ما الفلسفة؟ ـ فوزية ضيف الله

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ما الفلسفة ؟ ـ  فوزية ضيف اللهإنّ سؤال "ما الفلسفة؟" هو سؤال يطرحه العاميّ كما يطرحه الفيلسوف. إلاّ أنّه سؤال عنيد، متكرّر الطرح، فغياب الإجابة يحيّر  العامّي  كما يحيّر  الفيلسوف. غير أنّ  الفلسفة لا تقدر على مواجهة ارتباكها إزاء  هذا السؤال أو  إزاء مداراته لكأنّ الفلسفة إنّما  تنتهي إلى حدّ  الصّمت إذا  تعلّق الأمر بذاتها[1]. فسؤال "ما الفلسفة؟" هو السؤال الذي لم تقدر الفلسفة لا على دفعه ولا على الاجابة عنه[2]. فما الفلسفة؟ وهل من تعريف لها؟

إنّ هذا السؤال الماهويّ إنّما هو سؤال يبقي على المسافة، بينما الهدف من السؤال الإقامة داخلها[3]، فسؤال ما الفلسفة- ضمن المنظورية الهيدغرية- إنّما يترصّدها ويجعلنا أمام تلمذة لا نهائية لفلاسفة قدامى. فأن نستعيد التعريف الأرسطي للفلسفة، فإنّ ذلك يعني فيما يعني، الإبقاء على أرسطو  وصيّا يفكّر عوضا عنّا. فأيّ سؤال يمكن أن يجعلنا داخل الفلسفة؟

 إنّ تهافت سؤال "ما الفلسفة؟" يجعلنا نستعيض عنه بسؤال "ما التفلسف؟"[4]  فهو سؤال قادر على أن ينفتح على أفق الفلسفة ليجعل للذات إقامة  أبدية في ربوع التفكير الفلسفي؟ هل أنّ سؤال "ما التفلسف؟" هو سؤال يدعونا للإقامة لديه أم أنّه يدعونا إلى معاودة التفكير في معنى الإقامة من أجل التفكير(هيدغر)؟

ليس لدينا دلالة واضحة عن التفلسف فلماذا يصمت هيدغر عن سؤال "ما التفلسف؟" رغم أنّه ينبّه إلى  أنّ الاهتداء  إلى ماهيّة  الفلسفة لا يكون إلاّ  بمباشرة فعل التفلسف. إنّ صمت هيدغر عن ماهيّة التفلسف هو صمت يعبّر عن تحوّل في دلالة التفلسف إلى  موطن للتساؤلات. فما التفلسف؟ وفيم يتمثّل؟

 لقد قال يانكليفيتش (Jankélévitch) بأنّ التفلسف يتمثّل في "أن ننظر إلى الكون وكأن لا شيء فيه يسير على ما يرام"[5]. فهل يمكن أن نعتبر هذه الإجابة أو هذا التعريف أفقا ملائما للنهوض بسؤال "ما الفلسفة؟"، أي بالكشف عن ماهيتها؟  كيف يكون النظر إلى الكون من جهة أنّه لا  يسير على ما يرام، سبيلا للإقبال على فعل التفلسف؟، أي هل أنّ النظر إلى الكون يضطلع بالشروط التي يتدبّرها الفيلسوف من جهة استعداده لخوض غمار التفلسف؟ بعبارة أخرى، هل أنّ ما يدفع إلى التفلسف يعود إلى بنية العالم أم إلى  بنية الذات؟



من البيّن إذن أنّ التعريف الذي يقدّمه يانكليفيتش لماهيّة التفلسف هو تعريف يحتاج في قيامه إلى تدبّر نظريّ لما يلزم عن التباس هذا التعريف من مؤشّرات تدلّ في الآن نفسه على ضرورة توفّر إمكانات أصليّة للتفلسف وعلى توعّر واعتياص هذا الفعل مادام النظر إلى الكون هو نظر إليه من جهة كونه ليس على ما يرام. بيد أنّ هذا القول لا يدرك معناه بعرض لتاريخ الفلسفة من جهة ما هو شاهد على الفعل الفلسفي وعلى نشوئه، وإنّما يلزم عنه استئناف التأمّل في أمر الفلسفة من جهة معاينتها ضمن سياق التفكير.

إنّ الفهم الأوليّ لهذا التعريف لا يتحدّد معناه انطلاقا من استخلاص ما ينبّه إليه أو ما يحثّ عليه، لذلك ينبغي أن نترصّد المعنى الذي يرتسم لديه الفعل الفلسفيّ كنظر في الكون من جهة كونه "لايسير على ما يرام". يتحدّد سياق التعريف ضمن ثلاث مؤشّرات رئيسيّة: يتمثّل المؤشّر الأوّل في كون فعل التفلسف هو فعل نشيط، هو فعل يجد أصوله الأولى في مباشرة فعل النظر، ويتحدّد المؤشّر الثاني بكون هذا النظر، إنّما هو نظر في الكون. أمّا المؤشّر الثالث يتمثّل في أنّنا لا ننظر إلى الكون من جهة انتظامه وتراتبه، بل من جهة كونه "كأنّه لا يسير على ما يرام".

تبيّنا أنّ إشكاليّة البدء على أنّها نظر، وموضوع النظر على أنّه الكون وكيفيّة النظر على أنّها تكمن في أن نفترض في كلّ مرة بأنّ الكون خال من النظام ومن التراتب. يبدو أنّ بداية التفكير في الشأن الفلسفي بداية مربكة. فالأمر يخصّ استئناف النظر في الكون في كلّ مرّة على أنّ هذا الكون هو "العالم"، أو هو "الوجود" أو هو "الطبيعة" أو هو "الآخر" أو هو "الإله" نفسه. فكيف نقبل على النظر في هذا الكون "كأنّ لا شيء فيه يسير على ما يرام"، هو قول لا يشير إلى حالة الكون الراهنة بل يشير إلى وضع افتراضي يباشره المتفلسف في كلّ مرة.

فالمشكل يكمن في الكيفيّة التي ينبغي أن ننظر بها إلى الكون، كرؤية مبتدعة للاحراجات ولأسئلة. فالكون على انتظامه وتراتبه يكون أمره محيّرا، فما بالنا إذا  افترضنا غياب النظام والتراتب فيه؟ "أن ننظر الى الكون وكأن لا شيء فيه يسير على ما يرام"، معناه أن ننظر اليه كما لو كان مصدر حيرة وقلق وتساؤل.

نتبيّن إذن أن التفلسف يفصح عن إحداثية للتأمّل فإن كان التفلسف نظرا في الكون فإنّ هذا النظر إنّما يتحدّد كتأمّل أي كفعل يتساوق فيه النظر العقليّ بالنظر العينيّ. إذ ليست الفلسفة شأنا نظريّا فحسب وإنّما هي مكوّنة لهذا الوضع النظريّ دون أن تنحاز عن التأمّل في الكون من جهة ما هو الوجود بأسره ولاسيّما أنّ في لفظ "الوجود" ما يحيل على الكون. فالكون هو ما كان وما يكون، والوجود هو ما وجد وما يوجد وإن كان هذا التقارب في المعنى لا نعثر عليه إلاّ في اللغة العربية[6]، إذ نلحظ ضربا من الترادف اللغوي بين فعل الكينونة وفعل الوجود وإن كان معنى الكينونة يتماثل في المعنى الأرسطي مع معنى التكوّن (génération) ويتناقض مع معنى الفساد (corruption). إذ أنّ اعتبار الكون إحداثية للتأمّل الفلسفي يفضي تبيّن المعنى المبهم في مفهوم "الكون" (l’univers) من جهة ما هو الوضع الأوليّ لاندهاش الفيلسوف إزاء العالم. لذلك فمفهوم الكون لا يقتصر على النظر في أمور  تخصّ البنية الكوسمولوجية للعالم، بل ينبغي أن نعّين النظر في الكون على أنّه النظر في الوجود باطلاق. إنّنا لا نستبدل المفاهيم بعضها ببعض وإنّما نشتّق معنى "الوجود" من المعاني التي يحيل عليها مفهوم "الكون". فالوجود هو المفهوم الأكثر شمولية والأكثر بداهة والأكثر عمومية"كما حدّد ذلك هيدغر نفسه[7]. إنّ إقبال الإنسان على الوجود بضرب من النظر هو الأنموذج الإغريقي نفسه لتعيين فعل التفلسف من جهة ما هو انطولوجيا وان هذه الانطولوجيا يمكن ان يستخلص منها المعنى الكليّ للفلسفة بما هو نظر في الوجود أو بما هي "نظر في الوجود من جهة ما هو موجود" (أرسطو). فالمقام الذي يتصيّر ضمنه التفلسف نظرا في الكون، لهو المقام عينه الذي يتعيّن ضمنه التأمّل تأمّلا في الوجود.

 إنّ التأمّل هو جوهر الفلسفة وملاذها الأوّل والأخير. ليس التأمّل أمرا من الأمور التي تمارسها الذات بضرب من التعالي، إذ أنّ استحداث مقام أصيل تباشر فيه الذات فعل التفلسف هو مجال الرؤية، فمجال الرؤية هو المجال الذي تتجلّى فيه الموضوعات كما هي، أي في حضورها الحسيّ والأصليّ. لذلك فإنّ فعل التفلسف من جهة ما هو فعل النظر نفسه هو أمر لا يتحدّد معناه إلاّ إذا  تعيّن على أنّه تأمّل للحضور أي على أنّه "باروسيا"[8]. إنّه الحضور في أقصى أشكاله. فأن ننظر في الكون هو أن نحدّد موقعنا قبالة العالم وقبالة الآخر وقبالة أنفسنا، أي قبالة الوجود. إنّ ما ينبغي التفطّن إليه هو أنّ فعل التفلسف يحمل على معنى أصليّ استقرّ في الفلسفة منذ الإغريق، هو معنى "الحضور"، إذّاك ترتّد الذات إلى مبدئها الرئيس وهو إنتاج الحضور انطلاقا من مفهوم النظر في الوجود أي من خلال ضرب من حدوث الحضور[9]. غير أنّ استئناف التفكير من موقع الوجود هو شأن يتعيّن ضمنه الوجود منبعا للتساؤل والحيرة ذلك أنّه يتضمّن معان عدّة لم يدركها أرسطو وإن كنّا نظنّ بأنّه استوفاها واستقرّ الأمر مع بارمنيدس على وحدته ومع هرقليطس على صيرورته، في حين يتبيّن هيدغر أنّ الوجود "صار نسيا منسيّا"[10] فهل أنّ فعل التفلسف ينشأ كمحاولة لتذكّر الوجود الذي نسي أمره؟  لكن ألا يعدو النظر في الكون من جهة تأمّله وتأمّل الوجود الذي يحيل عليه مجرّد وقوف على الأطلال؟

إنّ الفيلسوف لا يقف على الوجود كوقفة الباكي على قوم قد رحلوا، أو وقفة المتحسّر على تمثال زال رسمه، وإنّما هي وقفة السائل. فالفلسفة تتحدّد منذ البدء بكونها تساؤلا في أمر الوجود. إنّ الوجود يفترض دائما على أنّه لا يسير على ما يرام. إنّنا ننظر إلى الوجود دائما على نحو من الأنحاء أي في كلّ مرّة وفق منظوريّة مختلفة عن سابق المنظوريات،  لأنّ المنظوريّة يحددّها الموقع الذي تحتلّه الذات المدركة عندما تنظر من تلقاء نفسها إلى الوجود.

لا يبدو أنّ الوجود أمرا أحاديّ الجانب فهو أكثر الأمور شموليّة واتساعا، فهو الكون وهو العالم، هو الانسان، وهو الله. ألا يعني ذلك أنّ الفلسفة شأن يشتقّ معناه ممّا أفضت إليه فلسفة كانط لمّا قسّمت الميتافيزيقا إلى كوسمولوجيا وانطولوجيا وسيكولوجيا وثيولوجيا[11]. أي إلى الميتافيزيقا العامّة التي تتضمّن الانطولوجيا كعلم بالوجود من جهة والميتافيزيقا الخاصّة التي تتضمّن الكسمولوجيا كعلم بالكون والسيكولوجيا كعلم بالنفس  والثيولوجيا كعلم الاله. إن كان هذا التقسيم التقليدي للميتافيزيقا السابق على كانط[12] تقسيما تقنيّا فإنّه لا يضطلع بفهم مسألة النظر في الوجود أي أنّه لا يتضمّن إمكانا أصليّا لمعاينة فعل التفلسف من جهة ما هو فعل تباشره الذات في كلّ مرّة أي يتحدّد أفقه ضمن الطرح المتكرّر للأسئلة، إنّه ينبع من ارتباك ودهشة إزاء الوجود. فالسؤال عن الفلسفة ليس سؤالا عن موضوعاتها كما لو أنّ الأمر متعلّق بقطاع معيّن من المعرفة يفترض ضربا من الموضوعات التي يهتمّ بها وإنّما هو كيفيّة للإقبال على التجربة الميتافيزيقة من حيث هي مميّزة للإنسان عامّة وليس من حيث هي ضرب من المعرفة أو من العلاقة المعرفيّة بالوجود أي ليست  ضرب من "النظرية" في كلّ الاحوال. إذ ليس في فعل النظر ما يدلّ على صياغة النظريات. ذلك أنّ صياغة هو أمر ثانوي يقع ترتيبه ترتيبا لاحقا للفعل الفلسفي من جهة ما هو تجربة حياة، وليس في الحديث عن التجربة ترتيبا للعلوم التي تقتضيها الفلسفة من حيث حاجتها إلى ترتيب المعارف والموجودات ولا الاهتمام بمبدإ هذا الترتيب الذي أصبح بعد أرسطو أساس الحكمة ضمن مفهوم الفلسفة، أصبح محدّدا لتداول النظر الفلسفس تداولا تعليميا. فالسؤال عن التفلسف من جهة ما هو نظر في الكون الذي يفترض أنّه ليس على ما يرام، ليس تفسيرا وضعيّا كما يتصوّره العقل الطبيعي وإنّما هو بحث عن بنية للمعنى هي مقام للانسان أو هيئة لوجوده أي نحو من أنحاء الوجود يتعيّن عليه تجريبه واختباره.

فما ينبغي التنبيه إليه هنا هو أنّ التساؤل عن فعل التفلسف كتجربة للمعنى وكوضع للوجود لدى الانسان ليس بأيّ حال من الأحوال من الأمور التي تحدّد علاقة الإنسان بالأشياء تحديدا نظريّا، فليست علاقات الانسان بالأشياء هي علاقات معرفة[13]. فالسؤال عن التفلسف من جهة ما هو نظر في الكون أو في الوجود يعود إلى الإقبال على الوجود كتجربة مباشرة وليس كمعطى للنظر بالمعنى الذي درجت عليه الفلسفة وجعلته تقليدا مدرسيّا. فإنّ هذه المساءلة يمكن أن تكشف للإنسان علاقة بالأشياء كما هي، إذ أنّ وجود الأشياء ذاته أمر محدث للإحساس بالاندهاش ولاسيّما ما يحدث من النشوة إثر الاندهاش بالأشياء والاستمتاع برؤيتها  لاسيّما وأنّ الرؤية هي تجربة الابتداء في التفلسف، وهو تجربة وجدانية أصلا (أفلاطون وأرسطو). إنّ تجربة التفلسف هي تجربة للانسان داخل الوجود باستكشافه أو تجربة الارتحال عنه طلبا للمطلق. فإنّنا هنا ضمن أصول التفلسف بين عرضية الفكر (الذي ينشأ من الاندهاش إزاء الأشياء) وضرورة المطلق.                                                      

غير أنّه ليس الاختلال الظاهر بين التجربة الطبيعية للوجود والتعقّل النظري المحض حجّة على إعتياص فعل التفلسف وإنّما هو يدلّ على أصالة الأمر الميتافيزيقي في العقل الانساني أو على أنّ الإنسان "حيوان ميتافيزيقي بالطبع" (شوبنهاور). إنّ السؤال عن التفلسف مرتبط بالصّعوبة الملازمة للفلسفة من حيث هي غير مشتقّة من الوضع الطبيعي للانسان إذ أنّ الفكر لا يبدأ على نحو تلقائي وإنّما يولد بتجربة قصوى ليست هي فحسب تجربة الوجود من جهة ما هي انفعال للانسان بالعالم والأشياء أو بهيئة وجوده وبسائر الاشياء المؤلوفة لديه، وإنّما يتولّد التفلسف بدفع هذه الألفة إلى رؤية مستفهمة عن أصل الوجود وأصل العالم. فالدهشة كما قال أرسطو، إنّما هي الأم التي أنجبت الفيلسوف. إنّ الدهشة هي انفعال وارتباك فكريّ وتوتّر يعود إلى الشعور بغرابة الظواهر وإلى فقدان المعرفة والسعي إليها.

إنّ الذي تتّم مباشرته في كلّ مرّة هو البحث عن العلّة أو عن العلل، علّة وجود الموجود من جهة ما هو كذلك، سواء كان هذا الموجود مفكّرا فيه أو منظورا إليه أو متدبّرا أمره ضمن  براديغم اللغة في المنظور المعاصر. ففي البحث عن العلّة بحث عن الأساس. لذلك فإنّ مبعث الحيرة يتزايد نظرا لأنّ نقطة البدء التي من شأنها أن تمكّن الفيلسوف من فهم ما يقع في العالم، تزول أو تأخذ في التحجّب كلّما كشف عن نقابها.

إنّ المتفلسف يبحث إذن عن "نقطة أرخميدس" التي تكون كافية لربط جميع الظواهر الوجودية أو الكونية ببعضها البعض. كذلك كانت حكاية أفلاطون مع مفهوم "المثال" وحكاية ديكارت مع "الكوجيتو"، وحكاية هيغل مع "المطلق" ونيوتن مع "الجاذبية الكونية" وبرغسون مع "الحدس"... فكل فيلسوف يفترض أنّ هذا المبدأ سيمكّنه من إعادة ترتيب العالم في الفكر. ينتظم مسار التفلسف إذن كاندهاش يقتضي تحويله إلى الموقع الذي تتمكّن منه الذات من تملّك الطبيعة والسيطرة عليها (ديكارت). غير أنّ البحث عن الأساس لا يحدث كأمر عرضي وإنّما هو فعل ملازم للشأن الفلسفي فهو غرض الفلسفة وإنّما هو كذلك هو- هو منذ الاغريق تأسيسا للمعرفة، وذلك بالكشف عن المبادئ بالمعنيين اللذين لمصطلح المبدأ أي ليس فقط ما تنطلق منه المعرفة بوصفه نقطة البداية، المعنى الزماني للمبدأ، وإنّما أيضا يبرّر طبيعتها وحدودها من الداخل بوصفه أساسا لها.

لكن تبيّن لدى ديكارت أنّ التفلسف أمر لا يحدث بالنظر في الكون وإنّما بالنظر في مفهوم الذات ما دامت هي نفسها محلّ تساؤل واستفهام.  يقتضي هذا السياق مراجعة النظر في أمر التفلسف. فهل أنّ التفلسف فعل يحدث حقا ضمن تحديد لعلاقة الانسان بالكون وبالعالم أم هو شأن يخصّ بنية الذات؟ كيف أنّ ما يدفع الذات للتفلسف هو بنيتها ومقوماتها الذاتية كجوهر مفكّر؟

لقد صار البحث عن هذا المبدأ المفسّر للكون متلفّتا عن كلّ نظر في الكون والوجود عامّة، لتنخرط الذات الديكارتية في تجربة تراجيدية (الشك) يتراءى لها الكون لا فقط من جهة كونه ليس على ما يرام وإنّما من جهة كونه يجب اقصاؤه وطرحه جانبا وذلك بممارسة فعل الشك تجذيرا للتساؤل ومراجعة لبنية الذات نفسها. إنّ إحالة فعل التفلسف إلى بنية العالم أو الكون أمر نربك لديكارت وإن كان في الآن نفسه حدثا يفرض نفسه.

فمقوّمات التفكير التي للذات هي التي تجعلنا نتصوّر أو نرى الكون في كلّ مرّة على أنّه "ليس على ما يرام"، وإن كان الكون "ساعة معدّلة، عدّلها الإله وفق أحسن الحالات الممكنة" (ليبنتس). إنّنا لا نسعى إلى إعادة ترتيب الوقائع والظواهر بغية تنظيمها وإنّما تنظيمها وترتيبها يكون داخل فكرنا أي  داخل ذواتنا. لذلك فالتفلسف هو تساؤل عن الكيفية التي عليها العالم، فالذي "لا يسير على ما يرام داخل الكون" هو من افتراض الذات قبل أن يكون واقعا فعليا. لذلك يتعيّن فعل التفلسف فعلا نشيطا لا منفعلا وطارحا للاسئلة باستمرار.  فحين قرّر ديكارت أنّ الوجود ليس يعني أكثر من أن يكون مفكّرا فيه، كفّ الفكر الفلسفي عن النظر إلى الموجود بوصفه مخلوقا أو مصنوعا، وانخرط في سياق جديد ينظر إلى الموجود بوصفه مفكّرا فيه. غير أنّ هذا الموجود لا يكون مفكّرا فيه إلاّ من جهة أنّه ينتظم بحسب طبيعة الفكر نفسه أي طبيعة الذات. لذلك يصير النظر في الكون نظرا إليه من جهة التمثّل (représentation)، ذلك هو معنى أنّ الذات لا تعرف إلاّ ما هو في مقام الموضوع أي إنّها لا تعرف إلاّ ما هو قابل للتمثّل.

إنّ هذه الألفة التي تربط الذات  بالعالم قد تصل -في هذا السياق مع هيدغر- إلى الحدّ الذي يصير فيه التفكير في أمر الكون والوجود والنظر إليه من جهة العدم. (محاضرة هيدغر، 1929)[14]. ليست محاولة التفكير في العلوم نقضا لمطلب الفلسفة الأقصى أي النظر في الوجود وإنّما هي مسعى للتخلّص من الأسلوب الميتافيزيقي التقليدي عامّة، إنّما هو أمر ينبغي أن يطرح من خارج أفق الكون والوجود أي أفق خارج عن الميتافيزيقا، هو أفق غير ملتزم بالتفسير التقليدي والمدرسي الذي أرساه التراث التاريخي. فما تحتاج إليه الفلسفة هو تنشيط السؤال. لذلك يكون التفلسف علاقة فعلية ومباشرة بالأشياء لتحويل ما هو مألوف إلى إشكال.

فوزية ضيف الله 
جامعة تونس المنار

1- هيدغر، ماهي الفلسفة؟، العرب والفكر العالمي، العدد الرابع خريف، 1988)، ترجمة جورج كتورة ومراجعة جورج زيناتي، بيروت، مركز الإنماء القومي، ص. 22 "بهذا السؤال،  نمسّ موضوعا صعب المنال، أعني موضوعا واسعا متشعّبا، ونظرا لاتساعه يظل موضوعا غير محدّد. ولأنّه غير محدّد، فإنّنا نستطيع معالجته من وجوه متعدّدة ومختلفة. (...) و بما أنّنا سنصادف إبان معالجتنا لهذا الموضوع المتشعّب شتى وجهات النظر الممكنة، فإننا سنواجه خطر أن يبقى حوارنا مجرّد تجميع لوجهات النظر ودون الخروج منها بالاستنتاج المطلوب"                                                       
[2] -Kant, Critique  de la raison pratique, Trad. A. Tremesaygues et B. Pacaud, Paris, Félix Alcan, 1905, Préface de la première édition (1781), P. 5 : « La raison  humaine a cette destinée singulière, dans un genre de ses connaissances, d’être accablée de questions qu’elle ne saurait éviter, car elles lui sont imposées par sa nature même, mais auxquelles elle ne peut répondre, parce qu’elles dépassent totalement le pouvoir de la raison humaine ».
[3] - Heidegger, Qu’est-ce que la philosophie ? , Questions II,  Conférence prononcée à Cerisy-la Salle, Normandie, en août 1955, pour l’ouverture d’un entretien,  Traduit par Kostas  Axelos et Jean Beaufret, Paris, Gallimard, 1968. Heidegger disait : « Quand nous demandons : qu’est ce que la philosophie ? — alors  nous parlons sur la philosophie. Questionnant ainsi, nous demeurons manifestement en un lieu qui se trouve au-dessus, c’est-à-dire en dehors de la philosophie. Mais le but de notre question est au contraire : entrer dans la philosophie, trouver séjour en elle, nous comporter suivant sa guise, c’est-à-dire  «  philosopher ». (P. 318).      
[4] - Ibid, P. 318.
[5] - فلاديمير يانكليفيتش، فلسفة أولى، مدخل إلى فلسفة ال"يكاد"، ترجمة سعاد حرب، المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشروالتوزيع، 2004، الفصل الأول، من التجريب إلى ما وراء التجريب.
6-انظر الفارابي، كتاب الحروف، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه محسن مهدي، بيروت- لبنان، دار المشرق،  1981."(...) و ليس في العربية منذ  أوّل وضعها لفظة تقوم مقام "هست" في الفارسية و لا مقام "استين" في اليونانية و لا مقام نظائر هاتين اللفظين في سائر الألسنة. " ص.112.
[7] -Heidegger, Etre et Temps, Trad. F. Vezin, Paris, Gallimard, 2004, L’Introduction, Chapitre premier, Nécessité, structure et primauté de la question de l’être, § 1, La nécessité d’une franche répitition de la question de l’être, PP 25-26 : «  on dit : l’ « être » est le concept le plus général et le plus vide. Comme tel il résiste à tout essai de définition. (…). L’ « être » est le concept qui va da soi ».
[8] - En grec, παρουσία, ce mot veut dire la présence, « être au- près- de- nous ».
[9] -Cf. Heidegger, «  Hegel et son concept de l’expérience », Chemins qui ne mènent nulle part,                                                              Trad. Wolfgang Brokmeier, Paris, Gallimard, 1962 : « Le premier paragraphe ( du texte de Hegel «  Science  de l’Expérience et de la Conscience » publié en 1907 lors de la publication de la phénoménologie de l’esprit) nomme ce qui est en cause dans la philosophie : «  elle considère le présent en sa présence, et (considère) ainsi ce qui y prédomine par avance par lui-même », (…). La philosophie considère le présent  dans sa présence. Cette considération envisage le présent. Elle le vise de telle sorte qu’elle ne regarde le présent qu’en tant que tel. La philosophie regarde ; le présent quant à son aspect. » (P. 158).   
[10] -Heidegger, Etre et Temps, Trad. F. Vezin, Paris, Gallimard, 2004, L’Introduction, Chapitre premier, Nécessité, structure et primauté de la question de l’être, § 1, La nécessité d’une franche répitition de la question de l’être, P.25 : « La question de l’être est aujourd’hui tombée dans l’oublie (…) ». 
[11] -Kant, Leçons de métaphysique, Trad. Michel Meyer, Paris, Le livre de poche, 1993. La présentation de Monique Castillo, P. 43 : « Les leçons reprennent la distinction de la métaphysique traditionnelle entre métaphysique générale (ontologie) et métaphysique spéciale (cosmologie, psychologie, théologie). On sait que Kant se servait du manuel de métaphysique de Baumgarten pour support de son enseignement ; il en reprend les divisions et le contenu, soit pour se livrer au commentaire des définitions données, soit pour y introduire des considérations personnelles et critiques. »
[12] - هذا التقسيم سابق على كانط ويعود الى  بومقارتن(Baumgarten).
-[13]على عكس ما يذهب اليه كانط.
[14] - Heidegger, «  La question fondamentale de la métaphysique », Introduction de la métaphysique, Trad. Gilbert Kahn, Paris, Gallimard, 1980. «" Pourquoi donc y a-t-il l’étant et non pas plutôt rien" ? Telle est la question. Et il y a lieu de croire que ce n’est pas une question arbitraire. (…) Telle est manifestement la première de toutes les questions. » 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟