نقد النظريّة الوظيفيّة في سوسيولوجيا روبرت ميرتون : هل استطاع ميرتون أن يعيد للوظيفيّة مشروعيّتها؟ - علي أسعد وطفة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"تتجلّى عبقريّة ميرتون في نهجه النقديّ الّذي تبنّاه في ترميم النظريّة الوظيفيّة وإعادة بنائها وصقل مفاهيمها وتدوير زواياها الحادّة وتأصيل مقولاتها على نحو نقديّ، وقد تجلّت قدرته في الأخذ بالمنهج النقديّ للنظريّة الّذي حرّره نسبيّاً من القيود الأيديولوجيّة الطاغية الّتي تظهر في مختلف المداخل الفكريّة للنظريّة الوظيفيّة منذ بداياتها الأولى".

1-مقدمة:

بلغت البنائيّة الوظيفيّة أوج نشاطها الفكريّ على يد تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) في سبعينيّات القرن الماضي، ولكن سرعان ما خبا وهجها وضعف تأثيرها في ثمانينيّاته تحت مضارب النقد الشديدة الّتي أوقعت بها، فأطاحت بتصوّراتها، وأسقطت كثيرا من مفاهيمها، كاشفةً فيض مثالبها، وعمق قصورها ومواطن ضعفها. وفي معترك هذا السقوط الكبير لنظريّة بارسونز، واهتزاز الراية الوظيفيّة، خرج روبرت ميرتون من بين الصفوف ليخطف الراية الوظيفيّة، وينهض بها من جديد على ركائز سوسيولوجيّة جديدة، تمتاز إلى حدّ كبير بالتوازن الفكريّ والتماسك المنهجيّ، وقد تمكّن، بما قيّض له من قدرات إبداعيّة ومهارات منهجيّة، أن يعيد للوظيفيّة بعضاً من ألقها الفكريّ ووميضها المنهجيّ الّذي عرفت به في ثمانينيّات القرن الماضي.

حلّق ميرتون في فضاء السوسيولوجيا الحديثة بأجنحة منهجيّة جديدة ، واستطاع أن يطوّر النظريّة الوظيفيّة، وأن يمنحها بعضاً من القوّة على الاستمرار والقدرة على الحضور مجدّداً بما قدّمه لها من عناصر فكريّة جديدة على أسس نقديّة متجدّدة،  ويرى كثير من النقّاد اليوم أنّ نظريّة روبرت ميرتون تشكّل الحلقة الأكثر نضجاً وعمقاً في النظريّة البنائيّة الوظيفيّة على وجه الإطلاق، ولا غرو في القول: إنّ الوظيفيّة بلغت أوج نضجها وتألّقها على يد ميرتون الّذي حمل رايتها المنتكسة، ونهض بها خفّاقة في عالم السوسيولوجيا الوظيفيّة المعاصرة.

ومن المعروف، أنّ الوظيفيّة الكلاسيكيّة قبل ميرتون ، كانت تحلّق في أبراجها النظريّة الشموليّة، دون أن تلامس الواقع الاجتماعيّ الحيويّ، أو أن تقترب من الحقل الأمبيريقيّ الواقعيّ للحياة الاجتماعيّة، ولذا كانت تتعرّض دائماً للاهتزاز والسقوط بين الحين والآخر، وذلك لأنّها كانت غالباً ما تحلّق بجناح التنظير التأمّليّ الوحيد، إلى أن جاء ميرتون فأصلح من شأنها ودفعها إلى التحلّيق بجناحي الواقع والنظريّة لتحقّق توازنها  المنهجي والفكري.  

وتتجلّى عبقريّة ميرتون في نهجه النقديّ الّذي تبنّاه في ترميم النظريّة الوظيفيّة وإعادة بنائها وصقل مفاهيمها وتدوير زواياها الحادّة وتأصيل مقولاتها على نحو نقديّ، وقد تجلّت قدرته في الأخذ بالمنهج النقديّ للنظريّة الّذي حرّره نسبيّاً من القيود الأيديولوجيّة الطاغية الّتي تظهر في مختلف المداخل الفكريّة للنظريّة الوظيفيّة منذ بداياتها الأولى.

وقد تميّز ميرتون عن غيره من علماء الاجتماع الوظيفيّين بالخلفيّة العلميّة الّتي تركت بصمتها في نظريّته الوظيفيّة، ومن المعروف أنّ نظريّة العلوم كانت واحدة من الاهتمامات المركزيّة في نظريّته السوسيولوجيّة، وقد رسّخ الأسس الأولى لعلم اجتماع العلوم الّذي بدأ مسيرته الحقيقة انطلاقاً من أعمال ميرتون الّتي كرّسها لدراسة العلاقة بين العلوم والظواهر الاجتماعيّة. ومن الواضح أنّ النزعة العلميّة قد مكّنت ميرتون من تأصيل النظريّة الوظيفيّة على نحو علميّ، واستطاع بذلك أن يحرّرها من سطوة النظريّات الكبرى الّتي بدت ظاهرة في وظيفيّة بارسونز وغيره من المنظّرين الوظيفين. وانطلاقاً من الأسس العلميّة استطاع ميرتون أن يصقل المفاهيم الوظيفيّة في حلّة جديدة متماسكة، وأن يضفي عليها الطابع العلميّ العقلانيّ الرصين الّذي بدأ في مختلف مناحيّ نظريّته العقلانيّة. وباختصار يمكن القول بأنّ ميرتون أضفى على النظريّة الوظيفيّة طابعاً عقلانيّاً وعلميّاً، واستطاع أن يحرّرها نسبيّاً من سطوة التأمّلات الفلسفيّة، وأن ينطلق بها بعيداً عن هيمنة التوجّهات الأيديولوجيّة المباشرة، وأن يستخدم سحره السوسيولوجيّ – الّذي عرف به- في تقديم النظريّة الوظيفيّة بصيغة رقيقة جميلة موشّاة برصانة العلم وسحر الفلسفة في آن واحد.

ويسجّل لميرتون نسبيّاً أيضاً أنّه حاول جاهداً إخراج النظريّة من مأزقها الأيديولوجيّ، أو من دورانها الحتميّ حول محورها الأيديولوجيّ الّذي شكّل موضع مقتلها وسقوطها مراراً وتكراراً، إذ لم يستطع روّادها الكلاسيكيّين التخلّي عن تحيّزهم الواضح والصريح للنظام الرأسماليّ، وولائهم للطبقة الرأسماليّة البرجوازيّة ودفاعهم المستميت عن مصالح النظام الرأسماليّ، وتأكيدهم المستمرّ على عناصر الاستقرار والتوازن والتضامن في المجتمع الرأسماليّ الليبراليّ. ولم يكن ميرتون جاهلاً بمخاطر هذا التشدّد الأيديولوجيّ ومخاطره، فعمل جاهداً على تنقية نظريّته من التوجّهات الأيديولوجيّة متأثّراً بنزعته العلميّة وبوصفه أحد أبرز مؤسّسي علم الاجتماع العلميّ الّذي يتحرّى الموضوعيّة في البحث بعيداً عن التوجّهات الأيديولوجيّة القاتلة للعلم والمعرفة.

ومن يتأمّل اليوم في السيرة العلميّة لميرتون سيجد أنّه سجّل تراثاً علميّاً مترامي الأطراف عميق الجذور بعيد الأغوار، ويشكّل البحث اليوم في السوسيولوجيا الميرتونيّة (نسبة إلى ميرتون) مهمّة صعبة وشاقّة لما تنطوي عليه نظريّته من آفاق بعيدة وتضاريس فكريّة معقّدة ترتفع فيها القمم، وتعلوها الشواهق وتخترقها الأخاديد، وتنحتها المنحدرات وتمتدّ سفوحها اتّساعاً بالسهول والهضاب.

ومن يلقي اليوم نظرة على التناول الفكري لسوسيولوجيا ميرتون في الفكر السوسيولوجي العربي سيجد أن هذا التناول المتواتر يعاني من الضعف والقصور، فما يقدم لا يعدو أن يكون شذرات غامضة خاطفة لا يمكن الاعتماد عليها في فهم نظرية ميرتون، وفي تحديد أبعادها، أو تقديمها بصورة علمية سياقية واضحة المعاني فسيحة الأرجاء. وقد نبهنا هذا الغموض الكبير والقصور الهائل الذي وجدناه في المواقع الفكرية، أو في فصول الكتب، أو حتى في بعض الدراسات العلمية التي تناولت نظرية ميرتون، إلى ضرورة العمل على تقديم نظرية ميرتون بطريقة نتوخاها أن تكون منهجية وواضحة ومفيدة للطلاب والباحثين والدارسين في مجال علم الاجتماع. وسنعمل في هذا السياق على تناول نظرية ميرتون البنائية في سياقها التاريخي والسوسيولوجي نظرا لما تمتاز به هذه النظرية من أهمية وخطورة في حقل السوسيولوجيا بصورة عامة، وفي مجال النظرية البنائية الوظيفية بصورة خاصة.

مما لا شك فيه أن نظرية ميرتون تشكل اليوم مشهدا فكريا لا يمكن تجاهله في السوسيولوجيا المعاصرة، كما تشكل عصبا أساسيا ومحوريا في مختلف التوجهات السوسيولوجية المعاصرة، ولا ريب أنها تشكل حلقة أساسية مركزية في عملية التواصل ما بين السوسيولوجيا الكلاسيكية القديمة وبين السوسيولوجيا المعاصرة في عالم اليوم.

ومن أجل مزيد من الوضوح سنعمل في هذه الدراسة على تقديم ميرتون منهجيا وفكريا في مختلف المشاهد الأساسية والمركزية لنظريته البنائية، وسنبحث في مختلف الكيفيات التي اعتمدها لإضفاء المشروعية التاريخية على البناية الوظيفية، بعدما شهدته من عواصف النقد التي كادت أن تسقطها بصورة نهائية.

ومن يلقي اليوم نظرة على التناول الفكريّ لسوسيولوجيا ميرتون في الفكر السوسيولوجيّ العربيّ سيجد أنّ هذا التناول المتواتر يعاني من الضعف والقصور، فما يقدّم لا يعدو أن يكون شذرات غامضة خاطفة لا يمكن الاعتماد عليها في فهم نظريّة ميرتون، وفي تحديد أبعادها، أو تقديمها بصورة علميّة سياقيّة واضحة المعاني فسيحة الأرجاء. وقد نبّهنا هذا الغموض الكبير والقصور الهائل الّذي وجدناه في المواقع الفكريّة، أو في فصول الكتب، أو حتّى في بعض الدراسات العلميّة الّتي تناولت نظريّة ميرتون، إلى ضرورة العمل على تقديم نظريّة ميرتون بطريقة نتوخّاها أن تكون منهجيّة وواضحة ومفيدة للطلّاب والباحثين والدارسين في مجال علم الاجتماع. وسنعمل في هذا السياق على تناول نظريّة ميرتون البنائيّة في سياقها التاريخيّ والسوسيولوجيّ نظراً لما تمتاز به هذه النظريّة من أهمّيّة وخطورة في حقل السوسيولوجيا بصورة عامّة، وفي مجال النظريّة البنائيّة الوظيفيّة بصورة خاصّة.

ممّا لا شكّ فيه أنّ نظريّة ميرتون تشكّل اليوم مشهداً فكريّاً لا يمكن تجاهله في السوسيولوجيا المعاصرة، كما تشكّل عصباً أساسيّاً ومحوريّاً في مختلف التوجّهات السوسيولوجيّة المعاصرة، ولا ريب أنّها تشكّل حلقة أساسيّة مركزيّة في عمليّة التواصل ما بين السوسيولوجيا الكلاسيكيّة القديمة وبين السوسيولوجيا المعاصرة في عالم اليوم.

ومن أجل مزيد من الوضوح سنعمل في هذه الدراسة على تقديم ميرتون منهجيّاً وفكريّاً في مختلف المشاهد الأساسيّة والمركزيّة لنظريّته البنائيّة، وسنبحث في مختلف الكيفيّات الّتي اعتمدها لإضفاء المشروعيّة التاريخيّة على البناية الوظيفيّة، بعدما شهدته من عواصف النقد الّتي كادت أن تسقطها بصورة نهائيّة.

2-السيرة الذاتية والأكاديميّة:
 2-1- نشأة ميرتون:

ولد ماير روبرت شكولنيك (Meyer Robert Schkolnick.) ([1]) في ولاية بنسلفانيا (Philadelphia, Pennsylvania) بالولايات المتّحدة الأمريكيّة في 4 يوليو 1910، وتوفّي في 23 فبراير 2003 في مدينة نيويورك متأثّراً بمرض السرطان. في سنّ الرابعة عشرة، غيّر اسمه إلى روبرت ميرتون (Robert K. Merton) لاعتبارات مهنيّة وشخصيّة، وهو الاسم الّذي عرف به طيلة حياته المهنيّة والأكاديميّة ([2]).

تحدّر ميرتون من عائلة روسيّة الأصل هاجرت إلى الولايات المتّحدة في عام 1904، وقد تمّ تسجيل والده آرون شكولنيكوف (Aaron Schkolnickoff) في ميناء الدخول إلى الولايات المتّحدة رسميّاً باسم "هاري سكولنيك"(Harrie Skolnic) " ([3]). وعاشت عائلة ميرتون في ظروف ماليّة متوتّرة، بعد أن احترق متجر العائلة للألبان غير المؤمن عليه في جنوب فيلادلفيا، ولجأ والده إلى العمل مساعد نجّار لإعالة الأسرة المنكوبة ([4]).

وعلى الرغم من الأوضاع المادّيّة الصعبة الّتي أحاطت بأسرة ميرتون والفقر المدقع الّذي نشأ فيه، فإنّ ميرتون ثمّن عالياً الفرص الثقافيّة الّتي حظي بها كطالب في مدرسة جنوب فيلادلفيا الثانويّة، وقد أتيح له أن ينهل من مختلف المكتبات والمؤسّسات الثقافيّة والتعليميّة القريبة منه، بما في ذلك مكتبة أندرو كارنيجي (Andrew Carnegie Library)، وأكاديميّة الموسيقى، والمكتبة المركزيّة، ومتحف الفنون. في عام 1994، وقد ذكر ميرتون نفسه أنّ نشأته في جنوب فيلادلفيا وفّرت له "مختلف صيغ رأس المال الثقافيّ والفكريّ والاجتماعيّ" ([5])، وكان قد أمضى سني المراهقة في مكتبة كارنيجي المحلّيّة ينهل من عطاءات العلم والمعرفة في مختلف العلوم والفنون، لا سيّما السير الذاتيّة والعلوم الاجتماعية والتاريخ. وقد هيّأ له هذا المناخ الثقافيّ فرص النضج المعرفيّ والنبوغ الثقافيّ الّذي مكّنه من التميّز في مجال العلم والمعرفة السوسيولوجيّة على وجه الخصوص.

ومن الطرافة أنّ ميرتون قد شغف بالسحر وقضايا الشعوذة وخفّة اليد، وقد كتب ورقة في المدرسة الثانويّة عن الساحر هاري هوديني الّذي كان شغوفاً به، وفي سياق بحثه هذا، اكتشف أنّ فنّاني الأداء أو السحرة غالباً ما يجعلون أسماءهم أمريكيّة من أجل الشهرة والاندماج الاجتماعيّ، ومن الملفت أنه امتهن السحر لمدّة وجيزة في مطلع صباه، وقدّم عروضاً سحريّة صغيرة في الحفلات والتجمّعات المحلّيّة للحصول على بعض الموارد الماليّة ([6]).

بدأ ميرتون سيرته الأكاديميّة في جامعة تمبل (Temple University) فحصل فيها على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع عام 1931، وعلى شهادة الماجستير في علم الاجتماع من جامعة هارفارد في عام 1932، وعلى الدكتوراه من الجامعة نفسها في عام 1936، وكان عنوان الأطروحة "العلوم والتكنولوجيا والمجتمع في إنجلترا في القرن السابع عشر" (Science, Technology, and Society in Seventeenth Century England) ([7])، وشكّلت لجنة المناقشة من كبار علماء الاجتماع، ومن أكثرهم تأثيراً في علم الاجتماع في أمريكا وهم: بيتريم سوروكين ((Pitirim Sorokin سوروكين، تالكوت بارسونز (Talcott Parsons)، والمؤرّخ جورج سارتون (George Sarton)، وعالم الكيمياء الحيويّة لورانس جوزيف هندرسون (Lawrence Joseph Henderson). ويقترح ميرتون في هذه الأطروحة - على غرار نظريّة ماكس فيبر (Max Weber) الشهير حول العلاقة بين الأخلاق البروتستانتيّة والاقتصاد الرأسماليّ – وجود علاقة إيجابيّة بين صعود البروتستانتيّة والعلم التجريبيّ المبكّر. وقد ركّزت أطروحة ميرتون، حول الروابط المتبادلة بين العلم والمجتمع، وركّزت جوهريّاً على الدور الّذي لعبه التشدّد الدينيّ في تشجيع صعود العلم والمعرفة العلميّة وأظهر- على عكس الأفكار السائدة حينئذ- أنّ الدين يمكن أن يحفّز النشاط العلميّ ويؤصّله بدلاً من هدمه وتقويضه.

بعد حصوله على الدكتوراه، انتقل ميرتون إلى نيو أورلينز، وأصبح أستاذاً مساعداً في جامعة تولين في عام 1939، وأصبح فيما بعد رئيساً لقسم علم الاجتماع في الجامعة نفسها. في عام 1941، ومن ثمّ قبّل ميرتون منصب أستاذ مساعد في قسم علم الاجتماع في جامعة كولومبيا، وهي الجامعة الّتي ستكون بمثابة منزله الأكاديميّ ولا غبار أن أمضى بقيّة حياته المهنيّة أستاذاً ومفكّراً وباحثاً في هذه الجامعة، وقد واستمرّ بالعمل فيها منذ عام 1941 حتّى تقاعده في عام 1984.

في جامعة كولومبيا شغّل ميرتون – بالإضافة إلى عمله كأستاذ لعلم الاجتماع - منصب المدير المساعد لمكتب البحوث الاجتماعيّة التطبيقيّة (Bureau of Applied Social Research) بإشراف عالم الاجتماع الشهير بول لازارسفيلد الّذي كان قد قام بتأسيسه وإدارته قبل عام من قدوم ميرتون إلى جامعة كولومبيا. واستمرّ ميرتون بالعمل البحثيّ في هذا المكتب على مدى ثلاثين عاماً. وكانت علاقة العمل الّتي تطوّرت بين لازارسفيلد وميرتون واحدة من أكثر العلاقات أهمّيّة في مسيرة ميرتون، وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين اهتماماتهم وأساليبهم في البحث العلميّ، فإن هذا التعاون قد أثمر في تحقيق التكامل العلميّ بينهما، أي: بين المنهج العلميّ الأمبيريقيّ الّذي عرف به لازارسفيلد وبين الممارسة الفكريّة التنظيريّة الّتي عرف بها ميرتون.

ومن الأهمّيّة بمكان أنّ ميرتون انتخب الرئيس السابع والأربعين لجمعيّة علم الاجتماع الأمريكيّة. ونظراً لإسهاماته الكبيرة في علم الاجتماع لقّب بــ "الأب المؤسّس لعلم الاجتماع الحديث"([8]).

2-2- مؤثراته:

عاش ميرتون كما سبقت الإشارة في فضاء ثقافي يتميز بالغنى والثراء، وقد أحيط بمؤثرات ثقافية تمثلت في عدد من المؤسسات الثقافية ولاسيما مكتبة أندرو كارنيجي، وأكاديمية الموسيقى، والمكتبة المركزية، ومتحف الفنون، وقد أكد ميرتون نفسه قوة هذا التأثير الإيجابي في تواصله مع مختلف صيغ رأس المال الثقافي والفكري والاجتماعي. وكان يقضي ساعات مطولة جدا في الاطلاع على مختلف الكتب والدراسات والأبحاث وقد شكل هذا الاطلاع والشغف المعرفي المنطلق الأساسي لتفوق وإبداع ميرتون في الجامعة لاحقا.

بعد التخرّج من مدرسة جنوب فيلادلفيا الثانويّة، التحق روبرت ك. ميرتون بجامعة تمبّل بمنحة دراسيّة. أثناء وجوده في تمبّل، التقى بـعالم الاجتماع جورج إي سيمبسون (George E. Simpson) الّذي عيّن ميرتون ليكون مساعداً له في أبحاثه. وأدّى هذا التعاون إلى توليد اهتمام ميرتون بمجال علم الاجتماع ([9]).

وقد مكّنه سيمبسون من لقاء عالم الاجتماع الكبير بيتريم سوروكين (Pitirim Sorokin)، مؤسّس قسم علم الاجتماع في جامعة هارفارد، وقد أعلن ميرتون أنّ تواصله مع سوروكين قد أصل فيه شغفا بعلم الاجتماع وإليه يعود الفضل في اختيار جامعة هارفارد والتسجيل فيها.

وعندما التحق ميرتون بجامعة هارفارد الشهيرة وجد نفسه في وسط نخبة من كبار المفكّرين وعلماء الاجتماع الكبار أمثال سوروكين، وتالكوت بارسونز (Talcott Parsons) وإي إف جاي (E.F. Gay) وجورج سارتون (George Sarton) وبول لازارسفيلد (Paul Lazersfeld)، وكان لهؤلاء المفكّرين والأساتذة الكبار تأثير عميق في التشكيل العلميّ والسوسيولوجيّ لميرتون أثناء وجوده في جامعة هارفارد، ومن الواضح أنّ كلاً من هؤلاء العمالقة ترك تأثيراً في أحد جوانب تطوّر الفكر السوسيولوجيّ عند ميرتون، وهذا يعني أنّه استطاع أن ينفلت من القيود المدرسيّة، وأن يتشكّل على بساط واسع من التيّارات والأفكار المدرسيّة والتيّارات الفكريّة على امتدادها، وقد تجلّت هذه التيّارات في منظومته الفكريّة على صورة تكامل فكريّ يكاد يجمع بين المتفرّقات ويتجاوز الصراعات، استلهم نظريّات دوركهايم وفيبر وبارسونز، والفكر السوسيولوجيّ الأمبيرقيّ لــ بول لازارسفيلد، والفكر العلميّ المتوقّد لجورج سارتون، واستطاع في نهاية المطاف أن يسجّل حضوره الأكاديميّ بوصفه أحد كبار علماء الاجتماعيّ في مجال النظريّة البنائيّة كما في مجال علم الاجتماع العلميّ وعلم اجتماع الجريمة، واستطاع في حقيقة الأمر أن يجمع بين النظريّات التأمّليّة والواقع التجريبيّ بطريقة خلّاقة لا تخلو من لمسة سحريّة كان قد عرف بها في مختلف أعماله السوسيولوجيّة.

وكان للفترة الدراسيّة الّتي قضاها ميرتون في جامعة هارفارد تأثيراً عظيماً في السيرة العلميّة لميرتون، وقد ساعده ذلك على قراءة كلّ من إميل دوركهايم وماكس فيبر والتأثّر بمعطياتهما الفكريّة. وكان ميرتون محظوظاً بتعاونه الوثيق مع عالم الأنثروبولوجيا الشهير بول لازارسفيلد (Paul Lazersfeld)، وقد هيّأت له هذه السيرة الذاتيّة أن يصبح أكثر علماء الاجتماع نفوذاً وتأثيراً في العصر الحديث.

2-3- منشوراته

غطّت أعمال ميرتون ومنشوراته العلميّة مختلف القضايا الاجتماعيّة والفكريّة في زمنه، وقد ركّز اهتمامه على البنائيّة الوظيفيّة، وعمل على تأصيل ركائزها وتجديد مبانيها، وقد أعطى كثيراً من اهتمامه إلى علم اجتماع العلوم، وقد بدا هذا الاهتمام واضحاً في عناوين منشوراته وكتبه. ومن أهمّ الأعمال الّتي قدّمها ميرتون إلى المكتبة العالميّة يشار إلى أطروحة الدكتوراه الّتي دافع عنها في جامعة هارفارد بعنوان "العلم والتكنولوجيا والمجتمع في إنجلترا في القرن السابع عشر" (Science, Technology, and Society in Seventeenth Century England) في عام 1936. وفي هذه الأطروحة، استكشف ميرتون العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع خلال القرن السابع عشر في إنجلترا. وقد جادل في تأثير المعرفة العلميّة والتقدّم التكنولوجيّ في تشكيل المجتمع وبحث في العلاقة الجدليّة بين المجتمع والعلم ([10]). وتشكّل القضايا الّتي طرحها في هذه الرسالة الركائز الأولى لعلم اجتماع العلم الّذي كان ميرتون من روّاده الأوائل. وينظر على نطاق واسع إلى أطروحته، العلوم والتكنولوجيا والمجتمع في إنجلترا في القرن السابع عشر، على أنّها أوّل عمل في علم اجتماع العلوم، ويعتبر ميرتون مؤسّس هذا الفرع الجديد في علم الاجتماع ([11]). وقد نشرت أطروحته في عام 1938، وهي تشكّل أحد أهمّ ركائز علم الاجتماع العلميّ حديث الولادة.

 في جامعة هارفارد، أثناء عمله كمساعد باحث لسوروكين، كتب ميرتون أوّل بحث منشور له بعنوان "علم الاجتماع الفرنسيّ الحديث" (Recent French Sociology) في عام 1934. وعمل مع سوروكين في ورقة مشتركة حول "التنمية الفكريّة العربيّة" (Arabian Intellectual Development). ومن ثمّ والتقى بجورج سارتون الّذي كان من كبار المفكّرين في مجال تاريخ العلوم، وقد تأثّر كثيراً بسارتون وطروحاته العلميّة، واستطاع أن يطوّر هذا الاهتمام، وأن يجسّده في أعماله، وفي تأسيسه الأوّل لعلم الاجتماع العلميّ.

وقد توزّعت أعمال ميرتون ما بين مقالات وأبحاث ودراسات وأوراق وأعمال علميّة وكتب، ويمكن الإشارة إلى بعضها، ومنها بحثه الموسوم :"العواقب غير المتوقّعة للعمل الاجتماعيّ الهادف"(The Unanticipated Consequences of Purposive Social Action) (1936)، و "نبوءة تحقيق الذات" (The Self-Fulfilling Prophecy) (1948) ([12])، "البنية الاجتماعيّة والشذوذ" (Social Structure and Anomie) ( 1938) (([13]))، و"المقيمون والغرباء" (Insiders and Outsiders) (1972)، و "الأولويّات في الاكتشاف العلميّ: فصل في علم اجتماع العلوم" (Priorities in Scientific Discovery: A Chapter in the Sociology of Science) (1957).

ومن أهمّ كتب ميرتون يشار إلى كتابه "النظريّة الاجتماعيّة والبنية الاجتماعيّة" (Social Theory and Social Structure) (1949؛ 1957) ([14]) و1968 طبعة موسّعة) ([15])، المشكلات الاجتماعيّة المعاصرة (مع روبرت نيسبت- Robert Nisbet)) (Contemporary Social Problems) (1961)، وعلم اجتماع العلوم: التحقيقات النظريّة والتجريبيّة (The Sociology of Science: Theoretical and Empirical Investigations) (1973)،

ومن ثمّ كتابه "البنية المعياريّة للعلم" (The Normative Structure of Science) ( ([16]) 1979. ويذكر في هذا السياق أنّ ميرتون نشر خلال حياته المهنيّة، نشر ميرتون حوالي 50 ورقة بحثيّة في علم اجتماع العلوم ([17]). ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى كتابه الأخير الّذي شارك في تأليفه مع إلينور باربر "رحلات ومغامرات الصدفة" (Travels and Adventures of Serendipity) (2003).

وكان ميرتون محبّاً للّغة، وقد شرع في أبحاث له حول أصول الكلمات والمعاني في اللغة، وقام بدراستها من منظور تاريخيّ واجتماعيّ، وانتهت مساعيه في هذا المجال إلى تأليف كتابه المتخصّص في هذا المجال الموسوم "على أكتاف العمالقة: حاشية شاندانيّة" ([18]) (On the Shoulders of Giants: a Shandean Postscript) ([19]).

بصرف النظر عن تعليمه، كان ميرتون باحثاً ومحرّراً متميّزاً، بالإضافة إلى عمله في هيئات تحرير مختلفة للمنشورات العلميّة، مثل موسوعة بريتانيكا الدوليّة، قام أيضاً بتحرير أعداد كبيرة من المخطوطات، وتقدّر الإحصائيّات أنه نشر أكثر من 175 بحثاً ومقالة، وألف قرابة 30 كتاباً، بالإضافة إلى العديد من مراجعات الكتب والمخطوطات والمصنّفات.

في إطار النشاط العلمي في مكتب البحوث العلمية، قام ميرتون ولازارسفيلد بتدريب عشرات الطلاب والزملاء في مجال البحث الاجتماعي، وأنتجوا دراسات اجتماعية متنوعة حول وسائل الإعلام، والاتصال الجماهيري، والأعراق، والمهن. نشر ميرتون عديد الكتب المتعلقة بهذه القضايا ومنها: الإقناع الجماعي (Mass Persuasion) (1946)، والقارئ في البيروقراطية (Reader in Bureaucracy) (1952)، والطالب الطبيب (The Student- Physician) (1957)، وأنماط الحياة الاجتماعية: الاستكشافات في علم اجتماع الإسكان (Patterns in Social Life: Explorations in the Sociology of Housing) (1951)، والمقابلة المركزة. (The Focused Interview) (1956).

2-4- تقديراته

يعدّ ميرتون من أكثر العلماء حظوة وتقديراً في زمنه وعصره، وقد حصد خلال مسيرته العلميّة عدداً هائلاً من الجوائز والتقديرات والأوسمة العلميّة والتسميات الفخريّة لم يسبق لأيّ عالم في مجال العلوم الإنسانيّة أن حظي بمثلها، حتّى أنّه يصعب على المتتبّع حصر هذه الجوائز والتشريفات والتقديرات الّتي منحت له خلال مسيرته الأكاديميّة. نال ميرتون الميداليّة الوطنيّة للعلوم في عام 1994، وهو أعلى وسام يمنح للمفكّرين والعلماء في أمريكا، وكان ميرتون أوّل عالم اجتماع يحظى بهذا التكريم تقديراً لجهوده في علم اجتماع العلوم. وقد توّجته أكثر من 20 جامعة بدرجات الدكتوراه الفخريّة بما فيها هارفارد وييل وكولومبي.

انعكست اهتمامات ميرتون العديدة أيضاً في ارتباطه بالعديد من اللجان واللجان والمجالس. كان ميرتون عضواً مساعداً في هيئة التدريس بجامعة روكفلر وباحثاً مقيماً وعالماً في مؤسّسة Russell Sage Foundation. شغل منصب أستاذ كري جورج سارتون لتاريخ العلوم في جامعة غينت في بلجيكا من 1986-1987، ورئيساً للعديد من الجمعيّات المهنيّة، بما في ذلك الجمعيّة الأمريكيّة لعلم الاجتماع، ورابطة البحوث الاجتماعيّة، والجمعيّة الشرقيّة لعلم الاجتماع، وجمعيّة المجتمع الاجتماعيّ، وجمعية دراسات العلوم. .

حصل ميرتون على مدار حياته المهنيّة على تسع وعشرين درجة فخريّة من جامعات حول العالم، وعضويّة في جمعيّات فخريّة، وجوائز، ومحاضرات، ووصايا. تشمل أبرز الجوائز الّتي حصل عليها عضويّة الأكاديميّة الوطنيّة للعلوم، والجمعيّة الفلسفيّة الأمريكيّة، والأكاديميّة السويديّة للعلوم، والأكاديميّة البريطانيّة، والأكاديميّة الأوروبّيّة. ومنحته أكثر من عشرين جامعة درجات فخريّة، منها: هارفارد، وييل، وكولومبيا، وجامعة شيكاغو في الولايات المتّحدة. وفي الخارج، جامعات ليدن وويلز وأوسلو وكراكوف وأكسفورد([20]).

في عام 1994، أصبح ميرتون أوّل عالم اجتماع يحصل على وسام الولايات المتّحدة الوطنيّ للعلوم، "لتأسيسه علم اجتماع العلوم وإسهاماته الرائدة في دراسة الحياة الاجتماعيّة وقضاياها في الولايات المتحدة الأمريكية ([21]). كما كان قد حصل أيضاً على زمالة مؤسّسة غوغنهايم (Guggenheim Fellowship) في عام 1962، وزمالة جائزة ماك آرثر (MacArthur Award) في 1983-1988، وجائزة الرابطة الأمريكيّة لعلم الاجتماع (American Sociological Association) تقديرا للبحوث العلمية التي قدمها في المجتمع الأمريكي في عام 1979. ويرى كثير من النقّاد أنّه لو كانت هناك جائزة نوبل في علم الاجتماع، لكان ميرتون بالتأكيد هو من سيحصل عليها ([22]).

وباختصار حظي ميرتون بتكريمات يصعب حصرها كما أشرنا في هذه الدراسة، وكانت ختامها تأسيس جائزة روبرت ك. ميرتون (Merton Award) لأفضل ورقة بحثيّة في علم الاجتماع التحليليّ سنويّاً من قبل الشبكة الدوليّة لعلم الاجتماع التحليليّ منذ عام 2013.

ويمكننا القول بأنّ إنّ جوائز ميرتون العلميّة والتكريمات العلميّة الكثيرة تعدّ مؤشّراً يعبّر عن إنجازاته العلميّة الكبرى وأهمّيّته الفكريّة في مجال السوسيولوجيا والعلوم الإنسانيّة.

3- الوظيفية في المنظور النقدي لميرتون:

تعرّضت النظرية الوظيفيّة الكلاسيكية إلى موجات من الانتقادات العنيفة المضادّة لمنهجها المثالي النظري من جهة وشطحاتها الأيديولوجيّة المحافظة الّتي وظّفت في خدمة النظام الرأسماليّ من جهة أخرى. وعلى خلاف الوظيفين حاول ميرتون أن يربأ عن نفسه هذه التهمة بإعلانه الدائم إنّه ليس لديه أيّ التزام بأيّ موقف أيديولوجيّ، وأراد – كما يزعم - أن يخرج من العباءة الأيديولوجيّة للمدرسة الوظيفيّة ([1]). وقد بيّن ميرتون في تحليله النقدي بأنّ الموقف الأيديولوجيّ يتحدّد بالطريقة الّتي يعالج فيها المفكّرون الوظيفيّون الظواهر الاجتماعيّة، ويرى في هذا السياق أنّ الباحثين عندما يركّزون على النتائج الوظيفيّة الإيجابيّة، فإنّ ذلك يدفعهم إلى مستنقع التحيّز الأيديولوجيّ المحافظ، وعلى خلاف ذلك عندما يتمّ التركيز على مظاهر الاختلال الوظيفيّ، فإنّ ذلك يؤدّي إلى مواقف راديكاليّة متطرّفة؛ لأنّ هذا التركيز يتضمّن نقداً شديداً لمختلف المؤسّسات القائمة في المجتمع. ووجد أنّه يجب على الباحث أن يتوخّى الحذر، وأن يأخذ بطرفي التحليل، وأن يبحث بشكل منهجي في مظاهر التوازن والخلل الوظيفيّ كي ينجو من مغبّة التطرّف الأيديولوجيّ.

وعلى خلاف الوظيفين الجدد والقدامى زعم ميرتون أنّه تنحّى عن النزوع الأيديولوجيّ في الدفاع عن الوظيفيّة، واتّخذ منهج النقد الذاتيّ القائم على أسس علميّة وإمبيربقيّة بعيداً عن سلبيّات الأيديولوجيا القاتلة. وعلى أسا هذه المنهجيّة اعترف ميرتون بضعف النظريّة الوظيفيّة عموماً وتهالك النظريّة البارسونزيّة (نسبة إلى بارسونز) على وجه الخصوص. وقد أراد أن يعالج النقص في النظريّة، ويعالج عوامل ضعفها وقصورها، ويعمل على تصليب ركائزها والنهوض بها من جديد كقوّة فكريّة متجدّدة قادرة على تحليل المجتمع وفهم قضاياها.

وشكل النقد منطلق ميرتون في التأسيس للوظيفيّة الجديدة وتأصيلها وهو المنهج الّذي اعتمده في مجال إعادة النظر في البنية النظريّة المتهالكة للوظيفيّة الّتي سقطت تحت مطارق النقد الهائلة لوظيفيّة بارسونز المصابة بمقتل التجريد المفرط الّذي أفقدها توازنها وموضوعيّتها المزعومة. لم ينجرف ميرتون كغيره من الوظيفين إلى الدفاع الأيديولوجيّ بشكل صريح عن وظيفيّة كانت تحلّق بجناح نظريّ واحد أفقدها اتّزانها وتوازنها.

وينطلق ميرتون في نقده للوظيفيّة الكلاسيكيّة ينطلق من محورين اثنين:

 يتمثّل الأوّل في نقده للطابع النظريّ الشموليّ المطلق الّذي اعتمدته الوظيفيّة ولاسيّما وظيفيّة بارسونز الّتي كانت تعبر عن الواقع بصورة خلبيّة ضبابيّة، وانطلاقاً من هذه الرؤية النقديّة أراد أن يثبّت أركان الوظيفيّة الجديدة على أسس أمبيريقيّة، دون أن يقلّل من قيمتها النظرية التجريديّة، فأطلق نظريّته المعروفة بنظريّة "المدى المتوسّط" الّتي تجمع بين طرفي المعادلة السوسيولوجية المتمثلة في التجريد النظريّ من جهة والرصانة الأمبيريقيّة الميدانيّة الواقعيّة من جهة أخرى، وقد أراد للوظيفيّة الجديدة أن تحلّق هذه المرّة بجناحي النظريّة والواقع لتحقّق توازنها ورصانتها.

ويأخذ المحور الثاني نقده الشديد للمسلّمات الثلاثيّة المتمثّلة في ثلاثية: العالميّة، والوحدة، والضرورة، وهي المسلّمات الأساسيّة الّتي أفقدت الوظيفيّة كثيراً من توازنها المنهجيّ وقدرتها على مواجهة النقد الشديد الّذي أسقطها أكثر من مرّة في تاريخ النظريّة.

ومن الطبيعيّ أنّ ميرتون لم يكتف بالنقد، بل أسّس لمنهجيّة متكاملة في تشكيل وظيفيّة جديدة قادرة على الاستمرار في الوجود ومقارعة الخطوب بروح علميّة جديدة توخّاها في نقده؛ ومن ثمّ في تأسيسه للنظريّة على أرض صلبة قويّة علميّاً وأمبيريقيا ونظريّاً.

3-1- نقد المسلمات الوظيفية:

في سياق نقده لكلاسيكيّات النظريّة الوظيفيّة رفض ميرتون المسلّمات الوظيفيّة الكبرى، ووضع رؤية نقديّة لهذه المسلّمات كاشفاً عن ضعفها وقصورها، وكان يعتقد أنّ عدم قدرة الوظيفيّة على الصمود في وجه الانتقادات الهائلة الّتي تعرّضت لها ناجم عن ضعف هذه المسلّمات وقصورها. وقد وجد أنّه لا بدّ للوظيفيّة إذا ما أرادت أن تحقّق حضورها المظفّر أن تحرّر نفسها من ربقة هذه المسلّمات الخاطئة، وأن تحقن نفسها بجرعات عالية من العقلانيّة المنطقيّة الّتي يمكنها أن تطلقها خارج مداراتها الأيديولوجيّة الصريحة المباشرة. وبناء عليه وجد ميرتون نفسه في خضمّ الممارسة النقديّة يوجّه ميرتون نقداً منظّماً وشاملاً لفرضيّات الوظيفيّة الكلاسيكيّة، ويقدّم رؤية جديدة مختلف تدحّض المسلّمات التقليديّة الأساسيّة الثلاثة، وهي: الوحدة (Unity)، الشموليّة (Universalism)، والضرورة (Indispensability).

3-1-1- مسلّمة الوحدة الوظيفية:

تشكّل الوحدة الوظيفيّة (Functional unity) إحدى المسلّمات المركزيّة في النظرية الوظيفيّة، وتعني الوحدة الوظيفية أنّ المجتمع يشكّل كتلة واحدة متكاملة ومترابطة وظيفيّاً، وتفيد هذه المسلمة أيضاً بأنّ لكلّ كيان أو نسق اجتماعيّ وظيفيّة واحدة تؤدّيها في المجتمع ضمن شبكة الأنساق الوظيفيّة الكلّيّة للمجتمع. وهذا يعني وفقاً لهذه المسلمة أنّ الوظيفة الاجتماعيّة الّتي يقوم بها أيّ نسق اجتماعيّ هي وظيفة واحدة لا تغاير فيها، وأنّ جميع أجزاء النظام الاجتماعيّ تعمل معاً بصورة كافية من الانسجام أو الاتّساق الداخليّ بطريقة يؤدّي فيها كلّ تكوين اجتماعيّ وظيفة واحدة ضروريّة للمجتمع في تحقيق وحدته وتكامله.

وقد استنكر ميرتون بشدّة هذه المسلمة الّتي يأخذ بها روّاد الوظيفيّة على اختلاف مشاربهم، وقد وجد أنه ربّما قد تكون هذه المسلمة صالحة في مجتمعات بدائية بسيطة. ولكنها لا يمكن أن تكون صحيحة في مجتمعات متطورة معقدة التكوين، وعلى هذا الأساس ينطلق ميرتون في نقده للوحدة الوظيفيّة مشكّكاً في الوقت ذاته بمفهوم "التكامل الاجتماعيّ " الذي يشكل غاية الوحدة الوظيفية ومبررها الأساسي وذلك لأن الوحدة الوظيفية هدفها تحقيق التكامل الاجتماعي وكذلك فإن التكامل الاجتماعي يقتضي الوحدة الوظيفية وينشدها، وفي إطار التشكيك في هذين المفهومين يرى ميرتون أن بعض المجتمعات الإنسانيّة لا تتّسم بالتكامل الوظيفيّ وتكثر فيها مظاهر التعدد الوظيفي.

يرفض ميرتون الفكرة الوظيفيّة الكلاسيكيّة الحيويّة الّتي تقول: إنّ لكلّ تكوين اجتماعيّ أو مؤسّسة اجتماعيّة دوراً اجتماعيّاً محدّداً كما يحدث في الجسد الحيّ. فعلى سبيل المثال يرى الوظيفيّون أنّ للعائلة وظيفة واحدة أساسيّة هي الإنجاب والتنشئة الاجتماعيّة، وأنّ الدولة تضطلع بوظيفة واحدة هي المحافظة على النظام، وأنّ النظام التربويّ يقوم بوظيفة واحدة تتمثّل في إعداد الناشئة للحياة، وأنّ وظيفة الجيش هي الدفاع عن المجتمع....إلخ ([23]). ويؤكّد ميرتون رفضه هذه الأحاديّة الوظيفيّة، وعلى خلاف ذلك يرى بأنّ التكوينات الاجتماعيّة تؤدّي عدّة وظائف قد يكون بعضها معلناً مقصوداً وبعضها الآخر مضمراً كامناً غير مقصود.

وفي مطارحاته النقديّة لهذه المسألة، يرى ميرتون أنّ الأعراف أو المعتقدات والتقاليد الاجتماعيّة قد تكون وظيفيّة في بعض الحالات، وقد تكون غير وظيفيّة في بعض الحالات الأخرى في المجتمع ما. ويمكن أن نأخذ على سبيل المثال وليس الحصر: التعصّب الدينيّ الّذي ينشره الأصوليّون المتطرّفون، فهل يمكن القول بأنّ الدور الّذي يؤدّيه الأصوليّون وظيفة تكامليّة في المجتمع؟ هل يمكن القول أنّ للحروب الأهليّة وظيفة تحقيق التجانس والتكامل في المجتمع؟ ([24]).

 لقد بيّن دوركهايم سابقاً أنّ الدين يؤدّي دوراً تكامليّاً تضامنيّاً في المجتمعات الأوّليّة البسيطة، لكن من المرجّح أن يكون للدين دور سلبيّ في مجتمع معقّد متعدّد الأعراق والأديان والثقافات، وفي مثالنا هذا فإنّ الأصوليّة الدينية تؤدّي دوراً تفكيكيّاً في المجتمع إذ تمارس فعلاً مدمّراً للمجتمع في وحدته وتنوّعه وتكامله؛ لأنّ ما يراه الأصوليّون على أنّه ضرورة يشكّل خطراً على وحدة المجتمع بتكويناته المختلفة. ومن هذا المنطلق يرى ميرتون إنّ افتراض الوحدة الوظيفيّة لا معنى له في عالم معقّد، فالدين، على سبيل المثال، قد يؤدّي أدواراً متنافرة متعدّدة مختلفة بين مجتمع وآخر، وقد يؤدّي دوراً تفكيكاً ضدّ الوحدة الوظيفيّة المجتمع في آن واحد. فرجال الدين مثلاً يرون بأنّ الدين وسيلة للخلاص الإنسانيّ، ولكنّ الماركسيّين يرون بأنّ وظيفة الدين تقوم على تخدير الناس وجعلهم يعتمدون على القدرية ويرفضون مفهوم المسؤولية الإنسانية. وهذا يعني أنّ ما هو وظيفيّ في جانب واحد بالنسبة للبعض، قد يكون غير وظيفيّ وسلبيّ في جانب آخر بالنسبة للآخرين. قد يكون استغلال العمالة مفيداً للرأسماليّ من حيث زيادة الأرباح ولكنّه غير فعّال من حيث الإنتاجيّة أو التسبّب في اضطرابات العمّال.

ومن هنا يجب على الوظيفيّين -كما يرى ميرتون- أن يقوموا بتحديد معنى الوحدة الوظيفيّة الّتي يعمل فيها العنصر الاجتماعيّ أو الثقافيّ، وألّا يأخذوها على أنّها واحدة بالمطلق في المجتمعات كلّها، كأن نقول: إنّ وظيفة الدين الوحيدة هي تحقيق التضامن الاجتماعيّ كما هو الحال في مثالنا عن الدين الوظيفيّ عند دوركهايم. ويستخلص ميرتون من ذلك كلّه أنّ للنسق الاجتماعيّ الواحد وظائف مختلفة باختلاف الظروف والأحوال والمجتمعات.

وتأسيسا على هذه الرؤية الجديدة يتناول ميرتون الوظيفيّة في سياق التغير الزمني المكاني ضمن أطر تجريبية تاريخية تخضع لمنطلق التغير التاريخي والتنوع الاجتماعي. وهو ينطلق في هذا السياق من الواقع التجريبيّ الأمبيريقي في تحليل الواقع الاجتماعيّ ودراسته.

 وفي ضوء هذه الرؤية النقديّة يلفت ميرتون انتباهنا إلى إخفاق النظريّات الوظيفيّة لرادكليف براون ومالينوفسكي ودوركهايم وبارسونز الّتي تمّت صياغتها للتعامل مع مجتمعات أوّليّة بسيطة معزولة ومختلفة تماماً عن المجتمعات المعاصرة الّتي تتميّز بطابع العمق والشمول والمرونة والتعقيد. ويضرب ميرتون كما نوّهنا منذ قليل مثالاً يتعلّق بوظيفة الدين في المجتمعات القبليّة البسيطة، ولكنّ هذه الوظيفة لم تعد تنسج إلى حدّ كبير مع التعقيد الهائل في بنية المجتمعات الحديثة الّتي تتكوّن من عدّة أديان وعقائد سماويّة أو وضعيّة أو سياسيّة، وهي عقائد متناقضة تتنافس فيما بينها وتتضارب غاياتها ومبادئها في مختلف المستويات، وهذا يعني أن الدين قد يمارس دورا تدميريا تفكيكا في المجتمع على خلاف الدور الوظيفي المتوقع له في تحقيق التضامن الاجتماعي وفق مفهوم الوحدة الوظيفية. وعلى هذا النحو قد يمارس الدين أدورا عديدة متناقضة وقد يكون بعضها مضادا للمجتمع وظيفيا..

فالمؤسّسات والتنظيمات الاجتماعيّة كما يرى ميرتون ليست عصيّة على التغيّر والتبدّل، فالتغيّر يعتريها والتبدل يفعل فيها، ويمكن للمجتمع في الوقت نفسه أن يقوم باستبدالها وتغييرها بغيرها من المؤسّسات الاجتماعيّة الجديدة، ويقرّ في هذا السياق بإمكانيّة ولادة مؤسّسات جديدة تقوم بوظائف جديدة ومتجدّدة في المجتمع على نحو بنائيّ ووظيفيّ. وهو يلمح في هذا السياق إلى وجود بعض المؤسّسات التقليديّة الّتي لا يمكنها أن تصمد وظيفيّاً؛ لأنها تعاني من الضعف وهي غير قادرة على مجاراة التطوّرات الاجتماعيّة الضروريّة في المجتمع، وقد وجب تغييرها واستبدالها. وقد نبّه إلى إمكانيّة أن تقوم المؤسّسة الاجتماعيّة الواحدة بعدد من الوظائف المتنوّعة، وبيّن أيضاً أنّ كلّ وظيفة يمكنها أن تتجلّى في صيغ متعدّدة أي يمكن للوظيفة الواحدة نفسها أن تتجلّى في صيغ وأشكال متنوّعة.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ مسلمة "الوحدة الوظيفيّة" تنطوي على فرضيّة مفادها أنّ التغيير في أيّ تكوين من تكوينات النظام سيؤدّي إلى تغييرات في جميع التكوينات الأخرى للنظام. ومرّة أخرى يردّ ميرتون نقديّاً على هذه الفرضيّة، إذ يرى بأنّ التكوينات والبنى الاجتماعيّة المجتمعات المعقّدة تتمتّع بدرجة عالية من الاستقلال الوظيفيّ، ويبنى على ذلك أنّ التغيير في وظائف هذه التكوينات لا يؤثّر في البنية العامّة للمجتمع، وبالمقابل فإنّ التغيير في المجتمع لن يترك أيّ أثر في بنية هذه التكوينات ووظائفها.

ونخلص في هذا السياق إلى أن ميرتون يؤكّد أنّ وظائف المؤسّسات الاجتماعيّة في المجتمعات المعقّدة لا تعمل دائماً من أجل تحقيق الوحدة الوظيفيّة للمجتمع، فبعض منها يؤدّي وظائف أخرى مضادة للمجتمع ووحدته الاجتماعيّة، وقد يكون بعضها معطّلاً بشكل عامّ. ويطرح ميرتون في هذا المسار نسقاً جديداً من المفاهيم حول القوّة والإكراه والعزيمة والضبط الّتي تتحرّك في مجال الأداء الوظيفيّ للمجتمع، ويعمل في الوقت ذاته على معاينة بؤر التوتّر الّتي قد تؤدّي إلى الصراع الاجتماعيّ.

3-1-2- نقد مسلمة العالميّة أو الكونية:

تقوم هذه المسلمة الوظيفيّة على أنّ التكوينات الاجتماعيّة في المجتمع تؤدّي وظائف إيجابيّة حتمية ضرورية في المجتمعات الإنسانية أيا كانت. ويأخذ ميرتون على مالينوفسكي تأكيده المبالغ فيه بأن الأعراف والتقاليد والكيانات الاجتماعيّة القائمة في أيّ مجتمع تؤدّي وظائف حيويّة وإيجابيّة في المجتمعات الإنسانية على تنوعها، وهذا يعني أنّ جميع التكوينات الاجتماعيّة والثقافيّة القائمة في المجتمع تؤدّي وظائف إيجابيّة.

والأسئلة التي يطرحها ميرتون في هذا السياق كثيرة، منها: هنا لماذا يجب أن يكون لكل عنصر اجتماعي وظيفة محدده وإيجابية في الآن الواحد؟ ومن ثم ما المعيار الذي يتم اعتماده في تقرير الطابع الإيجابي لوظيفة عنصر اجتماعي ما؟ ولما يتم التعميم الشمولي الكوني الذي بموجبه يكون لكل عنصر اجتماعي وظيفة إيجابية تعم المجتمعات الإنسانية في كل مكان وزمان؟ وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤلات يرى ميرتون أنّ فكرة الكونيّة أو العالمية تتناقض مع ما نجده في العالم الحقيقيّ من الواضح أنّه ليس لكلّ بناء، أو عادة، أو فكرة، أو قناعة وظائف إيجابيّة ([25]). ومن الطبيعيّ أن يقوم ميرتون بدحض هذه المسلمة ورفضها كلّيّاً، إذ يرى أنّ بعض التكوينات الاجتماعيّة تمارس وظائف سلبيّة مضادّة للمجتمع، واعتمد في هذا الأمر على مفاهيم جديدة مثل: الوظائف الكامنة والظاهرة، و"الانحرافات الوظيفيّة" أو "الخلل الوظيفيّ".

 وتأسيسا على هذه المفاهيم يرى ميرتون أنّ وظائف المؤسّسات الاجتماعيّة تختلف بين مجتمع وآخر، فوظيفة الدين قد تكون وظيفة تضامنيّة في بعض المجتمعات، ولكنّها وعلى النقيض من ذلك قد تؤدّي وظيفة تدميريّة تفكيكيّة في بعض المجتمعات الأخرى. وهذا هو حال الثقافة إذ قد تمارس دوراً ديمقراطيّاً في مجتمع ما، ودوراً استلابيّاً ديكتاتوريّاً في مجتمع آخر. وقد يكون هناك خلل وظيفيّ أيضاً في بعض التكوينات الاجتماعيّة أو في بعض الممارسات الثقافيّة الّتي قد تؤدي إلى ممارسة دور سلبيّ المجتمع يتناقض مع الصورة الإيجابيّة الّتي يقدّمها مالينوفسكي ودوركهايم وغيرهم من روّاد الوظيفيّة.

ومن أجل تمكين الباحثين من القدرة على تحديد ما إذا كانت الظاهرة وظيفيّة بالمعنى الإيجابيّ أو غير وظيفيّة بالمعنى السلبيّ، طور ميرتون مفهوم الرصيد الصافي (Net balance) وهو المعيار السوسيولوجيّ لتحديد ما إذا كانت الوظائف الإيجابيّة تفوق الاختلالات الوظيفيّة. ونظراً لأنّ القضايا معقّدة، وتستند إلى الكثير من الأحكام الذاتيّة، فلا يمكن حسابها ووزنها بسهولة. لذلك، لا يمكن ببساطة تحديد الطابع الوظيفيّ للظاهرة المدروسة.

وقد يحدث أن يكون الرصيد الصافي للنتائج الوظيفيّة سلبيّاً وليس إيجابيّاً، أي بمعنى أن يكون تأثيرها سلبيّاً في المجتمع أكثر من دورها الإيجابيّ، وهذا كلّ يبطل مصداقيّة المسلمة الوظيفيّة العالميّة عند روّاد الوظيفيّة. وانطلاقاً من هذه الرؤية حول التكامل الوظيفيّ يلحّ ميرتون على أهمّيّة استكشاف التوازن الصافي للنتائج الوظيفيّة الإيجابيّة منها والسلبيّة الّتي يؤدّيها عنصر ما ثقافيّ أو اجتماعيّ في المجتمع. وباختصار، يفنّد ميرتون مسلمة الوظيفيّة العالميّة الّتي تفيد بأنّ جميع الأشكال الاجتماعيّة أو الثقافيّة لها وظائف إيجابيّة دائماً. وكما هو واضح آنفاً، فإنّ ميرتون يدحض هذه المسلمة، ويقرّ على نحو نقديّ أنّ التكوينات الاجتماعيّة أو الثقافيّة قد يكون لها وظائف سلبيّة، ويصنّف الجوانب السلبيّة للتكوينات الاجتماعيّة تحت تسمية "الاختلالات الوظيفيّة" أو الانحرافات الوظيفيّة.

وباختصار يرفض ميرتون نظريّة العالميّة الوظيفيّة، ويرى بأنّها تتناقض مع ما نراه في العالم الحقيقيّ؛ إذ ليس لكلّ بنّيّة أو فكرة أو معتقد وما إلى ذلك وظائف إيجابيّة، وقد يكون لها عواقب سلبيّة غير وظيفيّة أو إيجابيّة بشكل عامّ، وقد تكون معطّلة في كثير من الحالات أو إيجابيّة بالنسبة لفريق وسلبيّة بالنسبة لفريق آخر. على سبيل المثال: فقر الفقراء إيجابيّ بالنسبة للأغنياء؛ لأنّ فقرهم يشكّل مصدر ثرائهم، ولكنّ الفقر قاتل للفقراء الّذين يكافحون من أجل العيش في الحدود الدنيا من الكفاف. ويبدو أنّ ميرتون يقترب هنا من نظريّة الصراع، على الرغم من أنّه يعتقد أنّ المؤسّسات والقيّم يجب أن تكون وظيفيّة للمجتمع ككلّ.

3-1-3-مسلّمة الضرورة الوظيفيّة:

 تعني الضرورة الوظيفيّة بأنّه لا يمكن للمجتمع أن يستغني عن أيّ من الوظائف الحيويّة الّتي يقوم بها أيّ نسق اجتماعيّ في داخله، لأنّ الوظائف الّتي تؤدّيها التكوينات الاجتماعيّة حيويّة لا يمكن للمجتمع أن يستمرّ في الوجود من غيرها، وهذا الأمر الوظيفيّ يشمل المؤسّسات الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة وغيرها من التكوينات الاجتماعيّة الفرعيّة في المجتمع. ويمكننا التعبير عن هذه المسلمة بصيغة أخرى تفيد بأنّ الوظائف الّتي تؤدّيها المؤسّسات الاجتماعيّة القائمة في المجتمع ضروريّة جميعها، وأنّه لا غنى عنها أبداً ولا بديل لها من أجل حياة المجتمع ووحدته ([26]).

يرفض ميرتون هذه المسلمة بكلّ ما تنطوي عليه من تعميم وشموليّة، ويخضع هذه المقولة للنقد العلميّ الصارم، إذ يرى أنّ بعض الوظائف الاجتماعيّة ليس ضروريّة في المجتمع، إذ يمكن للمجتمع أن يستبدلها وأن يستغني عنها في بعض الحالات. ويضرب لنا مثال النظام التعلّيميّ الّذي يفترض به وفق هذه المسلمة أن يؤدّي وظيفة لا غنى عنها في المجتمع ويبنى على ذلك أنّه من غير التعليم لا يمكن لأيّ مجتمع أن يحافظ على وحدته ووجوده، لأنّه من غير التعليم لا يمكن للمجتمع أن ينتج المعرفة والحكمة، ويزوّد نفسه بالمهارات والخبرات والموظّفين المدرّبين.

يخضع ميرتون فرضيّة التعليم هذه للنقد، إذ يتساءل عن نوع التعليم الّذي يؤدّي هذه الوظيفة، ويبحث في سبل تحقيقها بوصفها وظيفة ضروريّة لا غنى عنها. وفي هذا السياق يستعرض ميرتون أنظمة التعليم القائمة في كثير من بلدان العالم، ويرى بأنّ الأنظمة التعليميّة في معظم البلدان تأخذ مساراً استبداديّاً استلابيّاً يفتقر إلى المبادأة والعقلانيّة، والمتعلّمون في ظلّ هذه الأنظمة الاستبداديّة يعيشون وضعيّة اغترابيّة استلابيّة، إذ يقوم المعلّم بنقل التقنيّات والمعلومات والمهارات إلى ذاكرة الطالب، دون أن يخاطب عقله، أو يستلهم ذكاءه. وهذا يتناقض مع التوجّهات الإيجابيّة في المجتمع، فالتعليم هنا يتناقض مع العمق الإنسانيّ والأخلاقيّ للمجتمع، إذ يقوم بوظيفيّة تدميريّة سلبيّة اغترابيّة على عكس المأمول منها. وقد يجادل الوظيفيّون مؤيّدو مثل هذا النظام بأنّه نظام ضروريّ لا غنى عنه؛ لأنّه يؤدّي إلى ضبط سلوك الطلّاب وإخضاعهم لمعايير المجتمع وقوانينه. ولكنّ ميرتون يعلن إنّه مع أهمّيّة هذا الدور الوظيفيّ الاستلابيّ للتعليم، يمكن الحديث عن نوع آخر من التعليم الديمقراطيّ الّذي يمكنه أن يكون بديلاً مثمراً وفعّالاً ومنتجاً وتقدّميّاً في المجتمع.

ويلفت ميرتون النظر إلى الأهمّيّة الكبيرة الّتي قدّمها باولو فريري (Paulo Freire) في كتابه "بيداغوجيا المضطهدين" (Pedagogy of the Oppressed) الّذي طرح صيغة أخرى من التعليم الحواريّ الحرّ الّذي يؤكّد على تحرير الطالب من كلّ أشكال التعنّت والاستلاب، وهو تعليم يكون فيه الطالب محوراً للعمليّة التربويّة يشارك في الفعل التربويّ، ويتدخّل في عمليّة التعلّم بدلاً من أن يظلّ متلقّياً سلبيّاً؛ وعلى هذا المنهج يكون التعليم أكثر إبداعاً وأنسنة. ويستفاد من هذا المثال بأنّ التعليم ضرورة وظيفيّة ومع ذلك، فإنّ هناك طرقاً مختلفة لتحقيقه، ويبنى على ذلك أنّه لا توجد صيغة وظيفيّة واحدة لأيّ نسق اجتماعيّ أو كيان ثقافيّ في المجتمع، إذ يمكن أداء الوظيفة بطريق مختلف ومتنوّعة كما يمكن الاستغناء عن نمط وظيفيّ واستبداله بنمط وظيفيّ آخر.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى الحركة الفكريّة التربويّة المعروفة باسم "النزعة اللامدرسيّة" الّتي تدعو إلى إلغاء المدارس والأنظمة التعليميّة القائمة بوصفها مؤسّسات برجوازيّة تقوم على خدمة الطبقات الرأسماليّة، وتهميش أبناء العمّال والفقراء في المجتمع. ويتصدّر إيفان إليتش (Ivan Illich) هذه النزعة في كتابه المشهور " مجتمع بلا مدرسة " (Une Société sans Ecole) الّذي يجادل فيه بأنّ وظيفة المدرسة وظيفة استلابيّة اغترابيّة تصبّ في مصالح الطبقات البرجوازيّة والرأسماليّة، ومن ثم فإنّ إلغاء المدرسة سيكون أمراً إيجابيّاً؛ لأنّ وظيفتها تصبّ في مصلحة الطبقة البرجوازيّة، وهي تعمل في المقابل على تدجين وترويض أبناء الطبقات العمّاليّة والفقيرة على الخضوع والاستسلام والشعور بالدونيّة.

ويبني ميرتون في سياق نقده للضرورة الوظيفيّة أنّه لا يوجد أيّ نظام مطلق الوجوب، وأنّه دائماً توجد إمكانيّة للاستغناء عن أيّ وظيفيّة أو مؤسّسة أو صيغة وظيفيّة ما لصالح صيغة أخرى. وللتعبير عن هذه الوضعيّة يستخدم ميرتون مفهوم البدائل الوظيفيّة (Functional Alternatives) الّذي يفيدنا بأنّه يمكن تحقيق وظيفة ما يقوم بها كيان اجتماعيّ ما بطرق مختلفة ووسائل متعدّدة ومؤسّسات مختلفة في ظلّ الظروف المتغيّرة؛ فعلى سبيل المثال عندما فرض التطوّر في المجتمعات الحديثة أن تخرج النساء إلى العمل خارج المنزل أحيلت وظيفة رعاية الأطفال إلى مؤسّسات تربويّ أخرى مثل دور الحضانة ورياض الأطفال ومراكز رعاية الأطفال.

وباختصار شديد، يرى ميرتون هو أنّ معظم المسلّمات الوظيفيّة تعتمد على تصوّرات مجرّدة، ولم تحظ بفرصة اختبارها تجريبيّاً، ولذا فإنّه يجب على علماء الاجتماع تحمّل مسؤوليّة فحص هذه الفرضيّات والمسلّمات تجريبيّاً، وقد وجد أنّ الحقل التجريبيّ هو الّذي سيحكم على مصداقيّة هذه المسلّمات أو زيفها، وقد شكّل هذا الأمر دافعه الأساسيّ لتأسيس النظريّات الوسطى الّتي تجمع بين النظريّة والتجربة، واعتمدها في التحليل الوظيفيّ كدليل للتكامل بين النظريّة والتطبيق ([27]).

ويمكننا أن نوجز رؤية ميرتون النقديّة للمسلّمات الوظيفيّة الكبرى بالقول: إنّ بعض التكوينات الاجتماعيّة تؤدّي وظائف قد تكون إيجابيّة بالنسبة لجماعات معيّنة وسلبيّة بالنسبة لجماعات أخرى، ويبنى على ذلك رفضاً لمسلمة الوحدة الوظيفيّة الّتي يقول بها الوظيفيّون الكلاسيكيّون. ويتبع أنّ بعض التكوينات تؤدّي وظائف متعدّدة، وعلاوة على ذلك أنّ الوظيفة الواحدة يمكن أن تؤدي بطريق مختلفة: فالوظيفة الأساسيّة للملابس تغطية الجسد وستره، ولكن يمكن للملابس بالإضافة إلى ذلك أن توظّف أمور أخرى مثل: تمييز الفرد وتحديد مكانته الاجتماعيّة، أو قد تكون لها وظيفة فنّيّة جماليّة كما هو الحال في الموضة والأزياء. وهذا يعني وجود تنوّع في الوظيفة الواحدة للشيء الواحد. ومن هذه الزاوية ينطلق ميرتون ليجترح لنا مفهوم البدائل الوظيفيّة الّذي سنتناوله بالتفصيل. وفوق ذلك كلّه يرى بارسونز أنّ بعض التكوينات تمارس وظائف غير ضروريّة – في معرض نقد الضرورة الوظيفيّة - وهناك الكثير من المؤسّسات والأشياء والظواهر الّتي فقدت ضرورة وجودها، وأصبحت أثراً بعد عين، ولم تعد وظائفها ضروريّة أو لا بدّ منها كما تقول مسلمة الثالثة المتعلّقة بالضرورة الوظيفيّة.

3-2 نقد وظيفية بارسونز:

يعد بارسونز وميرتون كلاهما مِن أَبْرَزِ عُلَماءِ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيِّينَ وقد تركا بَصْمَةً دائِمَةً عَلَى فَهْمِنا لِمَفاهِيمِ وَنَظَرِيّاتِ وَأَسالِيبِ عِلْمِ الاِجْتِماعِ. وقد أبدع كل منهما في تقديم تصورات سوسيولوجية جديدة ثاقِبَةً ومبتكرة في علم الاجتماع، ولا نكر أنهما ساهما بقوة كبيرة في تطوري علم الاِجْتِماعِ في أمريكا في بحور الخمسينيات والسبعينيات مِنْ القَرْنِ الماضِي، وقد شكلت إسهاماتهما تقدما كبيرا في نظريات عِلْمِ الاِجْتِماعِ، واستطاعا أن يؤكدا هيمنة التَقالِيدِ السوسيولوجية الأمريكية فِي أوروبا وفي َأَمْرِيكا اللاتِينِيَّةِ وفي َالدُوَلِ الآسْيَوِيَّةِ على حدّ سواء. عَلَى الرَغْمِ مِن أَنَّ بارسونز وَميرتون كانا مُعاصِرِينَ، وَيَشْتَرِكانِ فِي العَدِيدِ مِن الاِهْتِماماتِ المُشْتَرَكَةِ فِي عِلْمِ الاِجْتِماعِ، إِلّا أَنَّهُما اِنْجَذَبا إِلَى هٰذا التَخَصُّصِ مِن تَقالِيدَ وَخَلْفِيّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَضْلاً عَن ذٰلِكَ، كانَت أَسالِيبُهُما مُخْتَلِفَةً وَكَذٰلِكَ نِطاقَ اِهْتِماماتِهِما بِالمَشاكِلِ الاِجْتِماعِيَّةِ والقضايا َ الفكرية النَظَرِيَّةِ وكان لكل منهما وجهة نظر خاصة مختلفة حَوْلَ دَوْرِ عِلْمِ الاِجْتِماعِ وأهميته في النصف الثاني من القرن العشرين.

اطلع ميرتون بعمق على نظريّة بارسونز وتصوّراته الوظيفيّة، وعمل في الوقت نفسه على نقدها وتطويرها. وقد أخذ ميرتون على نظريّة بارسونز طابعها الإشكاليّ وصيغتها الشموليّة الّتي وصفها بأنّها شديدة العموميّة والاتّساع، ومن هذا المنطلق النقديّ عمل على تشكيل نظريّة متوسّطة المدى بدلاً من النظريّة الكبرى الّتي نجدها عند بارسونز. لم تكن المسافة بعيدة بين الرجلين بين بارسونز وميرتون، والفارق الزمنيّ لا يتعدّى ثماني سنوات عمريّة، وهي فترة زمنيّة تجعل من الرجلين أبناء جيل واحد لا معلّم فيها ولا تلميذ. ويضاف إلى ذلك أنّ بارسونز توفّي مبكّراً -في السابعة والسبعين من العمر- بالمقارنة مع ميرتون الّذي عاش 92 سنة أي بفارق خمسة عشر سنة. وغالباً ما يُشار من قبل الباحثين إلى ميرتون على أنه كان تلميذاً لبارسونز، وهذا الرأي غير صحيح على الإطلاق، إذ لم يقم بارسونز بتدريس ميرتون، ولقاؤه به لم يتعدّ كونه عضواً في مناقشة رسالة الدكتوراه، ومن مزايا ميرتون أنّه اطّلع على أعمال بارسونز، ووجّه لها النقد منذ البداية، والأفضل برأينا أن نأخذ بالفكرة الّتي تقول إنّ ميرتون لم يكن تلميذاً لبارسونز، بل كان نداً له وناقداً لنظريّته وأعماله.

على الرغم من النقد الكبير الّذي وجّهه ميرتون لنظريّة بارسونز، ومن التعديلات الجوهريّة الّتي أدخلها ميرتون في النظريّة الوظيفيّة، إلّا أنّه كان في حقيقة الأمر، وفي جوهره، مفكّراً وظيفيّاً ورائداً من روّاد الوظيفيّة، عمل على تعزيز مقولاتها وترسيخ مفاهيمها بلون جديد وروح منهجيّة مختلفة، وعلى الرغم من الرفض الظاهر للطابع الأيديولوجيّ، إلّا أنّه كان في الحقيقة يتّفق مع الوظيفيّين في توجّهاتهم الأيديولوجيّة ومقولاتهم البنائيّة ومسلّماتهم العضويّة، ومن الواضح في مختلف مسارات نظريّته أن كان يركّز على أهمّيّة البناء الاجتماعيّ وضرورة الثبات والتوازن وتحقيق التكامل بين العناصر البنيويّة للنظام الاجتماعيّ، وعلى الطريقة الدوركهايميّة كان يؤكّد على أهمّيّة القيم الاجتماعيّة الثقافيّة في تحقيق التوازن الاجتماعيّ، وقد أبدى حرصه أيضاً على أهمّيّة تحقيق التوازن الاجتماعيّ في مواجهة الاختلالات الوظيفيّة والانحرافات السلوكيّة ([28]).

وباختصار "ينتقد ميرتون نظريّة بارسونز، ويرى بأنّ أعماله " تمثّل جهداً غير ناضج لمحاولة تكوين نظريّة اجتماعيّة عامّة، ولكنّه لم يمسّ المسلمات الرئيسيّة الّتي ارتكزت عليها أعمال بارسونز أو غيره من الوظيفيّين، وذلك بسبب أنّه هو ذاته يسلّم بها تماماً، وبدلاً من ذلك ركّز جهده على نقد تفاصيل هذه الأعمال أو الفروض الجزئيّة الّتي تحتوي عليها" ([29]).

4- النظرية الوسطى:

يقول كانط في كتابه "نقد العقل الخالص ": الحدوس الحسّيّة بدون مفاهيم تكون عمياء، والتصوّرات العقليّة بدون حدوس حسّيّة تبقى جوفاء". ويقول عالم الفيزياء المعروف ريتشارد فاينمان" لا يمكن للنظريّة أن تكون مقنعة أبداً ما لم تتّفق مع التجربة فهي خاطئة. وعلى هذا المنهج نطلق ميرتون ليفنّد النظريّات الوظيفيّة المجرّدة داعياً إلى عقلنتها بالواقع والتجربة، وإلى تخصيبها بمعطيات الواقع الحيّ للوجود الاجتماعيّ.

ظهر ميرتون ظهر في الفترة الّتي كانت فيها السوسيولوجيا الأمريكيّة تقع تحت الهيمنة الكلّيّة لتيّارين كبيرين متناقضين: الاتّجاه الأمبيريقيّ الّذي يمثّله بول لازارسفلد، والاتّجاه النظريّ الّذي يمثّله تالكوت بارسونز، وقد ترتّب على ميرتون أن يحدث تحوّلاً كبيراً في علم الاجتماع، وأن يبدع نوعاً من التجديد يقوم على تحقيق التكامل الحيويّ بين الاتّجاهين الأمبيريقيّ الخالص والنظريّ الخالص، وقد أراد تأسيس هذه السوسيولوجيّة الّتي تقوم على ركيزتي النظريّة والتطبيق، وتجلّى هذا التجديد في تأصيله لما يسمّى بالنظريّات الوسطى الّتي تستجمع في ذاتها تخاصباً بين النظريّة والواقع. وقد عبّر عن هذا التوجّه الجديد في كتابه "عناصر النظريّة والمنهج السوسيولوجيّ"([30]). وفي هذا الكتاب يؤسس ميرتون منهجه السوسيولوجيّ الجديد ويطبقه على مجموعة من الظواهر الاجتماعيّة، مثل: الاختلالات الوظيفيّة، والتناقضات الطبقيّة، وسوسيولوجيا المعرفة، وقد وجد السياق أنّ أصحاب النزعة التجريبيّة (الأمبيريقيّون) يركزون اهتمامهم على الوقائع والمعطيات الميدانيّة دون غيرها، وفي المقابل يهتمّ أصحاب النزعة التجريديّة (المنظرون) بصياغة التعميمات النظريّة الكبرى دون الاهتمام بالواقع الأمبيريقي للظواهر الاجتماعية. ويتمثّل التناقض بين الاتّجاهين في أنّ " الأمبيريقيّون" يقولون عندما يجرون تجاربهم الميدانيّة "نعلم أنّ هذا صحيح، لكن نجهل فيما إذا كان له معنى ". بينما وعلى خلاف ذلك يقول المنظّرون عند صوغ نظريّاتهم "نعرف أنّ لذلك معنى، لكن نجهل فيما إذا كان صحيحاً" ([31]).. وهنا يأتي دور ميرتون ليقول بناء على نظريّاته الوسيطة الّتي تجمع بين النظريّة والتجربة: "إنّنا نعرف بأنّ هذا الأمر صحيح، وهو يحمل في ذاته المعنى"، وهذا القول يدلّ على أنّ ميرتون استطاع بمنهجه المتفرّد أن يحقّق الوحدة والتكامل بين مآلات النظريّة المجرّدة ومطالب التجربة الحسّيّة، وتمكّن من هدم الحواجز القائمة بين الواقع والنظريّة.

ومن هذا المنطلق، وتأسيساً عليه، رفض ميرتون نظريّة بارسونز التائهة في الفضاء التجريديّ، وكشف عن مظاهر ضعفها وعجزها وقصورها، واعتبرها غير قادرة على استقراء الواقع الاجتماعيّ الحيّ أو التعبير عنه. وقد وجد في سياق نقده للطابع التجريديّ في نظريّة بارسونز وغيره من الوظيفيّين أنّه يجب على الباحثين والمفكّرين العمل على ترميم هذا النقص، وبناء نظريّات جديدة ترتبط بالواقع، وتتخاصب مع التجربة الحيّة للحياة الاجتماعيّة الواقعيّة، كما دعا إلى تحرير النظريّة الوظيفيّة من داء التجريد الخالص وتخصيبها بمعطيات الواقع والتجربة الحيّة.

وبناء على مطالب التكامل بين النظريّة والواقع، وجّه ميرتون نقداً كاسحاً لنظريّة بارسونز المجرّدة على نحو خاص، وتلك الّتي نراها في النظريّة الوظيفيّة بشكل عامّ. ويرى بأنّ الطابع النظريّ الشموليّ لا يمكنه في أيّ حال من الأحوال أن يعبّر عن الواقع الاجتماعيّ بما يتّصف به من غنى وأصالة وتفاصيل وتضاريس. فالواقع الاجتماعيّ أكثر غنى وثراء من النظريّة الشاملة الّتي لا تستطيع الكشف عن الزوايا المضمرة، وعن الأغوار السحيقة للواقع الحسّيّ العيانيّ التجريبيّ، وهذا يعني وفق ميرتون أنّه على النظريّة أن تقترب جدّاً من الواقع كي تعكس بعض ما ينطوي عليه من مفارقات تناقضات وإشكاليّات وأحداث ووقائع. وقد عاب على بارسونز الانغماس المفرط في عمليّة التجريد وبناء النظريّات الكبرى الشموليّة، دون أن يلتفت إلى الواقع الميدانيّ، ودون أن يأخذ بما يوجد فيه من معطيات دقيقة يصعب على النظريّات العامّة أن تكتشفها على وجه الإطلاق. ومن هذا المنطلق وجد ميرتون أنّه لا بدّ للنظريّة من أن تخفّض جناحيها لتقترب من الواقع، وتعكسه بصورة صحيحة.

وتأسيساً على هذه الرؤية نزع ميرتون إلى طرح مفهوم النظريّات الوسطى (Middle Range Theory) الّتي تجمع بين الواقع والنظريّة، بين المجرّد والمحسوس، كما بين العياني والمجرّد، وهذه النظريّات الوسيطة تنجم عن تفاعل خصيب بين النظريّة والواقع ([32]). وعلى هذا الأساس يرى ميرتون بأنّ نظريّة المدى المتوسّط تمكّن الباحثين من فهم أعمق للظواهر الاجتماعيّة وقضايا التغيّر الاجتماعيّ، ويرى على خلاف ذلك أنّ النظريّات الكبرى الشاملة تعاني من الضعف والقصور، ولذا لا بدّ من التأسيس لنظريّات متوسّطة المدى ترتبط مباشرة بالواقع الأمبيريقيّ، وتعبّر عنه دون السقوط في تأمّلات نظريّة مغامرة مقطوعة جذريّاً عن الملاحظات ([33]).

ويمكن وصف النظريّة المتوسّطة المدى بأنّها تلك الّتي تقع بين طرفين، يتمثّل الأوّل في مجموعة الافتراضات العلميّة البسيطة الّتي يعتمدها الباحث في الدراسات الميدانيّة، ويتمثّل الثاني في الأنساق النظريّة الصغرى الّتي تعبر تجريديّاً عن الظاهرة الميدانيّة المدروسة، دون أن تتجاوزها إلى غيرها. وهذا يعني أنّ ميرتون يقترح مستوى محدود من التجريد النظريّ يكون على مقياس الظاهرة الّتي تخضع للدراسة. ويرى بأنّ مثل هذا المستوى المصغّر من التجريد يسمح بفهم عميق للواقع الاجتماعيّ، ويجنّب الوقع في براثن التجريدات العليا العمياء ([34]). وعلى هذا النحو، يرى ميرتون بضرورة إيجاد عدد كبير من النظريّات الصغرى الّتي تغطّي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة، ودعا في الوقت نفسه إلى تحقيق التآلف بين هذه النظريات الصغرى لتشكيل نظريّة كبرى عن المجتمع، آخذا بعين الاعتبار والوجوب أن تكون النظريّة الكبرى المأمولة ديناميّة متغيّرة تتموّج مع الواقع، وتعبّر عن تضاريس تغيّراه المستمرّة.

وعلى هذا النحو يجمع ميرتون في نظريّته هذه ما بين الاتّجاه الماكروسوسيولوجيّ (Macro sociology) الّذي يعنى بالنظريّات الشموليّة بعيدة المدى، وبين الاتّجاه الميكروسوسيولوجيّ (Microsociology) الّذي يركّز على القضايا الجزئيّة العيانيّة الأمبيريقية في المجتمع، وغالباً ما يعالج الاتّجاه الميكروسوسيولوجيّ القضايا الاجتماعيّة الميدانيّة الصغرى في الوقت الّذي تتّجه فيه الماكروسوسيولوجيّ إلى معالجة الفضاء الاجتماعيّ العامّ، وتقوم بتجريده في صورة نظريّة شاملة.

ومن المهمّ في هذا السياق تأكيد ميرتون في مختلف أعماله ضرورة تشكيل نماذج فكريّة تحليليّة يمكن اعتمادها في تحليل الظواهر الاجتماعيّة. وافترض أنّ كلّ نموذج من هذه النماذج يجب أن يشمل نسقاً من المفاهيم المتكاملة الّتي من غيرها لا يستطيع عالم الاجتماع إجراء تحليل وظيفيّ حقيقيّ وفعّال. ويرى في هذا السياق أنّ الهدف من بناء النماذج يكمن في مساعدة الباحثين على تشكيل فرضيّات بحثيّة قابلة للاختبار. ويؤكّد هنا على أهمّيّة الفرضيّات الضمنيّة المضمرة الّتي يقوم عليها التحليل الوظيفيّ. ويبنى على ذلك وفقاً لميرتون أنّه من الصعب تماماً بناء نظريّة بشكل صحيح دون تشكيل نموذج من الفرضيّات المفاهيم الأساسيّة الّتي يمكن استخدامها في التحليل السوسيولوجيّ، ومثل هذا الوضح المفاهيميّ يقلّل من إمكانيّة العشوائيّة والتعسّف في البحث الاجتماعيّ. ويمكن القول وفقاً لذلك بأنّ نموذج التحليل الوظيفيّ يساعد على توضيح كيفيّة إجراء التحليل الوظيفيّ، ويحدّد لنا ما يجب دراسته، وما يجب التأكيد عليه.

وينبّه ميرتون إلى أهمّيّة تحديد العناصر والبيانات الاجتماعيّة الّتي يجب إخضاعها للتحليل الوظيفيّ وانتقاء المناسب منها للدراسة والتحليل، إذ لا يمكن تناول الظواهر الثقافيّة والاجتماعيّة جميعها مرة واحدة، بل يجب انتقاء العناصر الّتي يجب أن تدرس وتحلّل مثل: الممارسات الثقافيّة، والمؤسّسات الاجتماعيّة، والأدوار الاجتماعيّة، والأعراف الاجتماعيّة، وبنيّة، وأجهزة الرقابة الاجتماعيّة ([35]).

ويعتقد ميرتون أنّ نظريّات المدى المتوسّط تستطيع أن تتجاوز إخفاقات النظريّات الكبرى الّتي تتناول المجتمع ككلّ، وأكّد على أهمّيّة ترسيخ مسارات النظريّات المتوسّطة على أسس أمبيرقيّة تجريبيّة واختبارها تجريبيّاً، وقد نجح ميرتون في هذا المجال، وقدّم للسوسيولوجيا نماذج نظريّة جديدة أفلحت في دراسة الظواهر الاجتماعيّة المختلفة، وقد اتّسمت هذه النظريّات بالمرونة السوسيولوجيّة واستطاعت أن تقدّم رؤى وتصوّرات جديدة في مجال علم الاجتماع. ومن المهم في هذا السياق أن ميرتون أسهم في بناء نظريّات متوسّطة المدى حول جنوح الأحداث، والصراع الأسريّ، والعلاقات العرقيّة، والحراك الاجتماعيّ في أمريكا، وقضايا التمدّن، والجماعات المرجعيّة، وغيرها من الموضوعات الّتي باشرها تحت عنوان النظريّات متوسّطة المدى.

وتتميّز النظريّات الوسطى عند ميرتون بعدد من السمات أهمّها:

1- تستند إلى مجموعات محدودة ومقنّنة من المفاهيم والفرضيّات التجريبيّة الّتي تعبر مباشرة عن أبعاد الظاهرة الميدانيّة المدروسة. ويجب على الفرضيّات الّتي تطرحها أن تكون قابلة للاختبار الميدانيّ التجريبيّ.

2- تتعامل هذه النظريّات مع المجالات المختلفة للظواهر الاجتماعيّة، وكلّ ما يتعلّق بالتكوينات الثقافيّة الاجتماعيّة والسلوكيّة في المجتمع.

3- تتشكل هذه النظريّات على مقاييس المشكلات الاجتماعيّة المحدّدة الّتي يمكن تفسيرها على أساس المعرفة المتاحة.

4- تتميّز هذه النظريّات بطاقتها النسبيّة زمنيّاً ومكانيّاً وهي غير معنية بتقديم تفسيرات كلّيّة للمجتمع أو أبديّة للظاهرة المدروسة؛ لأنّ الظواهر في حالة تغيّر مستمرّ، وهذا يجعل النظريّات الوسطى نظريّات نسبيّة غير مطلقة.

5- تؤسّس هذه النظريّات مصدراً حيويّاً فعّالاً لتشكيل النظريّات الكبرى الّتي يجب أن تستند إلى معطيات ميدانيّة ونظريّات وسيطة في مجال البحث الاجتماعيّ.

5- الوظائف الكامنة والمضمرة:

ابتدع ميرتون مفهومي الوظائف المعلنة (Manifest functions) والوظائف الكامنة (Latent functions) وميّز بينهما على وجهي التناقض. ويشكّل هذان المفهومان إحدى المقولات الأساسيّة المركزيّة في نظريّته الوظيفية. وقد ولدت هذه المقولة في السياق النقديّ ضدّ المسلّمات الثلاثة الكلاسيكيّة للنظريّة الوظيفيّة المتمثّلة في: الوحدة الوظيفيّة، والعالميّة الوظيفيّة، والضرورة الوظيفيّة. وقد اعتمد ميرتون هذه المقولة لتكون أساساً منهجيّاً أصيلاً في التحليل السوسيولوجيّ للظواهر الاجتماعيّة في مختلف تجلّياتها في المجتمع، وقد جعل منها ضرورة حيويّة منهجيّة للباحثين في علم الاجتماع، وقد وجد أنّ مهمّتهم الأساسيّة تتمثّل في الكشف عن الوظائف الكامنة الخفيّة للظواهر الاجتماعيّة [36]).

ويمكن تعريف الوظائف المعلنة الصريحة بأنّها الوظائف الإيجابيّة المقصودة والمتوقّعة للأنظمة الاجتماعيّة، وتتمثّل الوظائف الكامنة على خلاف ذلك في الوظائف الغامضة غير المتوقّعة وغير المقصودة لهذه الأنظمة. ويمكننا من أجل التمييز بين النمطين الوظيفيّين - أي بين الوظائف الكامنة والوظائف المعلنة - أن نأخذ المثال الوظيفيّ للنظام التعليميّ، فالوظائف المعلنة للتعليم تتمثّل بعمليّة إعداد الأطفال وتحضيرهم للحياة علميّاً ومعرفيّاً واقتصاديّاً. ولكنّ النظام التعليميّ قد يؤدّي وظائف كامنة خفيّة غير منظورة أو معلنة أو غير متوقّعة مثل تأصيل التفاوت بين الجنسين، أو تعميق الفوارق الطبقيّة، أو ترويض الأطفال ثقافيّاً لخدمة النظام الرأسماليّ. ويبدو من خلال هذا المثال الوظيفيّ أنّ الوظائف الواضحة تتمثّل في النوايا الحقيقيّة الواعية للفاعلين، أمّا الوظائف الكامنة فلا تكون أكثر من النتائج الموضوعيّة غير المتوقّعة أو المنظورة لأفعالهم، الّتي غالباً ما تكون غير مقصودة. ويرى ميرتون في هذا السياق معظم الأخطاء في التحليل الوظيفيّ ناجمة عن الخلط بين المعلن والخفيّ في الوظائف المدروسة ([37]).

وعندما ننظر إلى وظيفة الجامعة على سبيل المثال أيضا سنجد بأن الهدف الواضح المعلن للطلّاب الّذين يلتحقون بالجامعة هو التعلّم واكتساب مجموعة من المهارات العلميّة الّتي تساعدهم في الحصول على عمل ووظيفة وثقافة، ولكنّ الجامعة قد تمارس وظائف كامنة خفيّة غير مقصودة، إذ توفّر لطلّابها للطالب فرصاً جديدة للتواصل والتفاعل الاجتماعيّين، كما توفّر لهم فرص اكتساب منظومة من القيم الفكريّة والثقافيّة الّتي تمكّنهم من التكيّف الاجتماعيّ والثقافيّ بشكل أفضل، وقد تمارس وظيفة التمييز الاجتماعي، وقد تعمل على ترويض الطلاب أيديولوجيا، وقد تستخدم فضاء للحركات السياسية، وقد تكون مكانا للتفاعل السياسي والنقابي.

ويستخلص ميرتون أمثلة حيويّة من الطقوس الدينيّة الّتي تهدف ظاهريّاً وبشكل معلن ومقصود إلى تعزيز الإيمان والمعتقدات الدينيّة لدى المشاركين في هذه الطقوس، ولكنّ هذه الطقوس قد تفعل فعلها، وتؤدّي وظيفة كامنة أخرى غير منظورة وغير مقصودة في الأصل، وهي: تعزيز الهويّة الثقافيّة للمشاركين، وتعميق وشائج التواصل والتفاعل الاجتماعيّ بينهم، وقد تشكل نوعا من التعبئة السياسية المحضة، كما أنها قد تشكل أداة للاستلاب الذهني والترويض الأيديولوجي...الخ. وقد أشار دوركهايم منذ فترة طويلة إلى مثل هذه الوظيفة الكامنة للطقوس الدينيّة عندما وجد أنّ الاحتفالات الدينيّة هي وسيلة يتمّ من خلالها تعزيز مشاعر الانتماء إلى الجماعة وتأصيل الهويّة الاجتماعيّة للأفراد المشاركين. وهذا يعني أن بعض السلوكات غير العقلانيّة قد تكون مفيدة وفعّالة اجتماعيّاً أحيانا كثيرة ([38]).

ويمكن أن نورد أمثلة أخرى تتعلق بالمعابد الدنية، فبناء المعابد أو الكنائس يعد ضرورة حيوية لممارسة الطقوس الدينية، ولكنّ هذه المباني قد تشكل فضاء حقيقيا لتشجيع الفنّ أو العلم والتنشئة الاجتماعية. وفي مثال آخر، يقوم المبشّرون الدينيون المسيحيون بتقديم المساعدات الإنسانيّة للفقراء والمرضى والمحتاجين، كما يقومون بتعليم الأطفال مجّاناً كأهداف واضحة، ولكنّهم في جوهر الأمر يرغبون في نشر إيمانهم الدين في جميع أنحاء العالم. إنّهم يفتحون المستشفيات والمدارس، ويساعدون الفقراء أو المحتاجين ماليّاً، لكنّ هدفهم الحقيقيّ هو نشر الديانة المسيحيّة وهنا تكمن الوظائف الكامنة الخفيّة لهذه الفعاليّات الدينيّة. ومن الطبيعي أن هذا الأمر ينسحب على جميع فعاليات التبشير الديني في مختلف الأديان والمذاهب.

ويلفت ميرتون النظر إلى أنّ الأفراد العاديّين يدركون الوظائف المعلنة المقصودة ويعرفونها، بينما لا يستطيعون إدراك الوظائف الخفيّة الكامنة وتلقّى مسؤوليّة إدراك هذه الجوانب الوظيفيّة الخفيّة وتحليلها وكشف ملابساتها على عاتق علماء الاجتماع.

وفي هذا السياق أيضاً يميّز ميرتون بين نوعين من العواقب الّتي تنتج عن ممارسة الوظائف الكامنة غير المقصودة؛ وعلى هذا الأساس يحدّثنا عن الوظائف الكامنة الإيجابيّة الّتي تؤكّد وحدة المجتمع وتماسكه، وهناك الوظائف الكامنة السلبيّة الّتي تنذر بالخطر، وتؤدّي إلى نتائج ضارّة بوحدة المجتمع وتماسكه، وقد تؤدّي في نهاية الأمر إلى توليد الاختلالات الوظيفيّة.

وفي هذا السياق يرى ميرتون وجود اختلاف بين النتائج غير المتوقّعة والوظائف الكامنة، إذ لا يمكن للنتائج غير المتوقّعة أن تكون وظائف كامنة، وهو في هذا المسار يميّز بين نوعين من النتائج غير المتوقّعة: "تلك الّتي تعمل في إطار نظام معيّن، وتلك الّتي لا تمتّ بصلة إلى النظام، ولا تؤثّر فيها وظيفيّاً أو بصورة غير وظيفيّة " ويطلق على هذا النوع: تسمية "العواقب غير الوظيفيّة" ([39]).

ويضرب لنا أمثلة منها ما يتعلّق باحتفالات المطر عند قبائل هنود الهوبي (Hopi) ويرى بأنّ هدف هذه الاحتفالات الواضح هو توسّل الغيث أو سقوط المطر الضروريّ للزرع والضرع، أمّا الهدف الكامن الخفيّ غير المقصودة لهذه الاحتفالات الطقوسيّة يتمثّل في المحافظة على هويّة الجماعة وتماسكها ([40]). ويضرب لنا مثالاً آخر يتعلّق بوظيفة السجن، فالسجن يؤدّي عدّة وظائف معلنة ومقصودة، مثل: معاقبة المجرمين وحماية المجتمع من عواقب السلوك الإجراميّ، ولكن وعلى خلاف الوظيفة المعلنة والمقصودة، فإنّ السجن قد يؤدي دوراً وظيفيّاً مضادّاً للمجتمع، إذ يمكن أن يشكّل بؤرة إجراميّة لتنمية الإجرام في نفوس السجناء، ويمكن أن يتحوّل إلى مؤسّسة مضادّة للمجتمع إذ فيه تتمّ عمليّة إنتاج ثقافة الإجرام بين السجناء ([41]).

وفي هذا السياق يقرّ ميرتون أهمّيّة دراسة الوظائف الكامنة، ويرى أنّ البحث في هذا الجانب الخفيّ يساعد على فهم الظواهر الاجتماعيّة وتحليلها سوسيولوجيا، وعلى هذا المنوال، فإنّ التمييز السوسيولوجيّ بين الوظائف الظاهرة والكامنة يمكّن عالم الاجتماع منهجياً من فهم أعمق للمجتمع، ويجعله أكثر قدرة على تحليل مختلف الظواهر الاجتماعيّة، كما يمكنه في الوقت نفسه من تخطّي الفهم العامّ البسيط للظواهر الاجتماعيّة، وتجاوز التفسيرات السطحية الّتي يقدّمها الأفراد لأفعالهم، كما يتيح له فرصة البحث عن العوامل الاجتماعيّة والعواقب الّتي توجد في أصل الظواهر الاجتماعيّة والسلوكيّة القائمة في المجتمع.

وقد اشتهر ميرتون بنظريّته المبتكرة هذه في مجال التمييز بين الوظائف الخفيّة المستترة الكامنة والوظائف الظاهرة الواضحة المعلنة. وكما أشرنا سابقا، فإنّ التمييز بين المفهومين يمكّن الباحث من تجاوز وضعية الإدراك الحسّيّ البسيط، ويساعده على إدراك المعاني والدلالات الخفيّة الكامنة في وظائف التكوينات الاجتماعيّة. وهذا بدوره يساعد الباحث على ممارسة التحليل النقديّ للظواهر الّتي يدرسها، كما يمكّنه من تجاوز المظاهر الوظيفيّة المعلنة للمؤسّسات الاجتماعيّة، واختراق هذه المظاهر للتوغّل في عمق الحقيقة الاجتماعيّة، واكتشاف مجاهلها. ويمكن لهذا الفصل بين الخفيّ والمعلن أن يساعد الباحثين في فهم وإدراك استمرار الظواهر غير العقلانيّة في الوجود، لأنّها ببساطة تنطوي على وظائف خفيّة لا تظهر مباشرة للعيان، ولا تبدو على السطح الخارجي للظواهر الاجتماعية.

ويمكننا العودة إلى مثالنا السابق حول الاحتفالات الخرافيّة والطقوس غير العقلانيّة الّتي تقوم بها قبائل "الهوبي" توخياً لسقوط المطر في أوقات الجفاف. إذ إنه لمن المؤكّد أنّ هذه الرقصات لا تجلب المطر، ومع ذلك فإنّ هذه الطقوس - كما أشرنا سابقاً - تؤدّي دوراً حيويّاً في تحقيق التماسك الاجتماعيّ، والتفاعل الأخلاقيّ والإنسانيّ، وتجلب الرفاهية بين أفراد قبائل "الهوبي". وبعبارة مختصرة نقول: إنّ الوظيفة الظاهرة للطقوس الهوبية هي استجلاب المطر، ولكنّ وظيفتها الكامنة تتمثل في تحقيق التضامن الاجتماعيّ والترفيه الثقافيّ.

وهنا يريدنا ميرتون أن نرى شيئاً أعمق في هذه الاحتفالات الهوبيّة، يريد أن يقول لنا: إنّ الاحتفالات لا تنتج هطول الأمطار، ولكنّها تمكّن الأعضاء المتناثرين المتنافرين في القبيلة من التجمّع معاً، والانخراط في نشاط اجتماعيّ ثقافيّ مشترك، يؤدّي إلى تعزيز هويّتهم الجماعيّة وتأصيل تضامنهم الروحيّ والثقافيّ، وتلك هي الوظيفة الكامنة الخفيّة لهذه الطقوس الاحتفاليّة.

 وقد لاحظ ميرتون أنّ بعض الباحثين يكتفون بتحليل الظواهر السطحيّة للقضايا الاجتماعيّة، وقلّما يبحثون في المناطق العميقة الخفيّة، ويستكشفون ما هو كامن ومستتر وملتبس في مستويات البنى والوظائف الاجتماعيّة الثقافيّة وأعمق. وعلى هذا المبدأ يدعو ميرتون الباحثين إلى البحث في أعماق الظواهر، واستكشاف الجوانب الخفيّة للعناصر الثقافيّة والممارسات الاجتماعيّة.

يمكن أن نضرب مثالاً بسيطاً ومعبّراً عن الوظائف الكامنة والظاهرة للفن السينمائي: قد يهاجم أحد أنصار "الفنّ الهادف "الأفلام "التجاريّة" ويرى بأنّها سخيفة وضارّة ومؤذية للذوق والعقل والأخلاق. ولكن إذا أخذنا بمنهجيّة ميرتون في البحث عن الوظائف الكامنة، فمن المرجّح أنّ الأفلام التجاريّة الضارّة قد تنطوي في ذاتها على جوانب إيجابيّة لا تظهر بوضوح على السطح، فقد يكون لبعض من قصصها وجوانب من رقصاتها ورواياتها الرومانسيّة بعض الوظائف الإيجابيّة؛ فقد تعزّز هذه الأفلام دور الأمومة، وقد تحتفي بانتصار الخير على الشرّ، وقد تعزّز المثل العليا الّتي يخشى كثير من الناس ضياعها في عالم سريع التغيّر. وهذا يعني أنّه قد يكون للأفلام التجاريّة وظيفة كامنة تعمل كصمّام أمان ثقافيّ في المجتمع. وأيضاً وفي المقابل قد يكون للأفلام الجادّة بعض الجوانب السلبيّة الّتي يجب على الباحثين دراستها والتأمّل في مضامينها. ومن الواضح الآن أنّ البحث في الوظائف الكامنة يمكن عالم الاجتماع من تنمية أبحاثه ودراساته وفهمه للمجتمع. وهذا ما يؤكّده ميرتون دائماً وهو أنّ التمييز بين الوظيفة الكامنة والوظيفة الواضحة يساعد عالم الاجتماع على فتح آفاق جديدة في مجال المعرفة الاجتماعيّة والبحوث السوسيولوجيّة.

 يستمدّ ميرتون لتعميق رؤيته لمسألة الوظائف الكامنة أمثلة عديدة من كتاب فيبلين (Thorstein Veblen.) الموسوم بـنظريّة الترفيه الطبقيّ (Theory of the Leisure Class (1899) وهو العمل الّذي يقوم فيه فيبلن بدراسة الوظيفة الكامنة لنمط الاستهلاك الواضح. ويبحث في مظاهر الإنفاق والتبذير والهدر الّذي يقوم به بعض الأفراد في محاولة لاستعراض المكانة الاجتماعيّة والمباهاة بالمال والمفاخرة بالثروة والمباهاة بالتملّك، مثل: استعراض السلع الفخمة، وأساليب الحياة المترفة الفخمة. وعلى الرغم من الطابع السلبيّ جدّاً لظاهرة التبذير والهدر الاقتصاديّ والماليّ الّذي يقوم به بعض الأفراد في المجتمع للمفاخرة والمباهرة، يرى فيبلن بأنّ هذه العادات لها جوانب إيجابيّة، وذلك لأنّ الرغبة في الحصول على المكانة الاجتماعيّة الّتي تتمّ بإنفاق الأموال تؤدّي إلى نوع من الانتعاش الاقتصاديّ في المجتمع.

والسؤال البسيط الّذي يطرح نفسه لماذا يعلّق بعض الناس أهمّيّة كبيرة على الموديلات الجديدة من السيّارات أو أجهزة التلفزة والهواتف الذكيّة أو غيرها من المنتجات؟ لماذا يريد بعض الناس شراء سلع استهلاكيّة باهظة الثمن طوال الوقت؟ ألا يمكن القول ببساطة إنّ الأفراد يشترون السيّارات في الأصل لغاية التنقّل، ويشترون الهواتف النقّالة لغاية الاتّصال بالآخرين، ويشترون أجهزة التلفزيون لمعرفة أخبار العالم، وهذه هي الوظائف الحقيقيّة الظاهرة لهذه المنتجات. والمستهلكون على دراية جيّدة بهذه الوظائف. ولكن يترتّب على عالم الاجتماع تجاوز البحث عن الوظائف الواضحة الظاهرة الّتي يعرفها الجميع حول نمط الاستهلاك المترف، ويقدّم لنا تحليلاً عميقاً ينطوي على أفكار جديدة تتجاوز المعرفة السطحيّة للاستهلاك المترف، إذ يترتّب على الباحث أن يغوص في أعماق الظاهرة، ويبحث في مضامينها الخفيّة المغلقة أو الكامنة.

 ويمكن أن نستفيد من شرح فيبلين لهذه الظاهرة، إذ يرى بأنّ الأفراد لا يشترون سيّارات فارهة أو تلفازات فاخرة؛ لأنّهم يريدون التنقّل بالسيّارات ومعرفة العالم من خلال شاشات التلفزيون فحسب، بل لأنّ هذا الترف الاستهلاكيّ يمكّنهم من استعراض مكانتهم الاجتماعيّة، ويساعدهم على تأكيد تفوّقهم الاجتماعيّ، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه بالوظيفة الكامنة للترف الاستهلاكيّ. فشراء السلع الباهظة يخدم الوظيفة الكامنة المتمثّلة في إعادة تأكيد الوضع الاجتماعيّ للفرد؛ وعلى هذا النحو - كما فعل فيبلن - يقوم علماء الاجتماع بتعميق معرفتنا بالعالم، ويحلّلون بعمق معتقدات الناس وممارساتهم الثقافيّة وأنماط حياتهم ووجودهم.

6- الخَلَلُ الوظيفي أو العطالة الوظيفية (Functional Dysfunctions):

في جلّ أعماله، يسلّط ميرتون الضوء على العوامل والمتغيّرات والمشكلات الّتي تعيق عمل الأنظمة الاجتماعيّة، وتمنعها من تلبية متطلّباتها الوظيفيّة. وقد أطلق على هذه الظاهرة "الخلل الوظيفيّ" (Functional Dysfunctions). ويأخذ مفهوم الخلل الوظيفيّ مكانة هامّة مركزيّة في نظريّة ميرتون، ويبدو أنّ ميرتون اشتقّ هذا المفهوم من مقولة فكرة دوركهايم الشهيرة عن "الأنومي" (Anomy) الّذي يعني الشذوذ أو اللامعياريّة، ومن المعروف أنّ دوركهايم كان قد وظّف هذا المفهوم للتعبير عن وضعيّة الخلل الاجتماعيّ، وضياع المجتمع في فوضى المعايير واضطراباتها. ومن الواضح أنّ ميرتون طوّر هذا المفهوم، وصقله واعتمده أداة منهجيّة في تحليل الكيفيّات الّتي يتمّ فيها، ومن خلالها حدوث الخلل الاجتماعيّ الوظيفيّ في النظام الاجتماعيّ.

ومن الواضح أنّ ميرتون يستخدم هذا المفهوم للدلالة على العطالة الوظيفيّة لبعض التكوينات الاجتماعيّة الّتي قد تنحرف عن مسارها الوظيفيّ لتؤدّي وظيفة سلبيّة تؤدّي إلى الفوضى والاضطراب في المجتمع، وذلك بدلاً من وظيفة المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه الوجوديّ. وبعبارة أخرى فإنّ مفهوم الخلل الوظيفيّ يتمثّل في العطالة الوظيفة للتكوينات الاجتماعيّة الّتي تنحرف عن تحقيق وظائفها الأساسيّة في تحقيق وحدة المجتمع وتماسكه وتضامنه.

ويضرب ميرتون أمثلة عديدة على العطالة الوظيفيّة أو الخلل الوظيفيّ، ومنها وظيفة الّذي قد يؤدّي وظيفة تدميريّة في بعض المجتمعات بدلاً من وظيفته التضامنيّة. وهذا الأمر ينسحب على مثال العبوديّة في الولايات المتّحدة الجنوبيّة، فالعبوديّة نظام اجتماعيّ كان يؤدّي وظائف إيجابيّة حيويّة لصالح الأمريكيّين البيض الجنوبيّين، مثل: توفير العمالة الرخيصة، ودعم اقتصاد القطن، وتأكيد الثراء للأسياد المالكين للعبيد، وتمتين الوضع الاجتماعيّ. ولكنّ العبوديّة نفسها كان لها نتائج سلبيّة جدّاً على البنية الاجتماعيّة لهؤلاء الجنوبيّين مثل: إفراط الجنوبيّين في الاعتماد على الاقتصاد الزراعيّ، ما جعلهم غير مستعدّين للتحوّل الصناعيّ كما حدث في المقاطعات الأمريكيّة الشماليّة. ويمكن أن يعزى هذا التفاوت الحضاريّ بين مقاطعات الشمال والجنوب في مستويات التحوّل الصناعيّ إلى الخلل الوظيفيّ الّذي مارسته مؤسّسة العبوديّة سلبيّاً في الجنوب ([42]).

وإذا كانت العبوديّة نظاماً اجتماعياً إيجابياً بالنسبة للبيض، فإنّه على خلاف ذلك يشكّل نظاماً استلابيّاً تدميريّاً يمارس وظيفة القهر الاجتماعيّ والتدمير ضدّ السود. وقد شكّلت هذه الازدواجيّة في الوظائف مصدر توتّر في نظريّة ميرتون إذ كيف يمكن تصنيف العبوديّة هل هي وظيفيّة إيجابيّة أم أنّها سلبيّة معادية للمجتمع؟ ونظراً للتفاوت الوظيفيّ في أداء المؤسّسات الاجتماعيّة أخضع ميرتون الدور الوظيفيّ لأيّ تكوين اجتماعيّ لعمليّة أطلق عليها الاصطفاء الوظيفيّ - أو الصافي الوظيفيّ (Net balance) – وتتمثّل منهجيّة هذا الاصطفاء في رصد مقارن للجوانب السلبيّة والإيجابيّة للوظيفة الّتي يؤدّيها أيّ تكوين اجتماعيّ محدّد، ويؤخذ بعين الاعتبار – من وجهة نظر وظيفيّة - أنّ الجوانب الإيجابيّة للوظيفيّة هي تلك الّتي تؤكّد وحدة المجتمع وتماسكه، بينما تتمثّل الوظائف السلبيّة في تلك الّتي تؤدّي إلى الفوضى والتفكّك الاجتماعيّ. ومن الواضح أنّ ميرتون يضع الوظائف السلبيّة تحت عنوان "الخلل الوظيفيّ" وهو الخلل الّذي يحدث عندما تحدث عطالة وظيفيّة في التكيّف الاجتماعيّ، أي عندما يخفق العنصر الاجتماعيّ في تحقيق التوازن الاجتماعيّ. ويحدث هذا عندما لا يتطابق الهدف الوظيفيّ مع الوسائل المتاحة لتحقيقه في المجتمع.

6-1-مصدر الاختلالات الوظيفية:

لم يقف ميرتون عند حدود الوصف الدقيق لمفهوم الاختلالات الوظيفيّة في المجتمع، بل خاض خوضاً عميقاً في تحليل مصادرها وصيروراتها وتشكّلاتها ضمن رؤية منهجيّة أمبيرقيّة تتّسم بدرجة كبيرة من الوضوح والجلاء. ومن الطبعيّ أن نجد تماسكاً وترابطاً عميقاً ومنهجيّاً بين مختلف المفاهيم المركزيّة الّتي يستخدمها ميرتون في نظريّته، إذ لا يمكن أن نفهم أيّاً من هذه المفاهيم خارج النسق المفاهيميّ لنظريّة ميرتون.

طبّق ميرتون نظريّته الوظيفيّة في تحليل المصادر الاجتماعيّة والثقافيّة للسلوك المنحرف. وعمل على دراسة الكيفيات التي يمارس فيها البناء الاجتماعيّ ضغوطاً محدّدة على الأفراد تدفعهم إلى ممارسة سلوكات انحرافيه. وقد بيّن في هذا السياق أنّ ثقافة المجتمع تضفي صفة المشروعيّة على نسق من الأهداف والطموحات الّتي يمكن للأفراد تحقيقها، وهي في الوقت نفسه تحدّد الأساليب المشروعة لبلوغها. وعلى هذا الأساس يحدّد ميرتون جانبين أساسيّين في البناء الثقافيّ للمجتمع: الأهداف المحدّدة ثقافيّاً من جهة، والأساليب المشروعة لتحقيقها. وعلى أساس هذا التحديد يرى أنّ المجتمع الوظيفيّ المستقرّ المتضامن هو ذلك الّذي يحقّق أعلى درجة من التكامل والتناغم والانسجام بين الأهداف والأساليب، وهذا يعني أنّ أفراد المجتمع يتقبّلون الأهداف والأساليب في آن واحد. ولكن وعلى العكس من ذلك تحدّث الفوضى الاجتماعيّة عندما يحدث التناقض بين الأهداف المشروعة والوسائل المشروعة، أو عندما ترجّح كفّة الأهداف على كفّة الأساليب أو العكس من ذلك. وقد أشار ميرتون إلى هذا التناقض في المجتمع الأمريكيّ الّذي شرع أهدافاً محدّدة، مثل: النجاح الفرديّ والتملّك، والثروة، والحظوة الاجتماعيّة، والغنى والثراء، ولكنّه في الوقت نفسه وضع وسائل لا تتوافر إلّا لأقلّيّة من الأفراد في المجتمع الذين يتمتعون بالثروة والحظوة، وهذا التناقض أدّى إلى خلل كبير في بيّنة النظام الاجتماعيّ الأمريكيّ، فانتشرت الجريمة والمخدّرات والعنف وتجارة البشر والفساد والرشوة وغير ذلك من المظاهر الفتّاكة في المجتمع.

وتأسيساً على ما تقدّم، يرى ميرتون أنّ الاختلالات الوظيفيّة (Functional Dysfunctions) تحدث تحت تأثير التوتّر الاجتماعيّ أو لنقل تحت تأثير التناقض بين الأهداف المجتمعيّة ووسائل تحقيقها. فالأفراد قد يوجّهون ضغوطاً وتوتّرات في المجتمع نتيجة لوجود خلل بين الأهداف الّتي يسعون إليها، ويريدون تحقيقها وبين الوسائل المشروعة المتاحة لتحقيق تلك الأهداف.

فالتناقض بين الغايات والوسائل قد يدفع الأفراد إلى سلوكات انحرافيّة أو غير مقبولة اجتماعيّاً؛ ويمكن توضّح ذلك بالمثال الآتي: قد يخفق شخص ما في تحقيق أهدافه المتمثّلة في النجاح المهنيّ والماليّ بسبب الصعوبات الّتي يواجهها في تحقيق غايته، ولذا قد يلجأ إلى وسائل غير مشروعة لتحقيق أهدافه، وهذا بدوره يحدث خللاً وظيفيّاً في المجتمع، وهذا الخلل كما هو واضح ينتج عن عدم التوازن بين الهدف والوسيلة المشروعة لتحقيقه. ويشدّد ميرتون على أنّ لاختلالات الوظيفيّة لا تنجم عن وضعيّة سيكولوجيّة انحرافيّة، بل تنتج عن وضعيّات اجتماعيّة يصعب فيها تحقيق التوازن بين الأهداف وفرص تحقيقها، ويبيّن لنا بأنّ الاختلال الوظيفيّ قد يشتدّ ويرتفع منسوب حدوثه، إذ لم تكن هناك وسائل بديلة مقبولة ومشروعة لتحقيق الأهداف المطلوبة، وهذا يعني باختصار أنّ الخلل بين الأهداف المعلنة والوسائل المتاحة يؤدّي إلى الاختلال الوظيفيّ والسلوك الانحرافيّ في المجتمع.

ويمكن القول في هذا السياق وعلى نحو آخر بأن ميرتون يعتمد في تحليله لمسألة "الخلل الوظيفيّ" على البيّنة الثقافيّة للمجتمع، ويبيّن أنّ أيّ فعل اجتماعيّ يتناقض مع الثقافة المعياريّة القائمة يشكّل خللاً وظيفيّاً. والثقافة كما يعرّفها ميرتون "مجموعة منظّمة من القيم المعياريّة الّتي تحكم السلوك المشترك لأعضاء مجتمع معيّن أو مجموعة معنيّة" ويعرف البناء الاجتماعيّ بوصفه" نسّقاً منظّماً متفاعلاً من العلاقات الاجتماعيّة الّتي تقوم بين أفراد المجتمع ومؤسّساته ([43]). ويؤكّد في هذا السياق كما نوّهنا أعلاه بأنّ الخلل الوظيفيّ يحدث عندما يقع تناقض واضح بين الأهداف الثقافيّة والوسائل الّتي تعتمد في تحقيقها ([44]). وهذا يعني باختصار شديد أنّ بعض الأفراد - لسبب ما- لا يستطيعون تحقيق أهدافهم وفقاً للقيم المعياريّة الثقافيّة المشروعة، فيلجؤون إلى تحقيق هذه الأهداف بوسائل غير مشروعة ثقافيّاً أو اجتماعيّاً ([45]).

فالثقافة في المجتمع الأمريكيّ، على سبيل المثال تحدّد نسقاً من الأهداف الّتي يمكن للأفراد تحقيقها مثل: النجاح المادّيّ والتفوّق، والمكانة الاجتماعيّة، والدخل الجيّد، والوظيفة المريحة، وامتلاك منزل مريح، وتشجّع الأفراد على بلوغ هذه الأهداف. وفي الوقت نفسه تحدّد هذه الثقافة الوسائل المشروعة لبلوغ هذه الأهداف مثل: الكدح والكدّ، والاجتهاد والعمل المجد، والتفوّق في التعليم والحصول على الشهادات العالية، والخبرات المناسبة، وعلوّ الهمّة والقدرة على المنافسة، والرغبة في والتضحية وروح المغامرة والتحدّي، وغير ذلك من الوسائل الثقافيّة المشروعة.

وباختصار يطالب المجتمع أفراده بالعمل الجادّ والمستمرّ وتحقيق النجاح في المدرسة والجامعة والاستفادة من الفرص المتاحة بالاستثمار وبناء المشاريع، من أجل أن يحقّقوا النجاح المادّيّ والرفاه الاقتصاديّ. ولكنّ معظم الناس لا يستطيعون تحقيق هذه الغايات؛ لأنّهم لا يمتلكون القدرة على تحقيق الشروط المطلوبة، ولا يمكنهم تحصيل الوسائل الضروريّة المشروعة لتحقيقها، وذلك بحكم الظروف الاجتماعيّة الصعبة الّتي يعيشونها، وبحكم وضعهم الطبقيّ المتدنّي وتدنّي إمكانيّاتهم المطلوبة. وهذا الأمر يقف حاجزاً بين طموحات الناس ومساعيهم نحو النجاح المادّيّ والمعنويّ ولذا فإنّ بعض الأفراد قد يعتمدون وسائل غير مشروعة ثقافيّاً لتحقيق طموحاتهم المشروعة، وهنا تقع مفارقة اللامعياريّة أو ما يسمّيه ميرتون العطالة الوظيفيّة أو الخلل الوظيفيّ. فعلى سبيل المثال إذا كان الفرد ينتمي إلى طبقة اجتماعيّة فقيرة، فإنّ أوضاعه الاجتماعيّة لن تسمح له بمتابعة تحصيله الجامعيّ، ولذا فإنّه لن يستطيع أن يحقّق النجاح الاقتصاديّ المشروع ثقافيّاً، وستكون فرص نجاحه ضئيلة أو منعدمة في ظلّ الظروف المنتشرة في المجتمع الأمريكيّ المعاصر. ولذا فإنّ بعض الأفراد يعتمدون وسائل غير مشروعة أو غير قانونيّة في تحقيق النجاح والتفوّق، مثل: تجارة المخدّرات أو عمليّات التهريب، أو التجارة غير المشروعة، أو السرقة، أو غير ذلك وهذه السلوكات هي تعبير واضح عن اللامعياريّة والخلل الوظيفيّ عند ميرتون. ولهذا "فإنّ الانخراط في تجارة المخدّرات أو البغاء لتحقيق النجاح الاقتصاديّ يعدّ مثالاً على الانحراف الناتج عن الانفصال بين القيم الثقافيّة والوسائل الاجتماعيّة البنيويّة لتحقيق هذه القيم ([46]).

وهنا يؤكّد ميرتون أنّه عندما لا تساعد الوسائل المعتمدة المشروعة الأفراد على تحقيق أهدافهم المشروعة، فإنّهم قد يلجؤون إلى وسائل أخرى غير مشروعة لتحقيق هذه الأهداف. ويصف ميرتون وضعيّة استخدام الوسائل غير المشروعة بـ "الأنوميّة" (Anomie) أو الشذوذ وهو المصطلح الّذي استخدمه دوركهايم في تفسير ظاهرة الانحراف نفسها، ويعني هذا الأمر: أنّ الأفراد ينحرفون عن مسار العمل الطبيعيّ؛ بسبب عدم قدرتهم على التعامل مع الموقف الطبيعيّ الّذي يتطلّب عملاً شاقّاً وانضباطاً ذاتيّاً وتعلّماً رفيع المستوى وإرادة مستنيرة وقدرة على المنافسة، وهذه الوسائل لا تتوفّر لأبناء الطبقات الفقيرة أو لبعض أفراد المجتمع أيّاً كانت طبقتهم، وقد يلجأ بعضهم أو كثير منهم إلى وسائل غير مشروعة، وقد استخدم ميرتون مفهوم الشذوذ (Anomie) في وصف هذه الظاهرة وتحليلها.

6-2 - البدائل الوظيفية (Functional Alternative):

فرض مفهوم الخلل الوظيفيّ بالضرورة مفهوم البدائل الوظيفية ودخل معه في علاقة وثيقة، فالبديل الوظيفي يتجاوب مع الخلل الوظيفي ويعد نتاجا طبيعيا لحركته، فالخلل يتطلب إصلاحا أو بديلا وظيفيا له، وفي دائرة هذه العلاقة السببية فإن مفهوم الخلل الوظيفي يحيلنا إلى مفهوم البديل الوظيفي في كثير من الوجوه، وبعبارة أخرى يمكن القول بأنّ البدائل الوظيفيّة تصدر عن الخلل الوظيفيّ، وعندما يحدث خلل وظيفيّ ما فإنّ المجتمع يبحث عن البديل الوظيفيّ. ومثال ذلك عندما تخلّت الأسرة عن دورها التربويّ أوجد المجتمع مؤسّسات بديلة تقوم بهذه الوظيفة مثل رياض الأطفال ودور الحضانة والمدارس.

وعلى خلاف الوظيفين الكلاسيكيّين يرى ميرتون أنّه يجب على الباحث ألّا يقتصر تركيزه على الثبات الاجتماعيّ أو ما هو ثابت في المجتمع، بل يجب عليه بحكم الضرورة أن يهتمّ بدراسة التغيّر الحادث في الظواهر الاجتماعيّة، والتبدل الحاصل في التكوينات الاجتماعيّة. ويؤكد ميرتون في هذا السياق على قانونيّة التغيّر الاجتماعي، إذ لا يمكن لأيّ ظاهرة اجتماعيّة أن تبقى على حالها، فكلّ شيء يتغيّر في المجتمع ويتبدّل، وهذا الأمر ينطبق على الوظائف الّتي يمكن أن يعتريها التغيّر والتبدّل والتجدّد أيضاً.

ومن الواضح أن ميرتون يعتمد مفهوم "البدائل الوظيفيّة " لتغطية وضعيّة التجدّد والتبدّل في الوظائف، ويتمثّل مفهوم البدائل الوظيفيّة في ظهور وظائف جديدة لم تكن موجودة من قبل لتحلّ محلّ الوظائف التقليديّة القديمة الّتي فقدت مبرّرات وجودها تحت تأثير التطوّر الاجتماعيّ.

ومن الواضح أنّ الوظيفيّين يرون أنّ المجتمعات تمتلك في ذاتها على خصائص ومزايا وآليّات ذاتيّة تمكّنها من الاستمرار والبقاء على قيد الحياة. ويجد هذا الأمر قبولاً عند ميرتون، ولكنّه في الوقت نفسه يقرّ بقابليّة هذه الخصائص والوظائف للتغيّر والتبدّل والاستبدال، ويرفض أن يكون هناك مؤسّسات معيّنة تكون هي الوحيدة القادرة على أداء هذه الوظائف؛ ويعلن أنّ مجموعة واسعة من البدائل الوظيفيّة قادرة على أداء الوظائف نفسها. وتعدّ فكرة البدائل مهمّة جدّاً؛ لأنّها تلفت انتباه علماء الاجتماع إلى أهمّيّة البحث عن الوظائف البديلة الّتي يمكن للمؤسّسات البديلة المختلفة أن تؤدّيها، ومن البيّن أن القول بمفهوم البديل الوظيفيّ يخفّف من النزعة الوظيفيّة المحافظة التي تكرس مفهوم التوازن الاجتماعي والمحافظة على الأوضاع الاجتماعية الراهنة وهو قول يتضمن بعدا أيديولوجيا يتستر بالمقولات الوظيفية التبريرية.

ويرى ميرتون في هذا الخصوص بأنّه يمكننا التعرّف على جوانب الاختلال الوظيفيّ في المجتمع وفحصها من أجل وضع تصوّرات واضحة للبدائل الممكنة الّتي يمكنها المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه الوظيفيّ، وقد عمل في هذا السياق على تنظيم مفاهيم القوّة والصراع والتنافس والخلل الوظيفيّ ووضعها ضمن نسق نموذج بنائيّ وظيفيّ.

وباختصار يدّعي ميرتون أنّه في مجتمع شديد التباين قد لا تكون الوظائف جميعها ذات صلة باحتياجات النظام. ويقرّ كذلك بأنّ بعض الوظائف يمكن أن يكون لها تأثيرات إيجابيّة أو سلبيّة على النظام ككلّ ([47]). ويؤكد أنّ النظام يمتلك القدرة على إبداع "بدائل وظيفيّة"؛ تقوم بوظائف جديدة مختلفة، لم يسبق تصوّرها في الأصل، ويمكن لهذه الوظائف أن تفي باحتياجات النظام، وأن تكون في الوقت نفسه بديلاً لتشكيلات وظيفيّة قديمة فقدت مبرّرات وجودها.

6-أنماط التكيف الاجتماعي ونماذجه:

وضع ميرتون نموذجاً وظيفيّاً للتكيّف الاجتماعيّ يتكوّن من خمس وضعيّات تفاعليّة تتمّ وفقاً للكيفيّة الّتي يحقّق فيها الفرد توازناً مشروعاً أو غير مشروع بين الأهداف الثقافيّة الّتي يسعى إلى تحقيقها والوسائل الّتي يعتمدها في تحقيق هذه أهدافه وطموحاته. وقد تمّ إعداد هذا النموذج النمطيّ لتحليل العلاقة السوسيولوجيّة بين الأهداف الثقافيّة المتاحة والوسائل الممكنة. وقد أعدّ هذا النموذج التحليليّ على منوال الأنماط المثاليّة الّتي نجدها في سوسيولوجيا ماكس فيبر ولا سيما النمط البيروقراطيّ. وباختصار يعتمد النموذج الخماسيّ للتكيّف الاجتماعيّ في دراسة تكيّف الأفراد في المجتمع، ورصد الكيفيّات الّتي يختارون فيها مواقفهم ووسائلهم لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم المنشودة. ويحدّد لنا خمس وضعيّات لهذه العلاقة بين الأفراد والوسائل والغايات تتمثّل في: الامتثال، والابتكار، والطقوسيّة، والانسحاب، والتمرّد، وسنقوم بوصف هذه الحالات الخمسة على النحو الآتي: 

6-1-أ - النمط الامتثالي (Conformity):

يتحقق النمط الامتثالي عندما تتوافق الوسائل المشروعة التي يعتمدها الأفراد مع الأهداف والغايات الثقافيّة المشروعة التي يسعون إلى تحقيقها، ويكون ذلك عندما يضع الفرد نفسه في خدمة المجتمع، ويعمل على تمثّل قيمة وأهدافه ومعاييره الاجتماعيّة ومنظوماته الثقافيّة والعقائديّة، ويأخذ بالوسائل الثقافيّة المشروعة لتحقيق أهدافه وطموحاته. وبعبارة أخرى، يحدث هذا النوع من التكيّف عندما يسعى الأفراد إلى تحقيق طموحاتهم الاجتماعيّة المشروعة بالوسائل الثقافيّة المشروعة الّتي يحدّدها المجتمع. ومثال ذلك عندما يقوم الأفراد بتكرّس جهودهم للتعلّم والحصول على الشهادات العلميّة واكتساب الخبرات وبذل الجهود المضنية في سبيل تحقيق النجاح الاجتماعيّ والمادّيّ والمعنويّ في حياتهم.

ويسود هذا النمط في المجتمع عندما يوفّر المجتمع لأفراده جميعاً فرص متكافئة يتمكّن فيها الأفراد جميعاً من امتلاك الوسائل المشروعة لتحقيق طموحاتهم وأمانيهم المشروعة. وهذا يعني إنّه عندما يوفّر المجتمع فرض التعلّم والحياة الكريمة، وكلّ الوسائل الممكنة لتحقيق النجاح لجميع أفراد المجتمع، فإنّ الأفراد سيعمدون مبدأ الامتثال والتوافق الاجتماعيّ بين أهدافهم ووسائل تحقيقها، وسيأخذون بالوسائل المشروعة لتحقيق أهدافهم.

ولكن، وعلى خلاف ذلك، فإنّ المجتمع الّذي يضع أهدافاً ثقافية، ويطالب الأفراد بالسعي إلى تحقيقها بوسائل مشروعة صعبة المنال لا يتمكن منها إلا بعض الفئات الاجتماعية، فإنّ الأفراد على الأغلب سيعتمدون وسائل غير مشروعة لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم، ويستفاد من ذلك أنّ أسباب الامتثال تعاكس أسباب الشذوذ والانحراف في المجتمع. وباختصار يحدث هذا النمط من التكيّف، حين يتقبّل الأفراد الأهداف الثقافيّة، ويتقبّلون في الوقت نفسه الأساليب الّتي يحدّدها النظام الاجتماعيّ بوصفها أساليب مشروعة لتحقيق هذه الأهداف.

6-2- ب- النمط الابتداعي أو الابتكاري (Innovation):

يعدّ النمط الابتداعيّ أو الابتكاريّ أحد أشكال التكيّف السلبيّة الانحرافيّة في المجتمع. فالأفراد وفقاً لهذا النموذج يأخذون بالأهداف الثقافيّة، ويرفضون الأساليب المشروعة في تحقيقها. وتنطبق هذه الوضعيّة على الأفراد الّذين توصد في وجوههم الأسباب المشروعة كنتيجة لظروفهم الاجتماعيّة الصعبة إذ قد لا يجدون في بيئتهم ما يمكّنهم من النجاح المدرسيّ، والانصراف إلى التعليم، وغير ذلك من الظروف الاجتماعيّة المواتية، وبالنتيجة فإنّهم لا يستطيعون الوفاء بالوسائل المشروعة لتحقيق أهدافهم، فيلجؤون إلى تبنّي وسائل وأساليب غير مشروعة اجتماعيّاً لتحقيق النجاح، وهم في ذلك يبتدعون هذه الوسائل والأساليب مثل تجارة المخدّرات الغشّ البغاء العنف السرقة، وغالباً ما يسود هذا النوع في بين الفئات الاجتماعيّة الفقيرة والمهيضة.

وفي هذا السياق يرى ميرتون أنّ الثقافات الرأسماليّة، الّتي تؤكّد قيم النجاح الفرديّ والمنافسة والإنجازات الفرديّة، تعزّز هذا التوجّه، وترسّخه في نفوس الأفراد، وعلى خلاف ذلك، فإنّ المجتمعات الّتي تركّز على قيم الجماعة والتعاون والإنجازات المشتركة بين الأفراد تتراجع فيها هذه النزعة وتفقد أهمّيّتها. وهو في هذا السياق يحمل التنشئة الاجتماعيّة مسؤوليّة التوجّهات الانحرافيّة. وقد بيّن في كثير من أعماله أنّ الضغط الثقافيّ الاجتماعيّ الّذي يمارس على الأفراد لتحقيق النجاح والتفوّق والغنى والثروة، دون أن يركّز على الوسائل الأخلاقيّة المشروعة لتحقيق هذه الطموحات الاجتماعيّة.

6-3-ج- النمط الطقوسي (Ritualism):

يرفض أصحاب هذا النمط الأهداف الثقافيّة الاجتماعيّ (الثروة، المال، الغنى، النجاح المادّيّ، الثروة الخ) ولكنّهم يراعون ويوافقون على الوسائل الاجتماعيّة المعتمدة في تحقيقها. أو أنّهم على الأقلّ يلتزمون بالوسائل المعتمدة تحت تأثير الضغط الاجتماعيّ. ويسود هذا النوع من التكيّف في أوساط الطبقة الوسطى الدنيا، مثل صغار الموظّفين البيروقراطيّين والعاملين في المؤسّسات الحكوميّة، ويفسّر ميرتون "وجود هذا النمط من التكيّف بأنّه يرجع إلى لأسلوب التنشئة الاجتماعيّة الصارم السائد في هذه الطبقة، وإلى الفرص المحدّدة للتقدّم المتاحة لأعضاء هذه الطبقة" ([48]).

فالأفراد الموظّفون في المصالح الإداريّة البيروقراطيّة يراعون بدقّة القواعد والقوانين السائدة دون أيّ غاية ترتجى من وراء ذلك، ويمكن وصفهم بأنّه أشخاص لا يمتلكون أيّ أهداف في واضحة ومحدّدة في الحياة. ومثال ذلك بعض طلّاب الجامعة الّذين يواظبون على مجرّد الحضور والالتزام بالدوام والأنشطة والمشاركة في الامتحانات بشكل عفويّ، دون أن يحملوا في ذواتهم أيّ أهداف تتعلّق بالنجاح والتفوّق، وقد نجد هؤلاء كثيراً في دائرة حياتنا الجامعيّة. ومثال ذلك: طالب يتقدّم للامتحان، فيجاوب عن الأسئلة بهدوء، دون أن يلتفت إلى ما حوله، ويبعد عن نفسه شبهة الغشّ، ثمّ بعد أن ينتهي يخرج من القاعة، دون أن يلتفت يمنة أو يسرة، وعندما تصدر النتائج لا يراجع أستاذ المادّة، أو يناقشه في درجته، وهو في هذا النمط السلوكيّ لا يهتمّ ولا يبالي فيما إذا حقّق نجاحاً كبيراً أو إذا رسب، والمهمّ بالنسبة له أن يتابع دراسته الجامعيّة كالمعتاد دون هدف واضح. وعلى خلاف ذلك نجد نموذج الطالب اللجوج الّذي يريد تحقيق النجاح بأيّ وسيلة ممكنة ولذا تراه كلّ وسائل الغشّ الممكنة، ويجادل أساتذته في درجاته، ويتوسّل لرفعها دون أيّ وجه حقّ.

وينطبق هذا النمط الطقوسيّ على الموظّفين البيروقراطيّين الّذي يتمسّكون بالروتين الآمن والمعايير المؤسّسيّة، وهم يعملون بشكل روتينيّ مملّ دون أيّ رغبة في العمل الإضافيّ أو في الترقية، ويجتهدون دون أيّ طمع في رضى الرؤساء أو المرؤوسين. فالشخص وفقاً لهذا النموذج يتخلّى عن أهداف النجاح والترقية والثروة، ومع ذلك يلتزم بعمله ونشاطه، ويأخذ بكلّ الأسباب الصحيحة الّتي تتعلّق بالأمانة والجدّ والجهد دون أيّ غاية ترتجى. وعلى هذه الصورة يمكن القول بأنّ هؤلاء الأشخاص يعتمدون العمل بوصفه أسلوب حياة، وليس وسيلة لتحقيق النجاح في أيّ صورة من صوره. وغالباً ما يتمسّك هؤلاء الأشخاص بوظائفهم وأعمالهم دون أيّ رغبة في الحصول على مكافآت أو تقديرات أو أيّ نوع من أنواع التشجيع والتقريظ.

6-4-د- النمط الانسحابي (Retreatism):

 يمكننا وصف النموذج الانسحابي بأنه نموج الدراويش والمتصوفين والزهاد الذين يشعرون بغربتهم الثقافية والاجتماعية، فيحاولون الانسحاب إلى ذواتهم للعيش في دوامات أفكارهم الخاصة والتأمل في تطلعاتهم المفارقة لهذه التي تفرض نفسها في المجتمع. ويعد هذا النمط أقل الأنماط شيوعاً وحضورا في المجتمعات الرأسمالية. ويمكن القول: إنّ الفرد الذي يأخذ بهذا النمط الانسحابي يعيش في المجتمع بطريقة لا يشعر فيها بالانتماء إليه، ويمكن تصنيفهم تحت شعار المثل الذي يقول: "كن مع الناس ولا تكن منهم" أي: جاورهم في ديارهم ولا تجارهم في تطلعاتهم وأعمالهم. والأفراد الانسحابيون يعيشون في المجتمع ولا يأخذون بقيمه الثقافية ويرفضون في الوقت نفسه الوسائل التي تتيحها الثقافة السائدة فيه. وهذا يعني أن الأفراد الذين يصنفون في هذه الفئة يتخلون كليّة عن الأهداف والوسائل التي تحددها الثقافة السائدة في المجتمع. ويقع في هذه الفئة الأفراد الذين أصيبوا بالجنون، وهؤلاء الذين يعيشون في حالة تشرد والمدمنين على الخمور المخدرات، كما يمكن أن يشمل هذا التصنيف المتصوفة والزهاد والنساك. ویری ميرتون أن هؤلاء الانسحابيين يحاولون الهروب من المجتمع والعيش خارج مطلقاته الثقافية ودلالاته الاجتماعية والثقافية، وهم يتنكرون لمستقبلهم، ولا يأبهون بمسؤولياتهم تجاه أسرهم وأطفالهم وأقربائهم، وهم باختصار يرفضون القيم السائدة في ثقافة المجتمع كما يرفضون في الوقت ذاته الوسائل المشروعة لتحقيقها.

6-5-هـ- نمط التمرد (Rebelion) :

 ويعد نمط التمرّد من أخطر أشكال التكيف الاستلابي في المجتمع، فالتمرد كما يشي عنوانه يعني رفض كلي للقيم والعادات والتقاليد والقيم الثقافية والوسائل المشروعة التي يتبناها المجتمع في تكيّفه الداخلي. ولا يكتفي أتباع هذا النموذج برفض الأهداف والوسائل معا بل يعملون على استبدالها بقيم ووسائل أخرى. وإذا كان النهج الانسحابي يتميز برفض الأهداف والأساليب معا بصورة سلبية تؤدي إلى الهروب من المجتمع، فإن النمط التمردي يأخذ بالرفض الإيجابي للأهداف والوسائل، ويمتثل ذلك في التوجه إلى إيجاد قيّم جديدة وإبداع وسائل جديدة واستبدالها بالقديمة ([49]).

 وفي دائرة هذا النمط يمكن تصنيف المفكرين المجددين، والمصلحين، وقادة الحركات الثورية الراديكالية، وأصحاب النزعات الإرهابية الجديدة، الذي يعملون على تأسيس أنظمة ثقافية وفكرية جديدة، ويقومون في الوقت نفسه بتحديد الوسائل الجديدة المتاحة لتحقيقها وتجديدها. وهؤلاء جميعا يرفضون القيم الثقافية والوسائل المتاحة لتحقيقها ولكنهم يعملون على استبدالها يقيم ومناهج وأساليب جديدة لإعادة بناء النظام الاجتماعي.

ويرى ميرتون، في هذا السياق، أنّ سلوك التمرد يحدث في أثناء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي مواجهة الانسداد الثقافي، والانغلاق الاقتصادي، والضغط الثقافي الشديد، ومشاعر الحرمان والإحباط، وتزايد حدة الإكراه الاجتماعي في المجتمع. وهذه الوضعيات الحرجة تؤدي إلى ولادة إيديولوجيات جديدة تعمل على تعبئة التصورات والمشاعر والإرادات في التأسيس لرؤية اجتماعية ثقافية جديدة تعد بإخراج المجتمع من أزماته واختناقاته المزمنة. وبصورة عامة يرى ميرتون أنه كلما ارتفع منسوب الحرمان والإحباط ومشاعر الاغتراب والاستلاب ارتفعت فرض ظهور التيارات الفكرية الجديدة المتمرة، وزيادة عدد الأفراد النازعين إلى الثورة والتمرد على مبدا أن الضغط يؤدي إلى الانفجار.

ويراهن ميرتون على أن التغير والتطور قد يحدث في المجتمع خلال الابتكار أو التمرد، ومن الطبيعي أن المجتمع التقليدي يعارض بداية هذه التوجهات التمردية والابتكارية، ويرفض الإبداعات التي يقدمها الأفراد، ويعمل على إخضاعهم، ومصادرة أفكارهم الجديدة وتصوراتهم المبتكرة، وإعادتهم إلى بيت الطاعة. ولكن عندما تشتد وتائر التمرد وتشتد رياح التغيير فإن المجتمع يجد نفسه مرغما على قبول الابتكارات الجديدة، والتكيف مع مطالب التجديد والابتكار، كي لا يواجه مخاطر التفكك والانحلال.

6-6- رؤية بانورامية لأنماط التكيف:

أفاض ميرتون كثيرا في شرح النماذج التكيفية الخمسة في كثيرٍ من أعماله، وقد شكل نموذجه المثالي الخماسي للتكيف منهجا يعتمد في تحليل الظواهر الاجتماعية البنائية، ولاسيما في مجال دراسة العقليات والذهنيات الاجتماعية السائدة. ومن أجل تقديم قراءة شمولية للعلاقة بين الوسائل والغايات في تحديد الأنماط التكيّفيّة قمنا بتصميم الجدول (1) الذي يتضمن رؤية بانورامية للأنماط التكيفيّة الخمسة عند ميرتون.

الجدول (1)

نموذج ميرتون للسلوك التكيفي والانحرافي

 

الأهداف

 المشروعة

الوسائل

المشروعة

نمط التكيف

 

قبول

قبول

نمط الامتثال

1

قبول

رفض

النمط الابتداعي

2

رفض

قبول

النمط الطقوسي

3

رفض

رفض

النمط الانسحابي

4

رفض / واستبدال

رفض/ واستبدال

نمط التمرد

5

 ومن المهم في هذا السياق أن ميرتون كان قد حذّر من الفهم الخاطئ للتصنيف النمطي الخماسي، إذ يعلن بأن تصنيفه هذا ليس تصنيفاً للشخصية، ويعني ذلك أنه لم يكن يحاول وصف خمسة أنواع من شخصيات الأفراد، بل يصف خمسة نماذج سلوكية يتخذها الناس في سلوكهم. ويترتب على ذلك أن الشخص الواحد قد يؤدي أكثر من نمط سلوكي تكيفي في عدة مستويات وفق المواقف والأدوار التي يقوم بها، وعلى هذا الأساس يمكن للمعلم أن يصنف مبتكراً مبتدعاً إذا اعتمد وسائل تربوية مختلفة عما هو مقرر في المدرسة، أو في الوزارة، ويمكن للأشخاص المحترمين أن يمارسوا عملية الغش والخداع في بعض الحالات كأن يزوروا في ضرائبهم، أو ينتهكوا قوانين المرور. وهذا يعني أنه يمكن للشخص الواحد أن يمارس عدة أدوار نمطية في مواقف متعددة، كأن: يكون مبتدعا في موقف، أو طقوسيا في موقف آخر، ومتمردا في مرحلة ما، وهذا يعني أن الشخص الواحد قد يتقلب في عدة أنماط سلوكية، وهذا مرهون بالزمن والوقت والظروف. فعلى سبيل المثال عندما يتقدم الشخص في العمر قد يتحول من النمط الامتثالي إلى النمط الانسحابي، وقد يكون متمرداً في مرحلة ما وطقوسياً في مرحلة أخرى. وباختصار الأنماط هي نماذج سلوكية وليس نماذج للشخصية كما يرى ميرتون.

 وإذا أردنا تقديم صورة مختصرة للنموذج التكيفي الخماسي من خلال مطالعة الجدول رقم واحد يتضح لدينا أن الصف الأول من الجدول يمثل مبدأ التوافق أو الامتثال الذي يتحقق بقبول الأهداف والوسائل.

ويتجلى النمط الابتداعي في الصف الثاني الذي يقوم على رفض الوسائل وقبول الأهداف. وفي الصف الثالث نجد النموذج الطقوسي الذي يعني قبول الوسائل ورفض الأهداف. وفي الصف الرابع نجد النمط الانسحابي الذي يعني رفض الوسائل والأهداف معا. وفي الصف الخامس نجد نموذج التمرد الذي يعني رفض الوسائل والغايات الثقافية وإيجاد البدائل لهما. وباختصار يعبر النموذج الامتثالي عن الحالة الأمثل للمجتمع الوظيفي، بينما يعبر النموذج الابتداعي على الانحراف الاجتماعي (مثل الجريمة والانحراف).

7- نقد نظرية ميرتون

اجتهد ميرتون في نقد التصوّرات الكلاسيكيّة الوظيفيّة محاولا إعادة بنائها على أسس منهجية جديدة وتصوّرات نقديّة متجدّدة، واستطاع في نهاية المطاف أن يقدّم لنا نموذجاً وظيفيّاً أكثر تطوّراً وتماسكاً وتكيّفاً مع معطيات العصر ومتطلباته الحضارية.

وعلى الرغم من الانتقادات الكبيرة الّتي وجّهها ميرتون إلى المسلّمات الوظيفيّة، لم يستطع أن يخرج من عباءة النظريّة الوظيفيّة، وبقي في مختلف أعماله وظيفيّاً حتّى العمق، يعمل وينتج فكراً وظيفيّاً غايته التأكيد على المرتكزات الأيديولوجيّة للنظريّة الوظيفيّة. ويرجّح أنّ النقد الّذي وجّهه ميرتون إلى وظيفيّة بارسونز لم يتعدّ التفاصيل، ولم يلامس العمق الأيديولوجيّ لوظيفيّة بارسونز، أو غيره من الوظيفيّين الكلاسيكيّين، وقد رهن نظريّته في مجملها في مجال التأكيد على جوهر المسلّمات الوظيفيّة، الّتي تركّز على أهمّيّة التوازن، والاستقرار، والتضامن الاجتماعي، والمحافظة على راهن الأوضاع الاجتماعية، ومناوئة التغير والتبدل في المجتمعات الرأسمالية. وقد أكّد في مسار إنتاجه الفكريّ على مفاهيم التكامل الاجتماعيّ، وعلى دور الثقافة في ترسيخ وحدة المجتمع وتضامنه. ويمكن القول في هذا السياق إنّ معظم الانتقادات الرئيسيّة الّتي وجّهت إلى الوظيفيّة الكلاسيكيّة تنطبق في جوهرها إلى حدّ كبير على نظريّة ميرتون.

أكّد ميرتون بوضوح وجود تناقضات اجتماعيّة وثقافيّة في المجتمع الأمريكيّ، ولكنّه لم يبحث في العوامل والمتغيّرات الاقتصاديّة الّتي تشكّل المصدر الحيويّ لمثل هذه التناقضات، وقد تجنّب - على غرار الوظيفين الكلاسيكيّين- الخوض في الجوانب المادّيّة لحياة الناس ووجودهم، واستمرّ في تحليل ما هو ثقافيّ بما هو ثقافيّ، أي بقي يتحرّك فكريّاً ويدور في إطار الأنساق الثقافيّة، ليفسّر الظواهر الاجتماعية وفقا للمنظور الوظيفي الثقافي. ولذا لا نجد في نظريّته تفسيرا لما يجري في المجتمع على أساس اقتصادي اجتماعي، وهو في مختلف تفسيراته لا يقدّم لنا تصوّراً واضحاً عن الأسباب والعوامل الاقتصاديّة المؤثّرة في حياة الناس ووجودهم. ويبدو هذا الأمر واضحاً في تناوله لنماذج التكيّف الخمسة الّتي جعلها تدور في فلك ثقافيّ محض، فكلّ ما يحدث في المجتمع يحدث وفقاً لمعادلة التناقض أو التوافق بين الأهداف الثقافيّة المعلنة والوسائل المتاحة المشروعة لتحقيقها. ويبدو لنا أنّ ميرتون لم يأخذ بعين الاعتبار العوامل الحقيقة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي تتمثّل في الفقر والبطالة والأوضاع الهامشيّة للأفراد، ولم يعط أيّ اهتمام للتقسيم الطبقيّ وتناقضاته المجحفة في المجتمع الرأسماليّ القائم على تغييب موازين العدالة الاجتماعيّة واحتكار السلطة والمال والثروة.

وعلى إيقاع هذا التجاهل، وجّه إيّان تايلور نقداً شديداً لميرتون، إذ يرى بأنّه "اقتصر في أبحاثه على وصف الواقع الأمريكيّ، ونقد بعض جوانبه الثقافيّة، دون أن يمسّ جوهر العلاقات فيه" ([50]). وهذا يعني أنّ ميرتون توقّف "عند حدود الدعوة الإصلاحيّة الجزئيّة للمجتمع، دون أن يكون قادراً على طرح البدائل الاجتماعيّة، ودون أن يأخذ بعين الاعتبار أهمّيّة التغيير والتغيير الجذريّ في المجتمع"([51]). وقد اعتاد ميرتون على سبيل المثال أن يفسّر إخفاق الأمريكيّين في تحقيق حلمهم الأمريكيّ بالعوامل الثقافيّة المحضة، دون أن ينظر في أوضاعهم الاجتماعيّة وشروط حياتهم الوجوديّة. وهو دائماً، عندما يحدّثنا عن اللامساواة أو عدم تكافؤ الفرص الاجتماعيّة، يغضّ النظر عن الأسباب الحقيقيّة لمظاهر اللامساواة والتفاوت والتناقض القائم بين أفراد المجتمع وطبقاته الاجتماعية، وعلى هذا الأساس يعيد مختلف الظواهر المرضيّة السلبيّة وغير السويّة في المجتمع - مثل التفكّك والانحلال الأخلاقيّ والشذوذ والمظاهر الاستلابيّة - إلى التناقضات الثقافيّة القائمة بين الأهداف الثقافيّة والوسائل المشروعة ثقافيّاً. وهذا يعني أنّه يفسّر مختلف الظواهر الاجتماعيّة حتّى والاقتصاديّة منها على نحو ثقافيّ، وعلى هذا النحو يغيب البعد الاقتصاديّ والمادّيّ لحياة الناس ووجودهم، في مختلف تناولاته السوسيولوجيّة، وهذا هو يقيناً ديدن الوظيفيّة منذ نشأتها حتّى اليوم، إذ يركّز أربابها على العناصر الثقافيّة والذاتيّة والفرديّة في تفسير مختلف مظاهر الحياة، وهم في سياق ذلك يتجاهلون كلّيّة العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الفاعلة في إنتاج حياة الناس ووجودهم. وقد لاحظنا أنّ ميرتون يفسّر الظواهر الاجتماعيّة الانحرافيّة في المجتمع الأمريكيّ بالتناقضات الثقافيّة الساذجة الّتي تتمحور في التناقض بين الأهداف الثقافيّة المشروعة والوسائل المشروعة ثقافيّاً، ويركّز على أنّ معظم المشكلات الاجتماعيّة تأخذ طابعاً ثقافيّاً وأنّ الظواهر الثقافيّة تفسّر ثقافيّاً أيضاً؛ وعلى هذا الأساس يقوم بتحليل المجتمع الأمريكيّ، ويفسّر مختلف مشكلاته بالعناصر الثقافيّة الكامنة في الثقافة الأمريكيّة. ومن اللافت أنّ ميرتون قام تحليل الانحلال الأخلاقيّ للأمريكيّين بوصفه تناقضاً بين الأهداف والوسائل الثقافيّة، وعلى هذا النحو يفسّر ما ثقافيّ بما هو ثقافيّ، وما هو اقتصاديّ بما هو ثقافيّ، دون أن يبحث في العناصر والمتغيّرات والأسباب الاجتماعيّة الاقتصاديّة البنائيّة.

وباختصار يؤسّس ميرتون نظريّته الوظيفيّة على جوهر المسلّمات الأساسيّة لروّاد للوظيفيّة الكلاسيكيّة، ولا تعدو الانتقادات الّتي وجّهها إلى كلاسيكيّات الوظيفيّة حدود القضايا والمقولات الجزئيّة الثانويّة، وقد سلّم قطعيّاً بأنّ الثقافة هي أساس البناء الاجتماعيّ، ولم يأخذ العوامل الاقتصاديّة الاجتماعيّة بعين الاعتبار. فالقيم والمعايير الثقافيّة تشكّل في نظريّته المنطلق الأساسيّ في تفسير مختلف الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة وحتّى الاقتصاديّة منها. وقد استبعد المنهج التاريخيّ في تحليله للظواهر الاجتماعيّة، وفي تناوله لأكثر قضايا المجتمع حيويّة وأهمّيّة.

ويؤخذ اليوم على نظريّة ميرتون المبالغة في التركيز على افتراض أنّ النظام الاجتماعيّ يقوم على مبادئ الاتّفاق أو الإجماع والتوازن الاجتماعيّ، ويبني على ذلك أنّ البنى الاجتماعيّة بكلّ مكوّناتها تأخذ بمشروعيّة القيم والمفاهيم والتصوّرات والأهداف والوسائل الثقافيّة الّتي تسود في المجتمع، وهي الّتي فرضها النظام الرأسماليّ الّذي يهيمن أيديولوجيّاً وفكريّاً واقتصاديّاً على المجتمع برمّته، والأخطر في ذلك كلّه أنّ ميرتون - وحاله حال الوظيفين جميعاً - يتجاهل بوضوح مختلف الظواهر الاجتماعيّة الّتي تنجم عن الصراع الاجتماعيّ الطبقيّ، ويهمل في الوقت نفسه مختلف أشكال المعارضة السياسيّة والاجتماعيّة، كما يتجاهل الإشارة إلى القوى السياسيّة اليساريّة ونضالها من أجل مجتمعات أكثر عدلاً. وهذا هو الأمر الّذي دفع علماء الاجتماع الماركسيّين إلى نقد وظيفيّة ميرتون؛ نظراً لموقفها المعادي للصراع الطبقيّ والعوامل الاجتماعيّة الاقتصاديّة والمادّيّة في المجتمع، وكذلك إهمالها دور السلطة السياسيّة الرأسماليّة والهيمنة الطبقيّة في مختلف مظاهر البؤس الاجتماعيّ والتفاوت الطبقيّ الّذي يتجلّى في أكثر مظاهر الاستغلال والبؤس والشقاء الإنسانيّ في المجتمع الاغترابيّ الأمريكيّ ([52]).

وقد تعرّض ميرتون للنقد الشديد، عندما تحدث عن مشروعيّة النظام العبوديّ وضرورته في المجتمع الأمريكيّ في مرحلة سابقة، ويؤخذ عليه أيضا أنه عندما أشار إلى سلبيّات العبودية أشار إلى هذه الّتي لحقت بالبيض دون السود. فالنظام العبوديّ - كما يرى- كان وظيفيّاً وإيجابيّاً للبيض في أمريكا الجنوبيّة، ومن ثمّ تحوّل إلى طاقة سلبيّة ضدّ البيض، وليس ضدّ السود أو المجتمع بأسره، وهو في هذا السياق تجاهل الوضعيّة الاغترابيّة الاستلابيّة الّتي عاشها السود في الولايات المتّحدة، ولم يتطرّق قطّ إلى عذابات السود ونضالهم ومآسيهم إلّا من وجهة نظر الدور الإيجابيّ للعبوديّة الّتي أدّت سابقاً إلى الازدهار الاقتصاديّ والاجتماعيّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

ويبدو لنا، إنّه لمن السذاجة بمكان أن يلجأ ميرتون إلى تفسير المظاهر الاستلابيّة في المجتمع بنموذجه الخماسيّ البسيط الّذي يمكن رسمه في جدول واحد كما فعلنا، وأن يعتمد هذا الجدول بصفوفه الخماسيّة في تفسير مختلف مظاهر البؤس والشقاء والاستلاب في المجتمع، وذلك من خلال التناقض بين الأهداف الثقافيّة المشروعة وبين الوسائل المشروعة لتحقيقها. فعلى سبيل المثال يفسّر ميرتون ظاهرة الاستلاب الاجتماعيّ والتمرّد والاغتراب ومختلف الظواهر الاجتماعية من خلال مقولة التوافق أو التناقض بين الوسائل المشروعة والغايات الثقافيّة المعلنة، وعلى هذا الأساس فإنّ ظواهر التسوّل والمخدّرات والفقر والفاقة كلّها ناجمة عن تناقض بين الأساليب والغايات في المجتمع الأمريكيّ، وذلك دون أن يؤخذ بعين الاعتبار تأثير عوامل الدخل الاقتصادي، والطبقة الاجتماعية، والظروف الاجتماعيّة، والملكيّة الخاصّة، والشروط الاجتماعيّة التاريخيّة الّتي تحيط بالطبقات العاملة والفقيرة المهيّضة. ويضاف إلى ذلك أنّ ميرتون لم يتناول ظواهر الاستغلال الرأسماليّ للعمّال، والقوانين الرأسماليّة المجحفة بحقّ الطبقات العمّاليّة والفقيرة في المجتمع الأمريكيّ. ويبدو لنا أن ميرتون عالج هذه القضايا على منوال ما نجده في السينما الأمريكيّة الّتي غالباً ما تدور حول مسألة تحقيق الحلم الأمريكيّ والنجاح والتفوّق والجهد الفرديّ، وكأنّ معظم المشكلات تنجم عن مفارقة الواقع والحلم والعلاقة بين الوسائل والغايات الثقافيّة.

ويتّضح أيضاً، ومن خلال مطالعة أعمال ميرتون أنّه في الوقت الّذي يهمل فيه دور العوامل الاجتماعيّة وتأثيرها في تشكيل الظواهر الاجتماعيّة، يركّز بقوّة على أهمّيّة العوامل النفسيّة السيكولوجيّة والأسطوريّة، ويؤكّد أهمّيّتها الكبيرة في تشكيل السلوك الاجتماعيّ وتحديد معالم الظواهر الاجتماعيّة، ويبدو ذلك واضحاً في كثير من مفاهيم نظريّته، ولا سيّما في مقولته حول "النبوءة ذاتيّة التحقّق " (Self-fulfilling prophecy) أو "النبوءة المدمّرة لذاتها" (Self-destructive prophecy)، وهي مفاهيم سيكولوجيّة تتحدّر من أصول أسطوريّة إغريقيّة يوظّفها في تفسير الظواهر الاجتماعيّة، وقد وجد في هذا السياق بأنّ التنبّؤ نفسه يؤدي دوراً كبيراً في تحقيق الحلم الاجتماعيّ، أو قد يسقطه([53]). وقد ذهب بعيداً في هذا الأمر، إذ قام بتفسير سقوط الأنظمة الاشتراكيّة سيكولوجيا وفق مفهوم " النبوءة المدمّرة لذاتها". وقد أشار ميرتون إلى التأثير السلبيّ لنبوءة كارل ماركس الّذي كان قد أعلن حتمية انتصار الثورة الاشتراكية وذلك لأن تطور المجتمعات سيؤدي إلى تقاطب الفقر والغنى في اتجاهين مختلفين، ويعني ذلك تمركز الفقر في جانب الفقراء والعمال والمهمشين اجتماعيا يقابله تمركز الثروة في جانب الأغنياء من أبناء الطبقة الرأسمالية، وعلى هذا الأساس ستعاني غالبيّة المجتمع من الفقر والبؤس. وفي سياق تحليله لهذه القضية يرى ميرتون أن نبوءة ماركس ساعدت على تحفيز الحركة الاشتراكيّة الّتي أدّت في كثير من البلدان إلى إبطاء التطوّر الاقتصادي الاجتماعي الّذي توقّعه ماركس. وعلى هذا النحو سقط ميرتون في مستنقع الحتميّة السيكولوجيّة الّتي تقلّل كثيراً من الطابع الموضوعيّ للبحث السوسيولوجيّ، الّذي يفترض به أن ينأى عن العوامل الذاتيّة والسيكولوجيّة وهو الأمر المنهجيّ الّذي رسخه دوركهايم في نظريّته عن قواعد المنهج.

وممّا لا شكّ فيه أنّ ميرتون قد أدرك بوضوح وجود تناقضات اجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة كبيرة في المجتمع الأمريكيّ، ولكن يؤخذ عليه أنه لم يستطع، أو ربّما لم يُرد لأسباب أيديولوجية أن يبحث عن الأسباب الحقيقة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الكامنة في أصل هذه الظواهر، فاقتصر على التفسير الثقافيّ لهذه التناقضات، وقد تبنّى الأطر المثاليّة الثقافيّة في تناوله لهذه الظواهر.

 ومن اللافت أنّ ميرتون يصف ما هو قائم، دون أن يقدّم تصوّرات حول تتعلّق بإيجاد الحلول للمشكلات والتحدّيات والتناقضات الّتي يواجهها المجتمع الأمريكيّ أو غيره من المجتمعات. ويمكن أن نستنتج عندما نأخذ بنظريّة ميرتون أنّه يجب تغيير الثقافة القائمة في المجتمع من أجل حلّ المشكلات الّتي يعانيها المجتمع الأمريكيّ!! وهذا الأمر فيه مفارقة كبيرة؛ لأنّ الثقافة نتاج للعوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ولا يمكن تفسير المادّيّ بالثقافيّ، بل على العكس من ذلك، إذ لا بدّ للثقافة أن تؤسّس على مرتكزات اجتماعيّة اقتصاديّة تبرّر وجودها ووظيفتها؛ فالثقافة تعبير عن حياة الناس ووجودهم وحضورهم المادّيّ في المجتمع، وليست حياة الناس تعبيراً عن الثقافة، فالثقافة لا تطعم الجائعين، ولا تكسي العريانين، ولا تشبع جوع الأطفال، ولا تحميهم من قرّ الشتاء وقيظ الصيف. فالناس يحتاجون من أجل عيشهم الطعام والشراب والأرض والسكن والعمل، وفيما بعد يؤسّسون ثقافتهم لتقوم بتنظيم هذه الأمور الاقتصاديّة، فالثقافة لا تطعم خبزاً، بل تعلّمنا آداب الطعام، وتعلمنا كيف نحصل عليه. ويبنى على ذلك أنّ تكافؤ الفرص لا يمكن أن يكون مشكلة ثقافيّة، ولو كان كذلك، فمن السهولة بمكان أن نجري تغييراً في الثقافة، وبعبارة أخرى الحلّ لا يوجد في عالم الأفكار، بل يوجد في عالم الوقائع، وهذا يعني أنّ سبب اللاتكافؤ يكمن في التوزيع غير المتكافئ للثروة والقوّة في المجتمع.

ومن الجليّ الواضح أنّ وظيفيّة ميرتون تعاني من نزعة تبسيط الظواهر الاجتماعيّة المعقّدة ووضعها في نماذج مبسّطة لا يمكنها أبداً أن تعبّر عن التعقيدات الّتي تتميّز بها الظواهر الاجتماعيّة؛ ومثال ذلك: النموذج الخماسيّ للتكيّف الاجتماعيّ الّذي يختزل الظواهر الاجتماعيّة ضمن حدود العلاقة الساذجة بين أهداف الثقافة ووسائل تحقيقها. وقد وصلت درجة التبسيط حدّاً خطيراً، إذ يكفي للباحث أن يصنّف فئة من الناس ترفض الوسائل، وترفض الأهداف معاً بوصفها جماعة تمرّد، وقد يكون العكس صحيحاً إذا كانت هذه الفئة تقبل بالوسائل والأهداف، إذ يمكن وصف الجماعة بالامتثاليّة، وبين الطرفين وإذا وافق الجماعة على الأهداف، ورفضوا الوسائل سيصنّفون على أنّهم منحرفون أو شاذون، وهنا تتّضح هذه البساطة الّتي لا تقوم على أيّ عمق تحلّلي لظواهر اجتماعيّة شديدة التعقيد.

 ويكاد يجمع النقّاد أنّ ميرتون لم يراهن أبداً على المسلمة الوظيفيّة الّتي تقول: بأنّ المجتمعات الرأسماليّة تتميّز بالثبات والتوازن والتكامل، وقد قلّل هذا التركيز كثيراً من دور النزاع والصراع وديناميّات القوّة والتغيير الاجتماعيّ الّتي تعدّ أساسيّة في مجال فهم الظواهر الاجتماعيّة وتحليلها. وقد أدّى هذا التركيز إلى تجاهل كبير لمسألة التغيير الاجتماعيّ، ورفض واضح للبحث في ديناميّات التطوّر والتغيّر في المجتمع، كما في مختلف مؤسّساته البنيويّة. ويضاف إلى ذلك تجاهل السلطة والتفاوت الاجتماعيّ ودورهما في تحديد بعض الظواهر والتأثير في تشكيل الوظائف الاجتماعيّة.

8- خاتمة:

على الرغم من الانتقادات الأيديولوجية العنيفة التي وجهت إلى نظرية ميرتون وأعماله، فإن ميرتون قد صنف بوصفه أحد أبرز المؤسّسين لعلم الاجتماع الحديث، وأكثرهم تأثيراً في السوسيولوجيا المعاصرة في القرن العشرين، ويتجلّى هذا التأثير في أعماله الإبداعية المميّزة الّتي ساهم فيها، ومن خلالها بشكل كبير في تطوير الفكر السوسيولوجيّ، وتنمية اتّجاهات جديدة في مجال النظريّة الاجتماعية والممارسة السوسيولوجيّة في مجال علم الاجتماع، وتشهد أعماله وكتاباته الغزيرة المثيرة على هذا العطاء الفكريّ في مجال علم الاجتماع المعاصر ([54]). وممّا لا شكّ فيه أنّ ميرتون استحقّ بجدارة أن يطلق عليه لقب "أبو علم الاجتماع المعاصر" وهو الّذي لم يقف أبداً عند حدود الوظيفيّة، بل تعدّاها إلى مجالات كثيرة علميّة وفكريّة وفلسفيّة، فكان له في كلّ قضيّة سوسيولوجيّة شأن كبير، واستطاع في جلّ أعماله أن يجمع بين النظريّة والتطبيق، وأن يخصّب الفكر بالعمل والواقع بالنظريّة، وأن يعمل على تشييد نظريّته السوسيولوجيّة على أسس علميّة أدهشت المفكّرين، وأخذت بلباب عقول الباحثين والمريدين.

ويصنّف النقّاد تأثير ميرتون الكبير في ثلاثة مجالات سوسيولوجيّة: في علم اجتماع العلوم، وعلم اجتماع الجريمة والانحراف، وفي مجال النظريّة البنائيّة الوظيفيّة. وكان له الفضل الكبير في تطوير علم الاجتماع وتوسيع نطاقه البحثيّ نظريّاً وأمبيريقياً.

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى جهوده الكبيرة التي مرسها ل تأصيل الوظيفيّة الجديدة، ولا سيّما في اجتراحه لنظريّة الوظائف المعلنة والوظائف الكامنة، وتأسيسه لنظريّة المدى المتوسّط، وتنمية البحث في مجال العلاقة بين البناء الاجتماعيّ والشذوذ الأخلاقي، وكذلك إبداعاته الفكريّة في مجال العلاقة بين البيروقراطيّة والشخصيّة، وجهوده الكبيرة في علم اجتماع المعرفة، وتأسيسه لعلم الاجتماع العلميّ.

ويلاحظ مؤرّخو النظريّة الاجتماعيّة أنّ محاضرات ميرتون حول النظريّة الاجتماعيّة استقطبت عشرات الباحثين ليس فقط من قسم علم الاجتماع، ولكن أيضاً من أقسام التاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد.

وقد قدّم ميرتون تراثاً هائلاً في مجال البحوث الميدانيّة، وقد تنوّعت دراساته هذه لتشمل تعاطي المخدّرات، والجماعات المرجعيّة، والزمن الاجتماعيّ، وتكوين الصداقات، وتصارع الأدوار، والأخلاقيّات العلميّة، والتعليم الطبّيّ، والبنية البيروقراطيّة للمؤسّسات، وقد استغرق في تناول هذا الكمّ الهائل من الموضوعات والقضايا الاجتماعيّة سنوات عديدة وطويلة. وقد عرف بقدرته الهائلة على بناء المفاهيم التجريبيّة الدقيقة وصقلها، وقد شكّلت هذه المفاهيم طاقة مركزيّة في مفردات العلوم الاجتماعيّة، وفي مفردات الحياة اليوميّة أيضاً. ويمكن أن تشمل قائمة المصطلحات الّتي سكّها ميرتون، وفرضت نفسها بقوة في عـلـم الاجتماع المعاصر: الوظائف الواضحة والكامنة، والمعوّقات الوظيفيّة (Dysfunctions)، النبوءة المكتفية بذاتها (Self Fulfilling Prophecy)، والنبوءة المدمّرة لذاتها (Self-destructive prophecy)، وحبّ الذات، وحبّ الغير، ونظريّات المدى المتوسّط، وغير ذلك من المفاهيم والمصطلحات السوسيولوجيّة ([55]).

أثر ميرتون بقوّة في شرائح واسعة من علماء الاجتماع البارزين أبرزهم: جيمس كولمان (James Coleman) وبيتر بلاو (Peter Blau) وسيمور مارتن ليبسيت (Seymour Martin Lipset) ولويس كوزر (Lewis Coser) وألفين جولدنر (Alvin Gouldner) وأليس كيت روسي (Alice Kitt Rossi) وريموند بودون (Raymond Boudon) وغاري رونسيمان (Gary Runciman) وجوناثان كول (Cynthia Epstein) وهارييت زوكرمان (Harriet Zuckerman) وجوناثان كول (Jonathan Cole) ([56]).

وقد أعجب بأعماله جيل من المفكّرين وعلماء الاجتماع، وأشادوا بالجهود الكبيرة الّتي بذلها في تطوير علم الاجتماع، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى شهادة عميد جامعة كولومبيا جوناثان آر كول (Jonathan R. Cole) الّذي كتب يقول فيها: "أصبح بوب ميرتون زعيماً لا ينافس للنظريّة الوظيفة في علم الاجتماع، وواحداً من أبرز علماء الاجتماع الّذين حاولوا إنشاء نظريّات اجتماعيّة يمكن اختبارها تجريبيّاً. لقد كان مدرّساً ملهماً، وقد ترك أثره الكبير في جيل من علماء الاجتماع مثل جيمس إس كولمان، وسيمور مارتن ليبست، وهناك عدد كبير آخر منهم، وقد أصبحوا من أهمّ الشخصيّات البارزة في علم الاجتماع، ولا ريب أنّه استطاع أن يؤسّس لعلم الاجتماع في أمريكا، وأن يضفي عليه طابع الشرعيّة. بالنسبة لي، كان مدرّساً نموذجيّاً وموجّهاً وزميلاً موثوقاً به وصديقاً مقرّباً. موته، من نواح عديدة، يضع فترة نهاية علم الاجتماع في القرن العشرين" ([57]).

ولا يمكننا في نهاية هذه الدراسة أن نقيم العطاء الكبير الّذي قدّمه ميرتون لعلم الاجتماع من مدخل وظيفيّ، فقد كان لميرتون صولاته وجولاته في ميادين كثيرة في علم الاجتماع، ولا سيّما في علم الاجتماع العلميّ أو المعرفيّ، وهو العلم الّذي أسهم في تأسيسه وترسيخ دعائمه سوسيولوجيا.

على مرّ السنين، أثبتت نظريّة ميرتون قوّتها وقدرتها على تفسير النظم الاجتماعيّة بما تنطوي عليها من ظواهر اجتماعية وتفاعلات إنسانية، ومما لا ريب فيه أن نظريّته كان لها تأثير كبير في تطوير علم الاجتماع، ويعود إليه الفضل في تطوير مناهج علم الاجتماع وتمكين الباحثين من توظيف منهجه الجديد المتمثل في النظرية الوسطى التي تشكل اليوم أداة منهجية فعالة في مجال البحث السوسيولوجي المعاصر، وهو المنهج الذي شاع استخدامه في مجال تحليل التوازن والتغيّر في المجتمع، وفهم الكيفيات التي تؤثر فيها العوامل الاجتماعيّة والثقافية في سلوك الأفراد.

وختاماّ، نقول: إن ميرتون قد ترك بصمته العميقة في مجال السوسيولوجيا المعاصرة، وقد شكّلت أعماله وأبحاثه ونظريّاته مصدر إلهام للمفكرين والباحثين والدارسين في هذا الميدان العلمي. ويقيناً أنّ ميرتون ترك تأثيره الكبير في السوسيولوجيا الوظيفيّة الّتي حاول أن ينتشلها من الفراغ السديميّ الّذي سقطت فيه مراراً، ولكنّه مع التجديد كله الّذي أدخله والتصوّرات النقديّة الّتي قدّمها، فإنّ الوظيفيّة ما زالت تعاني من أدوائها الأيديولوجيّة المتفجّرة، ومن نزعاتها الثقافويّة المتحجّرة، وبقيت الوظيفيّة التي طورها نظرية أيديولوجية تمجّد بالتوازن الرأسماليّ، وتحضّ على تكريس التضامن الثقافيّ والوظيفيّ في المجتمعات الرأسماليّ. ومن المسلم بها أن ميرتون، على الرغم من جهوده النقدية، بقي وفيّاً للمسلّمات الأساسيّة الجوهريّة للنظرية الوظيفية، وقد عمل في مختلف جوانب نظريّته على تكريسها وإصلاحها، ولم يكن نقده للمسلّمات الوظيفية الثلاث إلّا تمهيداً منهجيّاً وتبريراً لإعادة تأصيل مقولات الوظيفيّة وترسيخ هيمنتها من جديد.

علي أسعد وطفة
كلية التربية – جامعة الكويت

مراجع الدراسة وهوامشها

[1] - تجدر الإشارة إلى أن ميرتون كان وظيفيا حتى العمق في المستوى الأيديولوجي ومع أهمية النقد الذي وجهه إلى كلاسيكيات الوظيفية فإن هذا النقد لم يكن جوهريا وبقي ميرتون وظيفيا حتى العظم حتى أنه لم يخالف المسلمات الأساسية الأيديولوجية للوظيفية. وعلى خلاف ما يراه فإن نقده كان نقدا اصلاحيا عزز المسارات الأساسية للنظرية الوظيفية دون أن يخلّ بمبادئها الأساسية ونزعتها الأيديولوجية في تكريس التوازن والمحافظة والتضامن الاجتماعي الوظيفي في المجتمع الرأسمالي وسنناقش هذا الأمر لاحقا بشكا مفصل في الجانب النقدي لنظرية ميرتون.

([1]) - ماير روبرت شكولنيك اسم الولادة، وهو الاسم الأصلي لروبرت ميرتون الذي قام بتغييره لاحقا إلى روبرت ميرتون لأسباب شخصية واجتماعية، وقد تبنى اسم روبرت ك. ميرتون في البداية كاسم مسرحي لأدائه السحري. ويرى بعض النقاد أنه استخدم اسم "ميرتون" للاندماج في الثقافة الأمريكية وقد اختار الاسم الأول "روبرت" اشتقه من اسم الساحر الفرنسي جان يوجين روبرت هودين (Jean-Eugène Robert-Houdin) الذي عاش في القرن التاسع عشر، الذي يُعتبر على نطاق واسع أبو الشعوذة على الطراز الحديث. واشتق اسمه "ميرتون " من اسم الساحر الكبير ميرلين (عرف العالم اسم الساحر ميرلين لأول مرة عام 1137 ميلاديًّا في كتاب "تاريخ ملوك بريطانيا"، لرجل الدين المسيحي جيفري أوف مونماوث، ووفقًا لجيفري فقد ولد الساحر ميرلين لأم راهبة وشيطان في القرن الخامس تقريبًا. ويشير الحرف الأوسط إلى King، ولكن تم اختصاره دائمًا بواسطة ميرتون نفسه بتشجيع من صهره تشارلز هوبكنز، أصبح ساحرًا ماهرًا، قام بمجموعة من الحيل السحرية بالإضافة إلى خفة اليد. وهكذا أصبح اسمه المسرحي "روبرت ميرتون"، واحتفظ به كاسمه الشخصي عند حصوله على منحة دراسية في جامعة تمبل.

([2]) - Kaufman, Michael T. (February 24, 2003). "Robert K. Merton, Versatile Sociologist and Father of the Focus Group, Dies at 92". The New York Times.

([3])- Peter Simonson (2010). Refiguring Mass Communication: A History. University of Illinois Press. pp. 123–130.

([4])- Mathieu Deflem, Merton, Robert K. , December 2017, research Gate, December 2017. (PDF) Merton, Robert K. (researchgate.net)

([5])- Merton, Robert K. 1996 [1994]. "A Life of Learning." Pp. 339–59 in On Social Structure and Science, edited by Piotr Sztompka. Chicago: University of Chicago Press. p. 346.

([6])- Mathieu Deflem, Merton, Robert K. , December 2017, research Gate, December 2017. (PDF) Merton, Robert K. (researchgate.net).

([7])- Merton, Robert K. 1938. "Science, Technology and Society in Seventeenth Century England." Osiris 4(2):360–62. Bruges: St. Catherine Press.

([8]) - Cole, JonathanZuckerman, Harriet (1975). "The Emergence of a Scientific Specialty: The Self-Exemplifying Case of the Sociology of Science". In Coser, Lewis (ed.). The Idea of Social Structure: Papers in Honor of Robert K. Merton. New York: Harcourt Brace Jovanovich. pp. 139–174.

([9])- Mathieu Deflem, Merton, Robert K. , December 2017, research Gate, December 2017. (PDF) Merton, Robert K. (researchgate.net)

([10])- Cole, Stephen. 2004. "Merton's Contribution to the Sociology of Science." Social Studies of Science.

([11])- Mathieu Deflem, Merton, Robert K. , December 2017, research Gate, December 2017. (PDF) Merton, Robert K. (researchgate.net).

([12]) - Merton, Robert K. (1948), "The Self Fulfilling Prophecy", Antioch Review, 8 (2): 193–210.

([13])- Merton, Robert K. (October 1938). "Social Structure and Anomie". American Sociological Review. 3 (5): 672–682.

([14])-Merton, Robert K. Social Theory and Social Structure. Glencoe, IL: Free Press, 1957.

([15]) - Merton, Robert K. (August 1, 1968). Social Theory and Social Structure (1968 enlarged ed.). New York, NY, US: Free Press.

([16]) - Merton, Robert K. 1979 [1942]. "The Normative Structure of Science." In The Sociology of Science: Theoretical and Empirical Investigations. Chicago: University of Chicago PressISBN 978-0-226-52092-6. Version available to read via Panarchy.org

([17])- Cole, Stephen. 2004. "Merton's Contribution to the Sociology of Science." Social Studies of Science. P 829.

([18]) - الشاندانية نسبة إلى الشخصية الخيالية (ترومان شاندي) لرواية الكاتب الإنجليزي لورانس ستيرن "حياة وآراء تريسترام " (The Life and Opinions of Tristram Shandy, Gentleman)) ونُشرت بين عامي 1759 و1767ويوصف ترومان شاندي في الرواية كشخص غريب ومتشعب يتناول في حياته وآرائه العديد من المواضيع المختلفة بطريقة غير تسلسلية وفوضوية. الرواية تعد واحدة من الأعمال الأدبية الكلاسيكية التي تتسم بالجرأة والطرافة والابتكار النوعي في السر.

([19])- Leyburn, James G. 1966. "On the Shoulders of Giants: A Shandean Postscript by Robert K. Merton." Social Forces:603–04.

([20]) - Kaufman, Michael T. (February 24, 2003). "Robert K. Merton, Versatile Sociologist and Father of the Focus Group, Dies at 92". The New York Times.

([21])- Gore, Al. December 19, 1994. "speech to Robert K. Merton." US National Medal of Science. Washington, DC: Andrew W. Mellon Auditorium.

([22]) - From the guide to the Robert K. Merton Papers, 1928-2003, [Bulk Dates: 1943-2001]., (Columbia University. Rare Book and Manuscript Library).

([23]) - فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، ترجمة إياس حسن، ط1، دمشق، دار الفرقد، 2010. ص 112.

([24]) - ريتشارد أوزبرن وبورن فان لون، أقدم لك.. علم الاجتماع، ترجمة حمدي الجابري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005. ص 106.

([25]) - جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علميًّا ذيب بن محمد الدوسري، عمر عبد الجبار أحمد، خالد بن عمر الرديعان، الرياض: مكتبة جرير، ط 1، 2018. ص 228.

([26]) - جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 228.

([27]) - جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 228.

([28]) - فهد بن عبد الرحمن الخريّف، النظرية البنائية الوظيفية ) روبرت ميرتون)، الرياض، جامعة الملك فيصل، عمادة التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد، 2023.

([29]) - فهد بن عبد الرحمن الخريّف، النظرية البنائية الوظيفية ) روبرت ميرتون)، المرجع السابق.

([30]) - العنوان الأصلي: النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية، الطبعة الأولى عام ١٩٤٩. والثانية عام ١٩٦٥ مع إضافات هامة.

([31]) - فيليب كابان - جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، ترجمة إياس حسن، ط1، دمشق، دار الفرقد، 2010. ص 111.

([32]) - محمد عبد الكريم الحوراني، النظرية المعاصرة في علم الاجتماع: التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفة والصراع، عمان: دار مجدلاوي، 2007. ص 118.

([33]) - بلال عرابي، ميرتون، (روبرت ) (1910 ـ 2003)، الموسوعة العربية. http://bitly.ws/LJxM

([34]) - فهد بن عبد الرحمن الخريّف، النظرية البنائية الوظيفية ) روبرت ميرتون)، مرجع سابق.

([35]) - Calhoun, Craig (2003). "Robert K. Merton Remembered". Footnotes. American Sociological Association. Retrieved January 17, 2019.

([36]) - Merton, Robert K. 1949/1968. “Manifest and Latent Functions.” Pp. 73-138 in Social Theory and Social Structure, edited by R. K. Merton. New York:

([37]) - Merton, R. K. (1957). Social theory and social structure. Glencoe, Ill., Free Press.

([38]) - Merton, Robert K. 1968. Social Theory and Social Structure. New York: Free Press.

([39])- Ritzer, George (2007-07-23). Sociological Theory (7 ed.). McGraw-Hill Higher Education. pp. 251–257. 

([40]) - فيليب كابان - جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية المرجع السابق، ص 112.

([41]) - فيليب كابان - جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية المرجع السابق، ص 112.

([42]) - Merton, Robert K. 1949/1968. Manifest and Latent Functions., Pp. 73-138 in Social Theory and Social Structure, edited by R. K. Merton. New York:

([43])- Merton, Robert K. 1968. Social Theory and Social Structure. New York:.Free Press. P216.

([44])- Merton, Robert K. 1968. Social Theory and Social Structure, Ibid. P216.

([45]) - جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علميًّا ذيب بن محمد الدوسري، عمر عبد الجبار أحمد، خالد بن عمر الرديعان، الرياض: مكتبة جرير، ط 1، 2018. ص 234.

([46]) - جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 234.

([47]) - Donald W. Harper, Structural-Functionalism:Grand Theory or Methodology?

University of Leicester , December 2011. Url- http://bitly.ws/IQ9r

([48]) - سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، ط 5، القاهرة، دار المعارف، 1985. ص 215.

([49]) - سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 216.

([50]) - فهد بن عبد الرحمن الخريّف، النظرية البنائية الوظيفية ) روبرت ميرتون)، الرياض، جامعة الملك فيصل، عمادة التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد، 2023. file:///C:/Users/hp/Downloads/7.pdf

([51]) - فهد بن عبد الرحمن الخريّف، النظرية البنائية الوظيفية، المرجع السابق.

([52]) - Jan Taylor, Paul Walton and Jock Yound, The New Criminology, for a social theory of deviance (London: Routledge, 1973), pp.32-110.

([53]) - فيليب كابان - جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، مرجع سابق. ص 114.

([54])- Mathieu Deflem, Merton, Robert K. , December 2017, research Gate, December 2017. (PDF) Merton, Robert K. (researchgate.net)

([55]) - جون سكوت ،خمسون عالماً اجتماعياً أساسياً: المنظرون المعاصرون، ترجمة محمود محمد حلمي مراجعة جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2009. ص. 363.

([56])- Mathieu Deflem, Merton, Robert K. ,Op.cit.

([57])-Calhoun, Craig (2003). "Robert K. Merton Remembered". Footnotes. American Sociological Association. Retrieved January 17, 2019.

تعليقات (26)

This comment was minimized by the moderator on the site

يعطيك العافيه دكتورنا الفاضل على هذه المقاله الرائعه ودمت دوماً متألقاً
استفدت من المقاله ان كل العقائد والممارسات الثقافية والاجتماعية تؤدي وظيفة واحدة لكل من الافراد والمجتمع . كما تعتقد ان اجزاء النسق الاجتماعي تتمتع بدرجة عالية من التكامل ....

يعطيك العافيه دكتورنا الفاضل على هذه المقاله الرائعه ودمت دوماً متألقاً
استفدت من المقاله ان كل العقائد والممارسات الثقافية والاجتماعية تؤدي وظيفة واحدة لكل من الافراد والمجتمع . كما تعتقد ان اجزاء النسق الاجتماعي تتمتع بدرجة عالية من التكامل . وفي هذه النقطة بالذات يشير ميرتون الى صحتها ولكن بالنسبة للمجتمعات البدائية الصغيرة وليس بالنسبة للمجتمعات الكبيرة المعقدة . لذا ينبغي عدم تعميم هذه المسلمات .

اقرأ المزيد
الجازي السبيعي
This comment was minimized by the moderator on the site

يعطيك العافيه دكتور علي , مقاله رائعه و مفيده , أيضا موضوع جميل جداً ،و نظرية روبرت ميرتون تشكل اليوم مشهدا فكرياً لا يمكن تجاهله ، وعبقريته تكمل في منهجه النقدي .

سلطان المطيري
This comment was minimized by the moderator on the site

من خلال ما قرأته عن ميرتون ونقده للنظرية الوظيفية في علم الاجتماع، يبدو أنه قد تمكن من إعادة منحها مشروعيتها وإضافة قيمة جديدة إليها. استطاع ميرتون تجديد النظرية وتعديلها لتتناسب مع التحولات الاجتماعية والتغيرات في المجتمع. يبدو أنه قد أحدث...

من خلال ما قرأته عن ميرتون ونقده للنظرية الوظيفية في علم الاجتماع، يبدو أنه قد تمكن من إعادة منحها مشروعيتها وإضافة قيمة جديدة إليها. استطاع ميرتون تجديد النظرية وتعديلها لتتناسب مع التحولات الاجتماعية والتغيرات في المجتمع. يبدو أنه قد أحدث تغييرات في المفاهيم والزوايا النظرية للنظرية الوظيفية، مما ساهم في إعادة إحياءها وتجديدها.

اقرأ المزيد
هلا طلال المجرن
This comment was minimized by the moderator on the site

الدكتور في مقاله يتناول حياة وأعمال السوسيولوجي روبرت ميرتون ونقده لنظرية الوظيفية. يتعامل المقال مع العديد من الجوانب المثيرة للاهتمام في حياة ميرتون ومساهمته في مجال علم الاجتماع. عبقريته تتجلى في نهجه النقدي وقدرته على إعادة بناء النظرية...

الدكتور في مقاله يتناول حياة وأعمال السوسيولوجي روبرت ميرتون ونقده لنظرية الوظيفية. يتعامل المقال مع العديد من الجوانب المثيرة للاهتمام في حياة ميرتون ومساهمته في مجال علم الاجتماع. عبقريته تتجلى في نهجه النقدي وقدرته على إعادة بناء النظرية الوظيفية وتطوير مفاهيمها.
وتحدث المقال أيضًا عن تأثير العوامل الثقافية والاجتماعية على تفكير ميرتون وتطوره الفكري. كما يشير إلى اهتمامه بالسحر وقضايا الشعوذة وخفة اليد، وكيف أثرت هذه الاهتمامات على أعماله البحثية.
بشكل عام، يبدو أن ميرتون كان سوسيولوجيًا بارزًا وأسهم بشكل كبير في تطور علم الاجتماع الوظيفي.

اقرأ المزيد
اريام حمد بريدان العازمي
This comment was minimized by the moderator on the site

كل الشكر والتقدير للدكتور علي على جهدُ في هذه المقاله، المقالة تسلط الضوء على ظاهرة خطرة في الحياة وهي الطائفية و أيضاً على أهمية تعزيز التعليم والتوعية بشأن الوحدة والتنوع الديني. يجب أن يكون التعليم هو الوسيلة الرئيسية لمكافحة الوعي الطائفي،...

كل الشكر والتقدير للدكتور علي على جهدُ في هذه المقاله، المقالة تسلط الضوء على ظاهرة خطرة في الحياة وهي الطائفية و أيضاً على أهمية تعزيز التعليم والتوعية بشأن الوحدة والتنوع الديني. يجب أن يكون التعليم هو الوسيلة الرئيسية لمكافحة الوعي الطائفي، ويجب تضمين محتوى مناسب يشجع على الاحترام المتبادل والتفهم بين الطوائف المختلفة.

يمكن للمثقفين العرب أن يلعبوا دوراً مهماً في مواجهة الطائفية من خلال القيام بالخطوات التالية:
- نشر الوعي الطائفي لدى المجتمع.
- تطوير خطاب ثقافي عقلاني وموضوعي حول الطائفية.
- العمل على تعزيز قيم التسامح والحوار بين الطوائف.
أعتقد أن هذه الخطوات يمكن أن تساعد في الحد من انتشار الطائفية في العالم العربي وتعزيز السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية.

اقرأ المزيد
رتاج مشاري بن حجي
This comment was minimized by the moderator on the site

اوضح لي المقال ان تفرع روبرت ميرتون عن غيره من علماء الاجتماع الوظيفيين بالخلفيه العلميه التي تركت بصمتها في نظريته الوظيفيه وان نظرية روبرت ميرتون تشكل اليوم مشهدا فكرياً لا يمكن تجاهله في السوسيولوجيا المعاصرة ويركز على أهمية إعادة النظر في...

اوضح لي المقال ان تفرع روبرت ميرتون عن غيره من علماء الاجتماع الوظيفيين بالخلفيه العلميه التي تركت بصمتها في نظريته الوظيفيه وان نظرية روبرت ميرتون تشكل اليوم مشهدا فكرياً لا يمكن تجاهله في السوسيولوجيا المعاصرة ويركز على أهمية إعادة النظر في مفاهيم مثل الوحدة والشمولية والضرورة المتعلقة بالنظرية الوظيفية التقليدية

اقرأ المزيد
لطيفه الحربي
This comment was minimized by the moderator on the site

ميرتون يعمل على تحسين النظرية الوظيفية وزيادة قدرتها على فهم الظواهر الاجتماعية من خلال النقد والإعادة التقييم. يركز أيضًا على مفاهيم مثل الخلل الوظيفي والأنماط التكيفية الاجتماعية. تُعد نظريته مساهمة كبيرة في تفسير النظم الاجتماعية والتفاعلات...

ميرتون يعمل على تحسين النظرية الوظيفية وزيادة قدرتها على فهم الظواهر الاجتماعية من خلال النقد والإعادة التقييم. يركز أيضًا على مفاهيم مثل الخلل الوظيفي والأنماط التكيفية الاجتماعية. تُعد نظريته مساهمة كبيرة في تفسير النظم الاجتماعية والتفاعلات البشرية.

اقرأ المزيد
Alhanouf Alhajri
This comment was minimized by the moderator on the site

ناقش الدكتور هذه المقالة نقد نظرية الوظيفية في مجال السوسيولوجيا ودور روبرت ميرتون في إعادة إحياء هذه النظرية. في السبعينيات، لكن في الثمانينيات، تأثرت بشدة بالنقد وفقدت تأثيرها.

Alhanouf Alhajri
This comment was minimized by the moderator on the site

لقد تضمنت هذا المقالة الكثير من الإيجابيات ، ووضح لنا الدكتور على أسعد وطفة من خلالها أن عبقرية ميرتون تتضح لنا من خلال منهجه النقدي ، لذلك يري كثير من النقاد اليوم أن نظرية روبرت ميرتون تشكل الحلقة الأكثر أهمية فى النظرية البنائية الوظيفية ،...

لقد تضمنت هذا المقالة الكثير من الإيجابيات ، ووضح لنا الدكتور على أسعد وطفة من خلالها أن عبقرية ميرتون تتضح لنا من خلال منهجه النقدي ، لذلك يري كثير من النقاد اليوم أن نظرية روبرت ميرتون تشكل الحلقة الأكثر أهمية فى النظرية البنائية الوظيفية ، وبناء على ما تقدم يمكن القول بأن نظرية ميرتون تشكل اليوم اتجاها فكريا لا يمكن تجاهله فى السوسيولوجيا المعاصرة.

اقرأ المزيد
منى خالد الرشيدي
This comment was minimized by the moderator on the site

المقالة ستتعرفون على أمور قد جهلتموها سابقًا ، يعطيك العافية دكتور أستفدت من قراءتها كانت ممتعة دمت متألقًا

Alhanouf Alhajri
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.
تحميل أكثر

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟