التنمية الضائعة : أين نحن من الحداثة : في الدين - أحمد أبو وصال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.org بعد المقالات الأربع السابقة حول التنمية الضائعة ( أين نحن من الحداثة )في مجالات الفكر ،السياسة والمجتمع ثم أخيرا الإقتصاد ،نخصص المقالة الخامسة والأخيرة للدين .
لقد بدأت أوربا في تحقيق حداثتها الدينية منذ عصر النهضة الذي شكل فيه الإصلاح الديني أحد أهم مظاهره إلى  جانب الحركة الإنسية والتطور الفني ،وبالتالي فتح المجال أمام العقل دون قيود وذلك بوضع حد لسيطرة الكنيسة ،بينما ظل الدين أداة إستخدمته القوى الحاكمة في العام الإسلامي للحفاظ على الوضع السائد وتبريره (خاصة بعد عهد الخلفاء الراشدين ) ومحاربة أي تحديث في البنيات التقليدية للمجتمع العربي بدعوى الخصوصية الدينية والهوية الإسلامية .
لقد كان تسلط الكنيسة كبيرا وإتخذ أشكالا ومستويات متعددة ،فقد كان تسلطا دينيا (فرض عقيدة الثأثليت ،ترويج صكوك الغفران ،الرهبانية ...)وكان تسلطا سياسيا (فرض الوصاية على الملوك والأمراء )وكان كذلك تسلطا ماديا ( فرض ضرائب ،أعمال السخرة ،إمتلاك عقارات ...).إلا أن التحولات الفكرية والإجتماعية والإقتصادية التي شهدتها أوربا مع بداية عصر النهضة كان لابد أن تؤدي تحول في المجال الديني .
فقد بدأت معالم الرغبة في الثورة على الكنيسة ووصايتها تنمو تدريجيا ،وتغديها مظاهر الفساد الأخلاقي والمادي لعدد كبير من رجال الدين .وحاولت الكنيسة بكل أساليبها وأدواتها قمع وإقبار هذه الرغبة في مهدها ،وإتهام دعاتها بالهرطقة ومحاكمتهم وإعدامهم لإثارتهم الفتنة . يقول مارتن لوثر:(   كيف تحملنا نحن الألمان هذه السرقة والنهب لأموالنا..وما هذا النظام البابوي ؟ إنه نظام شيطاني .. إنه يقود المسيحيين نحو الخراب الجسدي والنفسي ..فمن واجبنا مواجهته....ً
إن التحولات الفكرية التي شهدتها أوربا في إطار الحركة الإنسية والتي أفرزت عدة نظريات، خاصة في مجال علم الفلك أدت إلى إقتناع العقل الأوربي بعدم إمتلاك الكنيسة للحقيقة وبالتالي ليس لها الحق في إحتكار تفسير الكتاب المقدس والوصاية على الجانب الديني للإنسان .لقد أدى هذا التطورإلى بروز عدة مصلحين نددوا بإبتعاد الكنيسة عن دورها الروحي الحقيقي والإهتمام بالمسائل الدنيوية، وأيد هذا الموقف عدد كبير من المفكرين الأنسيين وكذلك الأمراء الذين كانوا يرغبون في الحصول على ممتلكاتها( الكنيسة )،فالدولة القومية الناشئة تتعارض ومفهوم الكنيسة العامة التي تدعي الوصاية على السلطة السياسية ،وتصطدم كذلك مع الشعور القومي المتنامي خاصة لدى الطبقة الوسطى . وفي هذا الإطار جاء المذهب البروتسطانتي ( لوثر ،كالفان ...) لينتشر في  نصف أوربا تقريبا خلال أربعين سنة ،ويؤيد الشعب الإنجليزي الم لك هنري الثامن في إنفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية ،هذه الكنيسة التي أعطت لنفسها طابعا تنظيميا أكثر مما هو ديني .ورغم الحروب الدينية الطويلة وبشاعتها إلا أنها كانت ثمنا لفرض التحديث الديني الذي واكب التجديد الحاصل في مختلف المجالات .لقد شكلت حركت الإصلاح الديني ثورة ضد الأستبداد الكنيسي كما شكل الفكر الإنسي ثورة ضد القيود المفروضة على العقل ،وهذه الثورات كانت تستند إلى الطبقة إجتماعية ناشئة تملك مشروعا حداثيا  متكاملا.
إذا كانت الكنيسة قد فرضت سلطة مطلقة على كل جوانب الحياة وتحكمت في قوانينها بإعتبارها مالكة للحقيقة المطلقة ( والإعتقاد بإمتلاك الحقيقة يولد الإستبداد )،وبالتالي كان من الواجب الثورة عليها والتخلص من سيطرتها ،فإن العالم العربي لم يعرف جهازا دينيا متحكما ويعتبر نفسه واسطة بين العبد والرب .كما أن الدين في عالمنا العربي لم  يعارض  أبدا سعادة الإنسان وبحثه عن الحقيقة وإستعمال العقل  ( كما كانت الكنيسة  تروج لفكرة الشقاء والخطيئة ومحدودية العقل البشري )،ورغم ذلك ظلت التنمية غائبة وعوض أن يشكل الدين باعثا على النهضة وتحقيق الحداثة العربية ثم إستغلاله لتبريرواقع متخلف والحفاظ عليه .
ونعود كما فعلنا في المقالات السابقة لنطرح السؤال ،لكن بشكل مختلف قليلا : هل نحتاج في عالمنا العربي لإصلاح ديني ؟
لقد ظلت أي دعوة إلى التحديث أوالإصلاح الديني تقابل بالتشكيك أحيانا وبالرفض أحيانا أخرى ،وظل دعاة الإصلاح يتهمون خصومهم بالتزمت وقمع الأفكار والإبداع ومحاربة التحديث ...وهؤلاء يتهمون الفريق الأول بمحاربة الدين وجر المجتمع إلى الهاوية وهدم قيمه الموروثة ،بينما إبتعد الفريقان عن جوهر المشكل : كيف نجعل الدين عاملا من عوامل تحقيق الحداثة ،وإعتباره مكونا من مكوناتها كالفكر والإقتصاد والمجتمع ....؟
خلال القرن 19 طرح رواد الحركة السلفية إشكالية تخلف المجتمع العربي بعد الإصطدام بالحداثة الأوربية ( مع الحملة الفرنسية على مصر )،ورغم إتفاق هؤلاء الرواد على ضرورة فهم الدين فهما صحيحا والعودة به إلى ينابيعه الأولى إلا أن الهاجس لديهم ظل هو التوفيق بين الدين والعلم ( الحداثة بإعتبارها عملية تعتمد على العقل )عوض الفصل بينهما دون المساس بالثوابت الدينية الكبرى (.فإذا كانت أحكام الشريعة تقوم على مستويين : مستوى الأحكام الثابتة وهي قليلة ومحدودة ومستوى الأحكام القابلة للتغيير والإجتهاد  بتغير الزمان والمكان والإنسان ،فذلك يساعد على جعل الدين دافعا للتحديث وليس عائقا أمامه .)وقد حاول هؤلاء السلفيون توظيف الدين في خدمة العلم (محمد عبده ،الأفغاني ،الكواكبي ..) وحاول أخرون توظيف العلم لإقصاء الدين (شبلي شميل ،فرح أنطوان ...)< /P>
وهكذا لم ينجح أي فريق في تحقيق حداثتنا الدينية .
إن عدم تحقيق هذه الحداثة الدينية جعل التحديث الإقتصادي والإجتماعي والفكري يصطدم دائما بمعارضة رجال الدين المحافظين ،وظلت الطبقة السياسية رهينة هذه الفئة مادامت تستمد مشروعيتها منها ،لذلك ليس غريبا أن يكون العالم العربي أكثر المناطق أمية (رغم دعوة الدين للتعلم )وأشدها ركودا ( رغم أن الإسلام دعا إلى السعي والإجتهاد ).
ونتساءل أين الخلل ؟كيف نحقق ثورتنا وحداثتنا الدينية ؟ هي أسئلة يجب أن نطرحها ،وعلينا أن نتحلى بكثير من الصبر والشجاعة والتخلص من الأحكام والإتهامات المسبقة ،وعدم إستغلال الدين لفرض الوصاية ،وعدم إعتباره جامدا بل عنصرا متطورا لا ينفصل عن التطورات التي تحصل في باقي المجالات .نحن في عالمنا العربي لانحتاج إلى ثورة على الدين كما وقع في أوربا ،لإن ديننا لم يكن يوما كابحا للتجديد ،لكن إستغلاله السياسي والإجتماعي هوالعائق .ثورتنا الدينية تحتاج إلى فهم جديد يساير الزمان والمكان ،يساير التطورات الحاصلة حولنا .الدين ليس ملكا لأحد ( ليس فيه وصاية كما كانت تفعل الكنيسة )،وليس لأحد الحق في إحتكار تفسيره ( كما فعلت الكنيسة ).بل عنصر إندماج وتكامل وتضامن لتسهيل تنظيم المجتمع وتجديد بنياته .
 
أحمد أبو وصال :  الصويرة -  المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟