الازدواجية والتعلم - ذة. ثريا خربوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس1.  تقديم
نحاول، في هذه المقالة، تبني التصور الذي يعتبر الازدواجية ظاهرة طبيعية لا تؤثر سلبا على تعلم الفصحى. بل إن تفاعل العامية والفصيحة يحتم البحث في التقارب، ونشره وتعميمه، واستغلاله في تعليم العربية وتبسيط تلقينها.
 2.   النسق الفصيح والعامي: خصائص  ومواقف
تعود الازدواجية العربية إلى ما قبل الإسلام1. شكّلت موضوع الدراسات الأدبية وفقه اللغة منذ القرن التاسع عشر.2 ولقد انبنت معظم التصوّرات حول هذه الظاهرة على اختلاف النسقين "الفصيح" و"العامي". اعتُبرت الفصحى نظاماً مقنّناً ومعقّداً نحوياً، تستعمل لأغراض الكتابة والشؤون الرسمية، وفي مجال الدين  والسياسة، توصف باللغة المعيار، وتعد اللغة المشتركة (lingua franca) بين كل بلدان العالم العربي، مما يجعلها تتجاوز الخصوصيات المحلية.
تتوفر على ثمان وعشرين صامتاً وثلاثة صوائت طويلة، وثلاثة أخرى قصيرة. أساسها نظام صرفي (inflectional) يقوم على الإعراب والنهايات الصرفية (models endings) التي تتجلى في نظام ثنائية الأفعال والأسماء والضمائر. وتتميّز بمعجم غنيّ يتضمن وحدات معجمية متعددة بالنسبة للمعنى الواحد. كما تتعدد فيها مصادر الأفعال وجموع الأسماء. ولها للمؤنث علامة وللمثنى أخرى وللصفات نهايات، مثل /an-/ وللموصولات أشكال مختلفة.
تُوظف، في المقابل، العاميات العربية في الحديث اليومي، وتستعمل في القطاعات غير الرسمية، تختلف من بلد إلى بلد، ومن منطقة إلى منطقة في البلد الواحد. تهيمن في أشكال الفن والثقافة الجديدة من نوع الأغنية والمسرح والسينما والرواية والقصة القصيرة. وتُستعمل، للأغراض الأيديولوجية في مخاطبة الكتلة بهدف التضامن. وهي، بخلاف الفصحى، لا تحظى بالاحترام، بل قد يُقرن استعمالها بالجهل والأميّة. و ليست مكسباً إضافياً، لأنها تكتسب، ولا تُتعلَّم.

تتميّز من الناحية البنيوية بالاختلاف والتعدد، إذ يختلف النظام الصوتي لكل لهجة عن غيره في اللهجة الأخرى. وتشترك، جميعها في بساطة النظام الصرفي، والتحرّر من الإعراب والنهايات الصرفية، ولا تعرف، بعكس الفصحى، تعدد الأشكال النحوية والألفاظ المعجمية، كما أنها قليلة الضمائر والحروف، تعتمد السياق في الفهم، ولا تعتمد الشكل أو الإعراب.
كانت هذه الاختلافات وراء التساؤل، في الدراسات المعاصرة، حول كفاية وفعالية اللغة الفصيحة لغة ثقافة وأدب. وتعد سلسلة المقالات القصيرة التي نشرتها المقتطف ستة 1881 من أول الأعمال في هذا الباب. دافع أصحابها على استبدال العربية الفصيحة بالعربية الدارجة، وربطوا إمكان النهضة بالتخلّي عن هذه اللغة، واستعمال العاميات، لغة كل الناس. تتابعت الحركات والآراء المدافعة عن هذا الرأي.
ظهرت، إلى جانب الآراء، الداعية إلى نبذ الفصحى وتبني العامية، تصوّرات وسط معيارية (normative)، تقوم، بدورها على مواقف متضاربة تتراوح بين الدعوة إلى استعمال الدارجة دون الفصحى، أو استعمالهما جنباً إلى جنب.
ومازلنا، إلى الآن، نصادف التصوّر الذاهب إلى أن الدارجة انحراف عن الفصحى، ودليل الأمية، وينبغي أن تحل الفصحى محلّها، وذلك بمنع دراسة اللهجات التي تسعى إلى جعلها لغات، أو تعمل، على الأقل، إلى توسيع الهوة بينها وبين اللغات. إلا أننا نعتقد أن العامية والفصحى ليستا في وضع تضارب وتناقض، بل إنهما في تكامل وتفاعل.
 
1.2. التكامل والتفاعل بين العامية والفصحى
ندين في المواقف الجديدة من الازدواجية إلى الدراسات الغربية التي دشّنها فركَسون (1959) بتحديد المعايير اللغوية والسوسيولسانية التي تبيّن أن المجموعات العربية، مثل مجموعات أخرى في العالم (اليونانية الحديثة modern greek والألمانية السويسرية suiss german، مثلا)- تعيش ازدواجية تتكون من نسقين لغويين، ينفرد كل نوع منهما بوظيفة ثقافية ومجتمعية محدّدة. النوع الأول رفيع عالي (high) والثاني وضيع أسفل و/أو دوني (low). يُوظف الأول في الاستعمال الرسمي العام، والثاني في الاستعمال المنزلي والأوضاع غير الرسمية. تعتبر الأنواع الراقية لغات البلاد الرسمية، ويُعترف بها في الدساتير لغات قانونية وتُحفظ وتُصان في القنوات الرسمية مثل الآداب؛ في حين ليس للأنواع الدونية سند رسمي، وقنواتها محدودة في الاتصالات المعتادة البسيطة.3
انطلاقاً من هذا التصور الجديد، أصبحنا نرى الازدواجية العربية ظاهرة طبيعية تجمع بين الاستقرار التام، لامتدادها في الزمن، والنسبي، نظراً للتوزيع الوظيفي بين الفصحى والعامية: الفصحى تمثل القيم الأصلية للمجموعة اللغوية، والعامية تجسّد القيم المحلية المتفرّعة عن الأصول الفصيحة.
ولما كانت الأنساق تتفاعل وتتكامل بفعل التسرّب الذي يحدث بينها، فإن كثيرا من الألفاظ العامية تستلزِم الإدماج في الفصحى للضرورة والاستعمال.
 
3. الازدواجية والتعليم
 
 بعد أن تبنينا التصورات الذاهبة إلى التكامل والتفاعل بين النسقين الفصيح والدارج، نتساءل: هل المشكل في منظومة التعليم العربية مشكل ازدواجية ؟ هل العامية تُعيق تحصيل الفصحى؟ ألا يُعد سؤالاً من هذا النوع مغلوطا ؟
نبين، فيما يلي،"غلط" الأفكار التي ترى أن العامية تعوق التعلم الفاعل، ونتبنى بعض النظريات المحددة لخصائص الأمومة في اللهجات العربية، ومكونات هذه اللغات، ونختم بحصر بعض المتوازيات في التراكيب الفصيحة والعامية قصد إبراز إمكان التعميم والتيسير.
 
1.3.  تصورات مغلوطة
 
يختزل بعض الباحثين التأثير السلبي للازدواجية في "التنافس بين اللغة العالمة (savante) واللغة العامية (vélgaire)، الذي يُحدث ثنائية وجدانية (dialité de la conscience) بين اللغة والفكر، من جهة، وتدبدب بين اللغة الفصحى والعامية، من جهة أخرى.
 نجد تصورات من هذا النوع عند باحثين فرنسيين مثل مونتيي (1961).monteil فقد ذهب إلى أن اللغة والفكر شيء واحد، ولما كانت العامية تعبّر عن الحسّ والفكر "الشّعبي" (populaire)، والفصحى عن العقل والفكر الأدبي؛ فإن الملايين من المشغولين بكسب قوت يومهم محرومين من التعبير الأدبي، بعكس القليلين ممن يجيدون ويتقنون اللغة المعيارية (réguliéé). ولما كان الطفل ملزم بالانتقال من نسق إلى آخر، فإنه يُجهد نفسه ويُكلفها حين يُعبّر بلغة ليست لغته "ذلك أنه ما أن يبدأ في التعبير حتى يتوقّف عن التفكير، لأنه يشتغل بالشكل الأدبي الذي سيصوغ به ما يريد قوله، وما يفكّر فيه"4
وهكذا نلاحظ "غلط" طرح المشكل الازدواجي. فمن ناحية، تلتبس قضية اللغة والفكر وتفاعلهما بمشكل تعميم التعليم ونشره؛ إذ إن ما يُؤخّر الفكر هو عدم تعلّم اللغة الفصحى، وليس "حسيّة" اللغة العامية. كما أن الانتقال من نسق إلى آخر، لا يُشكّل عائقاً إذا توفر للتلميذ إمكانات الانتقال "المعرفية" و"اللغوية". كما أن الحديث عن التنافس بين اللغتين "زائف" عند من يعرف اللغة الفصحى (إلى جانب العامية)، إذ إن لغته العامية ترتقي، وتصير قريبة من العامية، بل إن العامية تندثر، تماما، في الخطاب المكتوب.5 زد على هذا وذاك ما أكدته الدراسات الميدانية من متغيّرات التعلّم التي تبيّن أن ما يُحدّد التحصيل المدرسيّ الجيّد ليس اللغة نفسها، بل شروط تحصيل اللغة وظروفها. ومن هذه المتغيّرات:6
متغيّر الشعور بمنفعة التعلّم، ذلك أن معرفة المتعلّم بأهمية اللغة في تحقيق أغراضه "الوظيفية" (استعمال اللغة في التكلّم أو الكتابة، مثلا، أو تحرير الوثائق الرسمية وغير الرسمية) يُمثل حافزاً لديه يجعله يعمل على إتقانها واكتسابها وحسن استعمالها.
متغيّر تكوين المدرّس،إذ إن فشل التلاميذ لا يعود، دائماً، إلى كسلهم أو عدم اجتهادهم، بقدر ما يعود إلى "محدودية" معرفة المعلّم أو الأستاذ باللغة، بحيث يُعلّمها بكيفية "شاقة" و"مملّة"، ولا يربط تعلّمها بنماذج الاستعمال المتواجدة في حياة الطفل المجتمعية، وما يُمارسه ويحتاجه للتفاعلات المجتمعية (social interactions).
متغيّر الوعي بطبيعة اللغة المتعلّمة ودورها، فاللغة العربية الفصحى، مثلا، هي لغة التعبير الفكري السامي المرتبط بالدين والإعلام والثقافة والعلم والإنتاج الأدبي والمعرفي والفلسفي والتاريخي،ولغة المجالات "الحياتية" الراقية المعبّرة، ومن ثمّ لا يمكن أن ننتظر ممن لا يعرف إلا العامية أن يعبّر عن مضامين وأفكار وتصوّرات، لأن الفكر يرتبط باللغة، ولغة الفكر ليست هي لغة الحياة الحسيّة البسيطة.
متغيّر اعتبار دور اللغة العامية، ويتمثل في كونها "محدودة" لا يتعدّى مجالها ما هو فرعي محليّ  يعبّر عن الأوضاع السّفلى، ويتوقف تحسين استعمالها على تعلّمها في مستواها العالي الفصيح.
متغيّر مراعاة الاختلاف والتشابه بين النسقين العامي والفصيح، إذ على الرغم من التماثل المعجمي والتركيبي والصوتي والدلالي، فإن هناك اختلافات يفرضها السياق والوضع الذي توظّف فيه كل لغة، بحيث، قد تكون الكلمة مشتركة بين الفصحى والعامية، لكنها لا تكون سليمة إلا في سياق فصيح معيّن.
كان هذا عرضاً لبعض المتغيّرات التي تُسهم في تحصيل اللغة، وتبين أن حصر سلبيات الفشل المدرسي في الازدواجية مغلوط؛ لأنه لا يُفرّق بين تعلّم اللغة وبين أوضاع التعلّم. وقبل العودة لمناقشة دور اللغات الأم في الاكتساب، لنحدّد بعض خصائص الأمومة في اللهجات العربية، ومكوّنات هذه اللغة.
 
4. خصائص الأمومة في اللهجات العربية
 
اللهجات العربية لغات أم لكل العرب، بعكس كثير من لغات الأقليّات في العالم التي يخوض من يتكلمها حركات نضال من أجل انتشارها. وهي، على غرار كل اللغات الأم، ترتبط بنظريات لطالما اعتُبرت صحيحة، مثل افتراض المقدرة العالية، واعتبار اللغة الأم الأساس في تكوين الشخصية.
نفترض أن اللهجات العربية، في الأوساط المتكلّمة لهذه اللغات، أول ما يكتسبه الطفل. أي إنها تتميّز بأسبقية الامتلاك (antériorité d appropriation)، ويحظى متكلّمها باكتسابها في أفصل مراحل عمره، ألا وهي المراحل القريبة من ميلاده، مراحل اللدونة (plasticité)، التي تكون فيها الأعضاء الحركية للمتكلّم مهيّأة للتلقي والاكتساب مما يتيح وصفه بالمتكلّم الناشئ (natif) ونعت اللغة المتكلّمة باللغة الفطرية (native). ويوضّح دابين (1994) dabène طريقة اكتساب اللغات الأم بثلاث متغيّرات:
1- التعلّم التلقائي (نتعلّم دون أن نشعر بذلك)؛
2- التعلّم بدون تدخّل بيداغوجي (نتعلّم وحدنا)؛
 3- التعلّم بفضل الاتصال البسيط بالمحيط (نتعلّم عن طريق الاتصال العادي بالآخرين).
وإذا كانت اللغات الأم ترتبط بوظيفة الكلام، فإن افتراض أنها المكوّن الأساسي في بناء الشخصية يبدو طبيعيّاً.7
لما كان اكتساب اللغات الأم يتم بتلقائية وبشكل طبيعي لاشعوري غير قصدي، فإننا نتصوّر توفّر المُكتسب على مقدرة عالية في هذه اللغات. إلا أن ما يُلاحظ هو أن مُكتسب لغة أمّ لا يكون له مقدرة تخزينية ومعرفة جيّدة. ويكفي دليلا على ذلك ما يجري في المجتمعات المزدوجة (بما فيها العربية طبعا)، حيث يرتبط استعمال اللغة الأم بالحياة اليومية، ويترتب عن الجهل باللغة المكتوبة، عدم القدرة على التعبير عن الأوضاع المعقّدة التي يتطلّب وضعها التمكّن من بنيات ومعجم متخصّص. كما أن الشعور بالاكتساب ليس مطلقا، بدوره، فقد أبانت الدراسات والأبحاث في اللسانيات النفسية (psycholinguistics) أن هناك تنظيما للتعلّم، وإن كان لاشعورياً؛ زد على ذلك "التوجيه العائلي" المتمثّل في سيرورات مثل التصويب، ثمّ إن أي فرد معرّض لهذا النوع من التعلّم في حال تعلّم لغة جديدة.
أما بناء الشخصية، فتتدخل فيه، بالإضافة إلى معيار الوظيفة الكلامية، أنظمة متعدّدة، إذ غالبا ما تستعير هذه الوظيفة وظائف أخرى من أنساق مغايرة لتكوّن مع عناصر النظام الأم الكلام الفردي (le parler individuel) في شكل مجموعة من الإمكانات التعبيرية للمتكلّم. وفيما يلي، نرصد مكونات اللغات الأم باعتبارها خصائص أخرى لهذا النمط من اللغات.
 
1.4.   مكونات اللغات الأم
 
يتضح مما سبق أن مفهوم اللغة الأم مركّب غير بسيط، وأن الافتراضات التي تخصّصه ليست مطلقة، ومن الصّعب حصره في معنى كلّي. ويأتي التباسه من كونه مختلف الأشكال (univoque)، ويجمع بين مصطلحين ينتميان إلى مجالين مختلفين، يحيل مصطلح لغة على مقولات كشفية (heuristique)، دقيقة، نسبيا، غير متغيّرة، من الناحية الابستمولوجية و/أو العلمية؛ في حين يؤشّر مصطلح أم إلى مقولات مرنة ترتبط بتنوّع "الحياتي" (le vécu) وبالمتغيّر (le variant).
انطلاقا من هذه الاعتبارات، نتبنى تحديد دابين (1994) لمكوّنات اللغة الأم وتركّبها من ثلاث مفاهيم تشير إلى ثلاثة حقائق كلامية تشكّل العالم المعرفي للمتعلّم خارج اللغة أو اللغات موضوع التعلّم:
-لغة المولد؛
- لغة المرجع؛
- لغة الانتماء.
يُقصد بلهجة المولد (le parler vernaculaire) اللهجة التي تمثّل الاتصال الأول للفرد مع الكلام، أي ما يُقابل المرحلة الضرورية للتطوّر الجيني (génétique). تُكتسب داخل مجموعة أوليّة، وتختلف من ثقافة إلى أخرى، إن نوعيّا ( من العائلة النووية إلى القبيلة) أو كميّا، (باعتبار نوع التفاعل: شفوي/غير شفوي، مثلا).إلا أن المجموعة الأولية، لا تعد المكوّن الوحيد للأشكال الأساس لهذه اللهجة، إذ بحكم التقدّم في السن، والاتصال مع الأقران، تتطور. تُعرف، في هذه الحالة تبعا للسوسيولسانيين، بلهجة المولد أو الموطن، وتُعرف في السياق المتعدّد اللغات (multilingue) بلهجة الاتصال مع المجموعة الأكثر قرباً.
وتحيل لغة المرجع على اللغة المقعّدة التي تدرّس، أي اللغة المكتوبة، وأداة نقل المعارف. تعد المرجع الأوّل والخيط المسيّر والترجمان الأساسي والإطار اللساني والتصوّري (المعرفي) الذي يعتمده المتعلّم في استخلاص الافتراضات الأولى.
تختلف هذه اللغة باختلاف الأوضاع، ويُفترض أنها اللغة العربية الفصحى بالنسبة للمتعلّم المغربي، مثلا. ويُؤشر مفهوم لغة الانتماء إلى كون اللغة خاصية من الخاصيات الثقافية المحدّدة للانتماء الإثني، مثل الجنس (race) والدين (religion). صحيح أن الاختلافات اللغوية تفلت من "التقديس" الذي يقترن بالاختلافات الدينية أو الجنسية، لكن الحكومات نفسها تميّز الأقليات الإثنية، باعتبار الخصائص اللغوية، وتحدّد الهوية على أساس امتلاك لغة واحدة مختلفة عن لغات الآخرين، بعبارة أخرى، تُقرن لغة الانتماء بلغة "الانتساب الهُوّي"؛ ذلك أن أي متكلّم يذكر لساناً أماً له، فإنه ، بوعي أو دون وعي، يشير إلى التجانس ((cohésion مع مجموعة والتميّز عن أخرى.
نفترض، مستخلصين من هذا التكوين الثلاثي للغة الأم، أن عربية المتكلّم العربي تجمع بين اللهجات ( كلام المولد ولهجاته) والعربية الفصحى (لغة المرجع الأولى)؛ كما نفترض أن كل واحدة من هذه اللغات تؤثر في تلقي المتعلّم: اللهجات تؤثر في اكتساب الفصحى ، واللهجات والفصحى تؤثران في اكتساب اللغات الأجنبية، وهكذا.
كما نستخلص أهمية خلفية الانتماء الهُوي في تعلّم اللغة، فالمتعلّم الذي يتجاهل هوية التلميذ (لهجة بدوية، مثلا، أو لهجة أمازيغية أو غير ذلك) يُحدث ردوداً "عكسية" في تلقي التلميذ وتحصيله المدرسي. ويأتي في السياق نفسه المشاكل التي تترتب عن الجهل بخصائص اللغات المصدر، وما تتسبب فيه من هفوات في اللغة الهدف، إغفال الانتقال إليها من اللغة المصدر.
 
5.  دور اللغة الأم في تعلّم الفصحى
 
أصبح معروفاً لدى علماء التربية واللغة تأثير اللغة الأم في تعلّم اللغة الثانية، سواء أكانت اللغتان مختلفتان (العربية والفرنسية، مثلا) أو تنتميان إلى النسق نفسه (العربية الفصحى ولهجاتها). وصار من عناصر النجاح في تدريس اللغة الثانية، الاعتماد على مقارنتها باللغة الأولى ووصفها ومعرفة خصائصها، حتى يتسنى التعرّف، مُسبقا، على الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المتعلّم، وتعميم ما يُوازي فيها من تراكيب وألفاظ تراكيب اللغة الثانية وألفاظها، تيسيرا وتسهيلا لتعلّم الطفل لهذه الأخيرة. بعبارة أخرى، إن اعتماد الذخيرة اللغوية التي يمتلكها الطفل بكيفية طبيعية في تعلّم اللغة الجديدة يكون في هذا الإطار، مكسباً يُسهّل عملية التعلّم وييسّرها.
من الدراسات الشهيرة، في هذا الإطار، الدراسة التقابلية. يُعد علم اللغة التقابلي (contrastive linguistics) من أحدث المناهج، ويُعرّف محمود فهمي حجازي موضوعه بالمقابلة بين لغتين أو لهجتين، أي بين مستويين متعاصرين، بهدف إثبات الفروق بينهما. وبيّنت سلسلة من الدراسات الميدانية أهمية الانفلات في الدراسة التقابلية من الانغلاق على المستوى الصوتي والصرفي، والانكباب على الدلالة والتركيب، "ذلك أن المشاكل الحقيقية في تعلّم اللغة وما يحصل من التشويش اللغوي لا يأتي من المشاكل اللغوية السطحية، بل من العلاقات الإدراكية/الدلالية الكامنة في الاختلاف بين اللغتين. فمثلا، عوض التركيز في تعليم الزمن على مورفيماته وصحة استعمالها، يجب التركيز على إكساب الطفل قدرة الفهم الشمولي للكيفية التي تتوسل بها اللغة الجديدة تحديد العلاقات الإدراكية الظاهرة في الزمن"8 وسنحاول، فيما يلي، رصد بعض ملامح التوازي التركيبي بين تعابير الإضافة العربية الفصيحة والعربية المغربية، وذلك بهدف تبيان التقارب بين تراكيب العامية والفصحى، وإمكان تعميق البحث في هذا الاتجاه قصد تيسير تعلم العربية وتسهيل نشرها واستعمالها، خصوصا في المراحل الأولى من التعلم.
 
1.5 .العربية الفصحى والعربية المغربية: بعض ملامح التوازي
 
نقارن تراكيب الإضافة المعنوية، ننظمها في الأمثلة المزدوجة أسفله،  ونصفها  فيما يلي:
1- الإضافة الاسمية (1-2)، وهي الإضافة المحضة والخالصة، لأن المعنى فيها يُوافق اللفظ، إذا أضفت فيها اسما غير معرّف إلى المعرّف تعرّف، وإذا أضفته إلى النكرة تخصّص وخرج عن الإطلاق؛9
3- الإضافة المتحجّرة (3-4)، وتسمى كذلك، لأنها تبدو كما لو كانت اسماً واحداً (compound) معرّفاً مسكوكاً. من القواعد المؤكدة لاختلافها عن الإضافة المعتادة (أو العادية)، العطف وحرف الجر والإضمار، حيث لا يمكن عطف التعبير الأول على الثاني، ولا إدخال حرف الجر على الاسم الثاني، ولا إضمار التعبير الأول .10
4- إضافة الضمير (5)، وقد يكون منفصلا أو متصلا؛
5- الإضافة التصنيفية والتعيينية (6-9)، ويعد التعيين وظيفة التعريف، والتصنيف وظيفة التنكير، لكن لا يعني هذا أن كل بنية معرّفة هي تركيب تعييني، بل قد تكون تعيينية وتدل على التصنيف. ونميز بين تراكيب الإضافة التعيينية (identificatory annexion) وتعابيرالإضافة التصنيفية (classificatory annexion) هناك قواعد؛ منها السؤال "من/لمن/أي نوع من؟" مطبقة على التعبير الأول، وقاعدة إضمار التعبير الأول. إذا كانت البنية تعيينية، فإنها تكون جوابا عن السؤال "من ولمن"؛ وإذا كانت تصنيفية، تجيب عن لأي نوع من، وإذا لم تجب بعض البنيات التصنيفية عن هذا السؤال، فإن الإضمار يحسم فيها، حيث لا يُضمر الاسم الثاني، وقد ترد بعض البنيات ملتبسة بين قراءة التعيين والتصنيف؛11
6- الإضافة الحشوية (10-15)، ويتم فيها تحرير المركب الاسمي باستعمال الحرف (الباء أو اللام أو في أو من) إما بهدف تحرير الاسم من مقيده :(10-12) أو لتصيير المضاف نكرة والمضاف إليه معرّفا: (13-14) أو لجعل المركب تعيينيا أو تصنيفيا:(15)؛
7- علاقات الإضافة الاسمية (16-50)، ويترتب عن تآلف المضاف والمضاف إليه نوعين من العلاقات: "العلاقية" و"الحملية".12 يتوقّف النوع الأول في الإحالة على كيان آخر، بينما الثاني مستقل الإحالة، ويرتبط النوع الأول بالبنيات التعيينية، والثاني بالتصنيفية. يشمل المضاف "العلاقي" علاقة الجزء بالكل: (16-20) والقرابة: (21)، والتعالق: (22-24)، والاقتران: (25-28). ويشمل المضاف "الحملي" علاقات، منها: الوحدة بالجمع: (29-33) و"النوع بوصف مميّز" : (34-41)، واسم خاص: (42) أو فردي (43-46) وعلاقة الاحتواء: (47-48) والتقييم أو التثمين: (49-50):13
1) دار الرجل
1)أ) دار ديال الراجل: Dār diāl er-rājel
2) لباس رجل
2)أ) لباس د راجل: Lebās d rājel
3)ماء الورد
3)أ) ما ورد: mā ward
4) ماء ورد
4أ) نفسه
5) كأسنا
5)أ) لكاس ديالنا: El-kās dyālnā
6) ابن جاري
6)أ) ولد جاري: wald jārī
7) عصير الليمون
7)أ) عصير د الليمون: εaşīr d el-limoun
8) كأس القهوة
8)أ) كاس د لقهوه: kās d el-qahwa
9) أولاد المدرسة
9)أ ولاد لمدرسه: Wlād el-madrasa
10) أفعى الوادي
10)أ) لفعى د/ف الواد: El-lafεa d el-wād
11) رسالة علي
11)أ) برا من عند علي: Brā man εand eεli
12)  كتاب أحمد
12)أ) لكتاب د احمد: El-ktāb d ehmad
13) كأس شرب الماء
13)أ) كاس لشريب لما: kās dŠrib el-mā
14) فراش البيت الجديد
14)أ) لفراش الجديد د لبيت: El-frāš ej-dїd d el-bīt
      ب)  لفراش د لبيت الجديد: El-frāš d elbīt ej-dīd
15) مكتب عمل المدير
15)أ) مكتب د لخدمه للمدير: Maktab d el-xadma l-lmodīr
    ب) مكتب د لمدير للخدمه: Maktab d el-xadma l-lmodīr
16) شاطئ البحر
16)أ) الشط د لبحر: Eš-šţ d el-baħr
17) راس لعام
17)أ) راس لعام: rās el-εām
18) رجلي
18)أ) رجلي: rajlī
19) شاشة التلفزيون
19)أ) شاشة التلفزيون: šāšt et-tilifizioun
20) عضوية النادي
20)أ) عضوية النادي: εoďwiyt en-nadī
21) أم صديقي
21)أ) ماين صاحبي: Māyn şāħbī
22) موظفو السفارة
22)أ) لموضفين د السفاره: Lmwaďfīn d es-sifārah
23) رئيس الجمهورية
23)أ)  رئيس الجمهوريه: ra´īsel-jamhouriya
24) رزق فريد
24)أ) رزق فريد: rizq farī
25) بنت تاجر
25)أ) لبنت د التاجر: El-bnt d et-tajer
26) أولاد الحي
26)أ) ولاد الحي: wlād el-ħay
27) مدينة النبي
27)أ) مدينة النبي: Madīnt en-nabi
28) جزيرة العرب
28)أ) جزيرة العرب: Jazīrt el-εarab
29) كتلة لحم
29)أ) طرف د اللحم: ţarf el-ham
30) قطعة خبز
30)أ) طرف د لخبز: Ţarf d el-xobz
31) حبّة عنب
31)أ) حبّه د لعنب: حبّه د لعنب: ħabbabh d el-εnab
32) رأس بصل
32)أ) راس د لبصل: Rās d el-bşal
33) رؤوس بقر
33)أ) ريوس د لبكَر: rỏous d el bgar
34) لحم بقر
34)أ) لحم د لبكَر: Lham d el-bgar
35) طبيب عيون
35)أ) طبيب د لعنين:  Ţabīd el-εaynīn
36) حاسة الشم
36)أ) حاسة الشم: ħäset eš-šam
37) عقرب الساعة
37)أ) عقرب الساعه: Εagrb es-saεah
38) قلم حبر
38)أ) لقلام د لمداد: El-qlām d el m- mdād
39) طالب طب
39)أ) طالب د الطب: Ţālb d eţ-ţeb
40) كلية الحقوق
40)أ) كلية الحقوق: Koliya el-ħoqouq
41) زهرة الليمون
41)أ) الزهره د الليمون: Ez-zahrah d el-laymoun
42) سيارة فورد
42)أ) سيارة فورد: Sayart ford
43) بلاد اليونان
43)أ) بلاد ليونان: Belād el-younān
44) سنة أربعين
44)أ) عام ربعين: εām rebεīn
45) حرف الرّاء
45)أ) حرف رّاء: harf ra’
46) كلمة شطرنج
46)أ) كلمت شطرنج: kilmat Šatranj
47) قفة تفاح
47)أ) قفه د تفاح: qafa d-et-tfāħ
48) حقل قمح
48)أ) حقل قمح: ħaql qamħ
49) بصيص فكرة
49)أ) بصيص فكره: başīş fikrah
50) عدم المبالاة
50)أ) عدم المبالاة: εadam el-mobālāh
 
فالملاحظ، يُمثل المتوازي في 50 تركيب، 25 (%50) بالنسبة لغير المتوازي : 25 (%50)، أي إن نسبة المتوازي تساوي النصف،  وهي تأتي من عدم توسيط الحرف، إما لأن التركيب يتم كما في الفصحى ( لاحظ، مثلا، (4) و(6) و (9) و(13)، أو مقتبس من الفصحى، كما تشير إلى ذلك أمثلة من قبيل التركيب  (17) و(18) و(19) و(20) .وهو غير متوازي لأنه يشيع أكثر بتوسيط الحرف، بل حرفين أحيانا، كما في (11)، أو استعمال تركيب مخالف تماما كالنسبة في (21). وباستثناء استعمال الحرف أو عدم استعماله،فإن كل التغيرات الأخرى تهم النطق.
نستخلص من هذه المقارنة أن موازاة العامية للفصحى كبيرة، وأن إمكان توسيط الحرف في الفصحى من أدوات التبسيط والتيسير والتفصيح التي يُنتظر أن تكون فاعلة لشيوعها في اللغة المكتسبة التي تُمثل ذخيرة مألوفة عند الطفل ومعتادة.
 
6. خلاصة
سعينا، إلى تبيان أهمية العامية في تعلم الفصحى، وغلط التصورات التي تعتبر العامية معيقا من معوقات تعلم العربية الفصيحة، كما حاولنا تحديد بعض مكونات اللهجات التي ينبغي اعتبارها في التلقين، بصفتها الذخيرة الطبيعية التي يمتلكها الطفل أول ما يمتلك اللغة. وقمنا، على مستوى آخر، بمحاولة تحديد بعض ملامح التوازي، علنا نكشف عن التقارب المحدوس بين النسقين: العامي والفصيح.
 
3 . انظر: (Dell)، ص.134:
Sosioluinguistics, Goals, Appproches and Problems,B. T.Batsford. Lonon, 1976.
 
4 . انظر:
Monteil, V. L Arabe Moderne: Etudes Arabes Islamique, Etudes et Documents VI, librairie C.Klincksieck, Paris, 1961..
 
5 . ثم، من المعلوم أن الازدواجية العربية لا يُمكن أن تُسبّب الصراع، لأن نسقيها: الفصيح والدارج، يُعبران عن الحضارة نفسها: انظر في الاستدلال على ذلك:
أحمد السغروشني: الآثار الناجمة عن ازدواجية اللغة في تكوين الملكة اللغوية في المراحل الأولى من التعلم، ضمن: قضايا استعمال اللغة في المغرب، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، .1999.
 
6 . استفدنا في بلورة هذه المتغيّرات من:
Rubin, J. Bilingual Education and Languge Planning, in: Language Planning and Language Education, George Allen & Unwin, London, 1984.p.p.4-16.
 
7 . انظر، في هذه الخصائص:
Dabéne, L. Repéres Sociolinguistiques pour L Enseugnement des Langues, les Sutuations Plurilingues, Hachett, F.L.E. Collection F. Paris, 1994.p.p. 8-22.
 
8 . انظر: محمود فهمي حجازي: مدخل تاريخي مُقارن في ضوء التراث واللغات السامية، دار العلم للملايين، 1973.
وانظر: سلسلة الدراسات الميدانية(2): تعليم اللغة العربية في جبال النوبة- السودان، معهد الخرطوم الدولي للغة العربية، 1981. و:عبد المجيد جحفة وعبد اللطيف شوطا: تحويل القدرة من المغربية إلى العربية، ضمن: قضايا في اللسانيات العربية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بن مسيك،البيضاء، 1992.
 
9 . استلهمنا هذه التراكيب من :
Cowell.L. A Reference Grammar of Syrian Arabic (Based on the Dialect of Damascus), Lown University Press, 1964.
 
10 . ابن يعيش، أبو البقاء: شرح المفصّل، ج.2. إدارة الطباعة المنيرية (د-ت).
11 . محمد الرحالي: بنية الإضافة وفحص الإعراب داخل المركب الحدّي، ضمن:
المركبات الاسمية في اللسانيات المقارنة، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، 1999.
12 . كويل: المرجع السابق نفسه.
13 .  أنظر محمد غاليم: بعض العلاقات الدلالية في البنيات الإضافية، ضمن وقائع:
المركبات الاسمية في اللسانيات المقارنة، المرجع السابق نفسه.

ذة.  ثريا خربوش
كلية الآداب والعلوم الانسانية- المحمدية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟