"مخارج من مجتمع مريض" لإريك فروم ـ تقديم: د.حميد لشهب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

wege aus einerنشر فروم هذا الكتاب، و هو أهم كتاب مبكر له، عام 1955، و أعيد نشره في أعماله الكاملة بميونيخ سنة 1989، المجلد الرابع: "النظرية الإجتماعية" إلى جانب كتابه الشهير الآخر: "ثورة الأمل. من أجل أنسنة التقنية".

يناقش الكتاب مشكلة الإنسان الحديث في مجتمع يُرَكِّزُ كل همه على الإنتاج الإقتصادي و التقني، ولا يهتم بتطوير العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراد مجتمعه. يؤكد فروم بأن النظامين الرأسمالي و الإشتراكي المادي قد فشلا في قيادة المجتمع في الطريق الصحيح (التضامن، التسامح، وعي المصالح العامة إلخ) و سببا للفرد فقرا وجوديا و خيبة أمل ضمنية أو صريحة في تحقيق مُثُل إنسانية سامية، تجعل من الرفاهية المادية و المعنوية هدفها الأخير. كما أنه يشخص أمراض المجتمع ويعرض ما يراه من نواقص وعيوب. ثم يشرح ما اختاره المرء من حلول للمشاكل التي يعانيها المجتمع، وهي حلول تركز كلها على تطوير النظام الرأسمالي وقيام الحكم ديكتاتوريات مختلفة جراء ذلك و التنبأ بانهيار الشيوعية المادية. و يعتبر فروم كل هذه الحلول دون جدوى، لأنها لا تعالج المشكل في أساسه، بل تعمل على تعقيده. ولا يرى أي حل لهذه الأزمة إلا ببديل "الإشتراكية الإجتماعية". يفصل القول في شرح بديله هذا و يبين ما يقصده به. فهو الذي يضمن في نظره للمجتمع سلامة العقل الجماعي ولا تستغل الفرد لتحقيق أغراض أقلية، سواء أكانت طبقة سياسية أو دينية. أهم شيئ في هذا المجتمع الجديد هو تطوير الجانب الإنساني في الإنسان، و هو جانب قابع فيه لا ينتظر إلا الفرصة لينبثق و يتفتح. و من الضروري في نظره أن يوجه الإقتصاد و السياسة و الثقافة و لحتى الدين في هذا الإتجاه قصد تحقيق هذا الهدف. و يخصص حيزا كبيرا لتحليل هذا الأمر، قبل أن يختم بتقديم اقتراحات عملية في الإصلاح الإجتماعي، الذي يهدف إلى الحد و لربما القضاء على نمط الحياة الآلية التي رُمي المجتمع فيها. و النتيجة هي بناء مجتمع سليم، يكون كل فرد فيه منتج ماديا و معنويا و مسؤولا واعيا عن نفسه و عن الآخرين.


يعتبر الإغتراب أو الإستيلاب في نظر فروم أهم مرض نفسي للإنسان الحديث، و يشبه إلى حد ما الذهان، كما يتضح ذلك من بعض الأمثلة الإكلينيكية. يختار فروم أحد أهم المشاعر الإنسانية للبرهنة على ذلك، ألا و هو الحب، أو ما يسميه بالحب الزائف. عندما يتقاسم شخصان هذا الشعور الرائع، و يختفي هذا الأخير لسبب أو لآخر بعد مدة عند طرف منهما، لكنه يبقى حيا عند الطرف الآخر، أو يتهيأ له الأمر هكذا؛ فإن الكئابة تغمره. و هذا أمر طبيعي إذا لم يتجاوز حدودا معينة. و يتحقق الإستيلاب المصحوب بفقدان الهوية، عندما تقود هذه الكئابة إلى حالات نفسية غير طبيعية مثل محاولة الإنتحار أو الإساءة القصدية إلى الآخر و فقدان معنى الحياة و العيش في وهم كون الذي هجر هو الشخص الوحيد الذي يمكن العيش معه. يكون الإستيلاب إذن مغلفا بفقدان الأمل و السقم، و كلها ديناميكيات نفسية سلبية، تحول دون رؤية الواقع كما هو. إن طريقة كلام الكثير من الناس عن ضياع الحبيب، تبرهن بما فيه الكفاية لأبسط معالج نفسي، بأن هذا الإنسان لم يحب حبَّاً فَعَّالاً، بل مارس نرجسيته مع المحبوب و حقق أنانيته في هذا الحب. فالكثير من الناس يعيشون وهم الحب، عوض الحب نفسه، و هذا تعبير عن فقر وجودي مهول و عن ضياع الذات و انفصالها عن هويتها، بعد انغماسها في الإستيلاب.

ما ينطبق على الحب، ينطبق كذلك على الفكر في عرف فروم. جل الناس في الثقافة الحديثة يعتقدون بأنهم يستعملون ملكة تفكيرهم الطبيعية، لكنهم في العمق لا يُغذُّون هذا الفكر بالأمل المعرفي الدقيق، بل بما سماه "أوثان الرأي العام" والصحافة البخيسة و أيديولوجيات الحكومات و القادة السياسيين و رجال الدين إلخ. يتقمص المرء دون وعي الأفكار الرائجة أو تلك الموجهة له عن قصد و كله يقين بأنها تعبر عن أفكاره.

من أنواع الإستيلاب الأخرى هناك استلاب الأمل الذي يتحوَّل فيه المستقبل إلى موضوع عبادة. و يتعلق الأمر في نظر فروم بنوع من تأليه للتاريخ كما نجد ذلك عند روبيس بيير مثلا. نفس الشيئ نجده عند الشيوعيين، الذين شوهوا في نظر فروم فلسفة التاريخ لماركس و حرفوها عن مصارها.

إن عبادة الأصنام مستمرة، مع تغيير طفيف عند إنسان المجتمع الصناعي،  الذي غَيَّر صورتها و أصبح بذلك موضوع قوى اقتصاديَّة عمياء تتحكّم فيه. إنه يقدس الآلة بطريقة لاشعورية و هي من صنع يده، تماما كما كان يعمل عندما كان يصنع تماثيل و أيقونات و يعبدها.

إن مشكلة استيلاب الإنسان في المجتمع الصناعي ليست أطروحة عمل و لا فرضية يجب التحقق منها، لكنها واردة بدرجات متفاوتة. و هي نتيجة اختيارات سياسية بعينها، تختبأ وراء التقدم العلمي و التقني، لتحكم سيطرتها على كل شيء، و توهم الإنسان بأنه حر في تصرفاته و تفكيره، لكنه في الحقيقة مشدود بألاف الأوثاق المرئية و المضمرة، تقوده في آخر المطاف إلى فقدان هويته الإنسانية. و إذا كان هذا هو حال الإنسان في المجتمعات المصدرة للتكنولوجيا و التقنية، فلا داعي للتذكير بأن الإنسان المستهلك لها في الدول المستوردة لها، يعيش أضعافا مضعفة استيلابها يه، لأن شروطا إضافية تساهم في هذا الإستلاب. المشكل الحقيقي للتقنية هو أنها تُستغل، تماما كا يُستغل الدين مثلا، من أجل إيهام البشر بأن حالهم سيتحسن باستعمالها و "الإعتقاد: في مقدوراتها؛ و السكوت عنه هو أن حالة الإنسان تتحسن بطبيعتها بانشغاله بالأعمال الخلاقة التي تساهم في تطوره الداخلي الوجودي أكثر من أية آلة. من هذا المنطلق، فإن العيب ليس في التقنية في حد ذاتها، بل في كون الإنسان لم يع بعد بأنها تكبله و تقتل فيه روح النقد الذاتي و المجتمعي و تستغل لاوعيه للتأثير في وعيه. و هنا بالضبط تكمن إشكالية الإستيلاب عند فروم.

* حميد لشهب  باحث مغربي مقيم في النمسا. يعمل خبيرا سيكو-بيداغوجيا، له مؤلفات و ترجمات عديدة في علم النفس و الفلسفة. أول باحث عربي حصل على الجائزة العالمية لإريك فروم عام 2004.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟