الفقه الإسلامي ومشكلات التجديد - محمد سمير

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن ما يدعونا لطرح مثل هذه الإشكالات الكبرى هوما يعيشه المجتمع المعاصر من تطور مستمر في ضوء السرعة وعصر العولمة، وإن كنا صراحة لا ندعي الوقوف عند كل ما يعانيه الحقل الديني من الإشكالات والأزمات المستمرة لأن ذلك يصعب علينا، إلا أنه  يمكن أن نقف وقفة مع أحد أعمدة الثقافة الإسلامية والتي لا يمكن للمسلم أن يستغني عنها خصوصا في زمن كثرت فيه النوازل والمستجدات، ولعلي أقصد هنا الفقه الإسلامي الذي بات يعرف فتورا مستمرا اليوم إذ أنه انتقل من التجديد إلى التقليد، ولعل السائل يسأل؛ لماذا تخلف الفقه الإسلامي المعاصر؟
لعل الأمر يستوجب شرحا مفصلا وبحثا معمقا، لكن سنحاول فقط تقريب القارئ من أهمية الموضوع خصوصا في وقت أصبحت كل أصابع الاتهام تتجه نحو الإسلام ومايقال وما يفعل باسم الدين.

ولعل الباحث في مجال الفكر الإسلامي قد يطرح تساؤلات عدة من بينها ؛ ماذا قدم الفقه المعاصر للمجتمع وللأمة؟
وهل حاول أن يقدم إسهامات في التجديد والاجتهاد؟
لقد تولد عن فكرة التعصب تضييق الخناق على الفقه وسد باب الاجتهاد، مما ولد فكرا آخر يدعوا إلى الليبرالية والتحرر لالشيء إلا لأنه يرى أن الفقه أصبح جامدا يدعوا للتطرف وتقييد حرية الأفراد أمام التطور الذي يعرفه العالم، والواقع أن بعض "الفقهاء" قد عكفوا على التقليد واكتفوا بحفظ الكتب والموسوعات القديمة (الفقه القديم) وإعادة استظهارها دون أن يراعوا الواقع الذي يتطور ويتغير، وأن هذه الكتب نفسها قد سايرت عصرها ومستجداته، وبذلك جعلوا للتراث والواقع معا صورة سيئة تصور لنا الفقيه هو ذلك الرجل الجامد المتحجر التقليدي الذي يفتي الناس في الحيض والنفاس وهو يجلس على أريكته العالية بلباسه الأبيض ... الذي ليس له أي اتصال بالعالم الخارجي ومستجداته وتطوراته المتعددة.
ولا أتصور أن الجمود منبعه طرف واحد فقط، بل إن جميع الأطراف مساهمة في هذا التخلف، ولعلي أقصد هنا أن فكرة التجديد والتغيير لا بد لها من مجتمع يقبلها، خصوصا وأن الأمر يتعلق بالخصوصيات والمقدسات الدينية "ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأربعة"[1] من الأئمة.
والحالة التي تعيشها الأمة اليوم هي أجدى بأن تستفيد من هذا التجديد، لأن الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ونوازل، فكان لابد من الاهتمام به كونه المرجع الذي يعتمده المسلمون في نوازلهم وقضاياهم المختلفة و"لاشك أن الطرح بهذه الطريقة قد يكون أكثر استيعابا وأكثر منهجية وجدية من الطروحات التيئيسية لقدرات ثقافتنا الإسلامية عامة، والفقه على وجه الخصوص"[2] و ذلك بتجاوز بعض القواعد الفقهية و تجديدها، ولم لا خلق نماذج جديدة تكون أكثر استيعابا لما هو حاصل اليوم، فالمناهج الكلاسيكية لن تستوعب كل تطورات العصر.
ومن المعلوم أن الفقه ما نشأ إلا داخل المجتمع ومن أجل المجتمع، فهو إذا يمكن أن يتطورويتجدد مع تطور المجتمع وتجدده، وأرى أن هذه هي مشكلتنا اليوم، إذ أصبحنا نعتمد الفقه الجاهز والبناء على الفروع بدل الأصول في أكثر حالاتنا، ولم يكن الفقه كذلك حتى في ظروفه الصعبة، "فأزمة التراث" في الأندلس ولدت لنا "ابن حزم" و"ابن رشد" و"ابن خلدون"...، وهؤلاء وغيرهم نبعوا من مجتمع كان حينها يعرف صراعات سياسية محضة قد تمخض عنها فكر مجدد بكل ما في الكلمة من معنى، "ويلاحظ المتتبع للفقه الحديث أن الفقهاء تحت ضغوط استعمارية وأخرى مجتمعية اضطرت هؤلاء الفقهاء إلى إصدار فتاوى هي أقل ما يقال عنها إنها "تبريرات"[3]
وإصدار مثل هذه الفتاوى "التبريرات" ماكان إلا لأجل تمرير مجموعة من المستجدات التي لا يستوعبها الفقه القديم ولم يستطع الفقه الحديث أن يجتهد فيها ويعطيها تلك الشرعية التي تلائمها، فلم يعمد إلا إلى بنائها على فروع أخرى بعيدة عنها كل البعد من جهة العلة مثل (الهاتف، الانترنيت، التلفاز...) وغير ذلك من المستجدات التي عرفها العالم الحديث والمعاصر، وهذا يوضح عجز الفقه المعاصر على الاجتهاد والتجديد، وبالتالي محاولة التخفي وراء القديم بدعوى التراث والأصول...
 "إن مشكلة التراث والتجديد إذن لهي مشكلة العصر، وهي أخطر من أن تتناول في مقال صحفي أو مناقشة عابرة أو ندوة ثقافية أو في محاضرة في إحدى الأمسيات"[4]، بل الأجدى بنا أن نعمق البحث فيها ونفكك معطياتها ونعيد بناءها بشكل سليم يستجيب لمعاير العصر ومستجداته، والحقيقة أنه " أصبح من الواجب نقد وتطوير، بل وتجاوز بعض قواعد مناهجنا الفقهية"[5] ذلك  لأنها لم تعد تستجيب أو تلبي متطلبات الواقع وأصبحت بعيدة عنه كل البعد، وإذا كان الفقه بقواعده ومناهجه فكر واجتهاد بشري، فهذا لا يعني أبدا تقديسه وتقليده بالحرف بقدر ما يعني نقده وتمحيصه والبحث فيه، بل وترك مالم يعد يصلح لزماننا واستبداله باجتهاداتنا إن أردنا فعلا أن نعيد للفقه مكانته العلمية داخل الساحة الفكرية المعاصرة، وأيضا نعيد له ديناميكيته التي نشأ بها أول مرة.
وإذا كنا نتحدث عن التجديد هنا، فإننا لا نعني به تجديد الوسائل فقط، ولكن نريد أيضا تجديد الواقع، ذلك لأنه هو الأرضية الصلبة والبيئة التي تمارس فيها كل التجارب العلمية ومنها التجربة الفقهية، فلا بد لهذه البيئة أن تكون مهيئة لقبول التغيير والتجديد "وإلا بقيت هذه الصيحات ومثيلاتها في واد، والأمة في واد آخر"[6]
ولعل هذا كان هو الآخر عائقا يقف أمام فكرة التجديد وهو ان الواقع ليس مستعدا لقبول هذه الفكرة، لأن التراث أصبح يعتبر شيئا مقدسا ولا يحق لأحد النقد أو التفكيك والبحث فيه. ولا شك أن ذلك تناقض في حد ذاته، إذ أن بعض اللذين يدعون إلى إحياء التراث تجدهم حريصون على جعله جامدا، والإحياء عندهم هو تطبيقه بحذافره على أرض الواقع. ونتساءل؛ هل يمكن أن نطبق بعض الأحكام الصادرة عن الفقه القديم ــ باعتباره يشكل جزءا من التراث الإسلامي ــ على واقعنا المعاصر دون النظر في أبعاده ومستجداته؟
إن الفقه لابد له أن يوافق أحداث الواقع وما يعيشه الناس، فالفقه الذي لا يخدم مصالح الأمة ليست بحاجة له وهي مستغنية عنه كل الاستغناء، فإذا كان المجتمع يتطور فلابد أن يتطور الفكر أولا، ونحن نعلم مسبقا أن الأفكار سبيل للنجاح أو الرسوب، وهذا ما وقع فعلا مع فقهنا المعاصر، فقد فشل فشلا ذريعا في مواكبة مستجدات العصر و أحداثه التي لا تكاد تنتهي، ولربما ذلك راجع لكون الفقهاء المعاصرين على غالبيتهم لم يعودوا مهتمين بالشأن الجماهري لدى الشعوب الإسلامية والتحولات السياسية والفكرية لدى المثقف المسلم وما أصبح يستوعبه المجتمع الإسلامي من أفكار وإيديولوجيات متنوعة ومختلفة قد توافق الإسلام أو تعارضه، وهذا كله من واجب الفقهاء أن يواكبوه ويأخذونه بعين الاعتبار في كل خطوة يخطونها لا بعين الاستهزاء والتهكم. وكل ذلك يدعونا للقلق والتساؤل حول مصير الفقه الإسلامي في مجتمعنا المعاصر، خصوصا وأن الأمر يتعلق بتجديد الفتوى وتجاوز مجموعة من الآراء التي لم تعد صالحة لوقتنا الحاضر، وهذا كما ذكرنا آنفا أمر صعب على بعض دعاة العصر الذين يسمون هذه الآراء بالقدسية الزائدة مما يشوه صورة الفقه والفقهاء على أنهم متخلفين ورجعيين ...
يمكن أن نستخلص من خلال ما سبق أن الفقه المعاصر يعيش أزمة حقيقية وما يحتاجه منا هو النهوض به وإعادة رد الاعتبار لهذا المروث الثقافي الغني، فإن واجبنا كجيل صاعد يحتم علينا النظر في مناهجنا الفكرية وقواعدنا بطرحها للنقد والدراسة والتحليل وإعادة ترميمها لتستجيب للواقع ولتبرز نفسها داخل الساحة الفكرية المعاصرة، ولابد لنا قبل ذلك كله أن نعتز بهذا الموروث الثقافي الذي يختص به المجتمع الإسلامي دون غيره وأن نجعل منه "فقه الواقع" كما كان ذلك مع الإمام مالك رحمه الله وغيره من فقهاء السلف الذين كانوا يضعون الفتوى والاجتهادات حسب ما يفرضه واقعهم المعيش، وبذلك يمكن للفقه أن يواكب مستجدات الواقع وتطوراته ويصبح هو الآخر فاعلا حقيقيا داخل المجتمع المعاصر.


[1]المقدمة /عبد الرحمان بن خلدون
[2]المصطفى الوضيفي/مقالات في الفكر والفقه ــ ص 112
[3]نفسه/ص 59
[4]حسن حنفي/في فكرنا المعاصرــ ص 83
[5]مقالات في الفكر والفقه ــ ص 116
[6] نفسه ص 117

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟