قراءة في كتاب ما المعرفة؟ دنكان بريتشارد ـ ذ.مريم المفرج

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

images44567تقديم:
يعتبر الكتاب الذي بين أيدينا بمثابة محاولة للبحث عن ماهية المعرفة، أي تعريفها، حدودها، مشاكلها، فهو عبارة عن مسح تاريخي لماهية المعرفة وأنماطها، حيث يمثل كما أشار المترجم إلى ذلك رحلة في موضوعات المعرفة، ما هو الشيء الذي يدعى المعرفة؟، فبرغم ما يبدو عليه السؤال من كونه مسألة بديهية من الوهلة الأولى، غير أنه في الواقع من أصعب الأسئلة التي يمكن أن تطرح على المستوى الفكري، فهو يساعدنا على الإبحار في محيط نظرية المعرفة ومواجهة تياراتها الفكرية.
فبريتشارد أستاذ الفلسفة في جامعة سترلنج وأستاذ الإبستمولوجيا في جامعة ادنبره في المملكة المتحدة، يقيم كثيرا من الآراء التي وردت في كتابه على أسس أولية ضرورية لابد منها تتلخص في سؤال هو ما هي المعرفة وما هي أنواعها وما هو الاعتقاد وهل تتناقض المعرفة مع الاعتقاد أو تتكامل معه.
بحيث يتناول هذا الباحث الأكاديمي البريطاني دنكان بريتشارد في كتابه المترجم إلى اللغة العربية "ما المعرفة" أمورا عديدة تتعلق بهذا الموضوع الفلسفي.

وجاء الكتاب في نحو 300 صفحة متوسطة الحجم، وورد ضمن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت، وقد نقل مصطفى ناصر الكتاب إلى اللغة العربية عن اللغة الانجليزية، تحت عنوان (أنماط المعرفة)، إذ يسعى المؤلف إلى تبسيط موضوعه العميق فيقول "على المرء أن يفكر مليا في كل الأشياء التي يعرفها حاليا أو على الأقل تلك التي يتصور أنه يعرفها. إنك تعرف على سبيل المثال أن الأرض كروية وباريس هي عاصمة فرنسا. وتعرف أيضا أن بإمكانك التحدث (أو على الأقل القراءة) باللغة الانجليزية وأننا إذا أضفنا 2 إلى 2 فالنتيجة هي 4.
وبالعودة إلى الكتاب فقد جاء في ثلاثة أجزاء مقسمة إلى أربعة عشر فصلا.
يتناول الجزء الأول موضوعات عامة ضمن إطار نظرية المعرفة، وتطرح فيه جملة من التساؤلات، على سبيل ما قيمة المعرفة؟
فيما الجزء الثاني يلقي الضوء على الموارد التي تستمد منها المعرفة، ويتفحص دور الإدراك الحسي والذاكرة، مثلا في مساعدتنا على اكتساب المعرفة والتمسك بها.
أما الجزء الثالث فيعالج نطاق معرفتنا، ويتطرق إلى نقاشات يعتريها شيء من التشكك بهدف إظهار أن امتلاك المرء للمعرفة أو بعض منها شيء من المستحيل أن يتحقق.

الجزء الأول: ما المعرفة ؟
وينقسم إلى ستة فصول تناولت ما يلي:

الفصل الأول: بعض المسائل التمهيدية
في البداية انطلق دنكان بريتشارد بطرح تعريف مبدأي حول الإبستمولوجيا باعتبارها نظرية المعرفة، وطرح التساؤل حول إمكانية المعرفة.
بحيث حاول المؤلف في هذا الفصل أن يميز بين نمطين من المعرفة؛ المعرفة الافتراضية ترتبط بالكائنات المتطورة نسبيا من الناحية العقلية (تتطلب المعرفة جهدا فكريا معقدا من جانب الشخص الذي تنسب إليه المعرفة) فهي المعرفة المتعلقة بافتراض معين والتي تختص بالبشر وحدهم.
ومعرفة القدرة أي الطريقة التي تمارس بها فعالية أو نشاط (إتقان المرء لطريقة عمل شيء ما)، إذ يؤكد على تفوق المعرفة الافتراضية في أهميتها على الأنماط الأخرى، وتلك الأهمية تتجلى في أن هذا النمط من المعرفة يستلزم مسبقا وجود نوع من القدرات الفكرية المتطورة التي يمتلكها الإنسان، في حين أن معرفة القدرة تكون شائعة أكثر (النمل)، حيث يؤكد المؤلف على أنه سوف يركز اهتمامه على هذا النوع من المعرفة.
لينتقل بعد ذلك للوقوف على العلاقة بين الاعتقاد والمعرفة، والتأكيد على أن المعرفة ليست إلا اعتقادا حقيقيا أي إدراك الأمور بشكلها الصحيح، حيث يلح على أن الاعتقاد الحقيقي وحده لا يكفي للتوصل إلى المعرفة ذلك لأنه بإمكان المرء الحصول على اعتقاد حقيقي بمحض الصدفة.
كما تطرق المؤلف في آخر الفصل إلى تناول مفهوم الحقيقة، حيث أكد بالرغم من بديهيته (المفهوم) ومسلما به، إلا أن هذا الرأي يحمل نوعا من السطحية، وهو ما يتبين في اختلافات الفلاسفة والمفكرين حول هذا المفهوم بتعزيز كل واحد منهم على أن مفهومه هو الحقيقي في اعتقادهم.
الفصل الثاني: قيمة المعرفة
تم تخصيص الفصل الثاني للاهتمام بتفسير قيمة المعرفة والتي تعد من أبرز اهتمامات الابستيمولوجيا وكنمط أساسي للبحث الإبستمولوجي، وذلك لعدم وضوحها تماما، ففي الوقت الذي نبدي فيه هاجسنا حول قيمة المعرفة نكون أمام وضعية غير واضحة من حيث الأسباب التي تدفعنا إلى البحث فيها وأيضا من حيث طبيعة هذه القيمة.
مع الوقوف على بعض الوسائل المتبعة في تحديد قيمة المعرفة، كذلك تمت الإشارة هنا إلى أن الاعتقادات الحقيقية للمرء لا يمكن اعتبارها ذات قيمة لأنه تتقلب بتقلب الأمور المتعلقة بها، فعندما نتعلق بأمور تافهة فمن غير المعقول منحها قيمة، بسبب عدم تحقيقها لمنفعة ذات قيمة، لذا فلا يجوز أن نكتفي بالقول أن المعرفة تستلزم الحقيقة، وأن الاعتقاد الحقيقي ينبغي أن يتصف بالقيمة.
وانتقل بعدا هذا التقديم إلى القول بأن عملية فهم قيمة المعرفة تتطلب من المرء خلق افتراض معين مقنع يعود لاعتقاده الراسخ مسبقا، فيصبح (الإفتراض) بعد ذلك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، أي معرفة ذات قيمة. بمعنى أن امتلاك اعتقادات حقيقية لا تكفي لأن توصف بالمعرفة ذات قيمة، لأننا قد نجد بعض هذه الأخيرة تتعلق بأمور تافهة (إحصاء حبات الرمل). في هذه الحالة لا يغدو المنطقي ذات قيمة حقيقية بقدر الإعتقاد، لأنها لا تحقق أي غرض له معنى، قيمة .
كما ألمح إلى وجود نوع آخر من الإعتقادات وهي التي تتعلق بالإعتقادات الزائفة، وهي في عمقها ترتبط بأمور بالغة الأهمية. حتى وإن تجاوزنا هذه النظرة السلبية حول القيمة الحقيقية للمعرفة التي تكتسي معنى ما، فإن المشكلة التي ستظهر حتما هي أن الأمر البديهي للمعرفة يصبح فيما بعد أكثر فعالية وتصديقا من الإعتقاد الحقيقي. لذا لا يجوز أن نكتفي بالقول: ''أن المعرفة تستلزم الحقيقة، وأن الإعتقاد الحقيقي ينبغي أن يتضمن قيمة''.
ثم طرح بعد هذا النقاش الحاد مسألة الحسم في قيمة المعرفة، وشدد على فعاليتها  نظرا للحمولة التي تتضمنها ما دامت المعرفة أكثر نفعا وفائدة إلينا : '' إنها تتيح لنا تحقيق الكثير من أهدافنا بشكل أفضل من الإعتقاد الحقيقي وحده''. أي أن هذه القيمة تتميز بالإستقرار، وهي الحالة التي يفتقر إليها الإعتقاد الحقيقي وحده. إذ يؤكد المؤلف أيضا أن للمعرفة قيمة أكبر من مجرد اعتقاد حقيقي لكونها أكثر استقرارا ولكونها أكثر نفعا وفائدة، حيث تتيح لنا تحقيق أهدافنا بشكل أفضل.
إن هذا الأمر يجعلنا نخمن في وجود نوع آخر من الإفتراضات الذي يعتبر أن قيمة المعرفة هي في حد ذاتها جوهرا أو قيمة باطنية تتسم بالتعالي الروحي أو ''السمو الروحي'' مثل الحكمة. إن الفكرة هنا هي القيمة الجوهرية التي تتضمنها المعرفة عوض فعاليتها التي تتجاوز الإعتقاد.

الفصل الثالث: تعريف المعرفة
يتطرق بريتشارد في هذا الفصل إلى إشكالية تعريف مفهوم المعرفة والتي تدخل في سياق الواجبات الأساسية للابستمولوجيا، إذ يرى أن هناك صعوبة بالأساس في تحديد المعايير التي ينبغي أن تتبع في تعريف المفهوم، فمشكلة المعايير أفرزت مجموعة من المقترحات حاولت إيجاد صيغة ممكنة لتحديدها من ضمنها نظرية "روديك شيزوم" الذي فرق بين كل من المنهجية (تحديد معايير المعرفة عن طريق التأمل الفلسفي) والخصوصية (صعوبة إيجاد طريقة تتيح لنا تحديد المعايير المعرفة دون تحديد مسبق لحالات محددة من المعرفة)، حيث لاحظ أن معظم الفلاسفة يميلون إلى البدء بافتراض مسبق يقضي القول بأنهم يعرفون أو على الأقل يستطيعون تحديد معايير المعرفة عن طريق التأمل الفلسفي، وهو ما نجده عند ديكارت المنهجية، غير أن موقفا آخر وهو ما يسميه شيزوم بالخصوصية، هذه الأخيرة التي تقوم على صعوبة إيجاد طريقة تتيح لنا تحديد معايير المعرفة دون تحديد مسبق لحالات محددة من المعرفة، وقد أكد "بريتشارد" أن من مميزات المنهجية أنها لا تبدأ بافتراض زيف ذلك لكونها تترك المجال مفتوحا فيما إذا كان هناك شيء يتطابق بالفعل مع معايير المعرفة. إنها تمكننا من تحديد معايير المعرفة بمعزل عن تفحص أي أمثلة محددة من هذه الأخيرة، حيث شدد أنه لو كانت المعرفة تتطلب مجرد اعتقاد حقيقي لجاز لنا التصور أنه بالإمكان تحديد هذه المعايير دون اللجوء إلى الأمثلة المزعومة، غير أن المعرفة تتطلب أكثر من مجرد اعتقاد حقيقي وهو ما أفضى به إلى الحديث عن المعرفة كنوع من هذا الإعتقاد الذي ينبغي أن يكون مبررا بمعنى أنه يستند على أسس رصينة ليتبنى معرفة سليمة كما يرى "أفلاطون" ويؤكد، حيث يشكل التبرير الحلقة المفقودة. فالمعرفة هي بالأساس اعتقاد حقيقي مبرر، إلا أن "غيتير" قد أوضح أن المسألة لا تخلو من الضعف لأنها لا تقوم على أسس ثابتة تتيح الدفاع عنها وهو ما عبر عنها بـ"الحالات الثلاث" أو ما تم تسميته في الوقت الحاضر بـ"حالات غيتير". هذا ويؤكد هذا المفكر أن بوسع المرء التوصل إلى اعتقاد حقيقي مبرر ولكنه بعيد كل البعد عن المعرفة لأنه قد يكون اكتسب عن طريق الحظ، أو أنه يمكن التوصل إلى اعتقاد بطريقة تؤدي في الأحوال الاعتيادية إلى أن يتضح لاحقا أنه اعتقاد زائف، الأمر الذي يجعل معايير المعرفة مسألة تستدعي التشكيك.

الفصل الرابع: تركيب المعرفة.
ففي هذا الفصل يقف المؤلف عند مسألة تركيب المعرفة، حيث يؤكد على الطبيعة المبهمة لماهية التبرير وذلك راجع لافتقار الاعتقاد إلى أسس ثابتة، الأمر الذي يؤدي بها إلى التلاشي والإنصهار، وفي إطار الإجابة عن الإشكال الذي يتعلق بما يبرر اعتقاداتنا فقد ميز هنا بين الإعتقادات العقلانية والإعتقادات غير العقلانية، بحيث يطرح تركيبة التبريرات التي تعرف بـ"ثلاثي معضلة أغريبا" التي ارتبطت بالفيلسوف اليونان "أغريبا" والتي تطرح ثلاثة بدائل تبرر الاعتقاد تأتي كما يلي:
اعتقادات لا سند لها.
اعتقادات تستند إلى سلسلة غير محدودة من التبريرات.
اعتقادات تستند إلى سلسلة دائرية من التبريرات.

كما تناول ثلاث ردود عن ثلاثي معضلة أغريبا، إذ أن كل واحد من هذه الردود تتبنى أحد الاختيارات التي جاء بها وتحاول تجاوز المأزق تتمثل بثلاثة أنواع من النظريات الابستيمولوجيا، وهي:
اللامحدودية: لا محدودية الإعتقاد، تنص على أن أي سلسلة من الأدلة التي لا نهاية محددة لها بإمكانها أن تبرر الاعتقاد.
الترابطية المنطقية: دافع عنها "طوماس كوين"، والتي مفاهدها أن سلسلة دائرية من الأدلة تمتاز بالخصائص الصحيحة أيا كان نوعها فيمكنها أن تبرر الاعتقاد.
التأسيسية: وبالتحديد التأسيسية الكلاسيكية مثلما دافع عنها "ديكارت"، والتي تقوم على أن هناك أدلة لا تتطلب أي إسناد إضافي، أي أنها تمتلك القدرة على تبرير ذاتها بذاتها، وبالتالي يمكن الإستناد إليها كأسس داعمة الإعتقاد.

الفصل الخامس: العقلانية.
خصص بريتشارد هذا الفصل للحديث عن العقلانية باعتبارها مفهوم محوري ضمن حقل الابسيمولوجيا إذ تعد من بين أهم الدعامات التي يمكنها المساعدة في تسليط الضوء على نظرية المعرفة، والتي تعتبر كنمط من العقلانية والتي تركز على الهدف من الإعتقاد الحقيقي، حيث أكد أنه إذا كان هذا الأخير هو هدف العقلانية المعرفية فقد يتوصل الفرد إلى مجموعة من الإعتقادات الحقيقية.
لكنه في إطار هذا المقترح توجد مشكلتين؛ تتمثل الأولى منهما في أن الفرد يمكن أن يتوصل إلى مجموعة من الاعتقادات الحقيقية التافهة، في حين تتجسد الثانية في  ضرورة البحث عن طريقة للموازنة بين هدف زيادة احتمالات الحقيقة والتقليص من احتمالات أو الإعتقادات الزائفة، بمعنى أن زيادة الاعتقادات الحقيقية يؤدي كذلك إلى ظهور المزيد من الاعتقادات الزائفة، وبالتالي يستنتج أنه من المتطلبات الرئيسة للعقلانية المعرفية ضرورة تحقيق نوع من التوازن بين هدفي زيادة الاعتقادات الحقيقية وتقليص الاعتقادات الزائفة.
كذلك يتم في هذا الفصل التمييز بين نوعين من المفاهيم عن العقلانية المعرفية هما:
أولا: المفهوم الأخلاقي: الذي يعتبر شكلا من الباطنية المعرفية للعقلانية لأنه يخلق ارتباطا وثيقا بين العقلانية المعرفية وما يمكن اعتبار الشخص مسؤولا عنه، ولأنه يجعل الوضع المعرفي للإنسان من الأمور التي يمكن السيطرة عليها.
ثانيا: المفهوم غير الأخلاقي للعقلانية المعرفية: الذي يعد كشكل الظاهرانية المعرفية لأنه يحطم أي ارتباط بين العقلانية المعرفية وما يمكن للشخص أن يتحمل المسؤولية عنه، ويفسح المجال لاحتمال أن يعتمد الموقف المعرفي للإنسان في بعض الأحيان على عوامل خارج نطاق سيطرته.
    
الفصل السادس: مهارات وقدرات.
يعالج هذا الفصل وجهة نظر الموثوقية التي تعتبر الطريقة المثلى للوصول إلى الحقيقة وذلك استنادا إلى أن المعرفة في حد ذاتها تشترط قدرا من الموثوقية، حيث أنها تدعم فكرة أن الاعتقاد الحقيقي الذي يتم التوصل إليه بطريقة موثوق بها سوف يعتبر إنجازا إدراكيا يحتسب لفائدة الشخص بدلا من أن يكون مسألة حظ لا غير، فالمعرفة أساسا اعتقاد حقيقي تم التوصل إليه بطريقة موثوق بها، غير أن هذه الموثوقية هي الأخرى لم تسلم كوجهة نظر من المشاكل، من بينها أنه يمكن للمرء التوصل إلى اعتقاد حقيقي بمساعد الحظ، وبالتالي فهي لن تعتبر حالة مميزة من حالات المعرفة على الإطلاق.
كما انتقل دنكان بريتشارد في الجانب الآخر إلى التأكيد على عملية كتساب المعرفة تعتمد على مجموعة من المهارات الإدراكية وأيضا على قدرات معرفية تسمى عند الإبستمولوجيين بـ"ابستمولوجية المهارة"، غير أن هناك اختلاف بين أنماط المعرفة الظاهرانية التي ترى أن المرء يستطيع أحيانا التوصل إلى المعرفة بمجرد الإعتماد على قدرات إدراكية موثوق بها، كالشخص الذي يتعرف على جنس الدجاج، والتي تحيل إلى عدم وجود مبررات تدعو إلى اعتبارها عتقادات صحيحة حسب أنماط الباطنية المعرفية التي تؤكد على ضرورة توفر مهارات معرفية.
الجزء الثاني: ما مصادر المعرفة؟
يسلط هذا الجزء من الكتاب الضوء على مسألة الموارد التي تستمد منها المعرفة، حيث قسمه برتشارد هو الأخر إلى أربع فصول كما يلي:

الفصل السابع: الإدراك الحسي ومشكلة المعرفة
توقف في الفصل السابع على دور الإدراك الحسي كمصدر من مصادر المعرفة، بحيث يغلب الجانب الحسي على معظم معارفنا اعتمادا على قدرات حسية ملحوظة أو العكس فمعظم معارفنا نكتسبها بالاعتماد على قدرات حسية، وغالبا ما نجد معظم الأشياء التي نتصورها ما هي إلا تجسيد لتلك الخواطر الحسية في الظاهر وليس كما هي في أرض الواقع إذ تميل في كثير من الأحيان إلى خداعنا، فإذا أخذنا بعض النماذج الحية مثل السراب والواحة في صحراء قاحلة هي أشكال تحمل في طياتها جانبا من الخداع والزيف ما لم يتم التمحيص والتدقيق فيها بشكل أوسع لكي لا نعرج إلى أخطاء معرفية لاحقة، إلا أننا نستطيع تجاوز هذا الخداع وذلك بعدم تسليم بهذه الأمور بشكل مطلق دون التمحيص والتدقيق، هذه المشكلة أو ما يطلق عليها بالصعوبة المعرفية تساعدنا في طرح البديل ألا وهي تلك العملية التي نستدل بها على الموضوع: الإستدلال العقلي أو العقل نفسه عن العالم الحقيقي مثلما هو عليه فعلا، وهنا يشير إلى مشكلة الإدراك الحسي في فهم الأشياء الخارجية الواقعية منها وغير الواقعية الأمر الذي يستلزم طرح البديل وذلك لتقديم البرهنة على هذه الأشياء مما يقودنا للحديث عن ثلاثة عناصر أساسية، أولا الواقعية غير المباشرة والتي تعني تلك المعارف التي نكتسبها بصورة غير مباشرة ويكون الاستدلال سندها ومحورها، وتوضح لنا بسهولة افتراض خصائص صنفها "جون لوك" إلى: وقائع أولية ووقائع ثانوية للأشياء، بمعنى الفرق بين الصفات الأساسية في الشيء الموجود (شكل الشيء) والصفات الثانوية فيه التي تعتمد على الإدراك الحسي المحض (اللون).
من جانب هذا التصور غير الواقعي لا توجد معرفة حول العالم الخارجي عن طريق التجربة المباشرة، وهو ما أدى بالعديد من المفكرين لطرح الجديد في عملية المعرفة من أبرزهم "جورج بيركلي"، والمتعلق بالنظرة المثالية في المعرفة التي تركز على استحالة الحصول على معرفة حسية عن العالم بمعزل عن العقل، إذ تنص على عدم وجود عالم خارجي بمعزل عن العقل، بمعنى أن العالم الخارجي هو الذي يشكل تجاربنا بدلا من أن يكون المسبب في تجسيدها، لنقل ''لا توجد معرفة بمعزل عن عالم يتجاوز إدراكاتنا الحسية له''، إن وجهة النظر هذه تعتبر أن الواقع الخارجي هو الذي يشكل تجاربنا بدلا من أن يكون المتسبب في تجسيدها.
أما العنصر الثالث وهو المثالية المتسامية باعتبارها شكلا من أشكال المثالية قصد تجاوز الأفكار المتداولة سابقا في المثالية وتعديلها بشكل يلقى قبول العقل والفهم، من أبرز رائدي هذا الإتجاه "إيمانويل كانط"، الذي يشير إلى أن أغلبية الأشياء المدركة حسيا من قبلنا لا يعبر عن العالم ذاته بحيث لا يمكن الحديث عن تجربة حسية دون افتراض الأول، ذلك أن التفكير العقلي هو الذي يظهر لنا صدق المعرفة وحضورها .
وتنص هذه الوجهة إلى أن غالبية الأشياء المدركة حسيا من طرفنا لا تعبر عن عالم في حد ذاته، بل على العكس من ذلك. يجب أن يفترض عالما خارجيا عن ذاته يجسد وقائعه وتجاربه فيه، وبدون هذا المعطى لا يقبل الحديث عن تجربة حسية دون افتراض الأول:"كل معرفتنا تبدأ بالإحساس، ثم ترتقي إلى مرحلة الفهم، وبعد ذلك تنتهي بالعقل. ولا يوجد شيء أسمى من العقل"، بمعنى أن العقل هو مصدر لإثبات حتمية وجود عالم خارجي تتجسد فيه تلك التجارب بوضوح، أي أننا من خلال هذه التجارب نتمكن من اكتساب معرفة عن هذا العالم بالتجربة ذاتها بصورة مباشرة أو العكس.
وفي الأخير انتقل للحديث عن وجه آخر من وجوه الإدراك الحسي، بحيث تطرق إلى وجهة نظر بديهية تتعلق بتجربة الإدراك الحسي سماها بـ"الواقعية المباشرة"، التي هي في أبسط صورها تنظر إلى التجارب التي ندركها من منظور خارجي - ظاهري لا تتضمن الخداع،  بحيث أننا نستطيع بصورة مباشرة إدراك العالم من خلال تجاربنا . أي أن ما نكون واعيين له في تجربة الإدراك الحسي هو العالم الخارجي نفسه، وبذلك فهي ترفض الاستنتاج الذي يؤكد على أن إدراك العالم من خلال التجربة المباشرة شيء مستحيل.
هذه النظرة تختلف جذريا مع وجهات النظر الأخرى كونها تمتاز بسرعة الإستدلال على التجارب وتفسير معارفنا التي لا تتصل بصورة مباشرة مع تجاربنا في العالم الخارجي، حيث يبدو لنا هذا العالم كجانب مظلم وخادع: نعطيه صورة تقريبية حسية وليست كما هو في الأصل، هذه النظرة تعني أنه بالرغم من استحالة إدراك العالم من خلال التجربة المباشرة إلا أننا نستطيع ترك صورة مباشرة للعالم وإدراكه من خلال تجاربنا.

الفصل الثامن: الشهادة والذاكرة
أ – المعرفة المستمدة من شهادة الآخرين:
فقد أكد فيه على أنه غالبا ما نتوصل إلى أشياء موجودة أو العكس عن طريق شهادة الآخرين فالمعرفة التي تستمد من الشهادات التي يخبرنا بها الآخرين أو ما نكتسبه بطرق أو بواسطة وسائط أخرى تتعلق بشهادات مكتوبة (عن طريق كتب، مجلات، صور، أشرطة...) يعني أننا أمام عملية نقل لفظية للشكل المعرفي، فهذه المعارف تستمد أو تكتسب من أشخاص آخرين يكونون على دراية بها أو سبقوا التوصل إليها، تجعلنا نتساءل حول مدى صحة هذه الشهادات مما يستلزم ضرورة التأكد منها ومراجعتها والتحقق من صحتها لإزالة اللبس والتناقض وتجنب الوقوع في حلقة مفرغة.
وفي هذا السياق طرح بريتشارد سؤالا مهما للغاية ألا وهو: هل كل هذه الشهادات هي حقائق؟ ثم هل تقبل الخداع أو التصديق؟
سؤال فتح المجال لمراجعة هذه الشهادات والتحقق منها، فمثلا توجد شهادات نتلقاها تحمل في طياتها إيديولوجيات معينة، أو يكون الطابع الذاتي غالبا إى غير ذلك...، ما يطرح لنا مشكلة أساسية في فهم المعارف المستمدة من الشهادة، إلا أننا لن نكتفي بالوقوف مكتوفي الأيادي بل سنحاول أن نخضع تلك الأفكار والإدعاءات لعملية التحقق والتمحيص والنقد بشكل أدق وأوسع لإزالة اللبس والزيف في صنف هذه المعارف، أي يجب علينا أن نكون متشككين في كل شهادة تعطى لنا وتقدم (الإستغراب المعرفي)، لأن بعض الاعتقادات قد تتغير بحسب الظروف الزمكانية حتى لا نقع في المغالطة المعرفية أو الزيف المعرفي.
ب – الإختزالية :
إذ تؤكد على ضرورة تقديم إسناد إضافي يتجاوز الشهادة التي نسلم بها وهنا يحضر العقل لطرح تبريرات سليمة لكي لا ينزلق في متاهات فارغة، لكن المشكلة التي تواجهنا هو أننا نتوسط عددا هائلا من الاعتقادات المستمدة من الشهادة الأمر الذي يطرح لنا صعوبة تحديد أي تبرير نود إيصاله، فبالرغم من المعرفة التي نتلقاها عن طريق الشهادة، فإن المرء يحتاج بلا شك لاعتقادات أخرى ودلائل مستمدة إما من "التجربة الشخصية" التي يعيشها الشخص نفسه، أو تبريرات متسلسلة تتعلق إسنادا إلى الشهادة السابقة (شهادة الآخرين) . من أبرز مؤيدي هذا الطرح نجد "ديفيد هيوم" والذي اختزل الأمر فيما يلي: "إن العقل أسير للعواطف، وينبغي أن يكون هكذا، فلا يمكن للعقل أبدا أن يتظاهر بأي شيء آخر غير أن يقدم تلك العواطف وينفذ ما تمليه". إن هذا الطرح بشأن العقل البشري يستمد معارفه من الأحاسيس التي يصدرها، أي أن فكرة الاختزالية في المعرفة هي أن تكون قادرة على تقديم إسناد يتجاوز الشهادة التي نسلم بها، فيطرح العقل كبديل لهذه الشهادات ليقدم لنا تبريرات سليمة لكي لا ننزلق في متاهات فارغة.
إن تعدد المعارف الناتجة عن الإعتقادات أو المستمدة من الشهادة تطرح لنا مشكلة تصديق أي من هذه المعارف، وبالتالي نجد أنفسنا أمام حقيقة أننا لا نعرف إلا القليل مما نظن أننا نعرفه.
ج – التصديقية:
يميل هذا الاتجاه إلى أن الاعتقاد الذي يستند إلى شهادة غالبا مع ينسجم مع البديهية، أي أنه سيسمح لنا بالحصول على معرفة واسعة النطاق عن طريق الشهادة بشكل ننسبها إلى أنفسنا، حتى لو كنا عاجزين عن تقديم إسناد مستقل، ومن أبرز مؤيدي هذا الاتجاه "توماس ريد" الذي اعتبر إلى حد كبير أن جانبا من معارفنا تميل إلى الاعتقاد الراسخ المبني على الشهادة.
فالمعرفة التي نود الحصول عليها هنا يجب أن تنسجم مع درجة تصديقنا لها لتتحول فيما بعد فكرة راسخة في العقل نسلم بها ولا تشكك أبدا، وقد يطرح مشكل آخر في عملية المعرفة ألا وهو أمر السذاجة في الاعتقاد المستمدة من الشهادة، التي يتصورها المرء، بمعنى أننا نسلم باعتقاد معين يستند على الشهادة دون تقديم أدلة كافية في الموضوع المبحوث عنه.
د- مشكلة المعرفة المستمدة من الذاكرة:
فكما نعتمد الشهادة في استقاء معارفنا التي نتوصل إليها، فنحن أيضا نعتمد على الذاكرة، فقد ختم "بريتشارد" هذا الفصل بالتطرق إلى مشكلة المعرفة المستمدة من الذاكرة، باعتبارها مصدرا آخرا من مصادر المعرفة، وحيث أن كثيرا من المسائل التي لا نستطيع الوثوق بها في الاعتماد على الشهادة هي نفسها تسري على الذاكرة، ولا يوجد مبرر واضح يدعو إلى التشديد على عنصر الذاكرة كوسيلة بديهية للمعرفة الحقيقية، من هنا يمكن أن نلاحظ أن الاعتقاد الذي يستند إلى الذاكرة لن يكون مبررا ولن يغدو حالة من حالات المعرفة ما لم يدعم بما يكفي من أدلة وأسس معرفية مستقلة موثوق فيها، ومع فقدان الثقة في عملية المعرفة المستمدة من الذاكرة، نجد أنفسنا أمام اختزالية في التبرير.

الفصل التاسع: البديهة والإستدلال.
وبخصوص الفصل التاسع فقد ناقش فيه مسألة البديهية والاستدلال، حيث ميز بين المعرفة البديهية والمعرفة التجريبية وأقر بوجود اختلاف كبير بينهما، فالعملية التي تستند على التبرير في الاعتماد دون تفحص أو بحث للموضوع، ليست نفس العملية التي تبرر الاعتقاد بصورة تجريبية، فالمعرفة البديهية هي التي يتوصل إليها المرء دون الحاجة إلى تفحص في مقابل المعرفة التجريبية التي تفرض ضرورة التحري للمعطيات.

 البديهة والمعرفة التجريبية:
    في بادئ الأمر يطرح الفرق المفاهيمي بين الكلمتين: البديهة ثم المعرفة، فإذا كنا أمام معرفة نكتسبها دون الحاجة إلى تفحص العالم، فإننا أمام خيار البداهة، وإذا جرى العكس وتفحصنا ما يجري في العالم فإننا أمام معرفة تجريبية، لكن الإختلاف بينهما واضح، فالعملية التي تستند على التبرير في الإعتقاد دون تفحص أو بحث للموضوع، ليست نفس العملية التي تبرر الاعتقاد بصورة تجريبية أو اختبارية (التحري الميداني للمعطيات).

 العلاقة بين المعرفة البديهية والمعرفة التجريبية:
    ترتبط المعرفة البديهية وثيقا بالمعرفة التجريبية، فهي المحرك الأساسي لدحض أو تأكيد صحة الفرضية من البداهة المعرفية، كما أننا في جانب آخر من معارفنا قد تخلط الإثنين معا كما في قضية "بلوم البروفسور" حول نوع الجريمة، ما يفيدنا هنا باستحضار هذا المثال هو التشديد على أن طرح قضية ما معرفية بالضرورة تستلزم عنصر البداهة كشهادة أو كدليل للإستفادة والإستدلال، ثم التجربة أو التفسير الواقعي لموضوع - الحدث بطريقة إجرائية.

ثم ينتقل للحديث عن نوع من أنواع المعرفة البديهية والتي تتم عن طريق الاستنباط، أي أننا في بحثنا عن قضية ما غالبا ما نتطرق إلى أحاسيسنا الداخلية لاستنباط ما يجول في خاطرنا من أجل التوصل إلى قرار بدلا من النظر إليها خارجا لفهم العالم من حولنا، فالاستدلال الاستنباطي في عملية المعرفة يتطلب إجراءات أولية تتمثل في افتراض فرضيات لبلوغ استنتاج وتقتضي هذه الفرضية أن يكون الاستنتاج صحيحا، ثم تحول إلى نوع آخر يرتكز على الاستدلال الاستقرائي والذي يستند على فرضيات توفر الإسناد للاستنتاج دون أن يعني ذلك أن هذا الأخير صحيح في واقع الأمر.

الإستبطان:
وهو أحد أشكال المعرفة البديهية الذي يعتمد الأحاسيس والخواطر الحسية، أي أننا نعود إلى دواخلنا للتوصل إلى قرار يفضي بنتيجة معينة، تقصي غير تجريبي في النفس وكيفية تطابقها مع ما يمليه العقل ويضفيه.
 الإستنباط:
يوظف المؤلف بريتشارد قضية "البروفيسور بلوم" للانطلاق من فرضيات أولية قصد بلوغ النتيجة الواحدة وهي: مشاركة "بلوم" في الجريمة من عدمها كما سبق أن ذكرناه آنفا، هذا الأمر في عملية التقصي يسمى بـ"المصداقية المنطقية" (توفر دليل مقبول منطقيا)، إن عملية الإستدلال الإستنباطي في عملية المعرفة يتطلب إجراءات أولية تتمثل في افتراض فرضية ما لبلوغ الهدف أو الإستنتاج، وتقتضي هذه الأخيرة أن يكون الإستنتاج صحيحا، مادام الدليل في فهم الظاهرة مقبولا ومنطقيا من خلال الإفتراض فهو ضمنيا دليل يفسح المجال إلى استنتاج صحيح (خاصية الرسوخ والثبات).

 الإستقراء:
جسد الكاتب هذا المفهوم بالتركيز على طير النعام بتقديم افتراض أنها عاجزة عن الطيران من خلال مشاهدة عينية لتأكيد أن كل طيور هذا الصنف لا تطير، دليل لا يمت بصلة لعملية الإستبطان لأنه من المحتمل وجود نوع من النعام باستطاعته الطيران ولم نسمع به، وبالتالي كان لزاما منا تحري أمكنة أخرى يوجد فيها هذا الطائر لطرح استدلال جائز ومقبول منطقيا. ما نخلص إليه هو أن عملية الإستدلال الإستقرائي غالبا ما يستند إلى فرضية أو فرضيات توفر الإسناد للإستنتاج دون توقع صحته في الواقع، فالأدلة الإستقرائية الصحيحة هي التي تؤمن إسنادا قويا للإستنتاج.
ليختم حديثه بالوقوف عند الاستدلال الاستبعادي الذي ينحو إلى مراقبة الظاهرة بشكل منفرد قصد تقديم أفضل تفسير لتلك الظاهرة، وهو ما يشير إليه بمصطلح الاستبعاد أو ما يطلق عليه أسلوب التفكير بالاستدلال الذي يقود إلى أفضل تفسير.
الإستبعاد:
يختلف هذا التصور على أسلوبي الإستدلال الإستنباطي والإستدلال الإستقرائي من حيث حصر الظاهرة وخلق فرضيات متعددة للوصول إلى الإستنتاج، هذا النوع من التفكير يلجأ إلى مراقبة الظاهرة بشكل منفرد قصد تقديم أفضل تفسير لتلك الظاهرة، وهو ما نشير إليه بمصطلح "الإستبعاد" أو ما يطلق عليه بـ"الإستدلال الذي يقود إلى أفضل تفسير"، لكن حصر هذا النوع من التفسير قد يطرح فرضيات أخرى يختزل أفكارا معينة ويستبعد أخرى ونكون بالتالي أمام نظرة اختزالية كصورة من صور الإستدلال الإستقرائي.

الفصل العاشر: مشكلة الإستقراء
فقد خصص هذا لمعالجة مشكلة منهج الاستقراء كعملية الإستدلال على صحة الظاهرة وتعميمها على باقي الظواهر والأشياء في كل العالم، وما يحوم حوله من نقد وتشكيك، إذ يؤكد على ضرورة إخضاع عينات متعددة في أمكنة متعددة وأزمنة مختلفة بقدر كبير من التجارب لتوجيه فكرنا واستدلالنا ليكون قطعيا ومعمما في كل ظاهرة، ما يعني أن الاستدلال الاستقرائي يبدو شرعيا بهذا المعنى من خلال حالات التكرار المنظم والمنتظم ضمن إطار شريحة واسعة جرت مراقبتها.

الرد على مشكلة الإستقراء:
إن مشكل الرد على المنهج الإستقرائي يقوم على جانب التبريرات التي نقدمها للمعرفة القائمة على الإستقراء أو على المعرفة القائمة على تقديم الإسناد المطلوب لهذا التصور الإستقرائي، وذلك من خلال الصدام القائم بين فئوية الظاهرية المعرفية التي تقوم على اعتبار أن الإنسان له ما يبرره للتمسك باعتقاد معين يتوصل به إلى معرفة ما حتى إذا افتقر إلى سند أو أدلة، في مقابل الباطنية المعرفية في التوصل إلى المعرفة، التي تؤكد على ضرورة تمسك المرء باعتقاده مبرر كما ويتوجب عليه استحضار أدلة كافية مساندة ومناسبة للتشبث بالطرح الذي يتماشى مع السياق.
التعايش مع مشكلة الإستقراء:
1. الدحض أو إثبات الزيف: يرى غالبية الناس بعدم ضرورة تفنيد المعارف أو إثبات زيفها، وقد وظف "كارل بوبر" هذا المنهج باستحضار الدلائل وتوظيف النماذج العلمية لإزالة التصدع عن الظاهرة بطرح اختبارات جديدة جيدة تتمثل في نقيض النظرية للوقوف على نواقضها، فالعلم القائم بفرضياته وقوانينه يجب أن تتوفر فيه النواقض لتأكيد صحة النظرية.
2. الذرائعية أو البراغماتية: من بين الطرائق الأخرى للتعايش مع مشكلة الإستقراء هي تلك التي طرحها "هاينز رايشنباخ"، حيث ذهب بالإتفاق مع "هيوم" في عدم وجود تبرير للإستقراء، لكنه يتخذ من العقلانية عنصرا أو فاعلا في عملية الإستدلال الإستقرائي: "الإستقراء يكون عقلانيا لأننا إذا لم نطبقه، فمن المؤكد أننا سوف نتوصل إلى اعتقادات حقيقية قليلة جدا عن العالم، بينما إذا مارسنا الإستقراء فسوف نحظى على الأقل بفرصة التوصل إلى اعتقادات حقيقية عن العالم من خلال استدلالات استقرائية "، أي أن الإستقراء هو المنهج العقلاني الأفضل المتوفر لدينا ويجب اللجوء إليه.

الفصل الحادي عشر: المعرفة الأخلاقية دراسة حالة
أما الفصل الحادي عشر والأخير من هذا الجزء فقد خصصه للحديث عن نموذج المعرفة الأخلاقية التي تبني افتراضات قد تحول لأن تصبح حقائق فيما بعد ذات أبعاد أخلاقية، كما تناول هنا مجموعة من الأمور التي تتعلق بمشكلة المعرفة الأخلاقية وذلك من حيث إمكانية تعبير هذه المعرفة عن حقائق أخلاقية من عدمها، مما دفعه إلى الكشف عن التمايز بين الجدل الأخلاقي والجدل العلمي، وبالتالي تتضح لنا صورة الاختلاف العلمي كوضعية قابلة للحل في مقابل الاختلاف الأخلاقي الذي يكون أكثر صعوبة للحسم فيه.

1- مشكلة المعرفة الأخلاقية:
المعرفة الأخلاقية هي التي تنبني على افتراضات قد تخول لأن تصبح حقائق أخلاقية، يبدو من الواضح جليا أن من الصعوبة الحديث عن وجود حقيقة أخلاقية بهذا المعنى، فإذا كانت كذلك يثيرنا القلق المعرفي حولها لتأسيسها كمفهوم وحقيقة مثل الحقائق العلمية (الواقعية)، لأننا قصد نصدر أحكاما يقال عنها ترجع إلى حسب تنشئتنا الثقافية.

2- الشكوكية بشأن الحقائق الأخلاقية:
إذا أيقن المرء بعدم وجود حقائق أخلاقية، نكون أمام وصف ينعت بـ"التعبيري" من الجانب الأخلاقي، وهو الأمر الذي يقودنا إلى القول بان الآراء الأخلاقية لا تعبر عن حقائق وإنما يؤدي أدوارا واقعية لا غير.

3- الشكوكية بشأن المعرفة الخلاقية:
حتى وإن رفض الإنسان وجود حقائق أخلاقية حسب التعبيرية، فلا يعني أنه يستحيل التوصل إل معرفة هذه الحقائق، ربما نسقط في فخ الثنائيات: الجدل الأخلاقي والجدل العلمي، وبالتالي تتضح لنا صورة الإختلاف العلمي كوضعية قابلة للحل في مقابل الجدل الأخلاقي الذي هو في جوانبه أكثر صعوبة للحسم.

بعد ذلك يخوض المؤلف نقاشا فيما يخص ماهية الابستيمولوجيا المناسبة لمقاربة المعرفة الأخلاقية، حيث ينتهي إلى بعض المقترحات يمكن ذكرها على النحو التالي:
التأسيسية الكلاسيكية: تنص على أن المرء يمتلك معرفة بديهية بالمبادئ الأخلاقية الأساسية تتيح له التوصل إلى أحكام أخلاقية حينما يرتبط بظروف تجريبية محددة. فبعد افتراضنا لعملية المعرفة الأخلاقية، انتقلنا مباشرة للحديث عن نوعية المعرفة التي تتناسب مع الطبيعة الأخلاقية، فكان المقترح الأول هو العمل على تأسيس نظرية كلاسيكية تنص على أننا نملك معرفة بديهية للمبادئ الأخلاقية الأساسية المتمثلة في المعرفة التجريبية عن ظروف محددة ذات صلة بالموقف الذي نواجهه، سوف يتيح لنا على نحو أنسب التوصل إلى أحكام أخلاقية بشأن ما يجب أن نفعله في حالات محددة. هذا المر في حد ذاته مشكلة مبالغ فيها من جانب التحليل الفكري بشأن ما يتوجب توفره في هذا الصنف من المعرفة الأخلاقية. والمقترح الثاني يتطرق فيه إلى ما يعرف بـ"الترابطية المنطقية" التي تؤكد على عدم وجود اعتقادات تأسيسية أخلاقية حتى لو تعلقت بمبادئ المرء الأخلاقية والتي من شأنها أن تقبل المراجعة إذا تم تسليط الضوء على أحد الأدلة المضادة.
 مفاهيم بديلة: ابستمولوجيا المهارة والتي تسمح للمرء في حالات محددة بالتوصل بصورة مباشرة إلى معرفة أخلاقية ما دام يطبق بالشكل الصحيح مهاراته المعرفية. هذا النوع من الشكل الأخلاقي للمعرفة يحتاج إلى جهد ومثابرة من طرف المرء لاستحضار مفاهيم وأدلة جديدة ساندة مناسبة.

الجزء الثالث: هل نعرف أي شيء؟
يتفرع هذا الجزء إلى ثلاثة فصول على كالآتي:
جاء الفصل الثاني عشر كمحاولة لمقاربة السؤال التالي: لماذا نشعر بأننا متأكدون من وجود أشخاص آخرين يعيشون معنا وأن هؤلاء لديهم عقول أيضا مثل عقولنا؟
وفي إطار مقاربة السؤال نجد أن المشكلة التي تواجه معرفتنا بشأن العقول الأخرى هي عدم ملاحظة وجود هذه العقول مثلما يلاحظ باقي الأشياء، بالإضافة إلى أنه لا يمكن فقط الاستعانة بمراقبة سلوك الآخرين لمعرفة ما إذا كان لديهم عقول، رغم أن سلوك الإنسان ما هو إلا مجرد تعبير عن نشاطه العقلي لأن مراقبة سلوك الناس ببساطة لا تشبه مراقبة عقولهم، وبالتالي علينا الاستدلال على شيء يختفي خلف السلوك ويؤثر عليه ويجعله ظاهرا للعيان، وذلك الشيء هو العقل تحديدا.
يشير المؤلف في سياق إمكانية الرد على مشكلة العقول الأخرى إلى أشهر الأجوبة الذي يستفيد من التفكير الاستقرائي المعروف بـ"الدليل المستمد من التماثل" الذي ينص على أننا ما دمنا نعرف أن لدينا عقولا فذلك يعني أن سلوك الآخرين الذي ماثل سلوكنا سوف يظهر أن هؤلاء لديهم عقولا أيضا، لكن مشكلة العقول الأخرى تتضمن في طياتها مشكلتين مترابطتين، تتمثل الأولى فيما إذا كانت توجد أي عقول أخرى، في حين تتجسد الثانية بعد أن نسلم بوجد هذه العقول فيما إذا كانت هذه العقول تشبه عقولنا، وهنا يقترح طريقة للرد على هذه المشكلة بشقيها تتمثل في نقد فكرة الاستدلال والاتخاذ من الملاحظة المباشرة ولو في بعض الأحيان لحالة معينة يمر بها شخص م كالألم مثلا طريقة أساسية من أجل معرفة وجود عقل لهذا الشخص وأنه شبيه بالعقل الملاحظ.
فيما يعالج الفصل الثالث عشر مسألة الشكوكية المتطرفة والتي ترى أنه من المستحيل علينا معرفة أي شيء على الإطلاق عن العالم من حولنا، فهذه الشكوكية تؤدي وظيفة منهجية تتمثل في مساعدتنا على التفكير في ماهية المعرفة، بمعنى أن نظرية المعرفة التي تتبناها ينبغي أن تكون منيعة ضد الشكوكية، وقد أفرزت هذه النظرية ما يسمى بجدل فرضيات التشكك والذي يقوم حسب المؤلف على مبدأ الانغلاق الذي ينص على أن المرء إذا توصل إلى معرفة افتراض معين وكان يعلم أن هذا الافتراض يستلزم افتراضا آخرا، فهو بهذا يعرف الافتراض الأخير أيضا، لينتقل بعد ذلك إلى التصدي لمبدأ الانغلاق من خلال مبدأ الحساسية الذي يفترض أن علامة حصول المرء على معرفة هي أن يتوصل إلى اعتقاد حقيقي يتميز بالتأثر والإحساس بالحقيقة، بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى رد نظرية السياق على مشكلة فرضيات التشكك، فهذه النظرية تنص على أن المعرفة تتأثر جوهريا بالسياق، والفكرة التي يؤيدها أصحاب هذه النظرية هي أننا ضمن سياقات حياتنا الاعتيادية نعتبر الشخص قد توصل إلى معرفة مادام قادرا على استبعاد احتمالات خطأ ترتبط بحياته الاعتيادية وبعيدة عن سياقات التشكك عكس الإنسان المتشكك الذي يرفع سقف معايير المعرفة ليصل إلى استبعاد احتمالات خطأ بعيدة الاحتمال جدا وتقع ضمن سياقات التشكك.
أما الفصل الرابع عشر والأخير فقد خصصه بريتشارد للحديث عن الحقيقة والموضوعية، إذ يؤكد على أنه إذا اعتبرنا من البديهي أن الحقيقة ذات صفة موضوعية بالمعنى الذي تكون فيه أغلب الافتراضات التي نعتقد فيها بشأن العالم حقيقية فذلك لا يجعلها حقيقية بالفعل، فمثل هذه الموضوعية تسير جنبا إلى جنب مع مفهوم الخطأ بغض النظر عن مدى رصانة المبررات التي يقدمها المرء في الاعتقاد.
وقد ميز المؤلف في هذا الصدد بين شكلين من أشكال الموضوعية؛ شكل قوي ينص على أنه من الممكن دائما أن يكون ما يعتقد به المرء زائفا، في مقابل شكل ضعيف ينص ببساطة على أن ما نعتقد به الآن فقط عن العالم ربما يكون زائفا، فالشكل الأول يسمى بالنظرة الواقعية للحقيقة، والذي في إطاره يمكن للحقيقة من حيث المبدأ أن تسبق أفضل سياقات البحث والتقصي التي نقوم بها عن العالم، في مقابل هذا نجد الشكل الثاني أي الموضوعية الضعيفة تنسجم مع نظرة "المعارضين الواقعيين" الذين يوصفون بأنهم يتمسكون بالرأي القائل أن الحقيقة لا تعني أكثر من الرأي الأفضل الذي يمكننا التوصل إليه، بعد ذلك ينتقل الحديث هنا إلى البحث عن السبب الكامن وراء منح قيمة للحقيقة، حيث يتضح أن الجواب يكمن في أننا في الكثير من مجالات الحياة نعطي قيمة للشيء الأصيل، فالحقيقة من وجهة النظر هذه يمكن أن تتجاوز الرأي الأفضل من دون أن نكتشف ذلك، أي إعطاء القيمة للأصالة حتى وإن كانت غير قابلة للاكتشاف (مثال الكتاب الأصيل والجديد).
وأخيرا تطرق بريتشارد إلى وجهة نظر النسبية التي تلح على أن الحقيقة هي مجرد، ما يعتقد المرء أنه الشيء الحقيقية، لكنه أشار إلى أن وجهة النظر هذه تدحض نفسها بنفسها لأن هذا المقترح يؤدي إلى اعتبار ما يعتقده الإنسان الذي يؤيد النظرة الواقعية بشأن ماهية الحقيقة شيئا حقيقيا أيضا، وهذا يعني القول إن النسبية نظرية زائفة، بالإضافة إلى هذا فالإنسان الذي يؤيد هذه النظرية لا يمكنه فهم كيفية التوصل إلى المعرفة، ولا يمكنه أيضا فهم لماذا يتم الاهتمام بالحقيقة، لأن المعرفة ذات أهمية جوهرية للحياة التي تتضمن قيمة تجعلها تستحق أن يعيشها الإنسان.

الأفكار التي يمكننا الاستفادة منها في هذا الكتاب:
أن هناك صعوبة في تحديد المعايير التي ينبغي الاستناد عليها في تعريف مفهوم المعرفة.
أن في ميدان الابستيمولوجيا هناك ثوابت تخص كل نمط من أنماط التفكير، وباختلافها تختلف النتائج حتما.
أنه ليس هناك معرفة واحدة شاملة لشتى الميادين والمجالات، وإنما هناك أنماط من المعارف (فلسفية - علمية - أخلاقية - جغرافية - لغوية...).
أن الاهتمام بالمعرفة وتكبد عناء استيعاب ما تعنيه نظرية المعرفة راجع إلى الأهمية الجوهرية التي تحتلها في الحياة، والتي تتضمن قيمة تجعله يستحق أن يعيشها الإنسان.

الأفكار التي نتفق معها:
أن النظرية المعرفية الصحيحة هي ما يتحقق فيها انسجام تام بين المنطلقات الأولية ونتائجها النهائية وذلك في حدود نطاق اشتغالها.
أن المعرفة الافتراضية والتي يختص بها بنو البشر هي الجديرة بالدراسة والتحليل.
أن هناك تعدد فيما يخص مصادر المعرفة وكذلك المناهج المعتمدة في الوصول إلى معرفة حقيقية بشأن موضوع أو شيء ما.

الأفكار التي يمكن أن نختلف معها:
أن السبب الكامن وراء منح قيمة لحقيقة معينة يكمن في أصالتها أي أننا في الكثير من مجالات الحياة نعطي قيمة للشيء الأصيل.
أن بإمكان الشكوكية المتطرفة التي تنص على أنه من المستحيل على المرء معرفة أي شيء على الإطلاق عن العالم من حولنا أن تؤدي وظيفة منهجية تتمثل في مساعدتنا على التفكير في ماهية المعرفة.
تكرار بعض الأمثلة والحجج في العديد من فصول الكتاب.

بعض الملاحظات حول الكتاب:
إنهاء المؤلف لكل فصل بخلاصة للنقاط الأساسية التي تم تناولها والوقوف عندها، مع بعض الأسئلة للمراجعة وﺬلك كمحاولة لتبسيط الموضوع.
الكتاب يتخذ من المسح التاريخي منهجا في مقاربة نظرية المعرفة، وبالتالي فهو يساعدنا على الإبحار والغوص في محيطها والاطلاع على أبرز النظريات والآراء الفكرية التي تطرقت للموضوع.
وجود قائمة تضم مراجع تمهيدية ومتقدمة لغرض التوسع في القراءة، بالإضافة إلى قائمة بالمصادر المفيدة التي تطرح مجانا على شبكة الانترنت، وﻫﺬا يدل على حيوية الموضوع وراهنيته.
تخصيص ملاحق تشرح كل المصطلحات والأمثلة التي ﺬكرها المؤلف من أجل إزالة اللبس والغموض عنها وجعلها في متناول القارئ.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟