد، أنواع الممكن وتعدادها محددة بقدر ما يسمح انسجامه مع نفسه، بقدر ما تسمح العلاقات بين مركباته: بغض النظر عن شكل العلاقات ونوعها وطبيعتها، على دخول الممكن إلى حيز الواحد ألا يعيق استمرار الانسجام الموجود داخله بين مركباته.

بكون الواحد المفرد لا يتضمن داخله ما يعيق انسجامه، فهو يتحرك بتغير بما يتلاءم وما عنده من ممكن متضمن داخله وحاضر في حيز واقعه، أي أنه يتحرك يتغير في حركة أحادية الاتجاه متوقعة... ضمن جلده وحدوده. أحادي الاتجاه، هنا، لا تعني عدم وجود عدد من الاتجاهات، بل جاءت لتقول إن حركة الواحد لا تكون خارج المسارات المترتبة بالضرورة عن الممكن الكامن فيه. التأكيد، هنا، هو على الضرورة المميزة لحركته تغيره. وبوصفه كذلك، بوصف الضرورة ميزة حركته تغيره، فلا شيء فيه يشير إلى وجود الآخر أو إلى وجود ضده... لا شيء فيه يمكننا من رؤية الآخر غيره، بل وكل ما فيه يشير إلى عدم وجود لغيره؛ أي أن الواحد، في جوهره، ينفي وجود اختلافه.

انعدام ما منه يستنتج وجود الآخر، ليس معنى من معاني الغياب... لا للواحد لا للآخر الغائب، فلا مكان للآخر في الواحد، إنّه كامل مكتمل مُكتفٍ بالكامن فيه عنده: ليس كلّ ما ليس في حيّز الواقع يعني غيابه، وليس كلّ ما ليس في حيز الممكن يعني غيابه، وإن كان الآخر يعي عدم وجوده هناك.

ليس بإمكاننا الحديث عن الغياب دون الممكن الممكن، وبهذا يأخذ الحضور معناه:

ما ليس ليس.
نفي معنى الغياب هنا يشير إلى حدود الواحد... وإلى اكتماله8 وإلى إغلاقه، أي أن الواحد، فكرة ووجوداً، مغلق بحدوده على ذاته، وهدمه لا يكون إلا في حالتين أو ثلاث:
تفريغه من معانيه.
كشف عدم انسجامه مع نفسه.
استبداله... نفيه.

لنأخذ مثالاً يُظهر تجسّد العولمة في قذارتها حدّ النتانة، وكيف أخذناها وكيف للآن ما زلنا نمارس الجنس معها.
لنأخذ التربية، حياة الأطفال خاصّتنا، مثالاً.

التّربية، بين خطّين مُتوازيين

استعمال مفهوم الحتميّة أو السببيّة الضّروريّة، أو السّببيّة الاحتماليّة، أو المُصادفة لتفسير الظّواهر الاجتماعية، دون التساؤل فيما إذا كان سلوك الإنسان حقيقة يخضع لمثل هذه المفاهيم، فيه من التهميش حد التغييب لمُمّيزات الإنسان... موضوع البحث9. بل وفية عملية صبغ للإنسان بأصباغ ترابية وصخرية ليست له، وهذا كله على الرغم من أن قانون السببية لا يتعدى كونه فرضية... وإن أردتم، فرضية10 فيها الكثير من القصور.

والمحاولة غير الناجحة، اليوم، هي التغلب على ضيق حدودها وعلى سطحية تفسيراتها، وذلك بالتعامل معها كأحد مركبات التفاعل11(Interaction) أيضاً داخل العلوم الطبيعية والدقيقة بحد ذاتها12. وعلى الرغم من ذلك، لم يجرؤ أحد على أن يستعمل، في إطار العلوم الاجتماعية، مفاهيم تختلف عن المفاهيم المتعارف عليها في العلوم الدقيقة.

وهكذا، ضمن الأشياء، تمّ إدخال الإحصاء للعلوم الاجتماعية لتأخذ صبغة العلميّة، هكذا تمّ إدخال الإنسان إلى فضاء الأعداد، وهكذا تمّ تحويله إلى أرقام مُجرّدة13.

ومكانة العلوم الدقيقة ونظرياتها، منذ أعلن جاليليو عن الكون أنه "كتاب مفتوح دائماً أمامنا"، وأننا لن نستطيع فهمه ما لم نفهم "لغته ونقرأ أحرفه التي بها كتب"، وإلى اليوم وهي آخذة في الارتفاع حتّى أخذت مكانة الرّب وأصبحت تعمل كقواعد يبني عليها علماء العلوم الاجتماعية والإنسانية أبحاثهم ونظرياتهم14. الملفت للنظر، أنه حتى يتم اعتبار نظرية معينة نظرية علمية عليها أن تكون قابلة لإثبات عدم صحتها، أي أن إمكانية إثبات عدم صحة النظرية هو ما يجعلها علمية15. وبهذا فإن الملتصقين بالعلوم الدقيقة، إضافة إلى كونهم يجعلون من الإنسان شيئاً لا لون له ولا رائحة، فإنهم يأخذون أخطاء نظريات تلك العلوم، المفترض وجودها كما تعريفها، ويضعونها أسساً وقواعد لنظرياتهم، وكأنهم غير مكتفين بفرضياتهم16 وبما سينتجون، بالضرورة، هم أنفسهم من أخطاء.
نمط تفكير واحد، شكل أفكار واحد، مسار بناء واحد، تعريف واحد...
ماذا أيضاً؟
عالم واحد!؟

فرويد، حالة للدّراسة

فرويد، أب النظرية التحليلية في علم النفس، هو مثال واضح لما أقول، فقد اعتمد في بناء نظريته على نظرية داروين17، مستعملاً وموظفاً جميع مفاهيمها من السببية وحتى الحتمية، مؤمناً بأن النظرية، أياً كان نوعها، كي تكون علمية عليها أن تعتمد الفكر الحتمي، وتتمّيز به18، أي أنّه عليها أن تعمل في فضاء الواحد وأن تُنتج واحداً19 .
وهكذا فعل.
فقد قام بتحديد مراحل تطور الإنسان من حيث كونه إنساناً... مراحل واحدة مميزات واحدة، بغض النظر أين يعيش وماذا يأكل.
للتذكير، الانتقال من مرحلة إلى أخرى هو انتقال حتمي، والحتميّة التي يتحدّث عنها فرويد هي حتمية داخلية وليست خارجية:
"أنا أؤمن بالمصادفة في العالم الحقيقي الخارجي، ولكن ليس بالمصادفة النفسية الداخلية".20

إدّعاؤه هذا جاء كي يؤكد:
إن الانتقال من مرحة إلى أخرى غير مشروط بالمعطيات والشروط الحياتية الخارجية.
إن مميزات كل مرحلة ومرحلة عند كل إنسان وإنسان غير مشروطة بمن أمّه ولا أين ينام أبوه.

وعندما يكون الأمر كذلك، عندما نتحدّث عن حتمية الحدوث عند الكل الكامل، عندها:
نفقد حتى مجرد إمكانية فحص الادعاء؛ أي أننا نفقد ما يسمى اليوم "مجموعة الفحص"، التي بواسطتها يتأكد الادعاء ويتم قبوله، الأمر الذي يتناقض ومعيار العلمية.
عدم وجود ما يمكننا من قبول الادعاء ينفي إمكانية الإشارة إلى أخطائه، وينفي إمكانية عدم قبولنا له. عدم إمكانية الإشارة إلى أخطائه ينفي إمكانية إثبات عدم صحته، وبهذا فهو يتعارض مع تعريف العلمية بحدّ ذاته: فقدان إمكانية فحص الادعاء، يعني تعارضه مرة مع تعريف العليمة ومرة مع أحد مقاييسها.
فقدان إمكانية فحص الادعاء يعني الإشارة لعدم وجود الآخر، بل ويتحدث عن عدم إمكانية وجوده المترتب بالضرورة عن الوجود الواحد المفرد.
وفي هذه الحالة، تتحول النظرية إلى دين، إذ أن ما يميز الدين عن غيره هو أولاً عدم إمكانية فحصه، وثانياً عدم وجود آخر غيره.

وحّتى لو أننا لم نفقد إمكانية الفحص، فلا قيمة ولا معنى لفحصنا، إذ أن نتائج الفحص حتمية تماماً كما أن نظرية فرويد ذاتها حتمية، كما يقول بوبر (Popper):

"لقد أطلقت على الحتميّة الفيزيائية اسم الكابوس، إنها كابوس لأنها تؤكد على أن العالم بأكمله ليس سوى ماكينة كبيرة، ونحن لسنا سوى دولاب صغير".21

حدّ هذا الحد مارسنا العولمة، وأكثر.

العمل وفق نظرية فرويد واعتمادها في مجال التربية، أدخل -وما زال يدخل- أطفالنا في مسار تربوي واحد، لا علاقة لهم به في أحسن الأحوال، قاتلاً مميزاتهم وفردانيتهم، وجاعلاً منهم أكواماً من الرمل منثورة على شاطئ مهمل... في أي حال من الأحوال.

اعتماد الواحد يعني موافقة على تهميش الذات الفردانية والهوية الجمعية، بل ويعني موافقة ضمنية كاملة على عدم وجودنا كآخر.

هكذا، في العادة، يتم إنتاج القطيع... وهكذا، في العادة، يتم تعريفه.

اتخاذ نظرية فرويد واعتمادها، حول مراحل تطور الإنسان وحول حتميتها، من قبل الشعوب على اختلاف أنواعها وأجناسها -هي عمليا عولمتها من قبلهم طواعية، وبهذا تكون نظريته قد تمت عولمتها مرتين: الأولى، من قبله، وذلك بادعائه أن أفراد المجتمع الإنساني أجمعهم يمرون، حتماً، أثناء تطورهم بهذه المراحل. الثانية، من قبل كل من يتخذ نظريته ويعتمدها.

عولمة عملية إنتاج القطيع ومساره هي أحد الشروط الضرورية لإعادة عملية الإنتاج ذاتها، وهي إحدى الآليات الضرورية للسيطرة على القطيع الذي تم إنتاجه. أي أن استمرار إيماننا بالنظرية واستمرار اعتمادها واتخاذها قاعدة في عملنا التربوي، يعني عودتنا إلى عملية الإنتاج ويعني عملنا، داخل عملية الإنتاج، بما يتلاءم ويتوافق تماماً معها.

وهكذا، يقوم القطيع بنفسه بالحفاظ على نفسه قطيعاً... وبإنتاج قطيع آخر.
يبدو، والله أعلم منا بالحقيقة، أن الاستيقاظ من عميق الأحلام لم يكن لسلب الوجود والذّات بل لنهب الخُبز الكفاف: ليست العولمة، كفكرة، هي الإشكال عند معظم من يقف اليوم ضدها، وبالطبع ليست ممارسة الواحد... إنه الخبز، لا أكثر.

جمال ضاهر
روائي فلسطيني - الناصرة


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟