أنفاس1-  الاتجاه النفسي:‏
اندرج علم النفس والتحليل النفسي في النقد الأدبي من خلال تفسير مسارات النمو الإنساني ومراحله من الطفولة إلى الرشاد مندغماً في عملية التأويل والتحليل وفاعلية الاستشفاء والعلاج (1).‏
ووضع التسمية فرويد عام 1896 علاجاً في لغة النقد الأدبي وعلم النفس معاً للكشف عن الكبت والجهر بما كان قد جرى إنكاره بوصفه العلاج الناطق لدى التعبير الأدبي وإفصاحه عن الحوار بين المريض والمحلل في أحوال آليات الأحلام والتوريات وزلات اللسان مشابهة لعمليات عقلية ولغوية معينة، وكامنة في العلائق الدفينة بين الوعي واللاوعي عند ربط التحليل النفسي بالبلاغة والسرد واستعانته بالاستدراك أو الإدراك الرجعي لهذا التحليل النفسي(2).‏
ولما كان التحليل النفسي ممارسة لمعالجة الأمراض والاضطرابات الذهنية، فإن لبّ العلاج بالنسبة للنظرية الفرويدية هو ما يُعرف باسم النقلة Transference أو التحويل، ويتداخل مع مفهوم الإسقاط Projection، أو عزو مشاعر ورغبات خاصة بالذات الإنسانية عملياً ونسبتها إلى الآخرين، عند التمازج بين الوعي واللاوعي، وعدّ لاكان «اللاوعي مبنياً مثل لغة، ليس مؤلفاً من أدلّة المعاني الراسخة بقدر ما هو مؤلف من داّلات، شأنه شأن اللغة بالنسبة لما بعد البنيويين»(3).‏
وقد اتصل اتجاه التحليل النفسي في النقد الأدبي باكتشاف علم النفس والتحليل النفسي، ويعود هذا إلى أواخر القرن التاسع عشر عندما توّج اكتشاف علم النفس مع فرويد، ويصل عمر هذا الاتجاه إلى مئة وثلاثين عاماً. وارتبط التحليل النفسي بثلاث مجالات:‏
1- نشوء التحليل النفسي في حقل الأمراض الذهنية، مثل: العُصاب، الذُهان، الانحراف، الانفصام، وهذه الأمراض قابلة للتحديد سريرياً، وهي التي تؤول إلى الموت السريري.‏
2- ما يتصل بالعقد النفسية، والعقد النفسية متصلة بالتكوين الثقافي من مرحلة الرضاعة حتى مراحل متقدمة.‏
3- يتصل بمجال الإنتاجات الثقافية، ويعني إلى أي حد يتمثل المرء في سلوكه وأفعاله ومنظوماته الفكرية الناظمة للقيم والمتعالقة بالتمثيل الثقافي، ولا سيما مؤثرات الثقافة الشعبية، وفي مقدمتها الشفاهية في تكوين المرء. وحاول «فرويد» شرح ذلك في كتابه «الطوطم والتابو»، ويشير الطوطم، إلى رموز تدخل في إطار الدين والعقيدة، وتعبّر عن قداسة هذه القيم الثقافية عند المرء. وظهرت التحليلات النفسية في هذه الإنتاجات الثقافية. مثال ارتكاب المحارم، والخصاء الذي يؤدي إلى العقم، ويصبح بالتحليل النفسي تعبيراً عن العقم المتعمد كالنرجسية.‏

أنفاسكارل غوستاف يونج هو صاحب مدرسة علم النفس التحليلي، وهو أحد أصدقاء فرويد والخارجين عليه فيما بعد.‏
يرى يونج أن فهم النفس الإنسانية قد غاب عن أذهان الكثير من المثقفين وحتى المختصين منهم في علم النفس، تحت سيطرة أفكار فرويد لذلك يقول يونج "إنه يضع اقتراحات ومحاولات منظمة لخبرة علمية جديدة مع الكائنات الإنسانية" ويونج من مواليد سويسرا عام 1875م.‏
مارس الطب النفسي عام 1900 "بزيوريخ" ودرس على يد "جانيه" في باريس عام 1902، لكن الفترة الحاسمة في حياته كانت يوم التقى بالعالم النمساوي سيجمند فرويد عام 1907 حيث وجد تقارباً فكرياً بينهما، استمر سنوات طويلة. لكن يونج لم يصل إلى أفكاره من خلال هذه العلاقة مع فرويد لأن نضوج أفكاره حول اللاشعور برز تباينها الواضح مع أفكار فرويد وآرائه في التكوين النفسي للإنسان، وخاصة عندما صدر كتابه "سيكولوجية اللاشعور" الذي أذاع فيه ما يفرّق مفاهيمه عن مفاهيم فرويد، حيث بدأت القطيعة بينهما؛ فأصبحت أعمال فرويد وتلاميذه تعرف بمدرسة التحليل النفسي، بينما انتمت أعمال يونج وتلاميذه إلى ما سمي بعلم النفس التحليلي أحياناً وعلم نفس العقد النفسية أحياناً أخرى.‏
وإذا أردنا أن نوجز أفكار يونج في علم النفس كما يراه من خلال تعريفه للنفس البشرية، باعتبارها جهازاً دينامياً في حركة مستمرة تنتظمها الذات، ويطلق كلمة "الليبيدو" libido على تلك الطاقة النفسية العامة.‏
مفاهيم جديدة‏ :
وهذا المفهوم اليونجي عن الليبيدو يختلف عن المفهوم الفرويدي، ويقترب كثيراً من مفهوم إرادة الحياة عند "شوبنهور" وفترة الاندفاع الحيوي عند "برغسون" ففرويد يطلق هذا المفهوم على جانب من الجهاز النفسي المسمى "بالهي" وهو مستودع للغرائز الجنسية والغرائز العدوانية، وهو بهذا يقتصر على جانب من اللاشعور في الذات.‏
أما يونج فهو يطلقه على جوانب شعورية ولا شعورية من الطاقة النفسية.‏
وحركة الليبيدو الطبيعية عند يونج، إما حركة متقدمة، أو حركة راجعة، ويسمي الحركة المتقدمة بالحركة التقدمية والتي من شأنها إرضاء الحاجات الشعورية للشخصية.‏
أما الحركة الراجعة والتي يسميها النكوس فمهمتها إرضاء الحاجات اللاشعورية، وهكذا يرى أن الحركة التقدمية من شأنها العمل على تكيّف الفرد الإيجابي مع بيئته أما النكوس فمن شأنه تكيّف الفرد مع حاجاته الداخلية.‏

أنفاسالمقدمة :
عندما يخطر الابتكار في بال المرء فإن أوّل ما يتذكره هو الفلسفة والأدب والفنون الجميلة والعلوم  ، التي تعتبر جميعا ميادين خصبة للابتكار . ويرفق ذلك تذكر الفلاسفة والأدباء والفنانين والعلماء من كل شعب وملّة وقوم ، ممن نبغوا في ميادينهم ، وحصلوا على شهرة عالمية فائقة . وساهم هؤلاء في توجيه نظم الحياة توجيها خاصا ، وبنوا المدنية الحالية . على أن الابتكار ليس محصورا بهذه الميادين أو أولئك الدواهي النابغين والعباقرة .
يشير أنكل وسنيلكروف ( Engle and Snellgrove: 1979: 206 ) إلى أن التأريخ يسجل لنا اسم شخصين فقط من كل مليون من النفوس ممن حصلا على شهرة عالمية بأعمالهما الفذّة المبتكرة ذلك لأنه لا يستطيع كل مبتكر أن يصل إلى هذه الدرجة العالية من التفوق والشهرة في مجالات الفلسفة أو الأدب أو الفنون الجميلة أو العلم بحيث يؤهله إلى الارتقاء في الحصول على الشهرة العالمية وفي واقع الأمر أن آلافا من المبتكرين والمبدعين والمكتشفين والمخترعين إنما يساهمون كلّ يوم كلٌ في ميدان عمله لدفع عجلة المدنية الحالية خطوة أخرى إلى الأمام . فالمدنية الحالية في حقيقتها نتاج كل هذه الأعمال معا .
إن الابتكار مهم بالنسبة لكل فرد ومجتمع . ولقد زادت أهميته بشكل خاص في هذه الأيام ، التي نعيش فيها انفجارا معرفيا هائلا ، وسباقا منقطع النظير في مجال التكنولوجيا فالابتكار يعني استغلال الطاقات الإنسانية الكامنة خير استغلال من أجل وضع منتجات فريدة لم تعرف من ذي قبل . فهو الهام خاص يخطر في بال البعض ، فيساهمون في وضع أشياء جديدة لم يسبق إليها أحد من قبلهم
تؤثر عوامل عديدة ومختلفة في الابتكار . منها عوامل وراثية وأخرى بيئية ، شخصية وأخرى اجتماعية ، فيقلّ الابتكار بناء على ذلك أو يزيد . وتبعا لذلك فإن الابتكار يتفاوت بين الانفتاح والانغلاق ، والبساطة والتعقيد ، والإثارة والملل ، والتغيير والتحفظ ( الروتين )  ، والصفح الجميل والانتقاد ، والطبع والتطبع ، والمغامرة والتردد ، والاختلاط والانكماش على النفس ، والنضج والفجاجة  ، والانطواء والانبساط ، والتفاؤل والتشاؤم ، والتواضع والتكبر ، والذكورة والأنوثة ، والمحافظة على القديم والعصيان عليه ، والموضوعية والذاتية ، واللذة  والألم ، والخيال والحقيقة ، والانشراح والانقباض ، والتيسير والتزمت ، والجد والهزل . يركز هذا الفصل على علاقة العاملين الأخيرين بالابتكار ، ويشير بين فترة وأخرى إلى العوامل الأخرى  بمقدار ما يتعلق الأمر بموضوع البحث .

أنفاس يقوم العنكبوت بعملياتٍ تذكّر بعمليات النسّاج، وتحطّ النحلة من شأن بعض الناس ـ المعماريين ببناء خلاياها الشمعية. غير أنّ أسوأ معماريّ يمتاز عن أفضل نحلةٍ منذ البداية بأنه قبل أن يبني الخلية من الشمع يكون قد بناها في رأسه. وفي نهاية سير العمل يتمّ الحصول على النتيجة التي تكون قد وجدت مع بداية هذه العملية في تصور الإنسان، أي بصورةٍ مثاليةٍ. فالإنسان لا يغيّر شكل ما هو معطى من قبل الطبيعة فقط، بل، وإلى جانب ما تقدمه الطبيعة، يحقق هدفه المنشود الذي يحدد، كقانون عام، أسلوب أفعاله وطابعها، والذي يتعين عليه أن يخضع إرادته إليه.‏
ـ 1 ـ‏
يتمّ في أدبياتنا العملية تجنب السؤال عن الطبيعة النفسية للوعي مع سبق الإصرار والترصد، ويحاول المؤلفون أن يتجاهلوه كما لو أنه غير موجود بالنسبة لعلم النفس الحديث مطلقاً. وتبعاً لذلك فإن منظومات علم النفس، التي تتكون أمام أعيننا، تحمل في طياتها، ومنذ البداية، جملةً من العيوب العضوية. وسوف نذكر بعضاً منها: الأساسية والرئيسية من وجهة نظرنا.‏
1ـ إن علم النفس، بإغفاله مشكلة الوعي، إنما يحرم نفسه من إمكانية الدخول إلى دراسة مشكلات سلوك الإنسان المعقّدة إلى حدّ ما. وهو مضطر إلى الاقتصار على الكشف عن الصلات الأولية القائمة بين الكائن الحي والعالم. ومن السهل التحقق من أن هذا هو الواقع بإلقاء نظرة إلى محتويات كتاب ف. م. بختيرف «المبادئ العامة للانعكاسية عند الإنسان» (1923): مبدأ حفظ الطاقة. مبدأ التغيّر المستمر. مبدأ التوازن. مبدأ التكيف. مبدأ المقاومة المكافئة للفعل. مبدأ النسبية. وبكلمةٍ واحدة المبادئ الشاملة التي لا تحيط بسلوك الحيوان والإنسان فقط، بل وبالكون كله. على أنه ليس ثمة من قانون سيكولوجي قدم صياغة لصلة الظواهر أو تبعيتها التي يتمّ الكشف عنها، والتي تسم خصوصية السلوك الإنساني على نحوٍ مخالفٍ لسلوك الحيوان.‏
وفي القطب الآخر من الكتاب نجد التجربة الكلاسيكية لتشكيل الانعكاس الشرطي. وهي تجربة صغيرة وهامة مبدئياً بصورةٍ استثنائيةٍ، ولكنها لا تغطي الفضاء الكوني بدءاً من الانعكاس الشرطي من الدرجة الأولى حتى مبدأ النسبية. ويبيّن عدم تناسب السقف والأساس وغياب البناء ذاته بينهما بسهولة إلى أيّ حدّ يبدو من المبكر صياغة مبادئ كونية على أساس المعطيات الانعكاسية، وكيف أنه من اليسر اقتباس قوانين من مجالات المعرفة الأخرى وتطبيقها على علم النفس. وبقدر ما يكون المبدأ الذي نقتبسه خلال ذلك واسعاً وشاملاً، يكون من السهل أن يمتد ليشمل الواقعة الضرورية بالنسبة لنا.

أنفاس"إن الفهم الدقيق لأرسطو يعد، باستثناء فهم الأنبياء، أسمى ما يمكن أن يحققه المرء." (1) ستبدو كلمات ابن ميمون، بما يبدو انها تبرزه من اعجاب سهل، منفرة لكثير من المعاصرين. وربما لا يزال التصور الرومانتيكي للعبقرية يجعلنا نتوقع أن تنبعث أفكار المفكر الأصيل رائعة ومكتملة تماما من أعماقه، أو من الطبيعة، أو من حيث لا ندري. إننا نتوقع من المباح الحقيقي أن يحقق كل شيء، بينما تعثر العقول المحدودة على وظيفة حقيقية في قراءة نصوص من الماضي ودراستها بالتفصيل. واذا سلمنا بهذه الفرضية فقد نرتبك إزاء مفكرين يقدمون أنفسهم كقراء ومفسرين لروح فكرية موجودة، مع وجود دليل قوي يجعلنا نعتقد أن هذا التفكير الذي يمارس في ضوء السلف الجليل وفي ظلاله قد يكون على قدر عظيم من الأمالته والقوة.
إن أفلوطين يقرأ أفلاطون، وابن ميمون يقرأ أرسطو، ويقرأ ابن رشد الاثنين، ويقرأ ماركس الشاب هيجل، إن تقييم الاصالة في مثل هذه الحالات قد يتطلب عملا أكثر من المعتاد: ربما نفهم انجاز المفكر التالي فهما جيد إذا كنا على استعداد للعودة الى أعمال المفكر السابق واقتفاء كل ما أحدثته من تحولات وتحريفات خلاقة. إلا أن البحث قد يكون ممتعا: إنه ينبهنا الى طرق الأصالة التي تهملها الولاءات الحديثة بالاضافة الى الدور الكبير الذي تلعبه إعادة التفكير واعادة الكتابة حتى في أعمال لا تعترف بأية أسلاف وتقدم نفسها كاستثناء لكل القواعد إلا قواعدها الخاصة.
"إن لاكان يقرأ فرويد". إن هذه الجملة أبسط وأهم ما يمكن أن يقال عنه. ولكن استكشافه لأعمال فرويد الذي استغرق خمسين عاما يختلف عن القراءات الشهيرة التي ذكرتها من قبل من حيث النقاء الواضح لدوافعه. بينما بحث الآخرون لمقابلة مجموعة من الأفكار بمجموعة أخرى (يلتقي أرسطو في أعمال ابن رشد بالفلسفة الاسلامية وفي أعمال ابن ميمون باليهودية الربانية) أو لتطوير أحد تيارات الأفكار الاصلية لتفضيله على تيارات أخرى (يعكف أفلوطين على دراسة أفلاطون الميتافيزيقي والصوفي)، يقول لاكان إن هدفه الرئيسي قراءة فرويد قراءة جيدة وفهمه بوضوح.
إن "العودة الى فرويد" التي يعلن إنها رسالته الشخصية وشعاره، تتبع مسارين مختلفين. العملية الأولى، وهي الأوضح استخراج أفكار فرويد من ركام الشروح والتفسيرات المبتذلة التي أهالها الكتاب المتأخرون عليها، وتشترك حركة التحليل النفسي الدولية في المجادلات المتقدة حول مسعى لاكان الرئيسي، إن أولئك الذين تمثل لهم مفاهيم فرويد مجرد سلعة - مثلا، المتعالم الذي يؤلف الكتب الرخيصة أو المحافظ المتأنق - لا يستحقون حتى السخرية الطارئة. إن معظم المحللين النفسيين المتأخرين ارتكبوا ما هو أسوأ من سوء فهم فرويد: إنهم فقدوا كل إحساس بأهمية أفكار فرويد وحيرتها وقدرتها الابداعية حين صاغها للمرة الأولى. إنهم تعلموا تلك الأفكار وأعادوها كلها بصورة سطحية، وأظهروا الولاء لها بسذاجة وخداع ذاتي يمثلون عائقا في وجه الفحص العلمي للعملية العقلية بدل أن يكونا دافعا له، إن اجراءات نشأة التحليل النفسي التي بحث عنها فرويد ليضمن استمرارية تعاليمه تنتج عنها غالبا آثار جانبية خطيرة.

أنفاس يعتبر تطور رعاية المرضى العقليين عموما، والمجانين بالخصوص، واحدا من المظاهر الأكثر تميزا للتاريخ المغربي. لاشيء ربما يمنح فكرة أكثر دقة وإثارة للدهشة عن عظمة الإمبراطورية وانحطاطها أكثر من هذا الجانب.
في سنة 1910، أي سنتين قبل إقامة ج. لوكسيوني نظام الحماية في المغرب، كَلَّفَ وزيرا فرنسا في الداخلية والتعليم العمومي (كان رينيو Régnault آنذاك وزيرا لفرنسا في المغرب) طبيبين عقليين شهيرين، هما لووف وسيريو، فلاحظا أن خدمة المرضى العقليين وعلاجهم - بالمعنى الطبعقلي - كانا “منعدمين في المغرب”، وأوضحا أنهما لا يتهمان الإسلام في ذلك، وإنما “حالة الانحطاط العميق” التي كانت توجد فيها البلاد. كان تعليم الطب العقلي منعدما، ومن ثم كان يتم اللجوء إلى وسائل سحرية ودينية لعلاج المرضى أو التخفيف عنهم.
قام لووف وسيريو ببحث (مارس-يونيو 1910) في مارستانات أهم المدن المغربية وسجونها (طنجة، أصيلة، العرائش، القصر [ الكبير]، فاس، الرباط، سلا، البيضاء)، فميزا في البداية بين ثلاث فئات من الحمقى: “المهادنون”، وهم الذين يعيشون أحرارا في الهواء الطَّلق، ثم “المزعجون”، وهم المحروسون في المنازل، وأخيرا الذين يُعتبرون “خطيرين” صراحةً، وهُم المسجونون في المارستانات أو السُّجون.
يشكل أصحاب الفئة الأولى، أي الأحرارُ، العدد الأكبر، وهم يعيشون على التسوّل. وقليلون منهم فقط يحصلون على الوضع الاعتباري لـ “الأولياء”، ويبجَّلون لأفكارهم الصوفية (أو أفعالهم، الأمر الذي لا يحدده المؤلفان). ويذكر المؤلفان بأن هذه الظاهرة، مع أنها لا تخص المغرب، كانت وراء نشأة الخرافة الشائعة في أوروبا، والتي ترى أن المسلمين يعتبرون دائما الأحمق منهم وليا. أما أصحاب الفئة الثانية، فيمكن أن يشكل الإبقاء عليهم في المنازل حبسا حقيقيا: فبسبب إزعاجهم أو خطورتهم، يمكن أن يتعرضوا للاغتيال من قبل محيطهم. وأخيرا، يتعايش أصحاب الفئة الثالثة مع “مساكين” “محمومين” و”مُعدين”. ويقدر عددهم الإجمالي في مجموع مارستانات البلاد بحوالي المائة.
كان لووف وسيريو أول أوروبيين يزوران المارستانات. رافقهما في زيارتهما تلك الدكتور وسجربرغ Weissgerber، وهو “كشافة مشهور جدا”، وكذا “بعض موظفي المخزن”. وقد رأيا في المارستانات “نوعا من مستودعات التسول الملحقة بالمساجد”. وما تأثر له الزائران أكثر هو طوق الحديد الذي كان يحمله المرضى ليل نهار، ويتألف من رباطين نصف دائريين يجمعهما مَفصِلٌ غليظٌ، وتربطه سلسلة طويلة بالجدار، علما بأن الطوق نفسه كان يوجد في السُّجون. أما المرضى الهائجون والمجرمون فكانوا يحملون على مستوى العرقوبين قيدين هما عبارة عن لوحة حديدية ثقيلة. وبذلك كان المرضى العقليون يعيشون جنبا إلى جنب مع سجناء القانون العام ويلقون المصير نفسه فيما يتعلق بالوقاية الصحية، والفاقة والمرض. أما من لم تطالب بهم عائلاتهم أو بعض أصدقائهم، فكانوا يمكثون هناك مدى الحياة. ومن ثمة، اضطر لووف وسيريو إلى الإدلاء باقتراحات لتحسين مصير المجانين.

أنفاس 1 - 1-  نظرة واقعية إلى التناقض والنزاع.
كل منا, يعرف من خلال تجربته وخبرته الشخصية، ما هو النزاع. شخص يريد شيئاً, وشخص آخر يريد شيئاً آخر, فالأشخاص يتناقشون, ويختلفون, أو على العكس, يتوقفون عن الحديث فيما بينهم, ويحاولون تجنب أحدهم الآخر, فيتعكر مزاجهم, وينهار كل شيء من بين أيديهم. إن النزاعات تعد جزءاً لا يتجزأ من أي مجال حياتي ـ شخصياً كان أم اجتماعياً عاماً. ويختلف ويتنازع الأصدقاء والمعارف والزملاء, والأحزاب السياسية والشعوب والدول. وقد ثبت أن ما يتراوح بين 25 ـ 30 من وقت المدراء والرؤساء من مختلف المستويات, يصرف على تليين وتسوية العلاقة بين العاملين (انظر بورودكين, كورياك, 1989, ليوتنس, 1990). حتى الفرد الواحد نفسه, عندما يفكر في اتخاذ قرار هام, ويصطدم بتناقضات داخلية، بينه وبين نفسه, يخوض مع ذاته نقاشات فكرية طويلة.‏
إن عدم تطابق مصالح طرفين يفترض أن كلا منهما سيسعى للحصول على ما يريد, وهو مستعد لبذل مجهود خاص من أجل تحقيق ما يرغب. وجزء هام من هذه الطاقة والجهد يصرف على إعاقة الطرف الآخر, أي وبعبارة أخرى، السعي إلى قمعه معنوياً ومادياً و"التغلب" عليه.‏
في القرن العشرين, ونتيجة حربين عالميتين و200 حرب إقليمية كبيرة ونزاع محلي وأعمال إرهابية ونزاع مسلح على السلطة، وجرائم قتل وانتحار, قتل أكثر من 300 مليون نسمة.‏
إن مصطلح نزاع هو ترجمة لكلمة "Conflit" الفرنسية و"Conflict" الإنكليزية وهما من أصل الكلمة اللاتينية "conflictus" التي تعني: صراع, نزاع, صدام, تضارب, شقاق, قتال. وتستخدم في الأدبيات السياسية والعلمية والاجتماعية والنفسية بمعان ومضامين عديدة (تضارب المصالح, صراع الحضارات, صراع الثقافات, نزاع مسلح, خلاف عائلي, نزاع حدودي, نزاع بين العاملين في مكان العمل, وما شابه ذلك).‏
وكما ورد أعلاه, وبالرغم من أن استخدام القوة والخداع من أجل الوصول إلى الهدف, يعد, بمقاييس الحياة الدارجة، أمراً مقبولاً, ولكن, حسب المستوى المعياري في النظرة إلى النزاعات, ينظر إليه نظرة استهجان واستنكار. ويعد التسبب في النزاع وإثارته أمراً سيئاً. إن سمعة العامل أو المدير, الذي يعتبره زملاؤه "إنساناً مثيراً للنزاع", تعد مثيرة للشكوك. وفي المواقف العملية يفضل الناس الحديث عن "الاختلاف في الآراء". وهذا يجري, على نحو خاص, لأنه لا يمكن تحقيق فوز كامل في أي نزاع. ف"الخاسر" قد يشعر بتفوقه المعنوي أمام "الفائز" الذي استخدم أساليب محظورة؛ كما أن "الفائز" في نزاع جدي, كالحرب مثلاً, يتحمل خسائر بشرية ويتكبد خسائر مادية. أما إذا تم الاعتماد على توافق الآراء, وصياغة موقف مقبول من الطرفين المتنازعين, فهذا يعني إشراك العقل, إلى جانب ردود الفعل العاطفية في الموقف النزاعي (علم النزاع 1999).‏ 

انفاسينتمي اريك فروم 1900-1980 الى أسرة يهودية متدينة، وقد تأثر مبكراً بفكرة المخلص الإلهي، غير انه تحرر منها بعد ان قرأ ماركس وسبينوزا وجون ديوي، مثلما تأثر بآراء هوركهايمر وأدورنو وماركوزه بعد ان اصبح عضواً في مدرسة فرانكفورت النقدية عام 1929. غير ان مسافة كبيرة كانت تفصل بينه وبين أعضاء مدرسة فرانكفورت، حيث كان معظمهم من المدرسة الفرويدية آنذاك. ومن اجل تقريب المسافة التي تفصله عنهم، بدأ بدراسة الطبيعة البشرية والاغتراب الاجتماعي وأخذ يبلور اتجاهاً خاصاً في التحليل النفسي ويضع مقدمات نظرية في"نسق الاخلاق"في اطارها الانساني، موجهاً انتقاداته الى الفرويديين الذين ما زالوا يستخدمون طرقاً بيروقراطية قديمة في التحليل النفسي والسايكولوجيا الطبيعية، محاولاً دمج التحليل النفسي بالنظرية الماركسية مع اختلافه معها، مثلما انتقد تصورات علماء النفس حول"روح الجماهير"ورأى ضرورة عدم فصل الانسان عن اوضاعه الاجتماعية. ولذلك وجد ان من الضروري دراسة الماركسية وفهمها وتحديد أسسها ومن ثم تطويرها انطلاقاً من مفهومي الطبيعة الإنسانية والحرية.