التراث الذاتي - حسن حنفي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسالتراث الذاتي هو ما يصل إلى شعبٍ ما ممّا خلَّفه القدماء وتتوارثه الأجيال، ويحدث لتيارات عامّة واتجاهات ومدارس فكرية ويؤثّر في سلوك الناس. وهي مسؤولية تاريخيّة تتحمّلها الأجيال فتواصل تاريخها أو تتركها فتنقطع جذورها فتذوب في ثقافات مغايرة، والفعل اللاتيني Tradere يفيد كِلاالمعنيين: يحمل أو يخون.
(1) الأصالة والخصوصية:
وأَهمُّ ما يميز التراثُ الذاتي الأَصالةَ والخصوصية. فالأصالة تعني الأنا في مقابل الآخر، والمألوف ضد الغريب/ والقريب في مواجهة البعيد، والمحليّ كمانع للمستورد. تعني الأصالة الذاتيَّ في مقابل العرضيّ/ والطبيعي في مواجهة المصطنع، و"الجوّاني" ضد "البراني". أمّا الخصوصية فتعني نوعية التراث وسِمَاته المميزة ونموذجه الأوحد وقانونه الخاص ليس في مقابل الشمول والعمومية ولكن في مقابل فقدان النوعية والذوبان في خصوصية أخرى تَدَّعي أنها الخصوصية الشاملة. وهو التقابل الذي وضعه كانط في وصفه للإرادة بين الذاتي والغيري.
(I) جذور التراث:
وللتراث جذور في وجدان الشعب. فهو تأكيد للأنا ضد الآخر وإثبات للذات في مقابل الغير. ولمَّا كان التراث مُعاشَاً في وجدان الناس فإن جذوره تعطيهم عمقا‍ً تاريخياً قد يصل أحياناً إلى بدء الخليقة ونهايتها، وقد يتجاوزها إلى ما قبل العالم وما بعده. يمتد التراث في وجدان الشعب ويعطيه الآتي:
- 1   الأصالة ضد التذويب والتميّع والاغتراب خاصة إذا ما تمّت محاصرة الذات بالآخر كما حَدَثَ في إيران قبل الثورة.
- 2  العُمْق التاريخي ضد نقل الحضارات واستيرادها، وملء الشعور القومي بحيث لا يكون فارغاً تصبُّ فيه حضارات الغير، والرَدُّ المستمر على الغزو الثقافي الخارجي باعتبارها (حضارات الغير) جسماً غريباً على التراث القومي كما هو الحال في السلفية.
- 3 كما تمتدُّ جذور التراث في الماضي فإنها أيضاً تورق في الحاضر، فما الحاضر إِلاَّ تراكم للماضي وظهور له. ومن ثَمّ فلا حلّ لمشاكل الحاضر حلاً جذرياً إِلا‍َّ بالرجوع إلى جذورها في الماضي، ولا سبيل للقضاء على عقبات التنمية (عدم اشتراك الجماهير مثلاً) إِلاَّ باجتثاث جذورها في التراث.
- 4 دفعات أكثر نحو التقدم في مسيرة الشعوب وإطلاق طاقاتها، وترسيخ مكتسبات الثورات الوطنية مثلاً: الإصلاح الزراعي، الملكية الجماعية للأرض، العمل وَحْده كأساس للقيمة، النضال.. إلخ.
- 5 الاستمرارية التاريخية والتجانس في الزمان ووحدة الشخصية الوطنية وعدم وجود مستويات متجاورة منفصلة في الشعور الوطني كما هو الحال في تركيا (إسلام في العمق وتحديث في السطح) أو في بولندا (كاثوليكية في العمق وماركسية في السطح( .



6 - الحفاظ على خصوصية الشعوب ونوعيتها والقضاء على نمطية التنمية وأُحادية النموذج الأوروبي، التنمية الاقتصادية أساساً والتنمية البشرية فرعاً وغياب التنمية الحضارية كليّة.
7 - تباين الشعوب، وتعدّد النماذج، ووضعها كلها على قدم المساواة التاريخية من حيث إسهاماتها في تطور البشرية دون الوقوع في نظرية المركز والأطراف (الغرب بالنسبة للشعوب غير الأوروبية). وهنا يتمُّ الإثراء المتبادل، ونهاية الأثر الغربي من المركز ألى الأطراف ذي الاتجاه الواحد.
(II) مادة التراث:
والتراث هو الإبداع الفكري الذاتي للشعوب ابتداءً من معطيات تكون في الغالب دينية ثم تتحول بالتدريج إلى حضارية بعد عمليات تمثُّل الحضارات المجاورة، وتفسير هذه المعطيات وإعمال العقل فيها بحيث تتمُّ إعادة صياغتها في منظور إنساني طبيعي. وبالتالي كانت مادة التراث على النحو الآتي:
- 1 الكتب المقدسة في ديانات التوحيد الثلاث التي خرجت من إبراهيم: العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن خاصة بالنسبة للشعوب العربية والأوروبية ؛ أو الفدنتا والأوبانيشاد وكتاب "التغيرات" وغيرها في الديانات الآسيوية. وهي تراث حيّ في قلوب الناس وليست فقط تراثاً مكتوباً، بل إنها كانت في البداية تراثاً شفاهياً يتناقلها الناس وتتوارثه الأجيال، أضافت عليها من خبراتها سواء داخل النصوص الأولى بتفسيرها أو بإضافة نصوص جديدة من خارجها.
- 2   العلوم الدينية أو كما يسميها القدماء العلومَ النَقْليَّة التي بدأت حول هذه الكتب المقدسة لضَبْطِها وقراءتها وتفسيرها وتقنينها وتمثُّلها، مثل علوم القرآن والحديث والتفسير والفقه والسيرة.
والعلوم الفلسفية كما يسميها القدماء العلوم النَقْليَّة العقلية التي تجمع بين التقديس والتعقيل مثل علم أصول الدين، وعلوم أصول الفقه، وعلم الحكمة من منطق وطبيعيات وإلهيات، وعلوم التصوف وتهذيب الأخلاق ما زالت علوماً تعيش في قلوب الناس يستشهدون بها، ويقرأون أعمالها.
ومنها العلوم العقلية الخالصة سواء منها الرياضية مثل الحساب والجبر والهندسة والفلك والموسيقى والضوء، أو الطبيعة والطب والأدوية وهي التي لم تؤثَّر في حياة الناس أو ثقافتهم ولم يَرِثُها أحد من علمائنا المُحْدَثين بل وَرِثَها الغرب وأصبحت رصيده العلمي قبل عصر النهضة، طوَّرها وأكملها دخلت في علمه الحديث وتطبيقاته التي تنقلها الشعوب غير الأوربية الآن ومنها الشعوب العربية والإسلامية التي بدأتها أولاً. ومنها العلوم الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب التي انتشر البعض منها في الأدب العربي الحديث، وعلوم الجغرافيا والتاريخ التي تٌرِكت لحضارة الغرب يطوّرها ويكملها علماء الغرب المٌحْدَثون.
- 3 الأمثال العامية، والأدب الشعبي، وكتب السِّير والملاحم التي ما زالت الشعوب تستشهد بها وتأخذ منها معايير للسلوك ونماذج لحياة البطولة والوفاء يسمعها الناس سماعهم للقرآن، ويهتزّون للإثنين إعجاباً وطرباً.
مادة التراث إذن، مادة سمعية أكثر منها مادة مرئية، تعتمد على الأُذن وليس على العين. ومن هنا أتت خبرة الأجيال والتواصل مع الماضي، والعيش مع "تجارب الأمم".
(ح) تجارب الشعوب:
لمّا كان التراث حيّاً في قلوب الناس فإنه اختلط بتجاربهم الفردية والإجتماعية، و خبراتهم التاريخية في السلم والحرب، في المجاعة والثراء، وفي الهزيمة والانتصار. وأصبح من الصعب التمييز بين ما يأتي من التراث المكتوب والتراث الحي للشعوب. حَدَثَ ذلك في "العهد القديم" خاصة ثمَّ في "العهد الجديد" بصورة أقل، وحَدَثَ أيضاً في الحديث وفي العلوم الدينية وإن لم يَحْدُث في القرآن نَظَرَاً لعدم مروره بفترة شفاهية، وتدوينه مباشرة في لحظة الإعلان.
(I) تفسير التراث:
ومن هنا كان تفسير التراث شرط النهضة الحضارية. فكل تراث يحتوي على اشتباه يفيد الضدين ، ويحتوي على المعنيين المتناقضين سواء في التراثي الديني المكتوب أو في التراث الشعبي أو في تجارب الأمم والشعوب. ونظرية التفسير لدى شعوب المنطقة تعادل نظرية المعرفة في الحضارة الغربية.
(I) مناهج التفسير:
يحدث التفسير بعدة مناهج هي في حقيقة الأمر طرق لا شعورية أولاً عند الناس، ثمَّ تصبح مناهج شعورية عند المفكِّرين وأهمها:
- 1 قراءة الحاضر في الماضي. و ليس للتراث معانٍ موضوعية في نصوصه أو في تجاربه بل مجرد حامل تُسْقَطُ عليه الاحتياجات الحالية. وحقيقة المعنى هو مقدار ما يثيره الحاضر في الماضي. فإذا كانت احتياجات العصر ومطالبه الحريةَ والعدالةَ فإننا لا نفهم من نصوص التراث إِلاَّ ما سَدَّ هذه الاحتياجات مثل قول عمر: "لِمَاذَا اسْتَعْبَدْتُمُ النَاسَ وقَدْ ولَدَتْهُمُ أُمَّهَاتُهُمُ أحْرَارَاً" أو القول المأثور: "العَدْلُ أسَاسُ الحُكْم". ويحدث الإنقطاع عن الماضي إذا ما ظنّ الناس والمفكرون أن التراث يحتوي على معانٍ في ذاته يتمَّ إخراجها بصرف النظر عن الاحتياجات، فيظلٌّ التراث هائماً في الأذهان لا يجد له مُسْتَقِرَاً، ولا يحقق مطلباً. وهذا هو إشكال الذاتية والموضوعية.
- 2 الانتفاء من التراث ما يحقق مصالح الأغلبية. فالتراث فيه كل شيء، ويحتوي على الشيء ونقيضه. ومن ثَمّ فرضت احتياجات العصر نفسها كمقياس للانتقاء. فإذا احتاج العصر للعقلانية ظهر التراث العقلاني، وإذا احتاج العصر للعلمية ظهر التراث العلمي، وإذا احتاج العصر للإيديولوجية السياسية ظهر التراث السياسي.
- 3 الاختيار بين البدائل، وإعادة الاختيار طبقاً لاحتياجات العصر. فقد قدّم التراث بدائل كثيرة: العقل والذوق، العبادة والمعاملة، العَقْل والنَقْل، النظر والعمل، التنزيه والتشبيه، الجَبْرُ والاختيار، التنزيل والتأويل. كما قدم التراث اتجاهات مختلفة: سُنَّة وشيعة، أشاعرة ومعتزلة، مُرجِئة وخوارج، وكل اتجاه يمثَّل اختياراً سياسيا. ولمَّا كانت ظروف العصر قد تغيَّرت فإن إعادة الاختيار بين البدائل، وعرضها كلها من جديد أمام الوعي القومي يقضي على أحادية الطرف، وسيادة تيار وتكفير التيارات الآخرى.
(II) سلبيات التراث:
وبالنسبة لجيلنا فإنه يمكن تحديد بعض هذه السبيات كالآتي:
- 1 سيادة التصوّر التسلُّطي للعالم المتمركز حول الواحد، الذي يَعْلَمُ كل شيء ويقْدِر على كل شيء ويتمثَّل ذلك أيضاً في احتياج العالم إليه في صورة نبوّة تهدي العقل وتكمله وتَعْصِمُه من الخطأ، وإيمان به يجعل العمل في المر تبة الثانية، وإنكار لغائية الطبيعة وقوانينها، وتجاوز هذا العالم إلى ما وراءه.
- 2 سيادة المعرفة النصّية وهو ما يُسمَّى بأولولية النَقْل على العَقْل أو بالقول بالمأثور دون المعقول حتى غابت المعرفة العقلية أو المستمدة من الواقع المباشر أو من استقراء حوادث التاريخ وهو ما يُسمَّى أيضاً بسيادة الفقه الافتراضي، وتحكيم النص في الواقع وليس تفسير النصر طبقاً للواقع. وهو ما يُسمَّى "الحَرْفية" التي تقتل "الروح" والشكل الذي يقضي على المضمون. وبالنسبة للتراث الشكل هو اللغة والمضمون هو حياة الناس وواقعهم.
- 3 المنطق الصوري الذي تَغْلِب عليه أشكال القياس وصور الفكر كما هو الحال في منطق القضايا، وغياب منطق الواقع، واستبعاد أحوال التاريخ وقوانين الصراع. صحيح أنّ علماء الأصول من متكلمين وفقهاء قد نَقَدُوا المنطق الأرسطي ووضعوا منطقاً تجريبياً حسياً ومنطقاً عملياً للسلوك، كما نَفَد حكماءُ الإشراق المنطقَ الصوري ووضعوا قواعد للمنطق الإشراقي ومع ذلك غاب منطق التاريخ باستثناء ابن خلدون.
- 4 التصوّر الثنائي للعلم الذي ظهر في علوم الحكمة، وقسمة العالم إلى أوّل و آخر، صورة ومادة، عقل وحس، مطلق ونسبي، باقٍ وفانٍ.. إلخ. كيفٌ وكمٌ.. إلخ. وظهورها أيضاً في الأخلاق: خير وشر، ملاك وشيطان، جنة ونار، إيمان وكفر، ثواب وعقاب، رجل وامرأة. وقد أعطت هذه الثنائيات الطرف الأول كل شيء وسلبت من الطرف الثاني كل شيء. فعاشت الأمة في عالم سلبي بلا قيمة، غير موجود بذاته يستمدُّ وجوده من غيره.
- 5 سيادة الفضائل النظرية على الفضائل العملية، وجعل التأمّل أعلى قيمة من العمل، والحكيم أفضل من العامل. وقد وَرث الناس هذا الاختيار فنشأت أفضلية الجامعات على المعاهد العليا والمدارس الفنية، وقيمة الأعمال المكتبية على الأعمال اليدوية، وقيمة التنظير والتخطيط وإعطاء الأوامر على الإنتاج والتنفيذ.
- 6سيادة القيم السلبية التي ظهرت في علوم التصوف كما هو الحال 6في المقامات مثل التوكّل والرضا والقناعة والصبر والزهد، أو في الأحوال مثل الخوف والخشية والرهبة حتى أصبحت قيماً اجتماعية توجَّه سلوك الناس. مع أنها نشأت في البداية كردّ فعل على قيم اجتماعية مضادة مثل التكالب على الدنيا، والتمتع بمباهج الحياة، والتنافس والتقاتل على السلطة.
(ج) إيجابيات التراث:
وأهمّ هذه الإيجابيات هي:
- 1 بالرغم من سيادة الإشراق إِلاَّ أنّ العقل استطاع في أصول الدين خاصة عند المعتزلة أن يكون أساساً للنَقْل، فإذا تعارض النقل والعقل يؤوًّل النَقْل لحساب العقل، ومَنْ يَقْدَح في العقل يَقْدَح في النَقْل لأن العقل أساس النَقْل. ونحن في نهضتنا الحالية نصارع من أجل العقل وندعو إلى العقلانية وكأَنَّها تراث الغير وليس التراث الذاتي.
- 2بالرغم من جعل الطبيعة مخلوقة من الله إَلاَّ أنّ العلم نشأ للسيطرة على قوانين الطبيعة التي سَخَّرها الله لخدمة الإنسان، فكان الفلاسفة القدماء علماء طبيعة وكيمياء وفلك ورياضة وطب وصيدلة وفي الوقت نفسه متكلمين وفقهاء وفلاسفة وأدباء. وظهر أصحاب الطبائع من المُتكَلَّمين يحلّلون الكُمُون والطفرة والذرّات في الطبيعة. ونحن الآن في نهضتنا الحديثة خاصة عند أنصار الغرب نحاول من جديد الدعوة إلى العلم وإلى الفكر الطبيعي.
- 3  إثبات حرية الإنسان وخلق أفعاله خاصة عند المعتزلة، وأنّ له قدرة واستطاعة، وأنه قادر على الاختيار بما له من عقل وتمييز، وبما يتمتع به من تدبّر ورويّة، والتأكيد على الغائية والبواعث في الحياة، وإثبات الصلاح والأصلح وأنّ الله لا يفعل إِلاَّ ما فيه مصلحة العباد بدلاً من العشوائية والتشتت والتضارب في الإتجاهات.
- 4 بالرغم من أولوية النظر على العمل إِلاَّ أن قيمة العمل ظهرت أيضاً في أصول الدين خاصة عند المعتزلة والخوارج، فالعمل هو مقياس الإيمان، ومَنْ لا عمل له لا إيمان له، والعمل هو العمل الصادق الكامل الذي لا يقبل أنصاف الحلول أو المساومة.
- 5 بالرغم من سيادة بعض القيم السلبية في التصوف إِلاَّ أنه ظهرت به أيضاً موضوعات الطاقة والحركة والنشاط ومفاهيم الارتقاء والنكوص والتقدم والتأخر. وقد استطاع بعض الصوفية تحريك الجماهير وحشد قوى المعارضة وتفجير طاقات الناس وتوديههم في ثورات شعبية عامة. كما استطاع"إقبال" تحويل التصوف إلى طاقة حيوية وحركة في التاريخ توقظ الأُمَّةَ وتبعث نهضتنا.
- 6 اعتبار المصلحة هي أساس الشرع كما وضح في علم أصول الفقه وأَنَّ "ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن، وأن "لا ضَرَرَ ولا ضِرَار" وهي المبادئ المقرّرة عند القدماء. فقد قام الشرع على الحفاظ على مصالح الناس، وهي الضرورات الخمس: الدين، والعقل، والحياة، والنسل، والمال. وكل ما حافظ عليها فهو شرعي وكل ما هدَّدها فهو غير شرعي.
فإذا ما استطاعت الأُمٍَّةُ إيقاف سلبيات التراث والاستمرار في إيجابياته تحققت شروط النهضة الحضارية من الداخل دون ما حاجة إلى "التغريب".
(3)سلطة التراث:
والتراث ليس مكتوباً فقط، وليس حَيَّاً في شعور الناس فقط، بل يمثَّل سلطة قد تكون أقوى من السلطة السياسية القائمة. دَخَلَ التراثُ في معارك تدعيم السلطة السياسية كما دخل لتأليب حركات المعارضة. وتمثَّلته أيضاً مختلف القوى الاجتماعية.
(أ) التراث وحركات المعارضة: لمَّا استتبَّ الأمرُ للدولة الأموية أفرزَت فكر السلطة أو تراث الأمر الواقع، فظهرت سلطوية التصوّر، وعقائد القضاء والقَدَرِ، والإيمان بالقول حتَّى تستكين الناس وترضى بالأمر الواقع، فالمفضول أولى من الأفضل، وكلُّ شيء في هذا الكون يتمُّ بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
(III) التراث والقوى الاجتماعية: وقد وجدت القوى الإجتماعية في نظريات التراث واتجاهاته خير سندلها وتدعيماً لمركزها الإجتماعي. كما أنها ساعدت على إفرازها وصياغتها وتحويلها إلى فكر رسمي للدولة. ويمكن وصياغتها وتحويلها إلى فكر رسمي للدولة. ويمكن وصفها كالآتي:
- 1 طبقة الأمراء والحكام أرادت لتزيين مجالسها الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء. فنشأت الفلسفة والأدب من داخل قصور الأمراء. ومنهم مَنْ تَقَلَّد الوزارة مثل ابن سينا أو تقلد المناصب العليا مثل تقلُّد ابن رشد قضاء قرطبة، ومنهم مَنْ تَقَلّ كان نجم سيف الدولة الحمداني مثل الفارابي. ومن هنا خرج فكر الصفوة، فكراً فلسفياً نظرياً، وجد في الفلسفة اليونانية، فلسفة الصفوة أيضاً، ما يريد.
- 2 طبقة العلماء والفقهاء والمُحدِّثين، وهم في غالبهم ينتسبون إلى الطريقة المتوسطة، لا يهتمون بتغيير الأوضاع الإجتماعية بل العمل من خلال الأوضاع الموجودة، وهو الفكر الرسمي لأهل السُنَّة الذي أصبح فكر الدولة والذي منه تمّت صياغة كل علوم التراث والتي استمرَّت حتى الآن.
- 3 عامَّةُ الناس التي انتشر فيها التصوف والذي تحوّل فيما بعد إلى طرق مُنظَّمة قادرة على حشد الآلاف. ولمَّا كان التصوف حركة استبطان ورجوع إلى الذات وترك العالم فقد أَيَّدته الدولة وغَذَّته بالفكر الرسمي الأشعري، فكر السلطة القائم على سلطوية التصور.
(ج) التراث والثورة: التراث نعلمه جميعاً والثورة تعيشها أجيالنا بصرف النظر عن مراحلها: الإصلاح الديني أو النهضة أو الثورة في النهاية.فقد قدّمت الشعوب غير الأوروبية موضوع الثورة والتحرر إلى الوعي الإنساني على أساس أنه تجربة عمرها. ولمَّا كانت شعوباً تراثيّةً ثار في ذهنها إشكال التراث والنهضة كمقدمة للثورة.
- 1 تغيير المراكز من الواحد إلى الكثير، أو بتعبير ديني شائع: من الله إلى الإنسان حتَّى يتَّم تفجير القوى من خلال الفرد.
يوجد عصر نهضة بلا نزعة إنسانية، يستردُّ فيها الإنسانُ العِلْمَ والقدرةَ والحياةَ والسمعَ والبصرَ والكلامَ والإرادةَ من الله لأن الله {غَنِيُّ عَنِ الْعَلَمِينَ} ]آل عمران: 97 [، جلَّ شأنه، وتعالى عمّا نصف.
- 2 تغييرُ المَحَاوِر، من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف، وذلك أن الإرتقاء والنكوص في التراث يتمّان صعوداً وهبوطاً كما هو واضح في نظرية الفيض عند الفلاسفة وفي المقامات عند الصوفية. والشعوب في نهضتها إنما تنتقل من التخلف إلى التقدم، فالأعلى في التراث هو التقدم في النهضة، والأسفل في التراث هو التأخّر في النهضة. وعلى هذا يتحول الخلود إلى زمان، والزمان إلى تاريخ.
- 3 تغيير المستويات اللاهوتية والفقهية والصورية إلى مستويات شعورية واجتماعية حتَّى يتَّم تحليل الظواهر تحليلاً إنسانياً خالصاً. فالعقائد ليست اَبنية إلهية، والأَحْكَامُ ليست أوامَر أو نواهي إلهية، والشرائعُ ليست مجرد قوانين صورية، بل كل ذلك له وجود طبيعي في شعور الفرد وفي علاقاته الإجتماعية. وبالتالي كان الانتقال من العلوم الدينية إلى العلوم الإنسانية انتقالاً ضرورياً حتِّى تتمّ الحركة من التراث إلى النهضة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟